علي حسين عبيد
القالب التنظيمي لتطلعات الإنسان والسيطرة على غرائزه، يمثل حاجةً لا يمكن الاستغناء عنها في تنظيم العلاقات المختلفة لاسيما السياسية والاجتماعية منها، لهذا ظهرت الحاجة لإبرام العقد الاجتماعي كي يتحرك الإنسان والإنسان المختلف فكريا وسلوكيا، في إطار هذا العقد وضوابطه بعيدا عن مكامن القوة والنفوذ التي يمتلكها أو يتميز بها عن غيره من الناس.
فالعقد الاجتماعي بحسب المختصين هو نظرية أو نموذج تَبلْوَر في عصر التنوير، وهو يهتم عادة بشرعية سلطة الدولة على الأفراد، إذ تذهب نظرية العقد الاجتماعي إلى أن الأفراد يقبلون بشكل ضمني أو صريح، أن يتخلوا عن بعض حرياتهم ويخضعوا لسلطة الحاكم (أو لقرار الأغلبية) لقاء حماية بقية حقوقهم، وقد أخذ هذا المصطلح اسمه من كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو الذي ناقش فيه هذا المفهوم.
ورغم أنَّ أفكاراً مماثلة لنظرية العقد الاجتماعي تواجدت قديما في الفلسفة الإغريقية والرواقية والقانون الروماني والكنسي بحسب المختصين، إلا أن النظرية بلغت أوج أهميتها منذ منتصف القرن السابع عشر وحتى بداية القرن التاسع العشر، حيث كانت هي الفلسفة السياسية السائدة آن ذاك، وتشترك معظم نظريات العقد الاجتماعي في نقطة انطلاقها، وهي فحص حالة الإنسان في غياب أي نظام سياسي.
وقد أطلق توماس هوبز على ذلك بـ (الحالة الطبيعية)، وفي هذه الحالة، تكون أفعال الأفراد مرتبطة فقط بقوتهم ووعيهم الشخصي – أي لا توجد سلطة أو عقد يخضعون له- وانطلاقا من هذا المفهوم المشترك، يسعى منظرو العقد الاجتماعي إلى البرهنة بشتى الطرق على السبب الذي يجعل الفرد العقلاني يتخلى طواعية عن حريته الطبيعية من أجل الحصول على منافع النظام السياسي، في إطار وثيقة أو اتفاق سمّيَ بالعقد الاجتماعي.
وتكمن أهمية هذا العقد في تحييد النزاعات الفردية والجمعية ضمن تحكيم سلطة عليا يتم الإقرار بها والتنازل لها عن جانب من حرية الإنسان، لكي تنظّم علاقاته مع الآخرين ضمن معايير العدالة والتكافؤ والإنصاف، خصوصا أن النزاع بوصف المختصين صفة لا تفارق حياة الإنسان ومن الصعوبة أن يتجنبه، وهو شيء طبيعي مادام هناك اختلاف في أعراق الناس وأشكالهم ومعتقداتهم وموروثاتهم وأمزجتهم وطريقة تفكيرهم، ومن ثم تصرفاتهم وأهدافهم ورغباتهم ومخاوفهم ومقاصدهم، هذا الاختلاف يجعل من الصراع أمر مفروغ منه ولا سبيل إلى القضاء عليه، لهذا برزت الحاجة إلى العقد الاجتماعي الذي ينظِّم اختلافات الناس أو المجتمع.
ونظرا للاختلافات الفكرية بين الناس سواءً بين الأفراد مع بعضهم داخل المجتمع الواحد، أو الأبعد من ذلك، فإن حاجة الاتّفاق على قواعد وبنود وضوابط أصبحت السبيل الأهم لتفادي النزاعات، فلو دققنا النظر لوجدنا انه لا يوجد شخصان متطابقان شبهاً ومزاجاً ومشاعرَ وتفكيراً في كل الحالات وكل الأوقات، وطالما أن النزاع مغروس في تركيبة الإنسان، فإننا ملزمون باحتواء هذا النزاع وتوابعه من صراع واقتتال وتناحر وخصام وفرقة ودمار ومقاومة وتناقض وتعارض واختلاف وعدم اتفاق وخلاف.
فهذه الكلمات تثير الخوف والتوجس لما تحمله من معاني العداوة والبغضاء والتناحر والقطيعة والتوتر والعنف والدمار وكل المعاني السلبية، ورغم ذلك فإن النزاع ليس كلّه شراً لأن الاختلاف ظاهرة طبيعية ينبغي التعامل معها في حدود آدابها وضوابطها لما فيها من إيجابيات قد تصبّ أحيانا في صالح الفرد والجماعة معاً.
فالناس يختلفون في المزاج والهوى والغرائز والتطلعات والمقدرات والمزايا، وكل شخص نسيج فريد متميز عن غيره، ولولا هذا التنوع لكان من الصعب تعمير الأرض وإدامة الوجود واستمرار الحياة، ولن يتحقق أيٌّ من هذه التطلعات لو أن البشر خلقوا سواسية في كل شيء، ورغم هذا التنوع، يحتاج الفرد أنْ يعيش في إطار جماعة لقضاء الاحتياجات المادية والمعنوية التي تديم حياته وتجعله يشعر بأهميته المعنوية وقيمته الإنسانية والمادية معاً.
إن قيمة العقد الاجتماعي تكمن في قدرته على احتواء تناقضات البشر واحتوائهم بما يحقق السقف المشروع من طموحاتهم، فالعقد لا يلغي قوة القوي بل ينظّمها ويجعلها مقبولة وغير متهورة، وصولا إلى الهدف الأهم والأسمى ونعني به السلم الأهلي الذي يعني في مفهومه تحقيق السلم الدائم بين المجتمع، ورفض كل أشكال القتال والقتل أو الدعوة إليه والتحريض عليه أو تبريره، أو نشر مقالات وخطابات ومؤتمرات صحافية تعتبر التصادم حتميًا بسبب قوة العقيدة الدينية أو الحزبية أو غيرها، وتحويل مفهوم الحق بالاختلاف إلى إيديولوجية الاختلاف والتنظير لها ونشرها، ومن ثم إعادة إنتاج الحروب الأهلية من خلال التشكيك في جوهر البناء الدستوري ومواثيقه وحظوظ نجاحه في الإدارة الديمقراطية للتنوع، فالسلم الأهلي دائما يعمل على منع الحرب الأهلية في المجتمع.
لذلك هناك حاجة قصوى لبث الروح في بنود العقد الاجتماعي وتحريك مضمونه وجعله في الصدارة من اهتمام الحكومة والمجتمع والمنظمات المدنية في نفس الوقت، لأننا في العراق وفي ظل الظروف الراهنة والمرحلة التي تشوبها أشكال من التداخل وحالات الانفلات النسبي القبلي أو سواه، أصبحنا بحاجة كبيرة إلى تعزيز قيم العقد الاجتماعي والتركيز عليها حتى يكون هو الوثيقة التي تضمن حقوق الجميع وتنظم علاقات الجميع باعتبار أننا وافقنا على العقد مقابل تنظيم مصالحنا وعلاقتنا.
ومن الأفضل العمل على نشر ثقافة احتواء النزاعات وبث آليات الحوار بين الجميع، الأفراد والجماعات والمكونات الاجتماعية والسياسية المختلفة، وينبغي أن يتم ذلك عبر العقود التي تُبرَم بين الجميع، حتى يتم وضع القواعد اللازمة التي تعزز السلم الأهلي من خلال قيم الإنصاف والعدالة والتكافؤ التي يضمنها العقد المبرم بين الجميع.
كعراقيين نحتاج اليوم إلى دعم السلم الأهلي، عبرَ تعزيز ثقافة احتواء الصراعات وليس إلغاءها لأنها لا يمكن أن تُمحى أو تلغى، ولكن يمكن تنظيمها بمكاتبات أو وثائق، وهي جميعا عبارة عن عقود تعززها القيم الأصيلة، وكلها تنظم في العقد الاجتماعي الأكبر الذي ينبغي التركيز عليه وتجديد بنوده وتوضيح ضوابطه، وجعله هو الفيصل في فض النزاعات والخلافات.
حتى على المستوى القبلي أو العشائري يجب أن تكون هنالك عودة إلى القيم التي تعزز مكانة العقد الاجتماعي وتحث على الالتزام به والوثوق به أيضا، كخارطة طريق تقود العراقيين إلى مرافئ السلم الأهلي الذي يعزز نسيجهم المجتمعي ويحميه من التمزّق والتهرّؤ.
وهذا بالطبع يحتاج إلى آليات مهمة يتم اعتمادها من المعنيين على المستوى المدني والحكومي، المنظمات الأهلية، والمؤسسات الحكومية، وعقد مؤتمرات وندوات وفعاليات تعزز العقد الاجتماعي بين الفرقاء، وتنشر ثقافة احتواء الصراع وتنتهي بنا إلى تعضيد السلم الأهلي بصورة راسخة.
.
رابط المصدر: