العلاقة بين الاعتماد المتبادل والأمن القومي : تأملات في ضوء النظرية اللبيرالية الجديدة

مقدمة:

يحتل موضوع الأمن القومي أهمية كبيرة  في كتابات واهتمامات دارسي العلاقات الدولية ، وتكمن هذه الأهمية في مستويين الأول أكاديمي والثاني إجرائي ، أما على المستوى الأكاديمي فتتجلى هذه الأهمية من خلال مركزية موضوع الأمن كإطار بحثي في سياق  نظريات  العلاقات الدولية ،من بين هذه النظريات: اللبيرالية الجديدة التي ركزت على كيفية تحقيق التعاون بين الدول والوحدات  الأخرى الفاعلة في النظام الدولي وبالتالي تحقيق الأمن القومي أو الجماعي كما جاءت به هذه الأخيرة، و ذلك عن طريق ربط الأمن القومي بظاهرة  الاعتماد المتبادل وقد قدمت اللبيرالية  الجديدة مجموعة من الحجج لشرح العلاقة بين الأمن القومي والاعتماد المتبادل.

نحاول من خلال هذه الورقة البحثية شرح العلاقة بين مفهوم الأمن القومي والاعتماد المتبادل بالنسبة لليبرالية الجديدة من خلال الإشكالية الآتية : كيف يمكن تفسير العلاقة بين الإعتماد المتبادل والأمن القومي  من منظور اللبيرالية الجديدة؟

وتندرج ضمن هذه الإشكالية مجموعة من التساؤلات الفرعية:.

  • ما مفهوم الاعتماد المتبادل والأمن القومي ؟
  • ما هي أسباب ومؤشرات تنامي ظاهرة الاعتماد المتبادل في العلاقات الدولية ؟
  • ما هي العلاقة بين الأمن القومي والاعتماد المتبادل ؟

إن الإجابة عن هاته الإشكالية والتساؤلات الفرعية تقودنا إلى طرح الفرضية الآتية :.

– يرتبط تحقيق الأمن القومي بتنامي ظاهرة الاعتماد المتبادل بين جميع الوحدات السياسية في ظل وجود مؤسسات دولية قوية قادرة على التخفيف من حدة الفوضى.

وللإجابة عن الإشكالية والتأكد من صحة الفرضية سوف نتطرق إلى العناصر الآتية :.

  • المحور الأول : التأصيل المفاهيمي للدراسة.
  • المحور الثاني : تنامي ظاهرة الاعتماد المتبادل :المؤشرات والأسباب .
  • المحور الثالث : العلاقة بين الإعتماد المتبادل والأمن القومي من منظور اللبيرالية الجديدة .     

المحور الأول : الإطار المفاهيمي للدراسة

يقود الحديث عن الإطار المفاهيمي لهاته الدراسة عن متغيرين اثنين مهمين ألا وهما متغير الأمن القومي ومتغير الاعتماد المتبادل، وذلك بهدف تحديدهما للتمكن من ايجاد العلاقة الترابطية والتشابكية التي تجمعهما.

أولاً مفهوم الأمن القومي :The concept of the National security

إن وجهات النظر حول مفهوم الأمن عديدة ومتنوعة، لكن لا يوجد إجماع على تعريف واحد، وذلك لأنه عرف تغيرات كثيرة بمرور الوقت، وقد تم تشكيله وتأثره بالتفسيرات النظرية للعلاقات الدولية وكذلك الأحداث والاتجاهات التاريخية. وفي هذا الصدد، يعرف كل من  lucia Retter، Erick Frinking  وآخرون في: the economy and national security، يعتبر الاستقرار والأمان والحماية والتحرر من الخوف والتهديد والصراع من الموضوعات الأساسية التي تتناولها السياسة والأدبيات الأكاديمية عند تحديد الأمن القومي.

أما الدكتورKim R.Holmes  فيعرفه في مقال له بعنوان what is National security  بأنه حماية الأمة وشعبها من الهجوم والأخطار الخارجية بالحفاظ على القوات المسلحة وحراسة أسرار الدولة، أما تريجر وكرننبرج، فيرى بأنه ذلك الجزء من سياسة الحكومة الذي يستهدف خلق الظروف المواتية لحماية القيم الحيوية. وأخيراً، يعرّفه هنري كيسنجر بأنه يعني أية تصرفات يسعى المجتمع – عن طريقها – إلى حفظ حقه في البقاء.

خلاصة القول إذن بأن الأمن القومي هو غياب التهديدات الموجهة للقيم المكتسبة، وغياب الخوف من أن تتعرض تلك القيم إلى هجوم.

       ثانيا: مفهوم الاعتماد المتبادل  The concept of Interdependenc                                                                                   

لا يثير الإعتماد المتبادل جدلا كبيرا في تعريفه وتحديد مفهومه كبقية لمفاهيم الأخرى في حقل العلاقات الدولية، بحيث حصره النيوليبراليون في مجال العلاقات الاقتصادية الدولية.

– يعرفه جوزيف نايJoseph Naye   بأنه موقف من التأثير المتبادل أو الإعتماد على الآخرين وبينهم.

– ويعرفه روبرت كيوهنRobert Keohanek  بأنه انخفاض أهمية وقيمة العلاقات الأمنية والعسكرية مقابل ارتفاع وتيرة وأهمية العلاقات الاقتصادية والاجتماعية المتعددة في الربط بين دول العالم.

وتعرفه نادية محمود مصطفى بالظاهرة عبر القومية المعقدة التي تتضمن أنماطا تفاعلية متعددة الأبعاد ومتعددة القطاعات بين الدول، بحيث ينتج عنها درجة عالية من حساسية التفاعلات بين اعضاء النظام للتغيرات التي تقع في إطار أحدهم، كما ينتج عنها درجة عالية من عرضة هؤلاء أو قابليتهم للتأثر بالقوى والأحداث الخارجية، ومن ثم يتوقف عليها مدى قدرتهم على مواجهة أو عدم مواجهة أعباء وتكلفة هذه التأثيرات الخارجية.

وبهذا يكون الاعتماد المتبادل هو علاقة تأثير وتأثر بين طرفين أو أكثر أو هو علاقة تبادلية ثنائية الإتجاه.

المحور الثاني : تنامي ظاهرة الاعتماد المتبادل – الأسباب والمؤشرات –من منظور الليبرالية الجديدة.

قبل الخوض في مجال الحديث عن حقيقة العلاقة بين الأمن القومي وظاهرة الاعتماد المتبادل بين الدول وغيرها من الوحدات السياسية في العلاقات الدولية، حرّي بنا التطرّق إلى الظاهرة التبادلية التي بدأت ترسم هيكلية جديدة في النظام الدولي، تحاول أن تستفيد من عدّة مؤشرات ومسبّبات جعلتها تهندس لمسار تعاوني يستثمر في مجال العلاقات بين الدول من الفوضى والنزاعات إلى التضامن والتعاون والاعتماد المتبادل.

أولاً: أسباب تنامي ظاهرة الإعتماد المتبادل  .                                                              

يورد النيوليبرالييون عدداً من الأسباب والعوامل عند تحليلهم لأسباب تنامي ظاهرة الاعتماد المتبادل منها :

– الزيادة الهائلة والمستمرة في حجم ونوع الاتصالات والمواصلات بين الدول وعلى كافة الأصعدة جراء تنامي الثورة التكنولوجية عالميا.

– نتيجة لزيادة الاتصالات والمواصلات، فقد نجم عن ذلك زيادة التعقد والتشابك بين المصالح القومية للدول وزاد من إعتماد بعضها على البعض الآخر في العديد من المجالات كالأمن، الاقتصاد، السياسة، والثقافة وغيرها.

– مع زيادة الترابط الكبير بين الدول وتنامي التهديدات، فإنه لا تستطيع أي دولة في عالم اليوم، مهما بلغت قوتها، أن تنأى بنفسها عن الأحداث ومجريات السياسة الدولية لأنها قد تمس، بصورة أو بأخرى، مصالحها القومية الجيواستراتيجية وأمنها القومي ومكانتها الدولية.

ثانياً: مؤشرات تنامي ظاهرة الاعتماد المتبادل                                                              

يورد أنصار الليبرالية الجديدة مجموعة من الخصائص أو السمات ليؤشروا بها على الوجود الفعلي لظاهرة الاعتماد المتبادل وكذلك تنامي دورها في العلاقات الدولية ، فمن الناحية النظرية، هم يستندون إلى مجموعة من المعايير يحكمون من خلالها على وجود الظاهرة من عدمها :.

– حجم المعاملات التي تتم بين الفاعلين الرئيسين في النظام الدولي.

-درجة حساسية الفاعلين الدوليين.

– قابلية الفاعلين للتأثر بالعوامل الخارجية.

– توافر أطر مؤسسية للتفاعل بين الوحدات الدولية.

وعلاوة على ذلك، هناك مجموعة من المؤشرات العملية التي تدل على أن العالم يعرف بالفعل حالة متقدمة من الاعتمادية التبادلية، والتي من خلالها يمكن استشفاف المعايير السابقة وهي :.

– ارتباط المجتمعات بالعديد من الروابط غير الرسمية بين النخب الحكومية بالإضافة إلى الروابط الخارجية الرسمية وكذا العلاقات غير الرسمية.

– تتضمن أجندة العلاقات الدولية العديد من القضايا التي لا تتميز بتراتبية معينة في الأهمية، بمعنى أن قضايا الأمن العسكري لم تعد تحتل الأولوية كما كانت، بل أضحت تزاحمها قضايا أخرى مثل الاقتصاد، البيئة وحقوق الإنسان …..إلخ .

– تصيح القوة العسكرية غير ذات مغزى في حل الخلافات حول القضايا الاقتصادية بين الدول التي تسود بينها حالة من الاعتماد المتبادل.

المحور الثالث : العلاقة بين الاعتماد المتبادل والأمن القومية من منظور النظرية  اللبيرالية الجديدة- .

في البداية، يمكن القول أن الليبرالية تميل عادة إلى الإهتمام بالقضايا المتصلة بالعلاقات الاقتصادية الدولية من خلال التركيز على الفواعل من غير الدول والشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الدولية وجميع المؤسسات الدولية من أجل رسم السلوك الخارجي وفقاً التعاون بدلاً من الصراع. وعلى هذا الأساس، يعتقد أنصار هذا الطرح أن السمة الأساسية للسياسة الدولية هي التعاون وليس الصراع.

إن فشل المنظور الواقعي   وكذا قصور النظرية الليبرالية في مأسسة العلاقات الدولية،دفع بالليبيراببن إلى مراجعة افتراضاتهم الأساسية وصقلها استجابة للتطورات الحاصلة ومع بداية الثمانينات، ظهرت ما يسمى بالنيولبيرالية ، والتي تسببت في ظهور موجة جديدة من المنظرين  بنوا طرحهم على مجموعة من الافتراضات المتمثلة فيما يلي :.

– الاعتماد المتبادل يربط الدول ببعضها البعض ويقودها إلى التعاون.

– تفضل الدول التجارة على الحرب.

-السلم يفترض ويقتضي الاعتماد المتبادل.

– يقوم التصور النيوليبرالي للأمن القومي على التركيز على دور الإعتمادوالمؤسسات الدولية  التي بإمكانها القيام بالتقليل من حدّة النزاعات والحروب بين الدول.

ومن هذا المنطلق، تعتبر مقاربة الاعتماد المتبادلinterdependence  من أهم افتراضات الليبرالية الجديدة التي جاءت كتحدّ وكبديل عن النظرة الواقعية التي تنادي بالعون الذاتيself help، وبهذا يعتبر الاعتماد المتبادل أحد مسلمات هذه المسار النظري، ومن أهم روّادها كذلك عدا عن فريدمان نجد كل من جوزيف ناي Joseph Nyeوروبرت كيوهنRobert keohane اللذين عدّدا أثر الاعتماد المتبادل على واقع السياسة الدولية في النقاط الآتية :.

– باتت السياسة الدولية مسرحاً للعديد من التفاعلات والنشاطات التي تتم بين أطراف وفواعل من غير الدول.

– التنامي المتبادل بدرجة عالية بين الدول يجعل من القوة العسكرية أقل قابلية للاستخدام في ظل تنامي القوة الاقتصادية .

– يكون الأمن، وفقاً للمنظور النيوليبرالي، متغيّراً خاصاً بالدول في إطار الحديث عن الأمن القومي، وكذلك متغيّراً يرتبط بعدّة دول وليس فقط واحدة، وهذا ما يصطلح عليه دلالةً بالأمن الجماعي.

– يمكن للدول أن تحقق أمنها القومي من خلال سياسات التعاون الدولي والإعتمادية المتبادلة  التي ترسمها مع جميع الوحدات السياسية الدولاتية وغير الدولاتية، ولعلّ جائحة كورونا أبرز مثال يوضح دور المنظمات الدولية في تكريس مبدأ التضامن بين الدول من خلال مؤسسات الصليب والهلال الأحمر، وكذا منظمة الصحة العالمية من أجل توحيد الجهود الدولية لايجاد علاج ولقاح ضد تلك الجائحة.

انطلاقا من واقع البيئة الدولية فقط، ربط اللبيراليون الجدد بين الاعتماد المتبادل والأمن القومي  (الأمن الجماعي) باعتبار أن الأول أي الاعتماد المتبادل يؤسس لشروط التعاون بين الدول وبالتالي التقليل من الحروب وتحقيق الأمن، حيث يعتقد هؤلاء أن مبدأ الاعتمادية بين الدول وغير الدول يخلق مصالحاً متبادلة، إلى درجة أنها قد تكون مكلفة في حال تم التراجع عنها (كلما اتجهت الفواعل الدولاتية وغير الدولاتية نحو التعاون والاعتماد المتبادل تمكنت من تحقيق أمنها القومي).

لذلك فإن مسألة الأمن القومي بمفهومها الحديث تلبي هذه المسلمة – مقاربة الاعتماد المتبادل – وذلك لأن الأمن بالنسبة لليبراليين الجدد أقل تبسيطاً وأكثر تركيباً، وهو لا يقتصر على البعد العسكري  فقط كما جاء به باري بوازان Barry Bozan ، حيث أصبح الأمن يشمل العديد من المجالات وبأبعاد متعددة كالأمن الصحي، البيئي والفكري ….إلخ. وبناءً على ذلك، فإن مبدأ الاعتمادية وسياسة التكاملات والتحالفات الاقتصادية كفيلة بتحقيق الأمن القومي، ومثال ذلك:

انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الأطلسي NATO ، حيث رأت هاتان الدولتان أن مصلحتها وتحقيق أمنها القومي يفرض عليها الانضمام إلى هذا الحلف، إذن بشكل عام، يعتقد اللبيراليون الجدد أن الاعتمادية المتبادلة بإمكانها المساهمة في تخفيف حالات التوتر بين الدول، حيث تشابكت وتفاعلت مصالحها بشكل يجعل قرار الحرب صعباً من الجانبين، الأول أن طبيعة المصالح الناجمة عن الاعتماد المتبادل قد نمت إلى حجم يفوق بكثير مكاسب الحرب، وثانيا أن الجماعات التي استفادت من هذه الاعتمادية ستجعل من قرار الحرب صعباً ومكلفاً، وبالتالي يرى اللبيراليون الجدد أن تحقيق الأمن الجماعي يكمن في اتجاه الدول نحوالإعتماد المتبادل و التكامل الاقتصادي عن طريق خلق مؤسسات اقتصادية (الليبرالية المؤسساتية) الذي عزز من التوجه الأمني، هذا بغض النظر عن تنامي أفكار الأمن المشترك والتبلور على شكل أنظمة أمن جماعية يعززها الفكر التبادلي.

إن هذا الطرح الذي يحاول تعزيز الفكر ما فوق القومي قد عرف حالة تراجع كبير في الآونة الأخيرة، حيث تعرض لتحديات كبيرة في ظل صعود القوميات والفكر الحداثي واتجاه بعض الدول للعزلة وتقييد الاعتماد المتبادل على ضوء صعود دور الدولة القومية في مفهومها الوستفالي من خلال تقديس الحدود والسيادة الوطنية وتحقيق المصلحة الذاتية على حساب الدول الأخرى، وهو ما برز جليا أثناء جائحة كورنا ( سياسة الانغلاق على الذات ولقد أدى هذا إلى تعزيز الطرح الواقعي ) ،  الأزمة الروسية الأوكرانية .

الخاتمة :.

يمكن القول أن اللبيراليين الجدد قد ربطوا مفهوم الاعتماد المتبادل بمضامين كثيرة كفكرة تحقيق الأمن القومي والتعاون، كما أنهم حاولوا تبرير فرضية الارتباط الحتمي بين الاعتماد المتبادل والأمن القومي من خلال وجود مؤسسات دولية قوية قادرة على التخفيف من مأزق الفوضى Anarchy. وفي هذا الإطار، هناك نقاش مهم بين النيوليبراليين والنيوواقعيين حول فكرة العلاقة بين الاعتماد المتبادل والأمن القومي، خاصةً وأن الواقعية الجديدة تتبنى افتراضاً مهماً وهو العون الذاتي، وهذا ما يجعلنا نطرح تساؤلاً حول إمكانية شرح العلاقة بين متغير الاعتماد المتبادل ومتغير الأمن القومي بالنسبة إلى المدرسة الواقعية الجديدة، فالنيوليبراليين يؤكدون على أن مناخ العلاقات الدولية يميل إلى حالة الاعتماد المشترك منه إلى حالة الفوضى والحرب، فهناك وجه آخر عن النظام الدولي هو آخذٌ في الاتساع وفي طريقه إلى أن يفرض نفسه نوعاً من العرف والقانون الدولي المقبول طواعية من جميع الدول.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M