تخضع الثقة في استمرار استثنائية الاقتصاد الأميركي للضغوط. ففي حين يظل الإنفاق الاستهلاكي الإجمالي قويا في الوقت الحالي، فإن الأسر الأدنى دخلا ترزح بالفعل تحت ضغوط كبيرة، وكذا حال الشركات الصغيرة. وعلى هذا فإن قسما كبيرا من الأمر يعتمد على سوق العمل الأميركية، نظرا لأهميتها المركزية…
بقلم: محمد العريان
كمبريدج- أظهر المستثمرون في الأسواق الأميركية خلال العام الماضي قدرة ملحوظة على تجاهل المخاطر المحلية والخارجية التي تهدد رفاهة الاقتصاد، فضلا عن أداء النظام الاقتصادي والمالي والتجاري العالمي. كان الانفصال بين المخاطر ومشاعر السوق على هذا النحو مدفوعا بثلاثة عوامل: الإيمان بقدرة بعض شركات التكنولوجيا على تحقيق شعار “السماء هي الحد”، والثقة الواسعة الانتشار في الاستثنائية الاقتصادية الأميركية، واليقين الدائم في قدرة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على دعم الأصول المالية. لكن اثنين من هذه العوامل خضعا لضغوط مؤخرا، الأمر الذي جعل دوام أي نظرة إيجابية للمستقبل أكثر اعتمادا على العامل الثالث.
الواقع أن عددا من التطورات التي شهدها العام الماضي كان من الطبيعي أن تؤدي إلى تقلبات واتجاه عام نحو الهبوط في أسواق الأسهم. لكن الحرب الدائرة بين حماس وإسرائيل ــ والصور المؤلمة للخسائر الكبيرة في أرواح المدنيين الأبرياء والدمار الهائل الذي لحق بسبل العيش والبنية الأساسية المادية ــ زادت من احتمالات اندلاع صراع تنزلق إليه المنطقة بالكامل والذي قد يُـفضي إلى مزيد من تعطل الشحن والتجارة، ويدفع أسعار النفط إلى الارتفاع.
علاوة على ذلك، أصبحت العلاقات الصينية الأميركية أشد توترا. فمع إقدام الولايات المتحدة على فرض مزيد من القيود على الصادرات المرتبطة بالتكنولوجيا إلى الصين، تضطر بلدان أخرى إلى الإبحار عبر مجال متزايد التعقيد من العقوبات الثانوية. وقد ذَكَّـرَت الحملة الرئاسية في الولايات المتحدة الجميع بأن موجات جديدة من الرسوم الجمركية ضد الحلفاء والخصوم قد تأتي في العام المقبل. في الوقت ذاته، أضعفت الانتخابات المحلية والإقليمية أحزاب يسار الوسط ويمين الوسط المعتدلة في بلدان أوروبية رئيسية.
هذه القُـدرة التي أبداها المستثمرون على النظر إلى ما هو أبعد من هذه التطورات من غير الممكن أن تُـعزى ببساطة إلى الشعار القديم الذي يقول إن “الأسواق ليست الاقتصاد، والاقتصاد ليس الأسواق”. بدلا من ذلك، عُـزِلَـت الأسواق بفعل العوامل الثلاثة المذكورة أعلاه.
الأول ــ الثقة المتزايدة في بعض شركات التكنولوجيا ــ يعكس التأثير الذي تخلفه ثورة الذكاء الاصطناعي، والآمال العالية المعلقة عليها، وهي صدمة تكنولوجية تاريخية لا تزال تكتسب مزيدا من الزخم. ينعكس التأثير المباشر في المكاسب الـمُـبهِـرة التي حققتها سوق الأسهم في الولايات المتحدة. لكن هذه المكاسب كانت مدفوعة في الأغلب الأعم بِـقِـلة من شركات التكنولوجيا المرتبطة بشكل مباشر بنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية والتنبؤية الجديدة وبنيته الأساسية والأجهزة الداعمة له.
شهدت هذه الشركات ارتفاعات مذهلة في تقييماتها السوقية. والمثال الرائد بالطبع هو شركة Nvidia، التي سجلت قيمة أسهمها الرأسمالية في السوق ارتفاعا شديدا من أقل من 300 مليار دولار في أواخر عام 2022 إلى أكثر من 3 تريليون دولار في يونيو/حزيران الماضي. ومن بين الفائزين الآخرين شركات تكنولوجيا مهيمنة بالفعل مثل Alphabet (جوجل) وميكروسوفت.
الواقع أن افتتان السوق بهذه الشركات ليس مفهوما فحسب، بل إنه مبرر أيضا. فهي في طليعة اختراق تكنولوجي من شأنه أن يعيد تشكيل كثير مما نقوم به وكيف نقوم به جوهريا. وتبشر المنتجات والخدمات التي تطرحها هذه الشركات بتحقيق مكاسب إنتاجية واسعة النطاق ومن شأنها أن تعمل على تحسين التوقعات ليس فقط لبعض الشركات، بل وأيضا اقتصادات بأكملها.
ولكن في حين تظل أسباب التفاؤل بهذه الشركات قوية، فإن الزيادة الحادة في أسعار أسهمها أثارت جدالا حول ما إذا كان التوقف لبعض الوقت بات مطلوبا. ذلك أن مثل هذه الحماسة الجامحة قد تُـتَـوَّج بفقاعة مكلفة، ولن تقتصر تداعياتها بالضرورة على قطاع بعينه أو اقتصاد واحد.
كما تخضع الثقة في استمرار استثنائية الاقتصاد الأميركي للضغوط. ففي حين يظل الإنفاق الاستهلاكي الإجمالي قويا في الوقت الحالي، فإن الأسر الأدنى دخلا ترزح بالفعل تحت ضغوط كبيرة، وكذا حال الشركات الصغيرة. وعلى هذا فإن قسما كبيرا من الأمر يعتمد على سوق العمل الأميركية، نظرا لأهميتها المركزية في الدخول، والإنفاق، والأمن المالي. وهنا، تختلط البيانات، حيث بدأت بعض المقاييس ــ مثل معدل البطالة الإجمالي ــ تقترب من مستويات خطرة.
هذه التطورات تجعل السياسة النقدية التي ينتهجها بنك الاحتياطي الفيدرالي أكثر أهمية. والافتراض العام بين المستثمرين هو أن “بنك الاحتياطي الفيدرالي يدعمنا”. هذا “التدخل المضمون من جانب الاحتياطي الفيدرالي” يُـتَـرجَـم عادة إلى توقعات بأن أي تباطؤ اقتصادي أو نوبة من التقلبات الشديدة في السوق من شأنها أن تؤدي إلى تخفيف سريع للسياسة النقدية. لقد عملت ردود أفعال الاحتياطي الفيدرالي في مواجهة الأزمات على مدار العقدين الماضيين ــ من انهيار عام 2008 إلى جائحة كوفيد-19 ــ على تعزيز هذه الديناميكية السلوكية في الأسواق الأميركية، كما فعلت استجابته لنوبات أصغر من الاضطرابات في السوق، كتلك التي شهدها الربع الرابع من عام 2018.
ولكن هل تظل الثقة المستمرة في التدخل المضمون من جانب الاحتياطي الفيدرالي مبررة؟ أجل، ولكن فقط إذا تمكن الاحتياطي الفيدرالي من النظر إلى ما هو أبعد من رغبته المعلنة في خفض التضخم إلى هدفه المحدد عند مستوى 2% في أقرب وقت ممكن. وهذا يعني خفض أسعار الفائدة في غضون الشهرين المقبلين لتجنب سياسة نقدية شديدة التقييد، والتي قد تتسبب بدورها في إلحاق ضرر غير مبرر بتشغيل العمالة والاقتصاد. الواقع أن الإفراط في تشديد السياسة النقدية قد يؤدي إلى إضعاف العاملين الأولين بدرجة أكبر، الأمر الذي يجعل من الصعب للغاية أن تستمر الأسواق في تجاهل المصادر المتزايدة الاتساع لانعدام اليقين على المستويين المحلي والدولي.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/economicarticles/39619