سرَّع فيروس كوفيد -19 طبيعة أماكن العمل، عبر إدخال الرقمنة، والعمل عن بُعد، وإعادة توزيع القوى العاملة، بما أعاد تشكيل العمل وأصبح العالم يتجه نحو أنماط جديدة من بيئة العمل، بحيث لن يكون العمل هو نفسه أبدًا. وقدمت دراسة في يونيو 2021 من Future Forum قامت بتقييم أكثر من 10 آلاف من العاملين في مجال المعرفة في ستة بلدان، ووجدت أن 93 ٪ يريدون جدولًا مرنًا، و76 ٪ يريدون المرونة في مكان عملهم، و56 ٪ منفتحون على تغيير الوظيفة.
كما توصلت دراسة استقصائية جديدة أجرتها شركة Ipsos بالشراكة مع المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن ما معدله 23٪ من البالغين العاملين في 29 دولة أفادوا بأنهم يعملون الآن من المنزل أكثر مما كانوا عليه قبل جائحة COVID-19.
وقد توصلت إحدى الدراسات الحديثة التي أُجريت على أكثر من 30 ألف موظف أمريكي، أن العمل من المنزل ليوم واحد أسبوعيًا من شأنه أن يعزز الإنتاجية بنسبة 4.8% مع تطور اقتصاد ما بعد الوباء. ومن المتوقع أن يأتي جزء كبير من هذه الزيادة بالإنتاجية، جراء انخفاض وقت التنقل، وهو عامل عادةً ما لا يلاحظه خبراء الاقتصاد.
واتصالًا مع هذا التوجه العالمي، فقد قرر مجلس الوزراء المصري التشغيل التجريبي لنظام “العمل عن بعد” لمدة 6 أشهر، في وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، ثم عرض نتائج هذا التشغيل التجريبي لاحقًا على مجلس الوزراء. ويستعرض هذا المقال في سطوره القادمة المزايا المترتبة والتحديات المرتبطة بتطبيق هذا النظام من واقع الاستبيانات العالمية التي تم إجراؤها على نطاق واسع بعد جائحة كوفيد-19.
أولًا- المزايا المترتبة على العمل عن بعد:
تشير استطلاعات الرأي إلى أن العمل عن بعد يُناسب الوظائف المتعلقة بالخدمات التعليمية والإدارة والتمويل والمعلومات، وفي المقابل تُعد خدمات الإقامة والبناء غير متناسبة لتطبيق ذلك الأسلوب، وهو ما يوضحه الشكل التالي.
ويترتب على العمل عن بعد العديد من المزايا المتمثلة في:
- الانتقال إلى مناطق أقلّ تكلفة: إنّ التحرر من قيود العمل من المكتب يعني أنّ العمّال يمكنهم اختيار أماكن أقامتهم على أطراف المدن بتكلفة أقل وكما تصبح أقل تلوثًا.
- توسيع نطاق اختيار المواهب: عبر تعيين موظفين محتملين من أي مكان حول العالم بدون التقيد بمكان الإقامة، كما قد تدفع الشركات أجورًا منخفضة للتوافق مع المعايير المحلّية.
- يمكن للشركات التخلي عن مقارها: إذ صرّحت كل من “جاي بي مورغان” و”باركليز” و”مورغان ستانلي”، بأنهم قد يقلِّلون المساحة المكتبية ويطلبون من الموظفين العمل عن بُعد أكثر بما قد يخفض من تكاليف الإنتاج.
- التحرر من أعباء التنقل: ليصبح الموظف أكثر قدرة على “استثمار” الوقت في التفكير الإبداعي لفترة أطول بعد ساعات العمل الرسمية، وهو ما قد يساهم في رفع إنتاجيته. وقد لخص استطلاع رأي الموقف بحصر الفائدة الرئيسية للعمل عن بعد في تقضية وقت عائلي لفترات أطول، وهو ما يعكسه الشكل التالي.
وعلى الجانب الآخر، يخشى بعض المديرين التنفيذيين من أن التحوّل الواسع النطاق إلى العمل عن بُعد ينطوي على مخاطرة بفقدان بعض الصداقات الحميمة والتعاون والإبداع كمهارات تعزز خلال اللقاءات المباشرة. ويوضح الشكل التالي أبرز المنافع المترتبة على العمل من المكتب عبر إضفاء أجواء التعاون، وخلق بيئة عمل أقل توترًا، مع تعظيم الإنتاجية.
ثانيًا- التحديات المحيطة بتعزيز العمل عن بعد:
رغم كل التفاؤل المحيط بهذه التغيرات الهيكلية، فإن بعض الاقتصاديين يشيرون إلى ضرورة توخي الحذر، كونه قد يترتب عليه خفض المرتبات؛ فقد وجدت دراسة استقصائية إلكترونية صادرة عن شركة التأمين، “بريز “(Breeze) أنَّ 65% من الموظفين الأمريكيين الذين قالوا إنَّه يُمكن إنجاز وظائفهم عن بُعد بشكل كامل، كانوا على استعداد لاقتطاع 5% من رواتبهم لأجل البقاء في المنزل، وهي نسبة قد تُمثِّل عدة سنوات من الزيادات السنوية. وقد يُعدُّ ذلك التنازل منطقيًا، بالنظر إلى حجم ما يتمُّ إنفاقه على وسائل النقل. فقدَّرت دراسة خلال العام الماضي حجم ما يدَّخره الموظفون من مصاريف التنقل من خلال العمل من المنزل بمئات الدولارات شهريًا.
كما أن البنك المركزي البريطاني قد نبّه إلى أن بيئة الاجتماعات الهجينة “قد تكون أكثر تحديًا”. كما يقلق غالبية المديرين بشأن تأثير العمل من المنزل على مفاهيم التعاون وثقافة الشركة والصحة الشاملة للعمل، وفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي أشارت أيضًا إلى مخاوف أصحاب العمل إزاء ضعف قدرتهم على مراقبة الموظفين أثناء العمل.
كما وجدت دراسة أُجريت من “جامعة شيكاغو” أن الموظفين يستغرقون ساعات أطول في المنزل لأداء نفس المهام، حيث ينقسم وقت العمل بسبب العوامل الكثيرة المشتتة للانتباه في المنزل، مثل: رعاية الأطفال، والاجتماعات عبر الإنترنت.
ختامًا، يمكن القول إن العمل عن بعد أصبح أحد الاتجاهات المستقبلية المهمة والبارزة التي تتجه لها أغلب الأعمال في مختلف القطاعات حول العالم، نظرًا لما يترتب عليه من مزايا متمثلة في خفض زمن وتكلفة الانتقال للموظفين، والتقليل من تكاليف إيجارات المكاتب والمراكز الإدارية. كما يذهب البعض إلى بيان التأثير الإيجابي لتلك الظاهرة عبر دورها في خفض الانبعاثات، وتحسين الإنتاجية والحالة النفسية للموظفين عبر تقضية مزيد من الوقت مع الأسرة والأطفال، وأيضًا يساهم في التمكين الاقتصادي للمرأة المعيلة عبر إتاحة فرص توظيف عن بعد.
وفي المقابل، لا يزال العمل عن بعد محل دراسة وتجربة في العديد من القطاعات، فلا يمكن الوقوف بشكل نهائي على أغلب المشكلات والتحديات نظرًا لحداثة التجربة، كما أن بعض الأعمال قد لا يتناسب معها العمل عن بعد.
.
رابط المصدر: