تدعي إيران؛ أن هناك في كردستان العراق ما يزيد عن (50 قاعدة) ومقر لجماعات وأحزاب انفصالية كردية إيرانية، لا يكتفي المكون الكردي العراقي باستضافتهم على أراضيه، بل سمح لهم مؤخرًا بالتسلل إلى إيران والدخول على خط المظاهرات والاحتجاجات المندلعة منذ ثلاثة أشهر بأسلحتهم، والقيام في داخل إيران بعمليات تدمير وقتل بحسب زعم الأمن الإيراني. مثلت تلك الذريعة السبب المباشر الذي جعل طهران تكثف من قصفها للأراضي العراقية، لتلقي بظلال قاتمة على معادلات الأمن في الشمال العراقي، الذي يعاني في الأصل من ضغوط الاستهداف التركي المستمر منذ عامين بوتيرة لم تحسم مداها بعد.
لا يقف التصعيد العسكري الإيراني عند حد خلط الأوراق الأمنية الداخلية بين حكومة المركز في بغداد، وبين حكومة الإقليم الكردي المتمتع بالحكم الذاتي فحسب، بل ربما يمتد ليتسبب في حرج بالغ لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني، الذي لم يمض على تشكيله للحكومة وتسلمه لمنصبه أسابيع قبل تلك الجولة من التصعيد. القضية قديمة وشائكة، وتمس بشكل مباشر السيادة العراقية رغم ما بين الجارتين من علاقات تتمتع بخصوصية راسخة منذ العام 2003. السوداني وصل إلى طهران الثلاثاء من هذا الأسبوع، بدعوة من الرئيس الإيراني لتكون إيران ثالث زيارة خارجية للسوداني، بعد الأردن التي زارها في 21 نوفمبر في أولى جولاته الخارجية، والكويت التي زارها في 23 نوفمبر.
العلاقة المتشابكة بين البلدين يخيم عليها حساسية الموقف الأمني الحالي، لكنها تظل عامرة أيضًا بملفات أخرى عديدة، أهمها الملف الاقتصادي الذي يشهد تعاونًا استثنائيَا ممتدًا فيما بينهما. فإيران تمثل المورد الرئيس الفعال لمعظم الاحتياجات العراقية، بحسب عامل التكلفة المنافس فضلًا عن التسهيلات الائتمانية الممنوحة للجانب العراقي منذ عقود، في المقابل تعد العراق أيضًا البوابة والساحة الآمنة والموثوقة لتلبية احتياجات إيران، خاصة في ظل قيود العقوبات الدولية التي تضيق مساحات الحركة أمام طهران منذ سنوات.
المتفائلون بالزيارة يراهنون على الدعم الإيراني لشخص السوداني، ولا ينسون أنه وصل إلى منصبه بعد إصرار ـ طويل زمنيًا ـ وتشددًا صلبًا ـ من قبل فصائل وتيارات عراقية، محسوبة ولائيًا على إيران. لهذا يضعون قدرته على تطوير العلاقات الاقتصادية وحل إشكاليات المبادلات المالية والتجارية، في خانة التوقع الإيجابي، باعتبار أن طهران ستكون أحرص على نجاحه داخليًا، لمجابهة التحديات التي تواجه حكومته الجديدة. الأبرز منها مواجهة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة والخلل الهيكلي المزمن، وهو ما مثل العماد الرئيس للغضب الشعبي الذي سبق وصاحب وصوله إلى مقعده في النهاية.
بالنظر إلى هذا التحدي السياسي المغلف بطابع اقتصادي تستهدف حكومة السوداني تحقيق نقلة فارقة فيه، يضفي ذلك مزيدًا من أهمية للزيارة، خاصة مع سعي النظام في بغداد لتعزيز شرعيته الشعبية التي ظلت على المحك طوال عام كامل، ولا زال الشارع يمور في ترقب للأداء وللتوجه الحكومي قبل أن يعلن كلمة الفصل في عمر النظام الذي مر بحسب تعبير العراقيين من “خرم إبرة”. لذلك نجاح السوداني في الحصول على دعم إيراني للعمل على تقليص مساحات الفساد، وإعادة بناء هياكل مؤسسات الدولة، من الأهمية بمكان لإنجاح وإنعاش تلك الحكومة، خاصة وأن الغضب الشعبي الذي تسبب في أكثر من حراك ساخن، لم تكن الاتهامات فيها بعيدة عن رقبة إيران، طوال الوقت كان يشار بأنها ضالعة في تلك الأداءات، إما لصالحها بشكل مباشر أو بالصمت والتمرير خدمة لمصالح الأطراف المحسوبة عليها.
يبقى ملف “السيادة” بتعقيداته الإيرانية والتركية، هو كرة النار الممسك بها رئيس الوزراء السوداني في مواجهة الدولتين، إن كانت تركيا الآن أكثر انشغالًا بالشمال السوري، يبقى في مقابل إيران هناك أولوية للخروج بتسوية ما تساعد العراق للخروج أو ترميم ما انتهك من تلك السيادة مؤخرًا. أول مقترح ملتبس خرج على ما يبدو من اتصالات جرت بين مسؤولين إيرانيين زاروا بغداد بعد القصف الأخير لكردستان العراق، تقرر فيه إمكانية الاستعانة بوحدات من الجيش العراقي يجري نشرها على الشريط الحدودي بين إقليم كردستان العراق وإيران.
المقترح بالطبع لا زال غامضا في تفصيلاته؛ فهو يطرح حزمة من الأسئلة المصاحبة، أولها بالطبع هو اعتماد هذا المقترح من قبل حكومة أربيل، باعتبارها المرة الأولى التي ستدخل فيها قوات تابعة لحكومة بغداد المركزية إلى أراضي الإقليم، مع ما يشوب ذلك من حساسية بالغة. ويبدو أن هناك ضغوطًا إيرانية كبيرة مورست على أربيل والسليمانية، لانتزاع تمرير مثل هذا المقترح الذي ظل منذ سقوط نظام الرئيس صدام حسين من الخطوط الحمراء، التي تحكم العلاقة بين الإقليم وبغداد.
السؤال الثاني يتعلق بطبيعة ومدى عمل تلك القوات وبالأخص شكل العلاقة فيما يتعلق بالتنسيق وتوزيع المهام، بينها وبين قوات “البشمركة” الكردية التي يفترض أنها المسؤولة عن تلك المهمة، وفي ذات السياق ربما يبرز المدى الزمني لتلك المهمة كإشكالية إضافية فوق ما يحمله المقترح برمته من إشكاليات. فالقوات التابعة للجيش والداخلية العراقية التي ستنتقل إلى كردستان، هل ستكون في مهمة إشرافية مؤقتة زمنيًا أم سينشأ لها معسكرات ومقار مستديمة، قد تكون مطلوبة اليوم من الجانب الكردي من أجل حماية الإقليم، من تهديد الاجتياح البري المزدوج إما الحالي الصادر من إيران أو المؤجل غير بعيد من تركيا.
في حال مقارنة ردة فعل حكومة بغداد ونظيرتها بإقليم كردستان، بين حالة الاعتداء التركي ومثيله الإيراني، تبدو الهوة بعيدة بين تقديم شكوى في مجلس الأمن واستدعاء سفراء وغيره في الحالة التركية، وبين ما يجري تسويته في صمت وإذعان أمام ما جرى من إيران. هذا يعكس توازن القوى وحجم النفوذ في الداخل العراقي وفي المكون الكردي وارتباطاته مع جواره، لكن يظل في الداخل أيضًا أمور لم تحسم بعد مساحات حركتها في مستقبل حكومة السوداني الجديدة. فيما يتعلق بذلك وجه المرشد الأعلى خامنئي لرئيس الوزراء شياع السوداني أثناء زيارته، نصيحة على شكل توصية بـ”ضرورة الاستعانة بالقوى المتحمسة الشابة، التي اجتازت اختبارها في مواجهة خطر داعش الكبير والمهلك” بحسب نص كلمات المرشد، في إشارة واضحة إلى قوى “الحشد الشعبي” العراقي الموالية لإيران. وهذا يمثل إجابة شافية، لسؤال قد يطرح مستقبلًا ضمن عديد من أسئلة السيادة الملغمة، التي تبحث وتنتظر إجابات على ضفاف كل من دجلة والفرات، فهل تحملها مياه النهرين إلى مستقر أم تظل حائرة حيرة المياه التي جفت جراء احتجازها من المنابع النائية.
.
رابط المصدر: