وفاء صندي
اختُتمت الجولة الأولى من المفاوضات بين روسيا والغرب يوم 13 يناير الحالى بعد انتهاء اجتماع منظمة الأمن والتعاون فى أوروبا فى فيينا. وبدأ الأسبوع بمواجهة أمريكية روسية فى جنيف، تلتها محادثات مع حلف شمال الأطلسى فى بروكسل. وجاء ذلك عقب مبادرات دبلوماسية غير متوقعة من موسكو فى نهاية عام 2021.
فى الوقت الذى تتهم فيه الدول الغربية روسيا بحشد 100 ألف جندى قرب حدود أوكرانيا، وتطالبها بسحب قواتها وسط مخاوف من غزو روسى لأوكرانيا، تؤكد روسيا أن ليس لديها أى خطط لغزو أوكرانيا أو نية للهجوم عليها، وأن جميع التحركات العسكرية الروسية تتم داخل أراضيها، وأن لها الحق غير القابل للتفاوض فى نشر القوات ونقلها إلى حدودها حسبما يتراءى لها.فى المقابل، تطالب روسيا حلف الناتو بسحب قواته من بلدان الاتحاد السوفيتى السابقة ووقف أى خطط للتمدد شرقا، بل واستبعاد انضمام أوكرانيا إلى الحلف، وهى مطالب تعتبرها واشنطن غير واقعية، فيما تؤكد ضرورة المضى قدما فى المحادثات مع موسكو.
الصراع الحالى بين روسيا من جهة والدول الغربية من جهة أخرى حول أوكرانيا ومجمل ساحة أوروبا الشرقية هو وجه آخر من أوجه الحروب الدائرة من اجل رسم نظام عالمى جديد. أمريكا،التى تريد استمرار الانفراد بقيادة العالم، تنظر الى نظام بوتين باعتباره نظاما قمعيا وعدوانيا يسعى الى تقويض استقرار أمريكا والديمقراطيات الليبرالية عبر بث الأكاذيب وترويج الشائعات. اما روسيا التى تسعى الى الحفاظ على مصالحها وفق مبدأ التعددية القطبية، فهى ترى ان أمريكا تهدف الى محاصرة روسيا وتهديد أمنها القومى عبر فرض مزيد من العقوبات عليها وتمكين دول جوارها من الحصول على عضوية الناتو ونشر منظومات تسليح شديدة التقدم على الحدود الروسية.
فى منتصف ديسمبر كشف الكرملين، محتوى وثائق بعثتها القيادة الروسية إلى البيت الأبيض، تضمنت تفاصيل ضمانات روسية لنزع فتيل التوتر وتفادى المواجهة العسكرية واستئناف التعاون الروسى الغربى فى القضايا المختلفة. اشتملت هذه الضمانات على امتناع الولايات المتحدة عن إنشاء قواعد عسكرية فى أى دولة من دول الاتحاد السوفيتى السابق ليست عضوا فى حلف شمال الأطلسى، أو استخدام بنيتها التحتية فى أى نشاط عسكرى أو تطوير تعاون عسكرى ثنائى معها.كما اشترطت موسكو أن يتعهد كل أعضاء حلف شمال الأطلسى بعدم الاستمرار فى توسيع الحلف، وعدم القيام بأى نشاط عسكرى على أراضى أوكرانيا وفى بلدان أخرى من أوروبا الشرقية وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى، والتعهد بعدم ضم هذه البلدان إلى عضويته. كما تضمنت أيضا اشتراطات بعدم نشر صواريخ متوسطة وأقصر مدى فى أماكن يمكن أن تصيب منها أراضى الجانب الآخر، وعدم إجراء تدريبات بأكثر من لواء عسكرى واحد فى منطقة حدودية متفق عليها، وتبادل المعلومات الخاصة بالتدريبات العسكرية بشكل دوري.
وخلال الاجتماعات المكثفة التى شهدتها الأيام الماضية، أعلنت روسيا بوضوح ما تريده من عملية التفاوض مع الغرب، فكانت مطالب موسكو لا تتعلق بأوكرانيا أو جورجيا أو أى بقعة أخرى فى فضاء الاتحاد السوفيتى السابق، الذى يعد عمقا تاريخيا وجيو-استراتيجيا بالنسبة إلى المصالح القومية الروسية. لقد بات اكثر وضوحا أن موسكو تريد حوارا متكافئا ومبنيّا على الاحترام المتبادل للمصالح حول قضايا التوازن الاستراتيجى والأمن العالمى وفق مبدأ التعددية القطبية. أما الولايات المتحدة فلم تفعل، ولم تحدد رؤية واضحة لما تريده من الحوار. كل تصرفات واشنطن وحلفائها فى السنوات الأخيرة كانت تنحصر فى محاولة احتواء روسيا ومنعها من لعب دور يليق بمكانتها وإمكاناتها على الساحة الدولية.
طالبت روسيا خلال اجتماعات الأسبوع الماضى الناتو بتقليص وجوده بشكل كبير بالقرب من حدود روسيا فى أوروبا الشرقية، بما فى ذلك وقف جميع أشكال التعاون العسكرى مع أوكرانيا وتقديم ضمانات ملزمة قانونا بأن الدولة لن تنضم أبدا إلى الحلف. وقال رئيس الوفد الروسى أن الحوار مع الولايات المتحدة مستمر، لكنه حذر من أن بوتين يتلقى خيارات من الجيش حول ما يجب فعله فى حالة تدهور الوضع. وصرح جيك سوليفان، مستشار الأمن القومى للرئيس الامريكى، ان امريكا مستعدة لمزيد من الحديث، لا سيما حول نشر الصواريخ والتدريبات العسكرية فى أوروبا، لكنها تستعد أيضا للرد على اى غزو روسى محتمل لأوكرانيا، معتبرا أن ردود الفعل الروسية على الاجتماعات فى جنيف وبروكسل وفيينا كانت متناقضة. يبدو من خلال هذه التصريحات وغيرها ان العالم أمام فصل جديد للحرب الباردة.
شهدت الأيام الأخيرة مجموعة من التحركات فيما يتعلق بالأزمة الروسية الاوكرانية والتى تعكس بالأساس ازمة روسيا والغرب بقيادة امريكا. تحث موسكو واشنطن على وقف تزويد أوكرانيا بالسلاح، وتشدد على أن التصريحات حول العدوان الروسى المحتمل تستخدم كذريعة لبناء وحدات تابعة لحلف شمال الأطلسى فى المناطق الحدودية القريبة من أراضى روسيا. فى المقابل،تعمل واشنطن وشركاؤها لتسريع المساعدة الأمنية لأوكرانيا، من أجل تعزيز دفاعاتها فى مواجهة العدوان الروسي. وقالت السفارة الأمريكية فى كييف، إن الدفعة الأولى من المساعدات العسكرية الأمريكية الجديدة وصلت إلى أوكرانيا. وتشمل حوالى 200 ألف رطل (90.7 طن) من الأسلحة الفتاكة، بما فى ذلك ذخيرة للمدافعين عن خط المواجهة الأوكراني. حفاظا على مصالحها الاستراتيجية وجهت موسكو طلبا إلى حلف الناتو يقضى العودة إلى توازن القوى فى أوروبا، الذى كان فى عام 1997، ما يعنى سحب جميع القوات الأجنبية والأسلحة والمعدات العسكرية الأخرى من رومانيا وبلغاريا اللتين انضمتا إلى حلف شمال الأطلسى بعد 1997 مع عدم ضم أى من دول الاتحاد السوفيتى سابقا.هذا الامر لقى رفضا من حلف الناتو الذى اعتبر ان التحالف الغربى قرر قبول أوكرانيا وجورجيا كعضوين جديدين، وأنه لن يتخلى عن سياسة التوسيع التى تبناها، مشددا فى الوقت نفسه على أن توقيت انضمامهما للحلف لا يزال غير محدد. اما موسكو فتعتبر استمرار توسع التحالف الغربى يشكل تهديدا خطيرا لأمنها القومى، بحيث يسمح لـلناتو بتوجيه ضربات لأهداف رئيسية عبر الأراضى الروسية دون أن يتيح لموسكو إلا زمن تحذير قصيرا للغاية إذا قورن بمواقع توجيه ضربات أخرى.
يبدو واضحا أن الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة تصر على أن جميع الدول يجب أن تتمتع بحرية اختيار تحالفاتها، فى وقت يقول الكرملين إن الناتو لا يمكنه التوسع شرقا، وأن التعاون العسكرى الغربى مع دول ما بعد الاتحاد السوفيتى مثل أوكرانيا يمثل تهديدا وجوديا لأمن روسيا. وبينما يقول المسئولون الأمريكيون إنهم مستعدون لمناقشة بعض مخاوف روسيا – مثل التفاوض بشأن قيود متبادلة حول مكان وكيفية إجراء التدريبات العسكرية، أو ربما إحياء معاهدة القوات النووية متوسطة المدى، التى انسحبت منها الولايات المتحدة قبل عامين –لكنهم رفضوا مناقشة أى مطالب لروسيا بشأن توسع الناتو.
يجب القول إن جوهر الصراع الراهن بين روسيا والغرب يحاول البعض، خطأً أو عمدا، اختزاله فى نقطتين: أولا، يقع الخلاف بين روسيا والغرب على عضوية أوكرانيا المحتملة فى الناتو، لا على قضايا الأمن فى القارة الأوروبية والتوازن الاستراتيجى عامة. ثانيا، يتم الإيحاء بأن الضمانات الأمنية التى تطالب بها روسيا ستكون على حساب أمن حلفاء واشنطن، من خلال تضمين لا مزيد من التوسع للناتو فى مشروعى الوثيقتين اللتين اقترحتهما موسكو.طرح القضية على هذا النحو أدى إلى خفض التوقعات للنتيجة المرجوة من المباحثات مع روسيا. إضافة إلى ان التركيز على عدم شن هجوم على أوكرانيا يتجاهل حقيقة أن اجتياح أوكرانيا ليس الهدف الأساسى لروسيا. أوكرانيا، فى الواقع، هى عارض من عوارض الازمة بين العلاقات الروسية الغربية، وليست سببا لها. والتصعيد العسكرى حول كييف، هو مجرد واجهة لإظهار العلة.
المحادثات الجارية لحدود الآن فشلت فى التقريب بين الأطراف – ولا توجد مؤشرات على أى تخفيف للتوترات. من المفترض أن تتضح خلال الأيام القادمة الخطوات المُقبلة التى ستتخذها مختلف الأطراف فى هذه الأزمة، فالجانب الروسى ينتظر ردا كتابيا على المقترحات التى قدمها إلى الولايات المتحدة والناتو. ومن جانب آخر، يبدو أن الولايات المتحدة تضع خططا بشأن العقوبات التى سيتم فرضها على روسيا حال إقدامها على القيام بمهاجمة أوكرانيا. اما خيار الحرب بين أمريكا وروسيا فيبقى مستبعدا.
تبقى الإشارة الى ان مسألة فرض عقوبات إضافية قاسية على روسيا تثير قلق بعض الدول الأوروبية التى أعربت عن مخاوفها من أن يؤدى ذلك إلى الإضرار باقتصاداتها، وإلى دفع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إلى قطع أو تقليص إمدادات الغاز لأوروبا ونحن فى منتصف الشتاء، خاصة ان أوروبا تحصل على أكثر من 40% من غازها الطبيعى من روسيا، وحوالى ثلث الغاز الروسى المتدفق إلى أوروبا يمر عبر أوكرانيا. وهذا موضوع آخر يمكن العودة إليه فى مقال آخر.
.
رابط المصدر: