طرقت الباب ودخلت الى مكتبه، لمحت من بعيد رأسه الاصلع وقد بدا لها صقيلا كنصل خنجر، وجسده الغاطس في كرسي كبير وقد اخذ شكلا مكوراً ككيس قمامة منتفخ في قاعدته ونحيف في جزءه العلوي.. سلمت عليه بحشمة ووقفت امامه رد عليها السلام، وهو ينظر اليها من تحت الى فوق، وكأنه يبحث عن شيء، ضاع منه منذ زمن … قال لها وهو ينهض من مكانه: – “لقد قررت زيادة راتبك منذ هذا الشهر .. انا معجب بعملك”… ثم اردف وهو يقترب منها قليلا ” وخصوصا معجب بك”.
شعرت فجأة بارتباك شديد وخوف، صوبت بصرها نحو الارض فيما، ساد هدوء ثقيل في المكان، قال لها وهو يلامس يدها ويشدها نحوه بقوة: انا بحاجة ماسة لك… رعشة خفيفة اجتاحت كيانها، ورغبة جامحة بالصراخ ولكنها تماسكت، راجعت قليلا وقالت له:
– ” تفاجأت بحديثك -استاذ- ، امنحني بضع دقائق افكر فيها واعود اليك “……. ادارت وجهها نحو الجهة البعيدة عنه واجهشت في البكاء ثم خرجت بسرعة.
يجسد هذا النص احد مشاهد “العنف المعنوي” الذي تتعرض له المرأة بصورة شبه مالوفة في مجالات العمل.
حين نتحدث عن العنف في نقاشاتنا، فان اول نفكر فيه هو العنف المحسوس، الذي يترك اثرا على الضحية كالأذى الجسدي او الجنسي، ولكن ذلك لا يمثل اخطر انواع العنف، اقسى ما يعانيه الاشخاص في حياتهم اليومية، هو العنف النفسي أو المعنوي، الذي تكمن خطورته في كونه مستورا ومستديماً، يحدث في الخفاء، وغالبا ما تتكتم عليه الضحية، تحت ضغط الاعراف والتقاليد او الحاجة المادية، ويستمر لفترات غير محددة قد تنتهي بالانتحار او المرض او غير ذلك. يترك هذا العنف اثاره النفسية المدمرة على الضحية بعيدا عن اهتمام المجتمع وفي غياب العقاب لمن يمارس هذا العنف، الطفل يتعرض لهذا النوع مِن العنف، حين يعيش في بيئة مشحونة بالتوتر، والمرأة تتعرض له في البيت مع الزوج او الاب او الاخ، وتقع ضحيته في العمل او الشارع وتتحول الى فريسة في مجتمع صارم في ذكوريته.
وقد اولت المجتمعات الحديثة اهمية بالغة لهذا النوع من العنف من خلال التشريعات والتثقيف والمتابعة النفسية والمادية للضحايا، من الناحية العلمية، تم استحداث فرع جديد من العلوم يسمى، علم الضحايا (بالإنجليزية: Victimology) ، وهو علم دراسة الإيذاء، بما في ذلك العلاقة بين الضحايا والجناة، والتفاعلات بين الضحايا ونظام العدالة الجنائية – أي الشرطة والمحاكم، ومسؤولي الإصلاحيات – والصلات بين الضحايا والفئات الاجتماعية والمؤسسات الأخرى، مثل وسائل الإعلام، والأعمال التجارية، والحركات الاجتماعية، ولا يقتصر علم الضحية على دراسة ضحايا الجريمة فحسب، بل قد يشمل أشكالا أخرى من انتهاكات حقوق الإنسان.
لماذا تولي المجتمعات اهمية لهذا العنف؟، لانه يولد لدى الضحايا، الاحساس بانعدام الأمن والخوف الدائم وفساد العلاقات الاجتماعية، ويودي الى نمو مشاعر الندم وتأنيب الضمير والرغبة بالانتقام من الذات او من الاخر.
بعبارة اخرى: يقتل هذا العنف لدى الضحية والفاعل بنفس الوقت، الشعور بالانتماء الى الجنس البشري، ويغرس فيهما جذور التوحش، ويتحول المجتمع نتيجة لذلك، الى مصنع للجريمة والطغيان والطغاة.
رابط المصدر: