د. عدنان أبو عامر
في الوقت الذي يُحيي فيه المصريون الذكرى السنوية العاشرة لثورة يناير، قدرت التقييمات الإسرائيلية أن دوافع تلك الثورة ما زالت على حالها، من حيث الظروف الاقتصادية السيئة، وغياب الديمقراطية، ولكن لأن النظام ورأسه عبد الفتاح السيسي يتحكم مسبقاً بالمنظومة القضائية والبيروقراطية والأجهزة الأمنية، فمن الصعب أن تسمح هذه المؤسسات بحصول ثورة تطيح به.
أولاً: الوضع الداخلي
تابع الإسرائيليون منذ 2013 العديد من الاحتجاجات التي شهدتها الأراضي المصرية بين حين وآخر، وخروج المئات والآلاف من المصريين إلى شوارع القاهرة والإسكندرية والسويس ومدن أخرى تهتف ضد السيسي؛ وعند البحث في أسباب المحتجين والمتظاهرين المصريين، فمن الصعب العثور على فروقات جوهرية عن أسباب ثورة يناير 2011.
السبب الأول في الرؤية الإسرائيلية يكمن في أن السيسي تحول، مثل مبارك، إلى زعيم أوحد، وفي آذار/مارس 2018 حين أنهى ولايته الرئاسية الأولى “انتخب” مجددا بنسبة 97% لولاية ثانية، دون وجود معارضة فاعلة تنافسه بصورة جدية، وصادق البرلمان المصري على جملة إصلاحات تمكّن السيسي من البقاء رئيسا حتى 2034، ما يعني أن نشوء نظام ديمقراطي من مصر بات حلما بعيد المنال.
السبب الثاني وفق التقدير الإسرائيلي هو الموضوع الاقتصادي، فما زالت مصر ذات المئة مليون نسمة تعيش أزمة اقتصادية خانقة، ومعدل الأجور الشهرية يتراوح بين ألفي جنيه، أي 120 دولارا، ومعدل البطالة الرسمي يصل إلى 8%، لكن الأرقام الحقيقية أعلى بكثير، وما يزيد عن 30% من الشعب المصري يعيشون تحت خط الفقر، بأقل من 1.5 دولار يوميا، في حين يدير النظام قوة أمنية ومنظومة قضائية وأدوات بيروقراطية، وجميع هذه المكونات داعمة للسيسي، وتغطيه كليا بصورة كاملة.
التقييم الإسرائيلي يرى أن الأحداث المصرية منذ 2013 تذهب باتجاه تسبب إجراءات السيسي بإطلاق هذه المظاهرات، فقد قام بتقليص الإعانات للطبقات الفقيرة، ورفع معدلات الضرائب، ويشن حربا طاحنة على الجماعات الإسلامية في سيناء، وعمل على تقليص المد الإسلامي في مصر، واللافت أنه حين بنى لنفسه قصورا باهظة الثمن، واجه انتقادات كبيرة بأنها تبذير للمال العام.
قدمت السنوات الأخيرة مادة دسمة للدوائر الأمنية الإسرائيلية عقب تكرار توافد آلاف المصريين باتجاه ميدان التحرير وسط القاهرة، مما شكّل أرضية لإمكانية انفجار الوضع الاقتصادي بوجه النظام، لأن العناوين المركزية في نشرات الأخبار وشبكات التواصل تواترت بشكل دراماتيكي، وتحمل مضامين “الثورة عادت من جديد”، “المظاهرات العارمة تجتاح ميدان التحرير”، “الآلاف يدعون لإسقاط نظام السيسي”.
يعتقد الإسرائيليون أنه بغض النظر عن صحة الأرقام المتداولة للمتظاهرين المصريين بين حين وآخر، دقيقة أم مبالغ فيها، فإننا أمام حالة جديدة اسمها كسر حاجز الخوف لدى المصريين، بعد أن وجهت شخصيات مصرية معارضة دعوات للجماهير المصرية بالخروج للتظاهر، وإسقاط النظام، الذي اتهموه بالفساد، وبناء القصور لرجاله على حساب أموال المصريين، في الوقت الذي لا يجدون فيه ما يأكلونه.
رصدت وسائل الإعلام الإسرائيلية الجهات التي دأبت على الوقوف خلف المظاهرات المصرية المتواترة عند كل حدث ومناسبة داخلية، ولاحظت أننا أمام جهات لا تشترك في روابط أيديولوجية، لكنها تتقاسم في ملاحقة النظام لها، لأن انقلابه لم يكن ديمقراطيا، وقوانين الطوارئ التي سنّها في عهده تمكنه من اضطهاد خصومه، وقمع المظاهرات، والاعتقالات بدون محاكمة.
الحقيقة الماثلة وفق التقييم الإسرائيلي أن قنبلة موقوتة في وجه النظام المصري اسمها المشكلة الاقتصادية الاجتماعية، وانفجارها بات مسألة وقت ليس أكثر، وفي حال لم يشعر المواطن المصري بأي تحسن في المدى المنظور، فإننا أمام عودة جديدة لمظاهرات 2011، وسنكون أمام امتحان جديد لنظام السيسي، مع أن اسم إسرائيل تردد في المظاهرات، باعتبار السيسي صديقا لها، وعدوا للشعب المصري.
ثانياً: برود التطبيع
على صعيد دفء العلاقات بين النظام المصري ودولة الاحتلال، فإن “شهر العسل” الإسرائيلي مع دول الخليج الذي ازداد حدة بالتزامن مع “السلام البارد”، التجاري والمدني، مع الشعب المصري، تطلب من إسرائيل دفع الباب إلى الأمام لإدخال مصر ضمن هذا السلام الدافئ الحاصل مع الدول العربية في الخليج.
بات معروفا للجميع حجم المحادثات الهاتفية التي يجريها السيسي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومدى التنسيق الكامل للجيش المصري العامل في شمال سيناء مع نظيره الإسرائيلي، لاسيما مع وجود السفيرة الإسرائيلية في القاهرة أميرة أورون، التي تم اعتمادها في القصر الرئاسي، وتقوم بتحميل صور وقصص قصيرة عن زياراتها للقاهرة والإسكندرية ومعابد الجالية اليهودية.
في المقابل، فإن كل هذا لن يعادل الهجوم على المطرب المصري محمد رمضان الذي أدت صورته مع الفنان الإسرائيلي عومير آدم في دبي للتشويش على مستقبله الفني، واضطر لنشر اعتذار عن صِلاته مع مغن صهيوني، مما يدفع الجانب الإسرائيلي لطرح علامة استفهام كبيرة عن سبب عدم تحريك العلاقات بين البلدين.
يتساءل الإسرائيليون: لماذا لا يستطيع رجل أعمال إسرائيلي بيع التكنولوجيا المتقدمة لمصر، ولماذا توقف عمل التعاون الزراعي الذي ازدهر في العقود السابقة، وهل هناك مجال للعودة لصناعة الملابس والأغذية التي توقفت في السنوات الأخيرة، مع أنه بينما تزداد العلاقة بين إسرائيل والإمارات سخونة، لكن السلام مع مصر لا يزال بارداً.
تتحدث الأوساط الدبلوماسية الإسرائيلية عن توسيع النشاط مع مصر، رغم أن الجميع يفهم أن السلام بينهما مجمّداً، لكن هناك العديد من مجالات التعاون الثنائي، أهمها التبادل التجاري والمياه والزراعة، رغم أن المصريين ليسوا في عجلة من أمرهم للمضي قدماً في هذا المجال مع إسرائيل، ومنذ أكثر من عشرين عاماً، حاولت إسرائيل الشروع بإنشاء مرافق مصرية مشتركة لتحلية المياه، دون أن يحدث ذلك.
يعوّل الإسرائيليون على حاجة مصر لكميات كبيرة من المياه، وأزمة سد النهضة الذي قد يعطل تدفق المياه إلى النيل، يجعلها تستعد لنقص كبير في المياه، وتدرك أنها بحاجة لمصدر مياه إضافي، وتغيير في إدارة المياه وكفاءتها وتحسينها، وإسرائيل تعرف كيفية بيع تقنيات المياه، وهناك محاولات لإقناع شركات المياه الإسرائيلية للعمل في مصر.
ورغم ذلك، فإن السياحة الإسرائيلية منفتحة على مصر، فخلال 2019 وصل 300 ألف إسرائيلي إليها، سافر معظمهم لسيناء، وتوجد على الفيسبوك مجموعات إسرائيليين يزورون سيناء، وأخرى تجولت في القاهرة، وقبل أزمة كورونا، روجت للرحلات المباشرة من إيلات إلى شرم الشيخ، وتسويق حزم السياحة التي تجمع مصر وإسرائيل، ومع هبوب الرياح الجديدة في المنطقة، ربما حان الوقت للعودة إليها.
تطور ثنائي لافت حدث في يناير 2020، حين تم إنشاء منتدى غاز الشرق الأوسط EMGF، وهو منظمة متعددة الجنسيات تضم مصر وإسرائيل واليونان وقبرص والأردن والسلطة الفلسطينية، وإن إنشاء هذه الهيئة يرمز أكثر من أي شيء آخر للتغيير الجيو-سياسي الذي يحدث في المنطقة، فقد وقعت مصر وإسرائيل اتفاقية لتصدير الغاز، ولعل العلاقة الشخصية الممتازة بين وزيري الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتس والمصري طارق الملا لعبت دورا في هذا التطور التاريخي.
وقف المصريون دائما ضد التطبيع مع إسرائيل، وحتى يومنا هذا تلتزم نقاباتهم العمالية بالقرارات المتخذة منذ 1977 بعدم التطبيع، وحين استقبلت الإمارات المطرب الإسرائيلي عومر آدم تعرضت لهجوم من المصريين، ودعوات للمقاطعة، وتحركات قانونية ضدها، لأن مصر ليست قادرة على فك الارتباط بالقضية الفلسطينية، وحتى اليوم يستمر التحريض على إسرائيل في الإعلام والصحافة والتلفزيون والأفلام.
هناك الكثير من العداء المصري للإسرائيليين، والتحريض عليهم، وإلقاء اللوم عليهم على مر السنين، وشهدنا ظواهر خطيرة وغير مواتية في وسائل الإعلام المصرية ضدهم، إلى أن اتخذ السيسي قرارا بتجديد وتنظيف مقبرة يهودية عمرها ألف عام في القاهرة، من أندر المقابر في العالم، ومنذ عام مضى تم افتتاح أعمال تجديد كنيس إيليا النبي في الإسكندرية باستثمار مالي من قبل الحكومة المصرية، مما استحق الإشادة الإسرائيلية، دون أن ينفي الموقف تجاه إسرائيل، والتحريض بشبكات التواصل ضدها، والشعور الشعبي المعادي تجاهها.
ثالثا: اتفاقيات الغاز
لم تتأثر علاقات إسرائيل ومصر حتى الآن بأزمة كورونا، وخطة ضم الضفة الغربية، ولا تزال اتفاقيات تصدير الغاز الطبيعي الإسرائيلي لمصر كما هي، رغم توقع المراقبين بتراجع العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل ومصر ومختلف الدول العربية الأخرى، بما فيها التأثير على صادرات الغاز الطبيعي، بل يجري تنفيذ اتفاقيات تصدير الغاز الإسرائيلي لتسييله في المنشآت المصرية تنفيذا كاملا.
كما تم توقيع أول اتفاقية لبيع الغاز الإسرائيلي لمصر قبل عامين، بكلفة 15 مليار دولار خلال عشر سنوات، وبدأ الغاز بالتدفق لمصر في كانون الثاني/ يناير 2020 عبر خط أنابيب يبدأ بمدينة عسقلان، وفي حزيران/يونيو قامت شركة نوبل للطاقة، التي تملك حقلي غاز تامار وليفياثان، بتحديث خط الأنابيب الرابط بين إسرائيل بمصر.
بدا لافتا البيان الرسمي الصادر عن وزيري الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتس ووزير البترول والثروة المعدنية المصري طارق الملا، وذكرا فيه أن اتفاقهما إنما يعبر عن تطور مهم يخدم مصالحهما الاقتصادية، وأن الدخل المباشر من حقل غاز “تمار” منذ أن بدأ الإنتاج لأول مرة بلغ 12 مليار شيكل، وسيزداد بشكل ملحوظ خلال عامين، ويرجع بشكل رئيسي لمعدل الغاز الذي يتم توريده للأردن ومصر، مما يزيد من متانة علاقاتهما.
صحيح أن هذه المبادرة قائمة على ربط إسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا عبر خط أنابيب بطول 2000 كيلومتر يمر عبر البحر المتوسط، وأعلن الاتحاد الأوروبي أنه سيستثمر عشرات الملايين من اليوروهات للتحقيق بجدوى مد هذا الخط، وتعتقد إسرائيل أنها ستكون شريكا رئيسا ببنائه، ولعل سبب اهتمام أوروبا به هو تقليل اعتمادها على واردات الغاز من روسيا.
لكن الأهمية التي توليها مصر للغاز الطبيعي تكمن بتوسيع قواتها البحرية للدفاع عن حقول الغاز وخطوط الأنابيب الخاصة بها، وهي تمضي قدما بصفقات ضخمة لشراء أسلحة متطوّرة لتعزيز قوتها البحرية، ولذلك تعتقد إسرائيل أن أحد الأسباب المصرية لتطوير قدراتها العسكرية البحرية هو حاجتها للدفاع عن صادراتها من الغاز، سواء عن طريق الناقلات، كما يحدث الآن، أو خط الأنابيب، رغم أن أكثر ما يهم مصر هو منافستها الرئيسية تركيا.
رابعا: الجيش المصري
منذ انقلاب 2013، عكفت الأوساط الإسرائيلية على متابعة تنامي قدرات الجيش المصري، خصوصا البحرية منها، ومبعث القلق هو إمكانية غياب السيسي عن مسرح الأحداث، ومجيء زعيم مصري لا يحب إسرائيل، ولذلك بدت الآراء الأمنية الإسرائيلية منقسمة حول كيفية الردّ على توسيع قدرات البحرية المصرية وجيشها بشكل عام، فهناك قلق ملموس للغاية من أنه إذا أصبح الجيش المصري “قويا جدا”، فيمكن استخدامه من قبل زعيم مصري أقل صداقة لإسرائيل من السيسي، وكان هذا هو أساس النقد الموجه لنتنياهو الذي وافق على بيع ألمانيا للغواصات المتقدمة لمصر.
على الجانب الآخر من الجدل الإسرائيلي، يكمن الموقف من معاهدة السلام مع مصر التي باتت أقوى من أي وقت مضى، حتى إن مصر اليوم بات لديها الكثير مما قد تخسره، بعد أن شهد الشرق الأوسط تغييرات كبيرة، رغم أن المحافل العسكرية والاستراتيجية في تل أبيب طرحت تساؤلات بعيدة المدى حول إمكانية أن تشهد مصر وإسرائيل مواجهة عسكرية في المدى البعيد، لأنه بعد أربعة عقود من توقيع اتفاق السلام، حدثت تغيرات سياسية كبيرة في مصر، بالتزامن مع التسلح العسكري الضخم، مما يزيد القلق في إسرائيل أنها قد تستعد لحملة عسكرية أخرى، رغم أن اتفاقية السلام مع مصر شكلت لحظة حاسمة في تاريخ إسرائيل.
بعد عقود من الحرب بين مصر وإسرائيل، بدا أن التهديد قد أزيل أخيراً، وأن إسرائيل دخلت مخطط سلام إقليمي، لكن في السنوات الأخيرة حدثت تغيرات في مصر، مما أثار القلق الإسرائيلي، فقد بدأ هذا الاتجاه في الربيع العربي، وسقوط حسني مبارك، وصعود الإخوان المسلمين بقيادة الرئيس محمد مرسي، ثم الانقلاب عليه، ومجيء الجنرالات بانقلاب عسكري.
الزعيم المصري الراحل محمد مرسي رغم أنه كان معادياً لإسرائيل، لكنه ركز أكثر على الشؤون الداخلية، وتجنّب انتهاك شروط اتفاقية السلام، ولم يبق في السلطة لفترة طويلة، فقد أطاح به انقلاب عسكري نفذه السيسي في 2013، وأعاد الحكم العسكري للبلاد، وأحدث هذا النظام بعض التغييرات التي تابعتها إسرائيل عن كثب.
لقد وافقت المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية على أن يخوض السيسي قتالا ضد داعش في سيناء، وسمحت له بإرسال عشرات آلاف الجنود لشبه الجزيرة، مجهَّزين بأنظمة قتالية حديثة مثل المروحيات والدبابات والمدافع المضادة للطائرات، وفي الوقت نفسه، بدأت مصر عملية تسلح سريعة وشاملة، فبدأت بحريتها بشراء البوارج والغواصات، وحتى طائرات الهليكوبتر.
وتابعت المحافل العسكرية الإسرائيلية شراء القوات البرية المصرية المئات من الدبابات من طراز “أبرامز”، والمركبات المضادة للدبابات، والمدافع والأنظمة القتالية، وحازت على صواريخ أرض- جو جديدة بمدى مئات الكيلومترات، وزادت عدد طائرات إف16، وكجزء من تحسين البنية التحتية اللوجستية، رصفت الطرق السريعة بسيناء، وحفر الأنفاق تحت قناة السويس، وقامت بتجديد الموانئ العسكرية القديمة على جانبيها، وإنشاء أخرى جديدة، وإعداد مستودعات الوقود والذخيرة.
كل ذلك يحصل في ظل قناعة إسرائيلية أن اتفاق السلام مع مصر “يقف على ركبتي دجاجة”، لأن مصر تحكمها ديكتاتورية عسكرية، واتفاق السلام مع إسرائيل ليس مقبولا من النخب المصرية ولا الشعب المصري، وهم لا يزالون معادين لإسرائيل، بل ينكرون وجودها، ولذلك فإنه من ناحية الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، تمثل إسرائيل لمصر “عظمة في حلقها”.
السيناريو الإسرائيلي المتخوف يتمثل في عبور القوات المصرية الحدود من سيناء، والتدفق لإسرائيل، بهدف تفكيكها في غضون ساعات قليلة، ربما مع أغطية من الضوضاء الإلكترونية التي قد تخلق فجوة سوداء للأنظمة التكنولوجية الإسرائيلية، في الوقت نفسه، قد تستخدم القوات العسكرية المصرية البنية التحتية اللوجستية التي أقيمت في القناة ومنطقة سيناء لتعزيز القوات الغازية.
كما أن البحرية المصرية، وهي سادس أكبر قوة في العالم، قد تحاول حصار إسرائيل من موانئها المتوسطية البعيدة، ومنع الإمدادات عنها، ومن المحتمل أن تنضم حماس وحزب الله للهجوم بوابل من الصواريخ المتواصلة، وتندلع هجمات مسلحة من داخل الأراضي الفلسطينية، ونشوب مظاهرات للعرب في إسرائيل من قبل عناصر معادية كما رأينا أواخر العام 2000.
خامساً: التنافس مع الخليج
ظهر لافتا أن تغطية الإعلام المصري “الرسمي” إزاء إعلان قرار التطبيع بين الإمارات وإسرائيل خافتة بشكل ملحوظ، ورأى البعض أن ردة الفعل الباردة تجاه القرار جاءت بناء على توجيهات أمنية، حيث بدا نظام السيسي خائفاً من أن تسحب الإمارات البساط من تحت أقدامه باتفاقها الأخير في علاقتها بإسرائيل، في وقت دأب فيه على تسويق نفسه وكيلاً لإسرائيل والغرب في المنطقة.
توقف الإسرائيليون أمام هذا كثيراً، حتى إن بعض المحللين الإسرائيليين لاحظوا القلق المصري من أن تفوز أبوظبي بمكانة متقدمة لدى تل أبيب أكثر من التي يحتلها نظام السيسي حالياً، وعبروا عن ذلك في أكثر من مناسبة، وقد شهدت الأشهر الأخيرة العديد من الشواهد التي تظهر القلق المصري من اتفاق الإمارات، ومن أهمها شواهد إسرائيلية تمثلت بتشبيه نتنياهو للاتفاق مع الإمارات بأنه لا يقل أهمية عن اتفاق السلام مع مصر.
إسحاق ليفانون، السفير الإسرائيلي السابق في مصر، خشي من فوز أبوظبي بمكانة متقدمة في تل أبيب أكثر منها، ومزاعم المستشرق تسفي بارئيل أن السيسي يخشى أن يسرق بن زايد التاج الإسرائيلي منه، وأن ينقل التطبيع الإماراتي مركز الاهتمام الإقليمي من القاهرة لأبوظبي، وأكد معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى أن السيسي قلق من اتفاق الإمارات، خشية إبعاده كمحاور أساسي مع إسرائيل.
عبر الإسرائيليون بصورة واضحة أن اتفاق الإمارات يضع السيسي في مشكلة، بسبب التزامه بالقضية الفلسطينية، مما يتطلب حضور مصر الدائم فيها، وهي تحظى بدعم المصريين، لكن اتفاق الإمارات قد يحرمها هذه الورقة، وزعم رئيس الموساد السابق شبتاي شافيت أن اتفاق الإمارات أهم من السلام المصري.
هنا يطرح الواقع تساؤلات هامة عن ماهية مخاوف السيسي الحقيقية من اتفاق التطبيع بين محمد بن زايد وبنيامين نتنياهو، وما خيارات إسرائيل تجاه المفاضلة بينهما إن وجدت، وما المساحات التي قد تهيمن فيها أبوظبي لدى إسرائيل على حساب القاهرة، وهل تملك الإمارات شيئاً لإسرائيل يقرّب بينهما على حساب مصر، وهل يدفع التنافس بينهما إلى أن تقدم مصر تنازلات أكبر لإسرائيل، وما هي..
لكن الحقيقة أننا أمام شبكة تطبيع متكاملة ومنظومة استراتيجية، إماراتية سعودية مصرية إسرائيلية، وواشنطن تشرف عليهم جميعاً؛ ورغم احتفاء إسرائيل باتفاقها مع الإمارات، بوابتها المقبلة لمنطقة الخليج، فإن هناك ملفات تديرها مصر بكفاءة أكثر من الإمارات، في الساحات الفلسطينية والسودانية والليبية، مع الحفاظ على توزيع للأدوار بينهما، واحدة ترسم السياسات، وأخرى تمول، وتدفع الكلفة المالية.
النظرة الإسرائيلية لمصر تبقى الأهم، وتملك الثقل الاستراتيجي، رغم ما تقدمه الإمارات من خدمات أمنية ومالٍ وفير، لذلك تنظر إسرائيل للإمارات على أنها صاحبة دور نشط وفاعل، وليس أنها قوة إقليمية، وفي حال خشيت مصر من زحف الإمارات على دورها لدى إسرائيل، فقد تقدم تنازلات استراتيجية ثقيلة العيار تتعلق بسيناء لصالح تنفيذ مشاريع إسرائيلية مرتبطة بتمدد قطاع غزة جنوباً، وهو ما تردد في السنوات الأخيرة، لكن الوقت قد يحين في حال تسارع التطبيع العربي الإسرائيلي.
لم يعد سراً أن النظام المصري نفذ المطالب الإسرائيلية ضد حماس في غزة دون مقابل مجزٍ، لكنه في الوقت ذاته يتخوف أن تلعب إسرائيل دوراً معادياً لها في ملف سد النهضة مع إثيوبيا، كما تجلَّى تراجع نفوذه في خاصرته الجنوبية في السودان لصالح التأثير الإماراتي المتنامي هناك، وهنا خشية مشروعة أن يقدم النظام المصري تنازلات خطيرة لإسرائيل من أجل الحفاظ على دوره الإقليمي بإعادة طرح المخططات الإسرائيلية الخاصة بسيناء، وتمددها بقطاع غزة، لحل المشكلة الأمنية الإسرائيلية.
في الوقت ذاته، تحدثت أوساط إسرائيلية عن دعم النظام المصري العلني لاتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والإمارات والبحرين والسودان، باعتبار ذلك إحدى السمات المميزة والفوائد للشراكة الإسرائيلية المصرية في حوض شرق البحر المتوسط، حيث رحبت القاهرة بحرارة بهذه الاتفاقيات، وتفرعت معها علاقات نفوذ معقدة، ومنعت مناقشتها بالجامعة العربية بشأن المطالب الفلسطينية، وكل هذا مختلف تماماً عن أنماط السلوك المصرية السائدة في الماضي.
ترى ذات الأوساط الإسرائيلية أنه يجب أن يُنظر لهذا الموقف المصري على أنه أحد المكافآت المهمة التي تحصل عليها إسرائيل بسبب التزامها بالقوة الجديدة في البحر المتوسط، لأنه في ما يتعلق بترسيم حدود المياه الاقتصادية والصراع الذي ينطوي عليه ذلك من أجل مستقبل ليبيا، أعطت إسرائيل دعماً صريحاً للموقفين اليوناني والمصري في مواجهة تركيا.
هذا الموقف جزء مهم من الشراكة المتطورة بين إسرائيل ومصر والإمارات وفرنسا، حيث زار وزير التعاون الإقليمي أوفير أكونيس، أثينا، ووقع خطة تعاون تشمل اليونان وقبرص والإمارات والبحرين مع إسرائيل، وشارك بلقاء دوري ثلاثي مع زملائه من قبرص واليونان.
يمكن النظر لهذه التطورات على أنها لبنات بناء لمجموعة إقليمية جديدة ذات أهمية كبيرة بهذا الوقت، خاصة لمصر وإسرائيل، لأنه من الضروري لإسرائيل أن تحافظ على تعاون متوسطي وثيق في عصر عدم اليقين الذي تواجهه، والاعتماد على المؤشرات المتزايدة بأن صبر الولايات المتحدة وأوروبا آخذ في النفاد في مواجهة مواقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
سادساً: مواجهة تركيا
لم يعد يخف على أحد أن النظامين المصري والإسرائيلي منزعجان من تطلعات أردوغان العلنية نحو العثمانيين الجدد، التي أصبحت خطيرة عليهما بشكل متزايد، وهذا التركيز على الأولويات سيكون له حتما تأثير على المواقف تجاه إسرائيل، ما يطرح تساؤلات عن سبب تركيز مصر على مواجهة تركيا، مع أنه تاريخياً لم توافق مصر على أن تلعب دور “الجار الصغير في الشمال الشرقي” لإسرائيل ضمن الرؤية الاستراتيجية للنظام الإقليمي.
الغريب أن موقف النظام المصري المؤيد لإسرائيل يتزامن مع استمرار مواقف الجمهور المصري المعادية لإسرائيل، خاصة في أوساط النخبة الفكرية والثقافية، ومع ذلك، أدت الأولويات السياسية والأيديولوجية الأخرى، والاعتبارات الجيواستراتيجية والاقتصادية، إلى تحول كبير في مواقف مصر تجاه إسرائيل.
على سبيل المثال، فإن خريطة المياه الاقتصادية، كما حددتها تركيا وليبيا شرق البحر المتوسط، تهدد بمنع مصر من الوصول للأسواق الأوروبية، وفي هذه الحالة تتوافق مصالح مصر مع إسرائيل وقبرص، حيث تهدف السياسة التركية لتشكيل تحد لها جميعا، علاوة على ذلك، فإن الحاجة المصرية للتعاون مع إسرائيل لا تكمن فقط بمواجهة التحدي التركي، رغم بروزها كعامل رئيسي وفوري.
إسرائيل واليونان ومصر تواجه بصورة مشتركة ما بات يعرف بـ”التحدي التركي”، ويضعها أمام اختبارات قاسية، مما قد يحمل تنبؤات مفادها أن تصاعد الصراعات في شرق البحر المتوسط، قد يصل درجة التدهور نحو مواجهة عسكرية.
حتى أن الاجتماع الحكومي الذي شهدته إسرائيل في حزيران/ يونيو بحضور رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس في إسرائيل، له أهمية استراتيجية تفوق جائحة كورونا والسياحة، ففي الأسابيع التي تلت القمة، ازدادت حدة التحدي الذي تواجهه إسرائيل وشركاؤها في شرق البحر المتوسط، خاصة اليونان وقبرص ومصر، في مواجهة السلوك التركي الجامح.
المعلومات المتوفرة لدى إسرائيل، تفيد بأن اليونان تدعم بشكل كامل التحركات المصرية في ليبيا، ولكن من المشكوك أنها ستكون قادرة على التدخل في مواجهة عسكرية بجانبها ضد تركيا، أما عما يمكن أن تفعله إسرائيل، ففي حال تصاعدت الصراعات في شرق البحر المتوسط لدرجة التدهور نحو صراع عسكري، فلن تتمكن من المشاركة بشكل مباشر في القتال ضد تركيا، سواء مع اليونان وقبرص، أو مع مصر في ليبيا.
في الوقت ذاته، فإن تعميق التعاون الاستخباراتي الإسرائيلي مع اليونان ومصر، عنصر أساسي في الاستعداد الملائم للتحدي الذي تفرضه تركيا، بجانب الأنشطة العسكرية المشتركة، والتركيز على تمارين القوات الجوية والبحرية، وبالاشتراك مع القوات الأمريكية، والتركيز على تعزيز العلاقات، والحفاظ على توازن القوى الإقليمي، وتعزيز البحرية الإسرائيلية في مواجهة التسلح البحري التركي.
خاتمة
إن مراجعة لأكثر من سبع سنوات متلاحقة من العلاقات الثنائية المصرية الإسرائيلية، وتحديداً منذ الانقلاب العسكري 2013، تشير إلى حالة من تشابك المصالح المعقدة بينهما، حتى إن النظام في القاهرة بات يرى نفسه مرتبطا بصورة وجودية مع تل أبيب، التي توفر له الغطاء السياسي القادم من واشنطن.
صحيح أن ذلك آتى أُكله في عهد ترامب، لكن الأمر قد لا يستوي أيضاً مع الساكن الجديد للبيت الأبيض، جو بايدن، مما يضع المزيد من التحديات غير المتوقعة على الحليفين الوثيقين في القاهرة وتل أبيب.
رابط المصدر: