محمد علي جواد تقي
يشكف لنا التاريخ أن عظمة المرأة وبطولتها تنشأ وتنمو ثم تظهر من خلف حجاب العفّة والتقوى والأخلاق، فهي التي خلقت لها الأمل والتحدي والنجاح، ولا أصْدَق مما أورده القرآن الكريم من تجارب البشرية منذ وجدت، عندما ضرب مثلين رائعين من أعماق التاريخ، أحدهما لزوجة فرعون مصر (آسيا بنت مزاحم) التي تجاهلت القصور والحبور والمجوهرات، وهي تعلم أن من لا يتخذ فرعون إلهاً، مصيره الموت، وبطرق واساليب غاية في الوحشية والقسوة، فقبلت موت البطولة على عيش الذل في ظل شخصية وهمية كاذبة، أما المثل الآخر، فهو مريم بنت عمران، التي تميّزت عن جميع بنات عصرها بالطهر والعفاف، فجعلها الله –تعالى- آية من آياته العظام عبر التاريخ، بأن وهبها ولداً صالحاً من الانبياء الكرام، وهي فتاة غير متزوجة، فكانت بطولتها الوقوف بوجه اتهامات بني اسرائيل بارتكابها الفاحشة، فجائها المدد الإلهي بانطلاق لسان ولدها عيسى وهو في المهد بأني عبد الله و رسوله.
وهكذا كانت السيدة خديجة وابنتها الصديقة الزهراء، فقد خرجت خديجة من ثرائها ومكانتها الاجتماعية المرموقة، لتكون بطلة في الدفاع عن الاسلام متخذة ثروتها وسيلة لارتقاء المسلمين سلّم المجد، كما خرجت ابنتها فاطمة من كونها ابنة نبي ومدللة، وثرية ايضاً بامتلاكها مزارع فدك الوفيرة بالارباح، لتكون بطلة في الدفاع عن الفقراء والمحرومين، وايضاً عن قيم الاسلام، وعن الولاية، وكل ما من شأنه الحفاظ على الرسالة السماوية من التطبيقات المزيفة.
العقيلة زينب، الغصن الهاشمي الغضّ، استجمعت كل نفحات البطولة والإباء والإيمان الخالص من أسلافها الكرام الماضين، فتخرجت بطلة حقيقية، ومثلاً يُحتذى به، ربما ليس لبني جنسها فقط، وإنما للجنس الآخر علّه يعتبر ويستفيد لطريقه نحو النجاح في الحياة.
مع أمها الزهراء، عليها السلام، في مواجهة الانحراف
كانت العقيلة زينب ممن رافقت الصديقة الزهراء الى مسجد رسول الله، بعد أن تناهى الى سمعها قرار ابوبكر غصبها ملكية فدك، وعدّها من أموال المسلمين، والتنكّر لما قام به رسول الله بإعطائه هذه الأرض هبةً لابنته قبل حوالي ست سنوات من استشهاده، صلى الله عليه وآله.
وتذكر المصادر أن رواية الخطبة الفدكية التي صدحت بها الزهراء في المسجد على مسمع من مئات المهاجرين والانصار، مصدرها العقيلة زينب، فقد رواها عنها زيد بن الامام زين العابدين، عليهما السلام، وكانت لصيقة بأمها الزهراء ولها من العمر خمس سنوات، شهدت المواقف المفجعة من بعد فقدها جدّها رسول الله، وكيف أن القوم هجموا على باب الدار وجرى ما جرى على أمها الصديقة، واعتقال والدها أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين بإقرارهم جميعاً يوم الغدير. لتتعلم الدرس الأول في التحدي ومواجهة الزيف والانحراف في الامة، لأنها مؤمنة بما تؤمن به والدتها بكل ثقة وبصيرة، فلا تجزع ولا تبكي وتنهار رغم فضاعة الخطب، وما جرى لأمها الزهراء من جرائم واعتداءات آثمة، فلم يسجل التاريخ أن زينب كانت تجري خلف أمها باكية الى مسجد رسول الله.
هذه الشخصية الحديدية والبصيرة الإيمانية نشأت منذ نعومة أظفارها وهي طفلة صغيرة في حجر والدها، يلاطفها، وذات مرة سألها: قولي واحد، فقالت: واحد، ثم قال لها: قولي اثنان، فسكتت، فسألها عن سبب سكوتها فقالت: “يا أبتاه! لا أطيق أن اقول اثنان بلسان اجريته على الواحد”، وفي مناسبة اخرى سألت هي أباها: هل تحبنا يا ابتاه؟ فأجاب بلهفة: وكيف لا أحبكم وانتم ثمرة فؤادي، فقالت له العقيلة: “يا ابتاه! ان الحب لله والشفقة علينا”.
بهذه البصيرة الإيمانية والذكاء الحادّ كونت العقيلة زينب شخصيتها وبنت فكرها وثقافتها لتكون جديرة بمواجهة تحديات كبيرة في قادم الأيام، ولتكون عبرة ونبراس لغيرها، فالقضية ليست شخصية تستلزم أدوات القوة والمنعة لدفع الخوف أمام أعداء الدّاء في فترة زمنية معينة ثم يطوي الزمن الجميع بانقضاء أيامه، إنما تستلزم شجاعة من نوع آخر له قوة قاهرة أمضّ من السلاح الفتاك، فربما يكون الصمت موقفاً عنيفاً، والنظرات سهام حادّة، فضلاً عن الكلمات تكون رصاصات خارقة تخرس الطرف المقابل وتكشف زيفه وحقيقته الفارغة، وتحتفظ بدويّ طويل تسمعه الاجيال.
مع أخيها شهيد كربلاء
قبل الحديث بإشارات سريعة عن الشخصية البطولية للعقيلة زينب، سلام الله عليها، يجدر بنا الاشارة الى نقطة جوهرية وهي؛ إن زينب، كما أمها الزهراء، من بنات حواء، فهنّ نساء، وفي عالم التكوين، وضمن معادلة الاسباب التي وضعها الله –تعالى- في الحياة، لا يختلفن عن أي امرأة او فتاة أخرى في المشاعر إزاء المثيرات من المواقف، فهنّ يشعرن بالفرح والبهجة والسرور، كما يشعرن بالحزن والاكتئاب حسب الموقف والمناسبة، فالحزن والبكاء –مثلاً- لا يتعارض مطلقاً مع الشجاعة والبطولة، كما لا يعني الفرح والانبساط نوعاً من الضعف، فقد بكت العقيلة زينب على أخيها كما بكت أمها الزهراء على أبيها رسول الله ذلك البكاء المُر، بيد إن الاثنين بقين من أعلام البطولة والشجاعة في الدفاع عن الدين والشريعة والقيم، ولا غرو من القول أن وجود مظاهر الدين والالتزام بالاحكام، وايضاً الابقاء على قيم مثل الحرية والعدالة والمساواة حيّة نابضة في الامة، يعود بالفضل الى تلك المواقف البطولية للصديقة الزهراء وابنتها العقيلة زينب، كل هذا حصل بمهارة فائقة في التوازن بين ردود الافعال، وعدم الاستغراق في جانب دون آخر، فبعد أن أظهرت الزهراء تبرّمها أمام أمير المؤمنين بعد عودتها من المسجد وبعد تلك الخطبة المجلجلة، هوّن عليها، ونصحها بالهدوء والسكون، فاستجابت على الفور، ولم تتكلم عن الموضوع الى آخر لحظة في حياتها، وكذا الحال بالنسبة لابنتها العقيلة، فهي بكت في صحراء كربلاء، ولكن في الكوفة والشام، أبكت الآلاف، وهي ماتزال تهزّ المشاعر بعنف، بل وتعلم النساء والرجال كيف يبكون لحظة، ثم يصبرون ويتحدون دهراً لمواجهة الانحراف والفساد.
كل حركة وسكنة للعقيلة زينب في واقعة كربلاء، لاسيما في اللحظات الحاسمة، كانت تستمد القوة والعزيمة من تراكم التجارب مع أهل السلطة ومن يحوم حولهم من المنافقين والمتزلفين والمتاجرين بالدين، وقد رأتهم بأم عينيها لحظة الهجوم على دارهم داعين أباها أمير المؤمنين للبيعة والقبول بالأمر الواقع الفاسد، ثم حرق الباب، ثم اغتصاب ملكية فدك، والمظالم والخيانات التي تعرض لها أبوها أمير المؤمنين في الكوفة، وبعدها اغتيال أخيها الامام الحسن بالسمّ، وما جرى في تشييعه والمظلمة المريعة التي تعرض لها.
الامام الحسين، عليه السلام، وهو مدرك لمشاعر أخته المرافقة له من المدينة الى كربلاء، أفصح لها ليلة عاشوراء عن عزمه لملاقاة الحتوف، عندما أنشد ابياته الشجيّة:
يا دهر أفٍ لك من خليلِ
كم لك في الإشراق والأصيلِ
من طالب بحقه قتيلِ
والدهر لا يقنع بالبديلِ
وإنما الأمر الى الجليلِ
وكان الإمام زين العابدين، الذي يروي الحادثة، قريباً منهما، فعلمت أن أخيها مقتولٌ لا محالة، فحزنت وبكت بكاءً شديداً حتى أغمي عليها، فاشفق عليها الامام الحسين، فأخذ قليلاً من الماء حتى تفيق، ثم أخذ يوصيها ويشدّ من عزمها ويقوي قلبها بأن: “يا أخية! اتقي الله وتعزي بعزاء الله، و اعلمي أن أهل الارض يموتون واهل السماء لا يبقون، وكل شيء هالكٌ إلا وجه الله الذي خلق الخلق بقدرته ويبعث الخلق فيعدودن”، ثم استحلفها واقسم عليها بأن “لا تشقي عليّ جيبا ولا تخمشي عليّ وجها، ولا تدعي بالويل والثبور اذا انا هلكت”.
وللعلم؛ فان السيدة زينب كان تصطحب معها اثنان من ابنائها: محمد وعون، وكانا من الشهداء بين يدي الامام الحسين، عليه السلام، فأي امرأة تتمكن من التجلّد والصبر وعدم الجزع لمقتلة عظيمة كالتي جرت يوم عاشوراء، مع عدم وجود مقارنة بين ما حصل ذلك اليوم بأي واقعة اخرى عبر التاريخ؟
السيدة زينب التزمت بوصية أخيها الامام الحسين، وهو إمام معصوم مفترض الطاعة على الجميع، وهذا الصبر الحديدي هو الذي مكنها من أن تضع يدها تحت جثمان أخيها، وقد فصل رأسه عن بدنه، وقد مُلئ بدنه الشريف بالطعنات والسهام وضربات السيوف، ثم ترفعه قليلاً عن الارض وتقول: “اللهم تقبل هذا القربان من آل محمد”.
إنها البطولة المستمدة من البصيرة الإيمانية التي تفوقت على البطولة المزيفة للنصر العسكري لجيش عمر بن سعد، ولا أدلّ على هذا من مواقفها الاكثر بطولية في الكوفة والشام، عندما وقفت أمام ابن زياد، ويزيد، وكشفت للناس وللتاريخ زيفهم وحقيقة انحرافهم عن الدين، وكيف انهم تسلقوا السلطة بالتضليل والخداع، وربما تكون نفحات الشجاعة في أهل الكوفة والمسلمين في كل مكان مستلهمة من كلمات العقيلة زينب وهي أسيرة مقيدة بالسلاسل، وفي تلك الحالة التي يصعب على أي امرأة تخيّلها.
ولم يتوقف مسلسل البطولة لزينب العقيلة، والراعية الأمينة عند هذه المواقف التي يمكن وصفها بالسياسية، بل ثمة موقف عاطفي صعب للغاية على كل أم، فهي، سلام الله عليها، بكت يوم عاشوراء على أبناء أخيها؛ القاسم وعلي الأكبر، كما بكت على العباس، ذلك البكاء المُر، ولكن الروايات التاريخية، وما وصلنا من الأئمة المعصومين، لم تسجل لها بكاءً يذكر على ولديها محمد وعون، وبهذا تكون قد سبقت أم البنين بأيام طويلة قبل ان تصل الى المدينة، عندما أغفلت ذكر أولادها؛ العباس وجعفر وعثمان، وراحت تبحث عن اخبار الامام الحسين، وما اذا قتل حقاً!
لقد رسمت العقيلة زينب، سلام الله عليها، صورة الشجاعة والبطولة عندما تكون في الدفاع عن الحق والفضيلة، قبل ان تكون لقضايا خاصة، وإن كانت المطالبة بالحقوق الشخصية، أمراً مطلوباً وحقاً مشروعاً يدعو اليه الاسلام، بيد أن الدائرة الأوسع لهذه الحقوق التي تشمل المجتمع والامة هو ما يجب ان تفكر به كل فتاة وامرأة، وهي العنصر –كما يعرف الجميع – المؤثر في تكوين هذه المجتمع، وفي تحديد اتجاهات تفكيره وسلوكه وتربيته، فكلما كان الحضور أقوى، والموقف أصلب، كان التأثير اكثر وضوحاً على الساحة الاجتماعية والثقافية.
.
رابط المصدر: