فى أكبر خرق أمنى يتعرض له «حزب الله» اللبنانى، فجرت إسرائيل 4 آلاف جهاز «بيجر» وأجهزة لاسلكى تستخدمها عناصر الحزب، رسالة مشفرة أدت إلى تفعيل ثلاثة جرامات من المتفجرات، أخفيت كمكون إلكترونى بجوار البطارية بكل جهاز؛ تحول نوعى تعدى الخطوط الحمر لقواعد الاشتباك بين الطرفين، يدخل المنطقة عصر حروب سيبرانية، وصفتها صحيفة «واشنطن بوست» بأنها حرب خطيرة؛ تحول الأجهزة الذكية إلى سلاح خطير، ضد من يقتنيه؛ فالقاتل فى المنزل بين أيدينا!.
معركة البيجر واللاسلكى مقدمة لحروب سيبرانية، ترسم مسارات معقدة بين أطراف أخرى فى الإقليم. اعترف يوآف جالانت وزير دفاع الكيان الصهيونى ضمنيا بارتكاب العملية، مبينا أن الجيش والموساد والشين بيت وجميع الهيئات العسكرية الإسرائيلية تحقق نتائج مثيرة، وأن مركز ثقل الحرب الإسرائيلية بدأ يتحرك شمالا، بينما أوضح هيرتسى هاليفى رئيس أركان جيش الاحتلال أن تل أبيب لديها الكثير من القدرات التى لم تستخدم بعد.
تفجيرات البيجر ومن قبلها اختراق «صاروخ حوثي» منظومات الدفاع الإسرائيلية وسقوطه فى قلب تل أبيب،أظهرت أن حروب التكنولوجيا قادمة لا محالة بالشرق الأوسط، ما أعاد طرح السؤال الذى حير العقل العربى قديما: كيف استطاعت إسرائيل الانتصار فى كثير من مواجهاتها مع العرب، وأن توسع حدودها متجاوزة قرار التقسيم عام 1947م حتى اليوم؟ ترفض إسرائيل دعوات السلام، تقترف جرائم الإبادة الجماعية وتلهث لإشعال الحروب الظاهرة والخفية فى جنبات الإقليم. المفارقة أن حدود إسرائيل الراهنة تجعلها فى وضع إستراتيجى بالغ السوء والضعف؛ إن تعرضها لهزيمة كبرى كفيل بإنهاء وجودها، برغم ذلك لا تتوقف عن النزال والمناكفة، فما السر فى ذلك؟!.
أحد وجوه الإجابة يتمثل فى انعدام الإرادة السياسية العربية للمواجهة، فى ظل التفكك العربى، أما الوجه الآخر لهذه الحالة الصراعية فيتمثل فى الفجوة الهائلة بين حالة العرب وإمكاناتهم، وبين طموح الكيان الصهيونى وتطلعاته، جوهر الأمر يتجسد فى معادلة الكم العربى والكيف الإسرائيلى، يدرك الإسرائيليون هذا ويتغاضى عنه العرب. فى عام 1979م خاطب أبا إيبان المفكر ووزير الخارجية الإسرائيلى الكنيست، قائلا: «إن وجود إسرائيل كله موضوع فى الميزان، بين الكم العربى والنوعية اليهودية»؛ ودأب قادة إسرائيل على ترديد هذه المعادلة بفخر، والسعى لتجسيدها واقعيا، كلما سنحت الفرصة، وكثيرا ما تسنح. تشير القراءة الهادئة لمحددات الصراع إلى تفوق إسرائيل على العرب فى المواجهات، مع استثناءات، منها حرب أكتوبر 1973 على سبيل المثال، التفوق الإسرائيلى هو تفوق نوعى،يقابله تفوق كمى أو عددى عربى كاسح، لكن «غير مفعل» أو «غير مستخدم» بكيفيات أو بآليات تجعله يؤتى ثماره المنشودة؛ يتفوق العرب من حيث المساحة والسكان والموارد الاقتصادية والعسكرية أيضا، معادلة الكم والكيف تحتوى على أبعاد متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية وحضارية، لكن إسرائيل استطاعت أن تجعل التفوق التكنولوجى «رأس الرمح»؛ لربح مواجهاتها مع العرب؛ يقترن الجانب العسكرى فى الصراع بالمستوى التكنولوجي؛ تعوّل إسرائيل على امتلاكها أحدث التكنولوجيات المتطورة على امتداد عقود الصراع؛ تسهم فى إنتاج تكنولوجيات الفضاء والأقمار الصناعية وأنظمة الصواريخ والطائرات بدون طيار والأسلحة النووية والهيدروجينية والليزر والحواسيب والبرمجيات والاتصالات والمعلوماتية والطب والصيدلة.. إلخ.
صحيح أن خزائن أمريكا وأوروبا مفتوحة أمام إسرائيل تعبّ منها ماليا وتقنيا، لكن الكلمة المفتاحية ـ فى تقدمها علميا وتكنولوجيا ـ هى التعليم والبحث العلمي؛ تحتل المركز الأول عالميا فى الإنفاق على التعليم فى شتى فروع المعرفة؛ لدرجة مكنتها من الانتقال من كيان استيطانى يعتمد على الزراعة، إلى دولة ترتكز بنيتها العسكرية والصناعية على اقتصاد المعرفة، وتحتل جامعاتها مراكز متقدمة فى أبرز التصنيفات العالمية، وتحوز المرتبة 15 على العالم بأبحاثها فى العلوم البحتة والتطبيقية، هناك عالم لكل 10 آلاف إسرائيلى، مقابل عالم لكل 100 ألف عربى. كل براءات الاختراع العربية لا تتجاوز 5% من براءات الاختراع المسجلة بإسرائيل، وهى نقطة جذب للكفاءات المهاجرة من عواصم عالمية، بينما تعتبر البلدان العربية أكبر منطقة طاردة للكفاءات فى العالم، تسهم بنحو 31% من الكفاءات المهاجرة من الدول النامية إلى الغرب.
برغم كل ما تقدم، الصورة ليست قاتمة تماما، يتفوق العرب ـ مجتمعين ـ على إسرائيل إستراتيجيا، بشكل كاسح، سواء فى موازين القوى أو فى عناصر القوة الشاملة التى يتخذها الخبراء كمؤشرات لقياس القوة. التفوق محسوم للعرب كميا، على المستوى النظرى على الأقل، بمعنى أن التفوق العربى (الحقيقي) مرهون بتحول الكم العربى إلى (كيف)، ليس فى مواجهة إسرائيل فحسب، بل فى مواجهة قضايا الأمن والتنمية، على جميع المستويات والاتجاهات، أيا كانت التطورات على محور الصراع العربى الإسرائيلي. يشمل هذا المبدأ جميع مكونات المعادلة، التكنولوجى منها والعسكرى والاقتصادى والسياسى والاجتماعى على حد سواء، أو على مستوى إدارة الأزمات والردع؛ حيث تمثل التكنولوجيا عاملا حاسما فى حياة الشعوب، ومعارفهم وهوياتهم وعلاقاتهم بل ووجودهم، التكنولوجيا دوائر متداخلة، باب للأمل والخطر، بدون التكنولوجيا يعانى الأمن القومى العربى انكشافا وخللا رهيبا لا يمكن قبوله.
لا مفر من رفع القدرات العلمية والتكنولوجية العربية، وأولى الخطوات هى الاهتمام الفائق والمدروس بالتعليم والصحة، الإنسان أولا، وقبل أى شيء وكل شىء؛ حتى لا تصبح التكنولوجيا قاتلا للعرب فى بيوتهم، بمجرد «كبسة زر»؛ فالصراع مازال طويلا وممتدا!.