اتفق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الصيني شي جين بينج على حزمة من الاتفاقيات الثنائية في 4 فبراير 2022 أثناء زيارة الأول إلى العاصمة الصينية بكين لحضور حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية. من أهم هذه الاتفاقات اتفاقان جديدان في قطاع النفط والغاز مع الصين بقيمة 117.5 مليار دولار.
الاتفاقيات ركزت على حصول الصين على حصة أكبر من غاز آبار “الشرق الأقصى الروسي”، علمًا بأن روسيا تصدر الغاز إلى الصين عبر ثلاثة خطوط، الأول مباشرة عبر الحدود المشتركة، والثاني عبر منغوليا، والثالث عبر كازاخستان.
ومن أجل وصول الغاز الطبيعي المسال من روسيا إلى الصين، يتعين أن يمر عبر مضيق ملقا الذي يصل المحيط الهندي بالهادئ، ولعل هذا يفسر المخاوف الروسية – الصينية المشتركة حول تحالف “أوكوس” العسكري بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا المعلن عام 2021 والمتعلق بمسرح عمليات المحيطين الهادئ والهندي.
اتفاقية الغاز تحديدًا تعد ثورة في هذه الصناعة؛ فمن جهة الصين هي أكبر دولة مستوردة للغاز في العالم، وتخشى من ألعاب الغرب فيما يتعلق بإمدادات الغاز عالميًا خاصة ما جرى في سنوات إدارة دونالد ترامب حينما ترك الرئيس الأمريكي السابق إيران تهدد الملاحة البحرية في مضيق هرمز ما هدد إمدادات الغاز إلى اليابان والصين، لذا يبدو الغاز الروسي خيارًا آمنًا للغاية لبكين.
أما روسيا فتخشى بدورها من ألاعيب الغرب في الاستغناء عن الغاز الروسي أو تقليص حصة روسيا من احتياجات الأسواق الأوروبية، وهكذا فإن التوجه إلى السوق الصينية يعد خيارًا آمنًا في زمن التوترات التي تصنعها إدارة جو بايدن في ملف أوكرانيا.
ولكن هذا التحالف القوي المعلن في فبراير 2022، مهدد بإرث طويل من الخلافات بين موسكو وبكين، عكس ما تروج له الصحافة والإعلام الدولي، وحتى بيوت السياسة ومجالس الفكر حول العالم، حول وجود تقارب دائم بين الدولتين، بينما في واقع الأمر أن الخلافات الروسية – الصينية كانت حاضرة وبشدة في كافة العصور الروسية، سواء القيصرية أو السوفيتية أو الاتحادية.
ويكفي القول إن روسيا حاولت طيلة السنوات العشر الأخيرة أن تبرم اتفاقيات فبراير 2022 بينما كانت الصين تتملص من هذا الإلحاح الروسي، ولم تقبل الصين باتفاقيات فبراير 2022 إلا عقب تأكد الصين من أن الإدارة الديموقراطية الامريكية لم تستطع التملص من مخاوف الداخل الأمريكي وتسير على نفس نهج الإدارة الجمهورية السابقة في التصعيد حيال الصعود الصيني.
الخلاف السوفيتي بين موسكو وبكين
رغم إصرار بعض القراءات الغربية على أن النظام الصيني قد انفصل عن إرث مؤسسه “ماو تسي تونج” إلا أن هذا غير صحيح، والأخير –مؤسس الحزب الشيوعي الصيني– قد نظر إلى الاتحاد السوفيتي بوصفه النسخة الاشتراكية من الإمبريالية الغربية، وابتكر مصطلح “الإمبريالية الاشتراكية” و”الإمبريالية السوفيتية” في وصف المشروع التوسعي الروسي في نسخته السوفيتية.
ويعود هذا الوصف الصيني إلى الخلافات الحدودية بين الدولتين، وإلى تفهم الصين لحقيقة أنه متى ضعفت الصين فإن روسيا أول وأكبر جار سوف يسعى إلى التدخل في شؤون الصين الداخلية، وأنه يفضل أن تنوع بكين مصادر الغاز والنفط دون أن تضع كل حصتها في قبضة الروس.
العقدة السوفيتية بين موسكو وبكين لم تكن مجرد نظريات في دفاتر ماو مؤسس الشيوعية الصينية، ولكن ما بين 2 مارس 1969 و11 سبتمبر 1969 اندلعت حرب حدودية بين الصين الشعبية والاتحاد السوفيتي، وتكتم الإعلام الشيوعي في كلا البلدين على تلك الأخبار، ولم يعرف الشعب في كلا الدولتين أن زعماء الكتلة الشرقية قد انخرطوا في حرب عنيفة.
ولم تسفر الحرب عن أي تغيير في موازين القوى الحدودية بين البلدين، ولكنها جعلت ماو رئيس الحزب الشيوعي –والحاكم الفعلي للصين رغم وجود رئيس للدولة ورئيس للوزراء– يعطي الضوء الأخضر لمستشاره بفتح خط اتصال مع الولايات المتحدة الأمريكية لتحسين العلاقات على حساب العلاقات الصينية مع الاتحاد السوفيتي الذي كان يحكمه سكرتير عام الحزب الشيوعي السوفيتي ليونيد بريجنيف رغم وجود –مثل الصين– رئيس للدولة ورئيس وزراء تحت إمرة الحزب الشيوعي الحاكم.
واستطاعت الصين مع مستشار الأمن القومي الأمريكي الشهير هنري كيسنجر ترتيب أول زيارة لرئيس أمريكي إلى الصين حينما زار ريتشارد نيكسون بكين في فبراير 1972 وتباحث مع ماو وسط ذهول بريجنيف والأوليجارشية السوفيتية الحاكمة. وأسهمت العلاقات الصينية الأمريكية الوليدة وقتذاك في إنهاء حرب فيتنام وطمأنة بكين إلى أن واشنطن عقب الهزيمة العسكرية في فيتنام قد صرفت النظر عن أفكار القيام بعمل عسكري مشابه في آسيا مرة أخرى، وتلك كانت مخاوف الصين التي عُرفت بنوايا الرئيس الأمريكي الأسبق ليندون جونسون الذي قرر حال النجاح عسكريًا في فيتنام أن يقوم بحرب مماثلة ضد الصين.
وعقب انتهاء الحرب الباردة، كشفت مصادر صينية وأمريكية أن قمة ماو – نيكسون قد فتحت الباب أمام إنشاء محطة للمخابرات الأمريكية في الصين، لمراقبة النشاط السوفيتي المحتمل داخل الصين، وأن المحطة لاحقًا استُخدمت للتجسس على الاتحاد السوفيتي في آخر مراحل الحرب الباردة، وأن تلك المحطة لعبت دورًا مهمًا في حسم الحرب الباردة لصالح الكتلة الغربية.
وعقب سقوط وتفكيك الاتحاد السوفيتي، سارعت الصين في فتح ملف حرب 1969، وطالبت بمناقشة الحدود مرة أخرى، وبالفعل وقع الطرفان ثلاث اتفاقيات لرسم الحدود أعوام 1991 و1994 و2004، تنازلت روسيا بموجبها عن المئات من الجزر في المياه المشتركة بين الدولتين.
لم ينس ماو أيضًا، أنه حينما أعلن تأسيس جمهورية الصين السوفيتية ما بين عامي 1931 و1937 Chinese Soviet Republic (CSR) وترأس الجمهورية الصينية السوفيتية، فإنه لم يتلق الدعم اللازم من الاتحاد السوفيتي –من وجهة نظر ماو– بوجه القوميين الذين أسقطوا الصين السوفيتية، ولاحقًا حينما انتصر ماو مجددًا ورفاقه وأسسوا ثاني جمهورية شيوعية للصين، رفض ماو فكرة وضع اسم السوفييت على الجمهورية الجديدة وأطلق عليها جمهورية الصين الشعبية (People’s Republic of China (PRC
أسئلة ما قبل الغزو الياباني للصين
في عام 1929، كان القوميون في موقع السلطة في جمهورية الصين، ويقاتلون الشيوعيين في الحرب الاهلية الصينية الاولي (1927 – 1936) وحدث أن الحكومة القومية قد تطاولت على الحدود بين الصين والاتحاد السوفيتي، وهنا اندلعت حرب 1929 بين البلدين، ما بين يوليو وديسمبر 1929، وأدت إلى انتصار سوفيتي خالص، بقيادة سكرتير عام الحزب الشيوعي السوفيتي جوزيف ستالين، ولكن هذا الانتصار السريع قد أظهر للعالم أجمع ضعف الدولة الصينية، وأثار مطامع اليابان في الصين، مما فتح الباب أمام الغزو الياباني للصين.
ورغم أن الاتحاد السوفيتي قد وقف بجانب الصين ودعمها في وجه اليابان، الا أن ثمة مرارة في كتابات التاريخ حول تلك الحقبة، وكيف أن الهزيمة السوفيتية كانت مفتاح التدخل الأجنبي الياباني في أحوال الصين.
تحالف الضرورة
وعلى ضوء ما سبق، فإن الصين سواء في سنوات روسيا السوفيتية أو لاحقًا روسيا الاتحادية، تنظر بعين الشك إلى موسكو، وقد حاولت الصين مرارًا ترك الروس يواجهون مشاكلهم مع الغرب، ولكن عوامل الجغرافيا والجغرافيا السياسية (الجيوبولوتيكية) قد أصرت على الجمع ما بين روسيا والصين في جولات شتى، ما بين الخوف من جماعات الإسلام السياسي في سوريا وقدرتها على نقل الإرهاب الدولي إلى الأقاليم المسلمة في روسيا والصين، أو الخطر المشترك لبكين وموسكو في سنوات تفكيك يوغوسلافيا وحملة الناتو عام 1999 على صربيا بدعوى حماية كوسوفو.
وعلاوة على ذلك، فإن النفوذ الروسي والصيني في أفريقيا يعمل بشكل متطابق وبأجندة مشتركة، وكذا مسارات مشروع الحزام والطريق أو طريق الحرير الثاني، ولجم محاولات الغرب صناعة جماعات إرهابية في آسيا الوسطى وأفغانستان. وهكذا فإن التحديدات المشتركة قد أجبرت الصين على القبول بالأيدي الروسية الممدودة، وكسرت روسيا استراتيجية حياد السبعينات والثمانينات الصيني.
إن العلاقات الروسية الصينية أمام اختبار تاريخي، فإما أن يثبت كلا الطرفين، خاصة الروس، أنه صديق جديد وحقيقي للآخر وأن خيار التحالف يمكن أن يمهد لقيام الكتلة الشرقية الثانية، أو تتناثر بذور الشك بطول الطريق بين بكين وموسكو، وتبدأ ألعاب ما خلف الستار بين البلدين.
.
رابط المصدر: