تشكل الولايات المتحدة الأمريكية القوة ذات الأهمية الأكبر في منطقة الشرق الأوسط، بما تملكه من مصالح حيوية تتصل بهيمنتها العالمية ومصالح رئيسة تتصل بعلاقتها مع حلفائها المؤثرين في المنطقة، إذ تعد المنطقة برمتها ذات نسق أساسي في ترتيبات المصالح، ويعد العراق من الدول ذات الأهمية الاستراتيجية في توازنات المنطقة الإقليمية بحكم موقعه الجيوبولتيكي من جهة، ولمكانته ضمن الترتيبات الإقليمية من جهة أخرى، مما يجعل سلوكه السياسي الخارجي ذا تأثير حقيقي في الإدراك الاستراتيجي الأمريكي.
وفي نطاق مناقشة وتحليل ديناميكيات الأداء الاستراتيجي العراقي تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، كان لزاماً أن يتم تفحصها بموضوعية دقيقة تراعي السياق الدولي وحركة المتغيرات في البيئة الاستراتيجية، في ظل تحديات الوضع القائم على الصعد كافة، تبرز أهمية دراسة التوجه الاستراتيجي للعراق تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، في محاولة لتوسيع الإدراك ابتداءً، ومن ثم تقويم الأداء، وهو أيضاً ما تحاول الحكومة العراقية أن تنظمه وفق استراتيجية متوازنة تتجه نحو فهم معايير وأسس التحدي والاستجابة، وتتجنب معه الإشكاليات المعقدة، طامحة في أن تجد مسارها الخاص في إحداث فعل استراتيجي مؤثر يؤسس لمضامين العلاقة المطلوبة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
كان العراق منذ بداية الألفية الجديدة، ومع انهيار نظام البعث، يتبع سياسةً متذبذبة تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، تفتقد إلى رؤية موحدة أو استراتيجية واضحة المعالم يمكن لها أن تؤسّس لدور فعّال للعراق على المستوى الدولي، وخاصةً مع القطب الأوحد في النظام الدولي القائم، إذ تفترض هذه الدراسة أن إصلاح الرؤية الاستراتيجية العراقية تجاه الولايات المتحدة هو ما يمهّد المسار في الانتقال من حالة التأرجح السياسي إلى استقامة الفعل الاستراتيجي، والذي بدوره ينعكس إيجاباً على الأداء السياسي العراقي في محيطه الإقليمي والدولي، فضلاً عن ارتداداته على الوضع الداخلي، في هذا السياق جاءت هذه الدراسة لتحديد الخيار الاستراتيجي العراقي في ظل البنية الدولية الراهنة، وتقديم مسار عمل يجنّب العراق التدحرج في انعطافات استراتيجية يمكن أن تعطله عن رسم دور حيوي في المنطقة، فضلاً عن إضاعة مكتسبات اللحظة الراهنة.