صدمت أميركا من محاولة اغتيال رئيس الولايات المتحدة السابق دونالد ترمب، والمرشح الجمهوري للمنصب الرئاسي في انتخابات عام 2024. ودفع الحادث الرئيس جو بايدن إلى الإدلاء ببيانين عامين منفصلين.
أما الخطاب الثاني، الذي ألقاه على شاشة التلفزيون الوطني من المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، فقد دعا فيه إلى تهدئة الخطاب وتضميد الجراح. وقال لمواطنيه: “نحن في أميركا، نحل خلافاتنا عبر صناديق الاقتراع. كما تعلمون، هذه هي الطريقة التي نفعل بها ذلك. بصناديق الاقتراع لا بالرصاص. إن قوة تغيير أميركا يجب أن تبقى دوما في أيدي الشعب لا في أيدي قاتل محتمل”.
بيد أن خطاب بايدن والصدمة التي أثارتها إصابة ترمب، يتجاهلان تاريخا طويلا من العنف السياسي في الولايات المتحدة، طال باستمرار أعلى المناصب في البلاد. وعلى حد تعبير الناشط إتش راب براون (الآن جميل عبد الله الأمين)، فإن العنف السياسي أميركي كفطيرة الكرز.
والحصيلة الكلية لمن طالهم الموت والموت الوشيك وهم يشغلون منصب رئيس الدولة الأميركية، دليل على بداهة مقولة براون. فمن بين 46 رئيسا للأمة الأميركية في 250 عاما تقريبا، تمكن القتلة من قتل 4 رؤساء، وأصابوا واحدا بجراح وهو في منصبه، وأطلقوا النار على رئيسين سابقين، وحاولوا قتل 3 آخرين على الأقل.
وبعبارة أخرى، منذ انتخاب أبراهام لينكولن عام 1860، شغل البيت الأبيض 30 رجلا، 30 في المئة منهم أطلق النار عليهم وأصيبوا أو أطلق عليهم النار دون أن يصابوا. فقتل الرئيس أو محاولة قتله تقليد أميركي، حتى إن الملحن ستيفن سونديم كتب مسرحية موسيقية عن هذه الممارسة بعنوان “القتلة”، كما عرض كثير من أفلام هوليوود هجمات حقيقية أو متخيلة على الرئيس الأميركي.
في عام 1901 تم اغتيال الرئيس ويليام ماكينلي في نيويورك، مما أدى إلى أن تتولى الشرطة السرية مسؤولية أمن جميع الرؤساء منذ ذلك الوقت
أدلى براون بتصريحه الشهير عن التشبث الأميركي بالعنف عام 1967، في حقبة اتسمت بالفوضى العارمة، إذ سقط الرئيس جون كينيدي قتيلا عام 1963، ثم قُتل شقيق كينيدي والمرشح الرئاسي روبرت إف كينيدي عام 1968، وأصيب جورج والاس، وهو مرشح رئاسي آخر، بجروح خطيرة عام 1972، أدت إلى إصابته بشلل جزئي بقية حياته.
حرب أهلية وكلمات في محلها
لو أمكن للناشط إتش راب براون أن يتحدث قبل مئة عام، لكانت كلماته في محلها أيضا. فخلال ستينات القرن التاسع عشر، تصاعدت التوترات حول العبودية التي كانت قائمة منذ تأسيس الولايات المتحدة، حتى انفجرت في حرب أهلية دامية لا تزال هي الأكثر دموية في التاريخ الأميركي، بين الاتحاد والكونفدرالية.
وبلغ القتال ذروته مع أول حادثة قتل لرئيس أميركي على الإطلاق: قتل أبراهام لينكولن برصاصة في مؤخرة رأسه في أبريل/نيسان 1865 أطلقها عليه واحد من المتعاطفين الكونفدراليين، أثناء مشاهدة لينكولن مسرحية في مسرح فورد في العاصمة الأميركية واشنطن.
كما تمكن القتلة من قتل رئيسين آخرين في السنوات الـ36 التالية. ففي عام 1881، قتل جيمس غارفيلد على يد مؤيد جمهوري ساخط أغضبه عدم حصوله على منصب سياسي.
ثم في عام 1901- في الفترة التي تمكن فيها الفوضويون من اغتيال عدد من زعماء الدول، منهم رئيس فرنسا، وملك إيطاليا- اغتال أحدهم الرئيس ويليام ماكينلي في المعرض العالمي في بوفالو بنيويورك. وأدت وفاة ماكينلي إلى أن تتولى الشرطة السرية مسؤولية أمن جميع الرؤساء منذ ذلك الوقت.
ثــم هناك مـحـاولات الاغــــتــيـال الفـاشـلة الــــتـــي تــــعـــرض لــهـــا الرؤساء، وهي لا تُذكر كثيرا لأن مطلقي النار فشلوا في إصابة هدفهم أو قتله، ويرجع سبب ذلك أساسا إلى عدم كفاءتهم. فالرئيس السابق تيدي روزفلت، وفي أثناء حملة رئاسية فشلت في نهاية المطاف عام 1912، كمرشح لحزب ثالث، أصيب برصاصة في صدره أطلقها عليه قاتل يعاني من مرض عقلي. وبقيت الرصاصة في صدر روزفلت بقية حياته.
الاستقطاب والانقسامات في المجتمع الأميركي على أساس العرق والطبقة يوفران وقودا للعنف السياسي
والرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت، وقبل 17 يوما من تنصيبه رئيسا في فبراير/شباط 1933، كاد أن يصاب، عندما أطلق أحد عمال البناء الساخطين خمس طلقات عليه في تجمع سياسي. وقتلت إحدى الرصاصات أنطون سيرماك، عمدة شيكاغو.
كما واجه هاري إس ترومان، خليفة روزفلت، اثنين من القتلة في نوفمبر/تشرين الثاني 1950. إذ أقام ترومان في مكان قريب في “بلير هاوس” لأن البيت الأبيض يخضع للتجديدات. وبينما كان الرئيس داخل المبنى، هاجم مقره اثنان من القوميين البورتوريكيين الغاضبين من السيطرة الاستعمارية الأميركية على بورتوريكو. وقُتل المهاجمان كما قُتل واحد من الشرطة.
وعلى نحو استثنائي، واجه الرئيس جيرالد فورد محاولتي اغتيال من سيدتين في ولاية كاليفورنيا في سبتمبر/أيلول 1975. المحاولة الأولى كانت في سكرامنتو على يد واحدة من أتباع تشارلز مانسون سيئ السمعة. لكنها فشلت في استعمال المسدس على نحو صحيح وأضاعت فرصة التسديد من مسافة قريبة. بعد 17 يوما، أطلقت امرأة ثانية ترغب في الثورة رصاصتين على فورد في سان فرانسيسكو وأخطأته كلتاهما.
تاريخ أميركي مليء بالموت
ما الذي يفسر هذا التاريخ الطويل والمليء بالموت، الذي يشكل إطلاق النار على ترمب فصلا آخر منه؟ هناك ثلاثة عوامل تفسر هذا المستوى المرتفع من العنف السياسي في أميركا مقارنة بالديمقراطيات المماثلة الأخرى.
أولا، هناك نمط تاريخي تبنت فيه أميركا العنف السياسي، يرى في هذا النهج من العنف أمرا طبيعيا. ثم ما يوفره الاستقطاب والانقسامات في المجتمع الأميركي على أساس العرق والطبقة من وقود للعنف السياسي. وأخيرا، هناك إمكانية الوصول إلى الوسائل التي ينفذ بها العنف المنشود.
لأن أميركا تمجد العنف السياسي، ولأن الانقسامات والاستقطاب لطالما كانت موجودة دوما وتعم البلاد، ولأن الأسلحة متوفرة، فإن جميع المكونات موجودة للحصول على مزيد من فطيرة العنف الأميركية
أشادت الولايات المتحدة منذ نشأتها بالعنف السياسي. وأظهرت أصولها الثورية أنها ترى أن العنف نهج مرغوب وفعال في السعي لتحقيق أهداف سياسية، حتى لو كانت تلك الجهود خارج نطاق الثورة، بما في ذلك قتل الرؤساء، فشلت عموما في تحقيق تغيير جوهري.
وكثيرا ما برر من يلجأ إلى وسائل غير ديمقراطية أفعاله بالبداية الثورية الأميركية. فهذا تيموثي ماكفي الذي أشعل القنبلة في عام 1995 وأدت إلى مقتل 168 شخصا في مدينة أوكلاهوما، كان يرتدي قميصا كتبت عليه عبارة للأب المؤسس للولايات المتحدة ومؤلف إعلان الاستقلال توماس جيفرسون: “ينبغي أن تنتعش شجرة الحرية من حين لآخر بدماء الوطنيين والطغاة”. وبعض الذين اقتحموا الكونغرس يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021، ليمنعوا الانتقال السلمي للسلطة من ترمب إلى بايدن، حملوا علم غادسدن الذي ظهر أول مرة في الثورة الأميركية.
ثم هناك الوقود الذي يشعل نار العنف السياسي: الانقسام والاستقطاب. ونظرا للماضي الطويل من العنصرية والانقسامات الطبقية في الولايات المتحدة، والتي تنفجر على فترات منتظمة كما حدث عقب مقتل جورج فلويد على يد الشرطة، فتصور أن هناك عصرا ذهبيا من الانسجام قبل الاضطرابات الحالية هو تصور غير تاريخي وساذج على حد سواء.
اهتمام إعلامي باستهداف ترمب
أخيرا، هناك الوسائل اللازمة لممارسة العنف السياسي. ولم يحظ هذا الجانب إلا باهتمام قليل وسط هيجان وسائل الإعلام الأميركية الحالية حول أحداث السبت 13 يوليو/تموز الماضي.
هناك عنصر واحد يوحد كل محاولة اغتيال، سواء كانت ناجحة أو فاشلة، ضد رئيس أو مرشح رئاسي على مدار 159 عاما. فجميعها اشتملت على الأسلحة، هي جانب فريد آخر من جوانب الهوية الأميركية.
فذاك الشاب الذي أصاب ترمب، كان في العشرين من عمره، لا يمكنه من الناحية القانونية أن يتناول مشروبا كحوليا في ولاية بنسلفانيا، لكن يمكنه قانونا امتلاك سلاح ناري. ولم يأت بايدن في أي جزء من خطابه في البيت الأبيض على ذكر السلاح نصف الآلي المستخدم في الهجوم على تجمع ترمب، وهو دليل واضح على مدى ترسخ بيئة الأسلحة في الولايات المتحدة.
لا يعطينا التاريخ دروسا جاهزة. ومع ذلك، ولأن أميركا تمجد العنف السياسي منذ القرن الثامن عشر، ولأن الانقسامات والاستقطاب لطالما كانت موجودة دوما وتعم البلاد، ولكن وسائل التواصل الاجتماعي زادت من تفاقمها، ولأن الأسلحة متوفرة، فإن جميع المكونات موجودة للحصول على مزيد من حصص فطيرة العنف الأميركية في المستقبل.
ما الذي يفسر هذا التاريخ الطويل والمليء بالموت، الذي يشكل إطلاق النار على ترمب فصلا آخر منه؟ هناك ثلاثة عوامل تفسر هذا المستوى المرتفع من العنف السياسي في أميركا مقارنة بالديمقراطيات المماثلة الأخرى.
أولا، هناك نمط تاريخي تبنت فيه أميركا العنف السياسي، يرى في هذا النهج من العنف أمرا طبيعيا. ثم ما يوفره الاستقطاب والانقسامات في المجتمع الأميركي على أساس العرق والطبقة من وقود للعنف السياسي. وأخيرا، هناك إمكانية الوصول إلى الوسائل التي ينفذ بها العنف المنشود.
المصدر : https://www.majalla.com/node/322025/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%A9-%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A-%D9%83%D9%81%D8%B7%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%B2