لم تعد مسألة تعلّم اللغة العربية وتعليمها لأبناء الجاليات العربية المهاجرة والمتوطنة في أوروبا – وتحديدا في هولندا، حيث جُمِعت مادة هذا التحقيق – تتعلق بجاليات المهاجرين فحسب، بل صارت مسألة سياسية وهوياتية شائكة في المجتمعات الأوروبية كلها تقريبا.
فعلى الرغم من أن هولندا بلد صغير، هادئ وغير مأزوم، والجاليات المهاجرة إليه وفيه والناطقة بالعربية هادئة بدورها وأعدادها ليست ضخمة، ولا يربطها بهولندا ثأر استعماري، على خلاف حالها في فرنسا وبريطانيا مثلا، فإن الإعلام الهولندي أثار منذ سنوات مسألة الهجرة والمهاجرين، وتعلُّمهم لغتهم الأم. وقد أَولاها الباحثون والأكاديميون الهولنديون أهمية بارزة، وهم يكثرون من الدراسات التي تتناولها.
توجّس هولندي من العربية
ففي عام 2016 مثلا، نشرت صحيفة “فولكس كرانت” الهولندية الواسعة الانتشار، تقريرا عن تجمعات أسر سورية مهاجرة حديثا في هولندا، وشرعت مبادرة ذاتية أو خاصة في تنظيم دورات لتعليم أطفالها اللغة العربية في عطلة نهاية الأسبوع. وقد سمحت بلديات وإدارات مدارس رسمية آنذاك باستخدام قاعات تدريس فيها لتلك الدورات التي تضمنت أيضا تدريس بعض تعاليم الدين الإسلامي العامة. وحسب الصحيفة عينها، كان يدير تلك المبادرة متطوعون مهاجرون سوريون في الغالب، ويدرس في كل فصل من فصولها ما بين 20 إلى 100 طفل. وانطوى التقرير على شيء من الريبة والتوجس تحت عناوين، منها: “دروس لغة عربية في عطلة نهاية الأسبوع، هل تعوِّق اندماج الأطفال السوريين؟”.
يشكل السوريون، بين اللاجئين والمهاجرين العرب، الجالية الثانية عددا، والأحدث زمنا في هولندا، بعد الجالية المغربية الأكبر والقديمة نسبيا. هذا فيما يحتل العراقيون المرتبة الثالثة من حيث عددهم، يليهم المصريون. وحديثا تزايد عدد المهاجرين واللاجئين من اليمن والسودان.
عزا بعض المستجوبين إطلاقهم مبادرات خاصة لتعليم أطفالهم العربية، إلى إقدام الحكومة الهولندية على إلغاء تعليم اللغة العربية في المدارس
في هولندا، في مدنها على وجه التحديد، يخالط المهاجرون من أصول عربية، من هم أقدم منهم وفادة وهجرة، كالسورناميين في أميركا الجنوبية، والإندونسيين في شرق آسيا، والصينيين والأفارقة السود. حتى أن كثافة الخليط “الملون” في مشاهد الحياة اليومية في العاصمة أمستردام، تكاد تطغى على حضور الهولنديين “البيض”، أو تجعلهم جزءا من ذاك الخليط البشري الواسع. وهناك من يقول إن علّة ذلك هي إن هولندا من أقدم البلاد الاستعمارية في الأزمنة الحديثة، وليست بلدا قوميا، أو ضعيف القومية في تكونه.
لكن مسألة أو معضلة الهجرة والمهاجرين في هولندا تجاوزت راهنا مسألة تعليم اللغة العربية بأشواط. ففي خريف العام الماضي (2023) فاز اليمين المتطرف في الانتخابات الهولندية العامة. وهناك إجماع على أن أسباب ذاك الفوز المفاجئ، خوف الهولنديين “البيض” من الهجرة والمهاجرين واللاجئين، بل من إسلامهم تحديدا، وخصوصا بعد موجة اللجوء السوري الأخيرة الكبيرة إلى أوروبا. وهذا عارض أوروبي كبير وواسع ومؤثر سياسيا بقوة، وصار مشهورا باسم الإسلاموفوبيا.
حيرة وازدواج وقطيعة
وكانت الصحيفة الهولندية المذكورة قد تساءلت عن أسباب إصرار ذوي الأطفال العرب المسلمين على تعليم أبنائهم اللغة العربية. والحقيقة يبدو السؤال نفسه – حسب تعليق بعض المهتمين – غير منطقي إلى حد ما. فهو ينطوي على افتراض ألا يقدم المهاجرون على تعليم أبنائهم لغتهم الأم، العربية أو سواها من اللغات حسب بلاد المهاجرين. والافتراض هذا هو ما يحتاج إلى تفسير وتبرير، وليس العكس.
والأرجح أن الافتراض إياه وصيغة السؤال الواردين في وسيلة إعلامية هولندية، هما ما دفع كثرة من المهاجرين العرب الذين استجوبتهم “المجلة” في سياق هذا التحقيق، إلى إجابات براغماتية وتبريرية، تتقاطع في ما يمكن تلخيصه على النحو الآتي: نحن لا نزال نحمل بطاقات إقامة موقتة. ومسألة بقائنا في هولندا لا تزال في نطاق الموقت أيضا. لذلك لا تزال العربية، بشكل أو بآخر، مهمة لنا ولأولادنا. فالوجهة النهائية لإقامتنا وحياتنا غير معلومة بعد.
وعزا بعض المستجوبين إطلاقهم مبادرات خاصة لتعليم أطفالهم العربية، إلى إقدام الحكومة الهولندية على إلغاء تعليم اللغة العربية في المدارس التي كانت تدرسها سابقا مثل باقي اللغات الأخرى التي يحق للطالب اختيارها إلى جانب اللغتين الأساسيتين: الهولندية والإنكليزية.
التقرير الصحافي الذي أبدى توجّسه من مبادرة عائلات مهاجرين إلى تنظيم دورات خاصة لتعليم أولادهم لغتهم الأم إلى جانب الدين الإسلامي، ذُيّل بآراء خبراء أشار بعضهم إلى أن هذه الدروس في عطلة نهاية الأسبوع، لا تقف عائقا أمام اندماج الأطفال في المجتمع الهولندي. واعتبر آخرون أن قطيعة أبناء المهاجرين الثقافية مع لغة ومواطن أهلهم الأصلية، يمكن أن تتسبب بمشاكل نفسية عميقة على المدى البعيد. وهناك من الباحثين من يفسر بعض عناصر ظاهرة الإرهاب الإسلاموي بتلك القطيعة التي يصحو منها أفراد من جيل المهاجرين المسلمين الثاني أو الثالث.
القطيعة هذه تؤرق فعلا الجيل الأول من المهاجرين العرب والملتحقين في السنوات الأخيرة بقطار الهجرة واللجوء جرّاء الحروب والصراعات في كثرة من بلدان المنطقة العربية. فاللغة العربية، عدا كونها لغة تواصل وثقافة، هي لغة صلاة وشعائر المسلمين الدينية، وهم يشكلون غالبية المهاجرين في هولندا. وهي أيضا مدخل إلى عالم ثقافي، اجتماعي وتاريخي متكامل، قلّما حازت لغة حية مثله.
هناك من الباحثين من يفسر بعض عناصر ظاهرة الإرهاب الإسلاموي بتلك القطيعة التي يصحو منها أفراد من جيل المهاجرين المسلمين
بالتالي، فإن ما يعيشه العرب المسلمون في هولندا من حيرة وتأرجح وازدواج في رغبتهم تعليم أبنائهم لغتهم الأم، ينطوي على قدر من المشروعية الثقافية، الدينية والاجتماعية.
لكن رغبتهم ومبادراتهم الخاصة لتحقيقها لا تلقيان دعما كافيا لاستمرارها. والباحث عن مدارس لتعليم الأطفال اللغة العربية لاستطلاع أوضاعها، يجد صعوبة كبيرة للعثور عليها، بسبب ندرتها. في المقابل، سرعان ما تظهر المساجد ومراكز الجمعيات الإسلامية كبديل متاح وشبه مجاني لتعليم اللغة العربية. لكن المستطلع يكتشف أنها تقدم دروس اللغة في إطار ديني دعوي يهدف في المقام الأول إلى ترسيخ نوع من أنواع العقيدة الإسلامية. وهذا ما يرحب به معظم أولياء أمور الأطفال المهاجرين المغاربة والسوريين وسواهم من العرب المسلمين. وإذا تردد بعضهم في إلحاق أبنائهم بالدروس التي تقدمها المساجد والجمعات، فإنهم غالبا ما لا يجدون خيارا آخر، فيضطرون إلى أن يتلقى أولادهم دروس العربية ضمن دروس دينية، ويظل يساورهم حذر مما يتعلمه أولادهم، لاعتبارات تتصل بالرؤى والتصورات المختلفة حول فهم الإسلام وممارسته.
العربية والانقسام الهولندي
مسألة دمج تعلم العربية بتلقي دروس دينية في المساجد ولدى جمعيات رابطها ديني، لا يقتصر الجدال حولها على حيرة المهاجرين وبحثهم عن خيارات أخرى. ذلك أن الهولنديين ينشغلون بالمسألة عينها كذلك، وعلى نحو منقسم ومتباين. فحين بادرت جامعة أمستردام إلى إجراء دراسة استطلاعية مؤخرا، جعلت عنوانها: “ماذا يُعلَّم الأطفال في المساجد؟”. وكما يقال إن “المكتوب يُقرأ من عنوانه”، انطلقت الدراسة من توجّس حيال المساجد والدروس التي تقدمها إلى الأطفال الهولنديين من أبناء المهاجرين.
أما الدراسة التي أجرتها جامعة أوترخت الهولندية، فجاء عنوانها مختلفا: “خرائط لخطابات التعليم في المساجد بهولندا وتحليل محتوى الخطاب الإعلامي الهولندي حولها”. وانطوى التحليل على ما يشبه الرد على صيغة التوجس التي تلابس باستمرار مشاعر فئات هولندية واسعة حيال الهجرة والمهاجرين، وخصوصا سلوك العرب المسلمين وانشغالهم بشؤون لغتهم ودينهم. وخلصت هذه الدراسة إلى أن الإعلام يسعى عموما إلى تصوير ذلك الانشغال تصويرا سلبيا، وربطه بتعزيز القيم المحافظة أو المتشددة في الكثير من الأحيان.
وعلى نحو ما يتخذ طابعا دينيا تعليم العربية لأبناء المهاجرين في المساجد وفي رعاية شبكات جمعياتهم، ويثير لغطا في دوائر من المجتمع الهولندي، غالبا ما يوصف بالتسييس تعليم العربية وثقافتها في بعض الجامعات الهولندية. فأحد الباحثين من العاملين في جامعة أمستردام – وهو من أصول عربية، ولم يشأ الأفصاح عن اسمه – ذكر أن تعليم العربية وكل ما يتصل بالدراسات الشرقية، وتحديدا الشرق المسلم، صار يُنظر إليه في العقدين الأخيرين باعتباره ينطوي على طابع سياسي. المحاضرون في أقسام الدراسات الثقافية العربية ودراسات الشرق الأوسط والأسلاميات، تراجع إتقانهم اللغة العربية. وصار قلما يحتاج إلى إتقان العربية دارسو الاجتماع السياسي والإنسانيات في منطقة الشرق الأوسط. وهذا انعكس على متخرجي هذه الأقسام ونوعية معرفتهم وأبحاثهم حول المنطقة.
في خضم هذه التجاذبات تظل خافتة وغير معروفة حكايات ورؤى وشهادات الناس الذين يريدون أن يتعلم أبناؤهم العربية ويجيدوها، سوى معرفة جزئية أو ضبابية. لذا يحاول هذا التحقيق استطلاع الدوافع الفعلية والأبعاد الانسانية والثقافية الكامنة في إرادتهم تلك، بصرف النظر عما تثيره من توجس في دوائر من المجتمع الهولندي ولدى السلطات والإعلام المتحفّز في هولندا. وكذلك عما قد تسعى إليه مؤسسة دينية أو سياسية.
الإسلام هدف تعليم العربية
رحبت صديقتنا (وهي مغربية محجبة ومتدينة تدينا تقليديا، وتقيم في هولندا منذ ثلاثين سنة) باصطحابنا إلى مركز إسلامي تدرس فيه ابنتاها اللغة العربية والعقيدة الإسلامية. تدير المركز جمعية إسلامية في حي من أمستردام يكثر فيه المغاربة. التباين بين مقاربتها ومقاربتنا للدين والتدين، لم يمنع صداقتنا، ولا دعمها لإحدانا في بعض مقتضيات حياتها الجديدة في أمستردام. وأخبرتنا الصديقة أن المركز – المؤسسة التي تُعنى بالتدريس هي مسجد أيضا. ولما وضعت كل منا شالا أو غطاء للشعر على رأسها، ابتسمت الصديقة وهزّت رأسها مستحسنة.
ما يعيشه العرب المسلمون في هولندا من حيرة في رغبتهم تعليم أبنائهم لغتهم الأم، ينطوي على قدر من المشروعية الثقافية والدينية والاجتماعية
أثناء تجاذبنا الحديث في سيارتها، أوضحت – وهي تضغط على مخارج الحروف في كلامها – أن حرصها، وصديقاتها من أمثالها “الملتزمات” دينيا، على تعليم أولادهن اللغة العربية، نابع في الدرجة الأولى من حرصهن كأسر مسلمة مهاجرة، على أن يتعلم الأولاد شؤون عقيدتهم. كأنها تقول إن الهجرة هي عامل إضافي ومحفز على ذاك الحرص المزدوج (اللغة العربية والدين الإسلامي) الذي لا تنفصم عراه.
وهي أضافت: “يهمنا أن يتعلم أولادنا الإسلام، حتى بلغة غير العربية. فإلى جانب تعليمهم في المدارس الهولندية الرسمية التي لا تهتم بالدين والتدين، نلحقهم بدروس هذه المؤسسة الإسلامية. ما يهمها أن يتعلموا العقيدة ولو باللغة الهولندية”.
دِين أجيال جديدة
إحدى الأمهات المغربيات من اللواتي قابلناهن في المؤسسة – المسجد، قالت بنبرة تستبطن نقدا أو تصحيحا لوضع مختل من وجهة نظرها: “الجيل الأول من آبائنا وأمهاتنا المهاجرين كان معظمهم غير متعلمين. وقد حرصوا على تعليمنا عادات وتقاليد بلدهم الأم أكثر من حرصهم على تعليمنا فرائض الدين. نحن اليوم نفعل العكس”.
خارج مبنى المؤسسة الإسلامية تجمهرت عشرات من الأمهات – جميعهن محجبات – وقلة من الآباء، في انتظار خروج أبنائهم. بدا المبنى عاديا، ويشبه المباني السكنية ولا شيء فيه يشير إلى أنه مسجد. وفسر الذين قابلناهم: “هذا النوع من المساجد هو في الأصل مبان سكنية، تبرع بها أفراد من الجاليات المسلمة في هولندا”.
في داخل المبنى – المسجد ازدحمت غرفتان مخصصتان للتدريس بطفلات معظمهن بين العاشرة والرابعة من العمر. يرتدين أثوابا فضفاضة طويلة، تغطي شعورهن وتنسدل حتى أقدامهن. وهي تعرف بـ “شرشف/مشمر الصلاة” المعتبر زيا رسميا داخل المدرسة. انكبت بعض الفتيات الصغيرات على ترتيب غرف الدرس. إحداهن تحرك مكنسة كهربائية لتنظيف غرفة جانبية قيل لنا إنها مصلى.
إمام العقيدة
للرد على أسئلتنا واستفساراتنا، بادرت سكرتيرة المركز – وهي محجبة، وقالت إنها لا تتحدث العربية بل الدارجة المغربية – إلى استدعاء مدير المؤسسة، وهو إمام المسجد. عرّف عن نفسه بأنه متخصص في الدراسات الإسلامية ومتخرج في جامعة لايدن الشهيرة.
أثناء إنجازنا هذا التحقيق، نشرت صحف ومواقع إخبارية هولندية رسالة من وزيرة الشؤون الاجتماعية فان خينيب إلى مجلس النواب، أبدت فيها أسفها على طريقة إجراء وزارتها تحقيقات عن المسلمين والمساجد في هولندا. وقد تبيّن أن بعض البلديات استأجرت وكالة أبحاث خاصة للتحقيق حول المنظمات الدينية الإسلامية، فركزت استطلاعاتها على أتباع المذهب السلفي. وحسب رسالة الوزيرة، استُخدِمت في التحقيق أساليب ملتوية تفتقر إلى الشفافية. وقد جُمعت بيانات شخصية عن المسلمين والمؤسسات الإسلامية والمساجد على نحو لا يسمح به القانون الهولندي. ووعدت الوزيرة بتدميرها ومسحها من أرشيف قاعدة بيانات الوزارة.
شرحنا لمدير المؤسسة – المسجد وإمامه أن أسئلتنا عامة، فوافق على الإدلاء بمعلومات مقتضبة، أفادت أن المدرسة تعلم العقيدة الإسلامية واللغة العربية، وتضم 1100 طالب وطالبة، موزعين على 13 فصلا للذكور و14 للإناث. وهناك 670 طلبا على قائمة انتظار الالتحاق بالمدرسة. وشرح المدير أن لدى المؤسسة منهجا لا يركز على تدريس العقيدة بالعربية بل بالهولندية. أما اللغة العربية فليست أساسية في برنامج التدريس. وهي تُعتمد في العبادات ولمهارات القراءة، بهدف اتقان الأطفال قراءة القرآن. وتستخدم في ذلك “القاعدة النورانية”.
وقال المدير إن التعليم يهدف في الدرجة الأولى إلى ربط الأطفال بهويتهم الإسلامية التي تتقدم على الهوية العربية. ويضم منهج المؤسسة دروسا في السيرة والفقه والتوحيد، وجلسات تربوية تُستخدم فيها كتب مبسطة، “كهذا الكتاب” الذي رفعه المدير بيده، فإذا به باللغة الهولندية، وترجمة عنوانه: “موعد مع الملك”. وهو أوضح: “يقصد بالملك الله سبحانه وتعالى”. وختم كلامه قائلا إن المؤسسة أطلقت منصة إلكترونية مجانية عبر الإنترنت، لمن يطلب التعلّم. ويتضمن المنهج دورات للأبوين أو أحدهما على الأقل.
مصاعب عربيةِ الدنيا
لدى خروجنا من المدرسة رأينا أن الأهل لا يزالون مجتمعين خارجا في دوائر محادثة تشير إلى أن تعارفا أليفا يسري بينهم. ولما لمحنا امرأة واحدة سافرة بين النساء المحجبات – سمى أمثالهن في لبنان الباحث والأكاديمي الراحل حسن قبيسي “أخوات الظل واليقين” – قررننا التوجه إليها، لكنها سرعان ما ركبت سيارتها وغادرت. وقالت صديقتنا المغربية المحجبة إن وجود غير المحجبات بين أمهات المتعلمين/ات أمر عادي، فسألناها: ألا يخلق إلزام الأولاد نظام المؤسسة التربوي قطيعة وتشوشا في علاقة تلامذتها بأهلهم غير الملتزمين دينيا؟ فأجابت الصديقة مبتسمة: ألسنا في بلد يحفظ الحريات الشخصية؟ فران صمت بيننا.
بعض من قابلناهم في المدرسة وسواها من أمثالها، ذكروا وذكرن أسبابا ثقافية، شخصية وعاطفية واجتماعية لحرصهم على تعليم أولادهم العربية. وأبدوا تخوفهم من أن يتحول تعليمها إلى غايات أخرى. وحدسنا أن المرأة السافرة من هؤلاء الذين واللواتي يرون ويرين أن العربية، كسواها من اللغات، أداة تواصل دنيوي متحول ومتغير، على الرغم من خصوصية كل لغة وحميميتها بالنسبة إلى أهلها. أصحاب هذا الرأي يشددون على المساحة المشتركة التي تقيمها العربية بينهم وبين أولادهم الذين يتحدثون لغة موطنهم الجديد. والمساحة تلك هي الجسر الذي يربط الأبناء بأهلهم وبمواطن أهلهم.
لكن مهمة هؤلاء أصعب بكثير من مهمة من يوكلون إلى مدارس المؤسسات الدينية تعليم أولادهم العربية وتعاليم الإسلام. ذلك لأن المدارس الرسمية الهولندية “العلمانية” حذفت من برامجها العربية كخيار لغوي. هذا فيما مدارس الجمعيات والمساجد تقدم اللغة وفق وجبة عقائدية كاملة متكاملة، يحذرها المضطرون إلى تعليم أبنائهم فيها.
لم أرسل أولادي إلى أي مدرسة بعد، لأنني لم أجد المدرسة المناسبة التي تعلم اللغة العربية من غير ربطها بأيدولوجيات معينة أو بتعليم ديني
إحدى الأمهات
المنحى الفردي الحذر جسدته أم عربية شابة متزوجة من هولندي، وعرّفت عن نفسها بأنها تعمل في مجال الإنتاج المسرحي والثقافي في هولندا. وهي قالت: “أحرص بشدة على تعليم أطفالي اللغة العربية. فلغتهم الأم جزء من هويتهم وتراثهم الثقافي، وتوثِّق صلتي بهم وتمنحها تاريخا متصلا لا تشوبه قطيعة. وبالعربية أستطيع التعبير والتواصل على نحو أفضل، ويصعب أن تصبح الهولندية لغتي الأم مهما اتقنتها. خوفي من محدودية التواصل والحديث والمناقشة مع أطفالي بالهولندية يجعلني أشد إصرارا على أن يتعلموها. ثم إنني أرغب في تمكينهم من التواصل مع الأسرة والأصدقاء في بلدي الأول”.
وبحسرة أردفت: “لم أرسل أولادي إلى أي مدرسة بعد، لأنني لم أجد المدرسة المناسبة التي تعلم اللغة العربية من غير ربطها بأيديولوجيات معينة أو بتعليم ديني. فالدين عندي شخصي جدا. وعلى الرغم من أنني مسلمة أفضل لأطفالي أن يختاروا دينهم بأنفسهم. وأفضل نقل المعتقدات والقيم لهم بطريقتي ووفق رؤيتي”. وقالت إنها تعرف أسرا عربية مسيحية أو لادينية تود لأولادها أن يجيدوا اللغة العربية ومعرفة ثقافتها، ثقافة بلدهم الأول، ويتجنبوا الصبغة الدينية الإسلامية. وأضافت: “هذا الربط بين الدين والعربية لحقنا إلى هنا في الغرب، حيث يطغى الدين في بعض دوائر المهاجرين على الهوية واللغة والثقافة”.
العربية رسما وغناء
لرصد تجليات هذه الحالة المركبة بين اللغة والهوية والثقافة لدى الجيل الثاني من المهاجرين – وهو إما ولد في الغرب أو هاجر مع أهله في سن مبكرة – التقينا أسرة عربية مكونة من والدين وابن وابنة. الطفلان هاجرا مع والديهما في سن مبكرة، مما جعل اللغة العربية لكليهما لغة مسموعة فقط، على خلاف الإنكليزية والهولندية اللتين تعلماهما كتابة وتحدثا.
في أثناء حديثنا مع الوالدين وتدوين ملاحظاتنا، اقتربت منا الصغيرة مشيرة إلى ورقة الملاحظات المدوّنة بالعربية متسائلة: “ماما شو هيدا؟”. جاوبتها أمها: “هذا عربي ماما”. وهتفت الطفلة: “أنا أعرف كتابة بابا بالعربي!”. ولما كتبت “بابا” على دفتر ملاحظاتنا، لاحظنا أنها ترسمها رسما، ومن اليسار إلى اليمين، وبدأت برسمها بألف المدّ ثم الباء، فألف المد ثم الباء مجددا.
تمثل كتابة العربية في ذهن الطفلة خطوطا، ووفق المنظومة الأساسية التي تلقتها في التعليم الأساسي في المدارس الهولندية. لذا فإن زرع منظومة أخرى موازية في ذهنها يصبح مهمة شاقة، يحاول والدها في الغرب تحقيقها. وحين سألنا الوالد عن سبب رغبته في تعليم ابنيه العربية، جاء جوابه بسيطا: أريد لطفليّ أن يفهما نكاتي، لنضحك معا. وأريدهما أن يغنيا معي عندما أعزف على الغيتار. لئلا تصير اللغة جدارا يعزلنا”.
المصدر : https://www.majalla.com/node/313466/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%87%D9%88%D9%84%D9%86%D8%AF%D8%A7-%D8%A3%D8%B3%D9%84%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%A8%D9%82%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%85%D9%87%D8%A7%D8%AC%D8%B1%D9%8A%D9%86