د. السيد ولد أباه
تحدثنا من قبل عن انحسار مفهوم «الشرق الأوسط» الذي تشكل في نهاية القرن التاسع عشر في سياق معادلة الصراع الثلاثي بين بريطانيا وفرنسا وروسيا على المجال العثماني، وأشرنا إلى أحد تشكلات الخريطة الجيوسياسية في بروز السياق شرقي المتوسط. هذا التشكل يندرج في معادلة استراتيجية عالمية جديدة، يتركز فيها الصراع الدولي بين مجالين أساسيين، هما: المجال الأورو آسيوي، والمجال الآسيوي – الهادئ، في حين يشكل شرق المتوسط والفضاء المطل على البحر الأحمر محورين مهمين في هذا الصراع، من منظور المصالح الحيوية العربية.
ما يتعين التنبيه إليه هو أن الفكرة الأورو آسيوية متجذرة في الفكر السياسي الروسي، وقد أعيد لها الاعتبار بقوة في السنوات الأخيرة، بعد نهاية المرحلة الانتقالية الطويلة التي تلت تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار التجربة الشيوعية.
وفق تحديدات ألكسندر ديوجين، المفكر الروسي المقرب من الرئيس بوتين، في كتابه الأساس «النظرية السياسية الرابعة: روسيا والأفكار السياسية في القرن الحادي والعشرين»، تصدر الفكرة الأورو آسيوية الجديدة عن المقاربة الحضارية التعددية للعالم، وما يترتب عليها من دور روسي في صياغة نموذج سياسي وثقافي بديل عن الليبرالية الغربية والنظام الدولي المرتبط بها.
في هذا السياق، يميز «ديوجين» بين أربعة أحزمة إقليمية جغرافية – حضارية، هي: المنطقة الأنجلوساكسونية – الأميركية، والمنطقة الأورو أفريقية، والمنطقة الروسية – الآسيوية الوسطى، ومنطقة الهادئ – الشرق الأقصى.
روسيا، من هذا المنظور، هي محور التقاء المجالين الأوروبي والآسيوي، لكن هذا المحور يُشكل، في حد ذاته، عالماً مختلفاً في مقوماته الثقافية والمجتمعية والسياسية عن آسيا الشرقية وأوروبا الغربية والوسطى.
أبرز سمات هذا العالم، كما يلخصها «ديوجين»، هي: تعددية منظومات القيم في مقابل الهيمنة الأيديولوجية الأحادية، النزعة التقليدية المحافظة مقابل التطورية العدمية، تأكيد حقوق الأمم وسيادتها في مواجهة هيمنة الغرب، إعلاء قيم التضامن الاجتماعي والإنصاف مقابل الفردية الأحادية الليبرالية.
إلا أن الفكرة الأورو آسيوية لا يمكن اختزالها في أفكار فلسفية وأدبيات نظرية، بل هي مقوم المشروع الاستراتيجي الروسي الجديد في طموحه إلى استعادة مراكز النفوذ والتأثير في العالم السوفييتي السابق (في آسيا الوسطى والبلقان). وقد برز هذا المشروع بقوة عام 2015 من خلال مشروع الوحدة الاقتصادية الأورو آسيوية، الذي استقطب عدداً من بلدان المنطقة.
إلا أن الفكرة الأورو آسيوية تصطدم، في الواقع، بالمشروع الصيني المنافس لبناء عولمة اقتصادية بديلة من «العولمة الغربية»، عبر الطرق المبتكرة للتحكم في مسالك التجارة الدولية الجديدة على خطوط التبادل بين القارتين الأوروبية والآسيوية. ورغم المشاريع المشتركة المتعددة بين روسيا والصين، فإن البلدين يتنافسان بقوة على النفوذ في آسيا الوسطى، التي هي جسر الوصول إلى أوروبا الغربية والشمالية.
وإذا كانت الولايات المتحدة تواجه هذا المشروع، من خلال استراتيجيتها الطموحة في المجال الآسيوي- الهادئ، بأوراقها القوية في الهند واليابان وأستراليا، بغية تطويق الاختراق الصيني وإضعافه، فإن المجموعة العربية بحاجة حيوية إلى استثمار الفرص المتاحة لها في مجاليها الحيويين في شرق المتوسط (من خلال العلاقة بدول أوروبا المتوسطية) وفي المجال الأفريقي المطل على البحر الأحمر.
في المستوى الأول، يتركز دور دول المشرق العربي المتوسطية ودول شمال أفريقيا المتوسطية (مصر وبلدان المغرب العربي)، وفي المستوى الثاني يبرز دور بلدان الخليج والجزيرة العربية في تكاملها مع شرق أفريقيا والقرن الأفريقي.
ما يتعين التأكيد عليه في هذا المقام، هو ضرورة إعادة بناء الرؤية الاستراتيجية العربية في ضوء التحديات والتحولات الدولية التي يعرفها العالم، راهناً، بتأثيراتها النوعية الخطيرة على الأوضاع الإقليمية العربية.
فغني عن البيان، أن الأزمات المتلاحقة التي عصفت بأمن واستقرار العالم العربي في العقد الأخير انجر عنها ما عبر عنه وزير الخارجية السعودي الأسبق المرحوم سعود الفيصل بحالة «الخواء الاستراتيجي»، الذي استغلته القوى الإقليمية غير العربية في نزوعها للسيطرة والنفوذ في المنطقة.
وما دام أصبح من العصي استعادة تركيبة النظام الإقليمي العربي في محدداته وتوازناته السابقة، فإن النظرة الاستشرافية العميقة تفرض إدماج المجالين المتوسطي والأفريقي في صلب الأجندة الاستراتيجية العربية.
هذا التموقع الجديد هو الذي يمنح العرب إمكانات وفرصاً قوية في ديناميكية التشكل الجيوسياسي الجديد للعالم، التي تتمحور اليوم حول صراع النفوذ بين القوى العالمية الثلاث الكبرى: الولايات المتحدة، والصين، وروسيا.
رابط المصدر: