العلاقات التركية-الإسرائيلية.. خلافات وصلح وتشكيك

محمد الليثي

 

في فجر 31 مايو عام 2010 نفذت القوات البحرية الإسرائيلية هجومًا على أسطول الحرية التركي المتجه إلى قطاع غزة بهدف كسر الحصار، حيث حملت سفينة “مرمرة” مئات المتضامنين، ليتم الهجوم عليهم في المياه الدولية باستخدام الرصاص الحي والغاز لتكتب فصلًا طويلًا من توتر العلاقات بين “أنقرة” و”تل أبيب” بعد أن مهد لهذا الفصل انسحاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -الذي كان رئيسًا للوزراء آنذاك- من المنتدى الاقتصادي العالمي في “دافوس” احتجاجًا على الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة وهو الأمر الذي لم يكن الأول من نوعه، حيث أصيب العلاقات التركية-الإسرائيلية بالشرخ الأول أثناء الهجوم على غزة عام 2008، ليستمر هذا الفصل مفتوحًا حتى أغلقه البلدان بإعلان وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو ورئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد، الأربعاء الماضي، تبادل السفراء.

خلافات قديمة

عام 2010 لقي 9 نشطاء من أسطول المرمرة حتفهم كان أحدهم مزدوج الجنسية (أمريكي-تركي)، فيما كان الـ8 الآخرون يحملون الجنسية التركية، فيما أصيب عدد آخر بجروح على أيدي القوات الإسرائيلية في المياه الدولية بالبحر الأبيض المتوسط، ليتصاعد التوتر بين البلدين بعد أن وصف أردوغان تلك الغارة بأنها «إرهاب»، فيما استدعت تركيا سفيرها من إسرائيل، واستدعت السفير الإسرائيلي للمطالبة بتوضيح، وذكرت وزارة الخارجية التركية آنذاك أن الحادث قد يؤدي إلى عواقب لا يمكن إصلاحها في العلاقات الثنائية بين البلدين.

وبعد أكثر من عام، وتحديدًا في 2 سبتمبر عام 2011 خفضت تركيا العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وعلقت التعاون العسكري بعد أن أصدرت الأمم المتحدة تقريرها عن غارة “مرمرة”، وآنذاك خرجت إسرائيل ببيان لمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن “إسرائيل تأمل في إيجاد طريقة لتجاوز الخلاف وستواصل العمل من أجل هذا الهدف”، وطالبت تركيا باعتذار وتعويض من إسرائيل في 31 مايو 2010 عن الحادث الذي قتل فيه 8 مواطنين أتراك ورجل أمريكي من أصل تركي خلال اقتحام الكوماندوز الإسرائيلي السفينة، ولكن رفضت الحكومة الإسرائيلية.

في وقت لاحق في عام 2011، طردت تركيا السفير الإسرائيلي بعد أن وجد تقرير الأمم المتحدة أن الحصار المفروض على غزة كان “قانونيًا” وفقًا للقانون الدولي على الرغم من استخدام القوة المفرطة عند صعود السفينة، وصرح مسؤولون إسرائيليون آنذاك أنهم يأملون في استعادة العلاقات لكنهم أكدوا أنهم لن يعتذروا.

وأثناء التصعيد الإسرائيلي على قطاع غزة في عام 2012، دعت وزارة الخارجية التركية المجتمع الدولي والأمم المتحدة إلى اتخاذ اللازم لوقف العملية العسكرية في قطاع غزة، والتي وصفتها بأنها “مثال آخر لسياسات إسرائيل العدائية”، واتهم أردوغان الأمم المتحدة في 19 نوفمبر من العام نفسه بالفشل في التصرف حيال القصف الجوي الإسرائيلي المميت لقطاع غزة، واصفًا إسرائيل بـ”دولة إرهابية تقتل الأطفال الأبرياء”. وفي عام 2013، وصف أردوغان خلال خطابه في حديث للأمم المتحدة بفيينا، الصهيونية بأنها “جريمة ضد الإنسانية”، ورد شمعون بيريز بأن تصريحات أردوغان مبنية على الجهل وأنها تثير نيران الكراهية.

محاولات مصالحة

في 22 مارس عام 2013، أجرى رئيس الحكومة الإسرائيلي آنذاك، بنيامين نتنياهو، اتصالًا هاتفيًا بأردوغان وقدم اعتذارًا عن حادثة مرمرة، وعبرت الحكومة الإسرائيلية في بيان رسمي عن أسفها لتدهور العلاقات الثنائية ووصفت الحادث بأنه غير مقصود ومؤسف وشابته “أخطاء تشغيلية”، وقبل أردوغان في وقت لاحق الاعتذار نيابة عن الشعب التركي وأكد ذلك في بيان رسمي.

وأكدت إسرائيل أنها ستقدم تعويضات إلى عائلات الضحايا، وأعلنت أن هناك موافقة على إعادة العلاقات الدبلوماسية الطبيعية، بما في ذلك عودة السفراء وإلغاء الإجراءات القانونية التركية الغيابية ضد القوات الإسرائيلية المشاركة في الغارة. وفي يونيو 2016 وبعد ست سنوات من القطيعة، أضفت كل من إسرائيل وتركيا الطابع الرسمي على علاقتهما عبر إعادة السفيرين، ونصت اتفاقية بينهما على تعويض تركيا بمبلغ 20 مليون دولار، مقابل أن تتخلى عن إجراءاتها ضد قادة الجيش الإسرائيلي السابقين.

ولكن مع اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالقدس عاصمة لإسرائيل في 14 مايو 2018 واندلاع المواجهات آنذاك، وجه الرئيس التركي اتهامًا إلى إسرائيل بارتكاب «إبادة جماعية» والتصرف مثل «دولة إرهابية»، وفي اليوم التالي طردت تركيا السفير الإسرائيلي وسحبت سفيرها في تل أبيب للتشاور. وردًا على ذلك، طردت إسرائيل القنصل التركي، وأمر وزير الزراعة الإسرائيلي أوري أرييل بتجميد استيراد المنتجات الزراعية من تركيا.

العودة التركية

شهد شهر نوفمبر من عام 2021 تحركًا فريدًا من نوعه، بعد أن أجرى أردوغان محادثات هاتفية مع نظيره الإسرائيلي يتسحاق هرتسوج ورئيس الوزراء نفتالي بينيت وهي أول محادثات من نوعها بين الرئيس التركي وزعيم إسرائيلي منذ العام 2013، ولاحقًا أفرجت تركيا عن سائحين إسرائيليين كانا قد احتُجزا لديها بتهمة التجسس، وأعلن أردوغان سعيه إلى مصالحة تدريجية مع إسرائيل.

ويبدو من سلوك الرئيس التركي أنه قبل اتخاذ الخطوة تجاه الصلح مع إسرائيل أعاد التفكير في مسار العلاقات بين البلدين بسبب التطورات التي شهدتها الساحة الدولية والمخاوف التي قد تكون انتابته من الإصابة بما أصيبت به دول الأوروبية بسبب نقص الغاز الروسي بعد اشتعال الأزمة الأوكرانية الروسية، لكون إسرائيل تمتلك كميات كبيرة من الغاز الطبيعي الذي تم اكتشافه في البحر المتوسط خلال السنوات الأخيرة، وبالتأكيد تصلح «تل أبيب» أن تكون بديلًا أو مصدرًا إضافيًا للغاز الطبيعي الإيراني والروسي حال النقص أو المنع.

وتعد تركيا مستوردًا صافيًا للغاز الطبيعي والنفط، وتعتمد على استيراد الغاز من 3 بلدان، وهم روسيا وأذربيجان وإيران، بما يتراوح بين 45 و50 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا وفقًا لبيانات رسمية. وفي الأشهر الـ10 الأولى من 2021 وفّرت إيران وحدها 16% من احتياجات تركيا من الغاز الذي يُستخدم في توليد الكهرباء، وبذلك تعتمد تركيا على 3 دول حدودية لها في استيراد الغاز، الأمر الذي قد يدفع هو الآخر «أنقرة» إلى الخروج من هذه المنطقة بالتوجه إلى إسرائيل التي تسعى إلى تصدير الغاز الطبيعي الذي تم اكتشافه إلى أوروبا.

عودة العلاقات

يوم 17 أغسطس 2022 أعادت إسرائيل وتركيا العلاقات الدبلوماسية بينهما بعودة السفراء للبلدين تنفيذًا لجملة من القرارات اتفق عليها الجانبان خلال مكالمة هاتفية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد والرئيس التركي أردوغان، حيث أوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي، أن إسرائيل وتركيا قررتا استعادة التمثيل الدبلوماسي الكامل بينهما.

وبحسب ما نقلت صفحة رئيس الوزراء الإسرائيلي على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» أكد لابيد أن «استعادة مستوى العلاقات الدبلوماسية استمرار للاتجاه الإيجابي الذي شهدته العلاقات بين البلدين على مدار العام المنصرم، منذ زيارة رئيس الدولة إسحاق هرتسوج إلى أنقرة، والزيارتين المتبادلتين اللتين قام بهما وزيرا الخارجية إلى البلدين.

وأوضح أن مدير عام وزارة الخارجية ألون أوشبيز تحدث مع نائب وزير الخارجية التركي سادات أونال واتفق معه على القيام بذلك مضيفًا أن «استئناف العلاقات مع تركيا يشكل ذخرًا مهما للاستقرار الإقليمي، وبشرى اقتصادية شديدة الأهمية بالنسبة للإسرائيليين».

وعلى الرغم من عودة الثقة والتقارب بين تل أبيب وأنقرة، إلا أن هناك ما يمكن أن يجرها إلى الوراء من جديد، خصوصًا عندما نتحدث عن التطورات الداخلية في البلدين وتأثيرها على مجريات الأمور، وهذا ما تراه القناة الـ12 الإسرائيلية التي قالت إنه على عكس الماضي، فإن “دفء العلاقات” جاء نتيجة مبادرة تركية هذه المرة، لافتة إلى شكوك إسرائيلية.

وأضافت القناة على موقعها الإلكتروني، أن إعلان عودة السفراء والقناصل إلى تركيا وإسرائيل كان “ختمًا نهائيًا” لتجديد العلاقات بين إسرائيل وتركيا، مضيفة: «في الواقع، في 2016، وُقعت بالفعل اتفاقية تطبيع بين الدولتين اللتين حاولتا التخلص من تداعيات حادثة سفينة مرمرة، ولكنها انهارت في 2018، وعلى عكس التحركات السابقة، كانت تركيا هذه المرة المبادرة ببدء التطبيع وأظهرت دافعًا كبيرًا للترويج له، وبالنسبة للإسرائيليين، خففت ذكرى العقد المتوتر بين أنقرة وتل أبيب وسلسلة التصريحات العدائية في الماضي من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي أثارت الشكوك في تل أبيب، وجعلت التقدم نحو أنقرة حذرًا».

وتقول القناة إن تحسين العلاقات بين تركيا وإسرائيل بعد الإشارات الإيجابية الأولى التي أرسلتها أنقرة في نهاية 2020 يعد استغلالًا ذكيًا للفرص، حتى قبل ذلك، خاصةً بعد اعتقال الزوجين الإسرائيليين موردي وناتالي أوكنين في نوفمبر الماضي، حيث تمكن الرئيس إسحق هرتسوج ونظيره التركي من بناء علاقة بينهما، مكنت البلدين من الحوار حتى في أوقات الأزمات.

وأضافت أن الزيارات المتبادلة بين وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، ووزير الخارجية آنذاك يائير لابيد، ساعدت في تجديد العلاقات الثنائية، لافتة إلى أن التعاون بين الأجهزة الأمنية التركية والإسرائيلية ضد محاولات إيران اغتيال السياح الإسرائيليين في تركيا في الربيع الماضي أتاح تعميق العلاقة الأمنية بين أنقرة وتل أبيب. وترى القناة أن تجديد هذه العلاقات وتعزيزها خلق وضعًا عادت فيه إسرائيل إلى الثقة في تركيا بما يكفي للموافقة على طلب أنقرة تعزيز العلاقات الرسمية بين البلدين.

وحل الخلاف الذي منع الشركات الإسرائيلية من السفر إلى أنقرة بسبب الخلافات منذ 2009 على الترتيبات الأمنية، وفي ضوء كل التحديات الإقليمية التي تواجهها إسرائيل، كان مفهومًا أنه من الضروري تحسين العلاقات بين القوتين الإقليميتين المهمتين، وفق القناة الإسرائيلية.

وذكرت القناة أن وفدًا تركيًا يزور حاليًا واشنطن لمناقشة صفقة شراء طائرات من طراز F-16، لافتة إلى أن الإدارة الأمريكية تدعم الصفقة، لكن هناك معارضة واسعة في الكونجرس بسبب التقارب بين تركيا وروسيا في السنوات الماضية، فضلًا عن سلوك تركيا في شرق البحر المتوسط، لافتة إلى أن تركيا تتوقع أن يتوقف اللوبي الموالي لإسرائيل عن التعاون مع اللوبي اليوناني في هذا السياق.

وأشارت القناة إلى تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد عن تجديد العلاقات الدبلوماسية الرصيد المهم للاستقرار الإقليمي، والمهم اقتصاديًا لمواطني إسرائيل، مضيفة: “تعتبر تركيا اليوم بالفعل أحد أهم شركاء إسرائيل التجاريين، حيث يبلغ حجم التبادل التجاري ما يقارب 8 مليارات دولار، لذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل هناك تقدم أيضًا في مسألة تصدير الغاز من إسرائيل إلى تركيا؟ على أي حال، هناك حاجة إلى تحديث اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، الموقعة في 1996، والتي تشكل أساس العلاقات التجارية الممتازة بين البلدين، لتتوافق مع بعض الاحتياجات الاقتصادية الحالية”.

وترى القناة أنه رغم أن إعلان عودة السفراء خطوة مهمة في العلاقات بين البلدين، إلا أن من الواضح أن التدهور العسكري بين إسرائيل وفلسطين، أو نشوب أزمة في القدس، يمكن أن يكون مدمرًا للتطبيع بين الطرفين، لافتة إلى التغييرات التي قد تطرأ على البلدين، بسبب الاعتبارات الداخلية خاصةً بعد الانتخابات الإسرائيلية في نوفمبر المقبل، وبعد الانتخابات في تركيا في يونيو 2023، حيث يمكن أن تؤثر بطريقة ما على العلاقات بالسلب.

ختامًا، يمكننا القول إنه على الرغم من تقارب العلاقات من جديد بين تركيا وإسرائيل، وعلى الرغم من أن المصالح تعزز استمرار ذلك التقارب، إلا أن تلك العلاقات مُهددة بالانهيار في أي من الأوقات بسبب التطورات على الساحة الدولية والتي تضفي بظلالها على تلك المصالح التي من الوارد أن تتغير بين يوم وليلة.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/72351/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M