واثق السعدون
السياسة الدفاعية والسياسة الخارجية فرعان مهمان من السياسة العامة لأي بلد، بينهما ارتباط وثيق وإسناد متبادل؛ فهنالك عدة أهداف قد تحفز السياسة الخارجية لأي بلد، من ضمنها أن تكون السياسة الخارجية موجهاً مهماً للسياسة الدفاعية. وفي الوقت ذاته عندما تكون السياسة الدفاعية ناجحة وتؤمن استعداداً دفاعياً عالي المستوى فإنها تعد عامل قوة للسياسة الخارجية وتعطيها زخماً إضافياً. لذلك نسعى في هذه المقالة إلى توضيح طبيعة العلاقة بين السياسة الدفاعية والسياسة الخارجية.
الإطار المفاهيمي للسياسة الدفاعية
إن السياسة الدفاعية في مفهومها العام تعني الإطار الذي يحدد اتجاهات الاستراتيجية العسكرية وخطوطها العامة، وهي حلقة الاتصال بين الجانب المدني والجانب العسكري في الدولة، وهي التي تنظم وتنسق العلاقة بين مختلف السياسات التخصصية بالدولة وبين القوة العسكرية ودورها واستخدامها وحجمها، وصولاً إلى تحقيق الهدف السياسي العسكري للدولة. بعبارة أخرى، فإن السياسة الدفاعية هي الكيفية التي تنفذ بها السياسة العامة للدولة في المجال العسكري. بهذا المعنى يتضح أن مفهوم السياسة الدفاعية يجمع بين بعدين؛ البعد العسكري والبعد السياسي، ويحدث نوع من التداخل بينهما. هذه الطبيعة المزدوجة لمفهوم السياسة الدفاعية تجعله يتداخل مع غيره من المفاهيم التي تجمع أيضاً بين البعد العسكري والبعد السياسي، مثل: مفهوم العقيدة العسكرية، ومفهوم السياسة العسكرية، ومفهوم الأمن(1).
أما السياسة العسكرية فهي النهج العام الذي يستند إلى السياسة العامة لبناء وتدريب واستخدام القوات المسلحة، لتحقيق مهماتها الوطنية التي تحددها لها القيادة السياسية. وتنفذ السياسة الدفاعية بواسطة السَّوق (الاستراتيجية) العسكري بشقيه (سَوق الموارد) و(سَوق العمليات). فبعد أن تتحدد المهمات الوطنية من القيادة السياسية، وفي ضوء التوجيهات الصادرة إلى وزارة الدفاع، تستخلص هذه الوزارة المهمات الموكلة إليها، وذلك بتحويل (الأهداف السياسية) إلى (مهمات عسكرية) لتحقيق تلك الأهداف، ومن ثم يتم القرار على حجم ونوع القوات العسكرية المطلوب لتحقيق تلك الأهداف(2).
ويمكن تعريف السياسة العسكرية كذلك بأنها جميع الإجراءات المتخذة من القيادة السياسية أو العسكرية لتحقيق هدف طويل المدى في الزمان والمكان، بحيث يضفي البعد الزماني والمكاني للهدف نوعاً من الثبات والتوازن للإجراءات العسكرية التي تتخذ لتحقيق ذلك الهدف. وهنالك مجموعة من العوامل التي تبنى عليها السياسة العسكرية، يمكن إيجازها فيما يلي: الهدف المراد تحقيقه، والإمكانات المتيسرة، وطبيعة الطرف المعادي. والسياسة العسكرية تقترب من مفهوم الاستراتيجية العسكرية، حيث إن هنالك مجموعة من المصطلحات التي يصعب تحديد مدلولها بدقة نظراً لتداخلها وتشابكها، وهي تشكل طيفاً متصلاً بين نقطتين؛ أقصى أحد طرفيه “السياسة العليا للدولة”، والطرف الآخر من هذا الطيف هو “الاستراتيجية العسكرية” التي تمثل أعلى درجات الاستعداد العسكري والإجرائي، وهي تعني الاستراتيجية أو السياسة التي توجه الحرب (ولكنها لا تحدد هدف الحرب)، وتضع المخططات اللازمة لتحقيق الهدف من الحرب(3).
التداخل بين السياسة الخارجية والسياسة الدفاعية
السياسة الخارجية والسياسة الدفاعية متداخلتان بصورة عميقة ومعقدة، إذ من خلال التنسيق العام بين السياسة الخارجية والسياسة الدفاعية يتيسر تدبير ما يلزم لبناء القوات المسلحة وعملها، مثل توفير الأسلحة والأعتدة والتجهيزات العسكرية التي تصنع في بلدان أخرى، أو الحصول على القواعد العسكرية، أو أي تسهيلات أخرى تحتاج إليها القوات المسلحة خارج الأراضي الوطنية، وتهيئة الرأي العام العالمي لعدالة الصراع المسلح قبل بدئه، والعمل مع المنظمات الدولية والإقليمية المختلفة من أجل الحصول على أفضل النتائج خلال عقد المعاهدات التي تعقب الصراعات المسلحة(4). وقد قال كلاوزفيتز: “إن السياسة الخارجية والسياسة العسكرية (الدفاعية) مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً، فكلاهما يتطلع إلى الخارج.. إلى أبعد من الحدود القومية، وكلاهما مهتم بنوايا وقدرات الدول الأخرى، التي تتطلع إلى ممارسة بعض النفوذ”(5).
أخذت كل الدول المتقدمة بهذه العلاقة الاستراتيجية بين السياسة الدفاعية والسياسة الخارجية وطوّرتها؛ حيث أنشأت بعض الدول إدارة خاصة في وزارة الخارجية تهتم ببناء وتطوير قُدرات الدولة الدفاعية، التي عدتها يدها الطوْلى في تنفيذ السياسة الخارجية للدولة. العالم اليوم لا مكان فيه إلا للأقوياء، حيث إن القدرة العسكرية أصبحت اليوم عاملاً رئيساً في التأثير الدولي، وأداة فعّالة في السياسة الخارجية لأي دولة في العالم، بل أصبحت من أهم آليات تنفيذ السياسة الخارجية للدولة. تُقاس فائدة القدرة العسكرية وكفاءتها بالمدى الذي يمكن أن تساند وتدعم به السياسة الخارجية، وهو ما يجعل قرارها السياسي قراراً نافذاً. تتوقف مكانة الدولة في الأسرة الدولية إلى حدٍّ بعيد على مدى ما تتمتع به من أمن واستقرار وتنمية وتقدم في مختلف المجالات، وبما تحققه لشعبها من رفاهية ورُقي وحضارة.
وقد أجمع معظم المفكرين والخبراء في العالم على أن مكانة الدولة بين الدول تُقاس بعاملين أساسيين؛ أولهما اقتصاد قوي، وثانيهما قوة عسكرية ضاربة. ولهذا نجد أن معظم الدول في العالم تسعى بكل السبل والوسائل إلى تنمية قدراتها الاقتصادية والعسكرية، وهنا يأتي دور السياسة الخارجية للدولة لينعكس على سياستها الداخلية الاقتصادية والعسكرية. تُقاس كفاءة السياسة الخارجية للدولة بما تحققه من نجاحات في مجال تطوير الاقتصاد القومي، وبما تحققه من نجاحات في مجال بناء القدرات الدفاعية للدولة، ومن هنا جاءت فكرة أن الجيوش تُبنى بالسياسة(6).
هنالك نظريتان سائدتان عالمياً لمفهوم العلاقة بين السياسة الدفاعية والسياسة الخارجية، النظرية “الواقعية” والنظرية “الليبرالية”. وفق النظرية الواقعية فإن العلاقات الدولية ينظر إليها على أنها علاقات قوة. ووفق هذه الرؤية فإن الدول، كفاعلين في العلاقات الدولية، تبدو في حالة صراع دائم فيما بينها من أجل القوة، وهذا ما يجعل من الفاعلين من غير الدول؛ كالأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والمنظمات غير الحكومية، وغيرها، لا تعد من الفاعلين من المنظور الواقعي، ونسمي هذه الحالة بالافتراض دولاتيّ التمركز (أي يدور حول الدولة). ودور الدولة في هذه الوضعية يتمثل في حماية نفسها من الدول الأخرى، وذلك مرادف للأمن “القومي”، الذي يدور حول امتلاك القوة الكفيلة بحماية مصالح دولة معينة من أعدائها. وهذا ما جعل من الواقعية صراعاً حول القوة في العلاقات الدولية؛ إذ إن النزاعات الدولية، من وجهة النظر هذه، رافقت التاريخ البشري، فعندما تحاول الدول الصراع من أجل القوة لحماية نفسها ومصالحها المحددة بزيادة مستويات القوة لديها، فهي بحاجة في ذلك إلى قرارات عقلانية حول الأمن، والهدف من ذلك هو سعيها الدائم لتعزيز مصالحها، فالدول كفاعل في العلاقات الدولية يجب أن تكون عقلانية (7).
أما النظرية الليبرالية فإنها تستبدل بمفهوم “الأمن القومي”- التصور الواقعي للأمن- مفهوم أو منظور “الأمن الجماعي”، من خلال إنشاء منظمات دولية كفيلة بضمان تحقيقه. هذا الاتجاه يرى أن الأمن القومي والتحالفات نتاج لتطبيق المنظور الواقعي. لكن الليبراليين يمتلكون تصوراً بديلاً يتمثل في الأمن الجماعي وهو- وفقاً لـكولدستين- يتمثل في “تأسيس تحالف موسع يضم أغلب الفاعلين الأساسيين في النظام الدولي بقصد مواجهة أي فاعل آخر”. وقد وضع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أسس هذا التصور قبل قرنين من الزمن، عندما اقترح إنشاء فيدرالية تضم دول العالم، حيث تتكتل غالبية الدول الأعضاء لمعاقبة أية دولة تعتدي على دولة أخرى. وهذا يعني أن الدول الأعضاء في منظومة الأمن الجماعي ستتعاون معاً ضد أية دولة تسعى لتحقيق مصالح ضيقة. وهي الفكرة التي استند إليها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون في تصوره لعالم يسوده السلام، وهو الذي قرر بعد نهاية الحرب العالمية الأولى إنشاء عصبة الأمم لتعزيز السلام في العالم في ظل الصور المروعة لضحايا الحرب. وقد صرح، في يناير/كانون الثاني 1918، بضرورة أن تقوم هذه العصبة على 14 ركيزة ستقود إلى نظام عالمي مستقر لما بعد الحرب، من بينها ضمان حق الاستقلال للبلدان الصغيرة التي كانت ضحية لنظام توازن القوى، وإنشاء منظمة دولية تسهر على إقرار الأمن كبديل لنظام توازن القوى.
لكن ولسوء الحظ، فقد أدت الفاشية في كل من ألمانيا واليابان إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، ومنذ ذلك الحين لم يتمكن نظام الأمن الجماعي من فرض نفسه، تاركاً المجال للأمن القومي والتحالفات التي ميزت العالم خلال الحرب الباردة. على أن العديد من البلدان عملت في هذه الفترة على إنشاء منظمات للأمن الجماعي في مواجهة منظور الأمن القومي، وهذا ليس بهدف تعزيز أمنها العسكري فحسب بل الاقتصادي والثقافي أيضاً، وكان من بينها الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية وغيرها. بل إن الأمم المتحدة في حد ذاتها أنشئت في المقام الأول لممارسة دور منظمة أمن جماعي، وذلك على الرغم من هيمنة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن(8).
أصل الصراعات في العلاقات الدولية صراعات سياسية؛ فإذا ما فشلت الحلول السياسية والدبلوماسية في معالجة تلك الصراعات السياسية فإنها ستتحول إلى صراعات مسلحة، حيث تلجأ كل دولة من الدول المتصارعة إلى قوتها العسكرية لفرض إرادتها على الدولة المعادية لها، ومن هنا نجد أن معظم الدول في العالم تبذل قصارى جهدها لبناء قدراتها العسكرية تحسُّباً للمواقف التي تتحول فيها الصراعات السياسية بين الدول إلى صراعات مُسلّحة(9).
إن السياسات الدولية هي التي تخلق الحروب من أجل الحصول على غاياتها، وتأثير تلك السياسات عظيم جداً، خصوصاً في بدايات ونهايات الحروب، ولكن في أي وقت أثناء الحرب ربما يكون التأثير في حالة من التأرجح؛ فمرة يزيد ومرة يؤدي إلى تناقص الصراع ما بين الدول المتصارعة. وبسبب عدم اليقين هذه فإن الاستراتيجية يجب أن تهدف دائماً إلى أقصى الغايات التي يمكن الحصول عليها من خلال الوسائل المتاحة. فالاستراتيجية ينبغي أن تجعل الجميع يعمل على تحقيق الأهداف الدولية والسياسات الدولية، وفي الوقت نفسه ينبغي أن تكون مستقلة استقلالاً تاماً. فالمهمة الحربية الأولى للاستراتيجية هي الإعداد الكامل للحرب بقوة، والتمركز في النقاط المهمة للقوات، وفي تلك العمليات هناك العديد من القضايا السياسية والجغرافية يجب أن توضع في الحسبان، وإذا كان الخطأ في التمركز الأولي يمكن تصحيحه، فإن ذلك سيكون بصعوبة بالغة في حال تقدم الحملة العسكرية. ولهذا السبب لا بد من الإعداد الجيد للقوات والتنظيم الجيد للنقل والإمداد قبل اندلاع الحرب، ويجب التأكد من أهداف الحرب قبل اندلاعها(10). لذلك يمكن تعريف الاستراتيجية العسكرية هنا بأنها “الرابط بين السياسات الدولية التي تؤدي إلى التزود بالوسائل، وتحدد الهدف من الحرب والتكتيك، من خلال المعارك الحاسمة والتي يمكن أن تأتي تلك الاستراتيجيات بالنتائج المرجوة”(11).
خاتمة
يعد العنصر العسكري لقوة الدولة من العوامل الثابتة في كل مستويات التخطيط الاستراتيجي، المتمثلة بإعداد الاستراتيجية العليا للدولة، واستراتيجية الأمن القومي، والاستراتيجية العسكرية الوطنية، واستراتيجية مسرح العمليات. وعلى الرغم من خضوع السياسة الدفاعية لأي بلد لتحولات وتطورات عدة بسبب التغيرات التي تطرأ على طبيعة ومستوى التحديات المواجهة للأمن القومي لهذا البلد، فإن معظم التحولات والتطورات في السياسة الدفاعية تتأثر بتوجهات السياسة الخارجية لذلك البلد وتؤثر بها.
(1) دلال محمود السيد محمود، الاستمرارية والتغير في السياسة الدفاعية الإسرائيلية، المكتب العربي للمعارف، القاهرة، 2015، ص 9.
(2) محمد فتحي أمين، العلم العسكري: مفهومه.. تطبيقاته.. علم الحروب والصراعات.. نظرية الحرب وقوانينها الإستراتيجية، الأوائل للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2005، ص 134- 135.
(3) دلال محمود السيد محمود، الاستمرارية والتغير في السياسة الدفاعية الإسرائيلية، مصدر سابق، ص 13.
(4) محمد فتحي أمين، العلم العسكري، مصدر سابق، ص 137.
(5) المصدر نفسه، ص 136.
(6) حسن يحيى محمد أحمد، “علاقة الجيش بالسياسة“، مقال منشور في صحيفة “الأهرام اليوم” المصرية، (7/3/2010)، المقال متاح على موقع “سودارس” على الرابط: https://www.sudaress.com/alahram/3937
(7) تاكايوكي يامامورا، مفهوم الأمن في نظرية العلاقات الدولية، ترجمة عادل زقاغ، ص 1- 2. دراسة منشورة على الرابط:
http://www.geocities.com/adelzeggagh/secpt.html
(8) المصدر نفسه، ص 3.
(9) محمد أحمد، المصدر السابق.
(10) جي.جي. فييجر، مبادئ الاستراتيجية العسكرية، ترجمة علي رمضان فاضل، مكتبة النافذة، القاهرة، 2013، ط1، ص 118.
(11) المصدر نفسه، ص13.
.
رابط المصدر: