د. أحمد عدنان الميالي
بعد مصادقة المحكمة الاتحادية العليا على نتائج الانتخابات البرلمانية المبكرة ورد الدعاوى والطعون الواردة حولها، اصبحت النتائج واقع حال غير قابل للتغيير، وتحول التجاذب السياسي الان من الطعن والتشكيك بالنتائج الى تجاذب سياسي اخر بين الكتلة الصدرية وقوى الاطار التنسيقي حول شكل الحكومة القادمة وكيفية التحالف ازاء ذلك، هل ستكون وفق معيار الاغلبية الوطنية من كل المكونات الثلاث الذي يريده السيد مقتدى الصدر؟ ام حسب التوافق السياسي الذي يريده الاطار التنسيقي؟.
لم يخرج اجتماع الحنانة يوم الاربعاء الماضي عن تفاهم او تقارب بين الطرفين بل غرد الصدر بعد الاجتماع ان المشهد السياسي سيكون حسب الاغلبية الوطنية لا شرقية ولا غربية في اشارة الى استبعاد التدخلات الخارجية في مسألة تشكيل الحكومة العراقية، هذا التجاذب والتناقض في الرؤية ينطلق من سيطرة الكتلة الصدرية التي تمتلك العدد الاكبر من المقاعد وتصر على حكومة اغلبية وطنية ورئيس وزراء صدري او على الاقل مكلف ومدعوم بالاساس من قبل الكتلة الصدرية، وايضا في ضوء تراجع قوى الاطار التنسيقي وخسارته رهان الطعون والاحتجاج الشعبي لتغيير مجرى التوجهات الصدرية والحلفاء الاخرين صوب حكومة توافق او وحدة وطنية، وايضا توجيه رسالة للجميع ببقاءهم في الواجهة السياسية وانهم لازالوا رقما صعبا في المعادلة السياسية العراقية.
ان الاغلبية الوطنية التي يقترحها الصدر تعني ضرورة حسم الجانب الدستوري الذي يشير الى مسألة حصول اي ائتلاف على 50+1 من مقاعد البرلمان لغرض تشكيل الحكومة وليس العدد الاكبر من المقاعد دون ذلك ليكون الكتلة الاكبر فقط لان كل طرف سيدعي انه الكتلة الاكبر خاصة في ظل عدم حسم الاكراد والسنة موقفهم من موضوعة الاغلبية والتوافق واستبعاد انضمامهم بائتلاف واضح وبارز مع كتلة الصدر او الاطار التنسيقي، لكن هذا غير مستبعد في ضوء المكاسب والاستحقاقات التي يبحث عنها الطرفان ولا فيتو ازاء اي طرف من الشيعة سيكونون معه وفقا لذلك، لكن الواقع السياسي يفرض مسارا آخر حيث يرغب الجميع في المشاركة بتشكيل الحكومة، حتى تلك القوى الصغيرة منها رغم انطلاق اول نواة للمعارضة السياسية التي اعلن عنها قبل ايام من قبل المستقلين والقوى التي تمثل انتفاضة تشرين والمعارضة الكردية داخل اقليم كردستان، لكن ثبات واستمرار ذلك غير مضمون في ضوء معادلة المصالح والضغوطات السياسية والامنية.
في الواقع إن لكل شكل من أشكال الحكومة القادمة إيجابياته وسلبياته، فحكومة التوافق تحقق حضورا لجميع أطراف العملية السياسية لكنها تقود الى المحاصصة في كل شيء وهذا يفسد عمل السلطة التنفيذية بشكل خاص، أما حكومة الأغلبية الوطنية فيمكن أن يسمع فيها صوت المعارضة التي يمكن أن تؤثر في قرارات الحكومة والبرلمان صوب ترصين الاداء الانجازي لهما، لكن مثالب هذه الحكومة تأتي من مخاطر التهميش والاستعباد الذي يمكن أن يصيب بعض الجهات الفاعلة التي لديها قواعد جماهيرية ومواقع عميقة في الدولة تعرقل من خلالها اداء الحكومة والنظام العام برمته.
المؤشرات تدل على ان الصدر والحلبوسي والبارزاني هم رجال المرحلة الحالية والمتحكمين الاساس في الواقع السياسي ولا يمكن لحكومة ان تتشكل او ترى النور او تنجح من دونهم، وطالما ان هنالك تفاهمات ومشاورات بينهم فالواقع الى حد اللحظة يذهب باتجاه ان الحكومة القادمة ستكون اغلبية وطنية في مسالة تسمية الرئاسات الثلاث ومرجعية رئيس الحكومة المكلف في الغالب ستكون نتيجة هذا التفاهم الثلاثي، لكنها في نفس الوقت ستكون حكومة استحقاق انتخابي، اذ لا رغبة للقوى الاخرى في المعارضة البرلمانية والحكومية، خاصة انها ستأخذ استحقاقها الانتخابي حكوميا، وستعارض بذات الوقت في البرلمان قرارات وسياسات رئيس الحكومة والوزراء غير المحسوبين عليها وكذلك قوانين وتشريعات وقرارات مجلس النواب التي لا تنسجم ومصالحها وفيها حسابات تقوض شعبية خصومها، وهذا السيناريو يجعل من الصدر مسؤولا عن اداء الحكومة وكل مخرجاتها ويخدم قوى الاطار التنسيقي.
اما سيناريو التوافق السياسي فحصوله ايضا سيكون المتحكم فيه والمسيطر عليه الصدر والحلبوسي والبارزاني وفقا لمقاعدهم البرلمانية الاكثر عددا والتي ستكون النواة الصلبة للرئاسات الثلاث وهذا بحد ذاته يعني حكومة اغلبية لكن من دون معارضة سياسية واضحة، بل سيذهب المتوافقون الخاسرين الى اغتنام المواقع ثم المعارضة ايضا بذات الوقت، ولا فرق مع حكومة الاغلبية في السيناريو الاول، لكن هذه المشهد سيخدم الصدر اكثر لأنه سيضع قوى الاطار التنسيقي في زاوية الشراكة في المسؤولية عند اي اخفاق محتمل.
ان التوجه نحو حكومة وحدة وطنية او توافق سياسي مرة اخرى سيكون مخيب للآمال وترسيخ لنظام المحاصصة وستؤدي هذه النتيجة إلى تعظيم فرص الفساد وتقليص فرص الإصلاح، وبالتالي وضع الأساس لمزيد من اليأس والفقر وحتى انهيار الدولة في نهاية المطاف.
هناك عدد من العوامل التي تقف امام تشكيل حكومة الأغلبية وجعلها غير ممكنة، منها البيئة السياسية الخارجية، والطريقة العرفية على ما بني عليها نظام توزيع السلطة داخل الطوائف العرقية الرئيسية الثلاثة، تشير هذه العوامل إلى أن حكومة اغلبية خيار غير مرجح، إلا أن هناك على الأقل فرصة لظهور نظام الأغلبية الذي يمكن أن يخلق حكومة مسؤولة ويبدأ في إعادة بناء دولة العراق الهشة.
والحل الأفضل لتجاوز ازمة الاغلبية والتوافقية، الذهاب الى خيار حكومة تكنوقراط لأنها ستضع السلطة بيد من هو مؤهل لها. وتجنب البلد حالة عدم الاستقرار واستمرار الخلافات والتصارع على المواقع والمناصب، لكن لا يرغب ساسة العراق صوب هذا الخيار ولا زالوا يلتمسون بقاء السلطة تحت ايديهم مباشرة.
مع كل هذه المؤاخذات تبقى الانتخابات العراقية علامة فارقة ايجابية في تداول السلطة وممارستها قياسا بالأنظمة الشمولية والسلطوية التي سادت لدى البلدان العربية والمجاورة للعراق والتي اخفقت فيها حتى تجارب الانتقال الديمقراطي من جهة او تلك التي اعادت وكرست منظومة الاستبداد مرة اخرى.
.
رابط المصدر: