د. منذر سليمان و جعفر الجعفري
دشّن الرئيس الأميركي جو بايدن ولايته الجديدة بإعلانه عن استعداد إدارته للاتفاق النووي ورفعه إلى أولوية أجندته، بعد قرار سلفه الرئيس ترامب انسحابه منه في العام 2018، وما لبث أن أضحى تأجيل الخطوات الملموسة هو عنوان المرحلة، تخللته تصريحات متبادلة بأن الوقت المتاح للاتفاق شارف على نهايته.
أمام هذه اللوحة المختصرة في لعبة العض على الأصابع، تشكّل شبه إجماع بين الأطراف المعنية مفاده أن الاتفاق “القديم لم يعد قائماً” بحد ذاته، وما يجري من إرهاصات هو سعي الطرفين الرئيسيّين، واشنطن وطهران، لإرساء بنود اتفاق جديد يأخذ بعين الاعتبار التطورات التي رافقت المرحلة السابقة ومستجداتها، فضلاً عن التغييرات التي أحاطت بالمشهد الدولي بشكل عام، خصوصاً توقيع الاتفاق الاستراتيجي بين الصين وإيران والانسحاب الأميركي المذلّ من أفغانستان.
السؤال المحوري الراهن هو بشأن تيقّن الولايات المتحدة من توصل إيران لإنتاج كميات من اليورانيوم المخصّب تكفي لإنتاج قنبلة نووية أو أكثر، من عدمه، ولم يتم حسمه بصورة جازمة إلى الآن. يطمح الجانب/الوفد الأميركي إلى تضمين الاتفاق بنداً ينص على “وضع قيود على برنامج ايران للصواريخ الباليستية”، متقاطعاً بالكامل مع الموقف “الإسرائيلي”، وجاهزية الدول الأوروبية الأخرى للتصديق عليه، بينما ترفض إيران ذلك بشدة.
بالنظر إلى جملة معطيات المشهد السياسي الأميركي وتعقيدات توازناته الداخلية، والمعارض بقوة لأي تقارب بين واشنطن وطهران، يمكن القول أن الرئيس بايدن لم يعد يتحلّى بـ”الحماسة” ذاتها للتوصل لاتفاق في أي وقت قريب، معطوفاً على الانتقادات الواسعة لقراره بالانسحاب من أفغانستان وانعكاساته على مراكز القوى، واضطرار قادته العسكريين إلى الإعتراف بأن الانسحاب كان “كارثة استراتيجية”، وأنظار الجميع مصوّبة نحو الصين وروسيا.
جدير بالذكر ما رافق مرحلة استكشاف الآراء الداخلية في واشنطن من جدلٍ “إيجابيٍ” في المرحلة الأولى من ولاية الرئيس بايدن، وشهد العالم تصريحات متعددة لأقطاب معتبرين في الحزب الديموقراطي يؤكدون أنّ عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي تنطوي على اقدام واشنطن على “رفع العقوبات” المفروضة على إيران، والذين تراجعوا أمام خصوم الرئيس بايدن والقوى المتعددة المتضررة من أي تقارب بين البلدين.
غموض القنبلة النووية
أحدث التقديرات لإمكانات إيران النووية جاء في دراسة صادرة عن “معهد العلوم والأمن الدولي (Institute for Science and International Security (ISIS)) ” في واشنطن، أعرب فيها عن اعتقاده بقدرة إيران على انتاج قنبلة نووية واحدة في غضون شهر من الزمن (13 أيلول/سبتمبر 2021).
يدير المعهد المفتش الأسبق عن أسلحة العراق النووية، ديفيد أولبرايت، والحاصل على “جائزة الغصن الأخضر”، في عام 1992، تقديراً لإسهاماته في تقصّي برنامج العراق النووي وملاحقة علمائه.
أما تقديرات “مسؤولي الاستخبارات الأميركية”، كما يُنسب إليهم في وسائل الإعلام، فجاءت على النقيض من تأكيدات التقرير السالف الذكر، معتبرين أن بإمكان إيران “إنتاج كمية كافية من الوقود لسلاح نووي في غضون بضعة أشهر”، ومستندين إلى تقاريرهم السابقة في عام 2007 التي يجزمون فيها بأن إيران “أوقفت العمل لاقتناء أسلحة نووية في عام 2003” (“مجلس العلاقات الخارجية”، 18 آب/أغسطس 2021).
كما أن تقديرات “إسرائيل” الأخيرة ناقضت تقرير “معهد العلوم والأمن الدولي” الأميركي. المدير السابق لجهاز الاستخبارات الخارجية “الموساد”، يوسي كوهين، أوضح في مؤتمر استضافته صحيفة “جروزاليم بوست” أن “إيران ليست على مسافة قريبة من إنتاج أي أسلحة نووية” (12 تشرين الأول/أكتوبر 2021).
كما مهّد “معهد راند” لمحاربة سردية الإفراط في التشاؤم ودق طبول الحرب بتحذير صنّاع القرار من أن حيازة إيران لسلاح نووي “لا ينبغي أن يمثّل فرضية مسلّماً بها”. وأضاف المعهد المرموق والنافذ بتوجهاته لدى النخب السياسية والعسكرية الأميركية “ربما نجد بعض المبررات تقود إلى الاعتقاد بأن إيران، أيضاً، قد تلجأ إلى خيار عدم حيازة الأسلحة النووية، أقله في المستقبل المرئي، بصرف النظر عن قرارات الولايات المتحدة فيما يخصّ العقوبات وربما لفترة أطول بعد انتهاء العمل بالاتفاق” (28 حزيران/يونيو 2021).
بعض المراقبين يفسّر تصريح يوسي كوهين ( المتناقض مع مزاعم نتنياهو المتكررة بقرب امتلاك ايران لسلاح نووي) بأنه يرتكز على عدم توصّل إيران الى تقنية تصنيع رأس نووي يمكن تزويد الصواريخ الباليستية الإيرانية به، ويزعمون ان الجنرال فخري زادة الذي تم إغتياله كان يعمل على تطوير هذه التقنية.
وأسدى المعهد نصيحة فريدة للمفاوض الأميركي للتحلّي “بالحكمة والمضيّ قدماً بحذر لما قد يقدمه من حوافز لطهران، وعدم الإفراط في مكافأتها بوعود بأن لا تتجاوز عتبة (اللاعودة) قد لا ترمي إيران للقفز عنها” أصلاً.
في شقّ التقنية العسكرية الصرفة، تسود مشاعر الاطمئنان بين القادة العسكريين الأميركيين “لتفوّق” أسلحتهم النووية والصواريخ العابرة للقارات ونظم دفاعها الجوي، وما أدخل عليها من تحسينات وتطويرات قتالية منذ الحرب الباردة، وذلك في سياق “التصدي للصواريخ الباليستية الإيرانية”.
يشير أولئك إلى قدرات نظام الدفاع الجوي الأميركي المضاد للصواريخ الباليستية، “نايكي زيوس”، الذي طوّرته البنتاغون في عقد الستينيات من القرن الماضي “لتدمير الرؤوس الحربية للصواريخ الباليستية السوفياتية”، واعتراض الرؤوس الحربية على ارتفاعات عالية، بقوة تفجيرية تبلغ 400 كيلو طن. وكذلك للنظم الدفاعية الأحدث في الترسانة الأميركية، وامتداداً “الإسرائيلية”، القادرة على اعتراض الصواريخ الباليستية الإيرانية.
استناداً إلى التحديات التقنية العالية في علم الصواريخ الباليستية، والتي تتفوّق فيها الولايات المتحدة بحكم استثماراتها الهائلة إبان الحرب الباردة وما بعدها، فالمرجّح أن القوى الأخرى، بما فيها إيران، تتجه لتطوير تقنية صواريخ فرط صوتية، بما يفوق سرعة الصوت بنحو 12 مرة على الأقل.
الفرضيات الأميركية أعلاه لم يجرِ اختبارها عملياً للجزم بصحتها أو صدقيتها، لكن استناداً إلى ما تقدم من معطيات، فإنها تلقي بعض الضوء على “مغزى” تصريح مدير “الموساد” السابق، يوسي كوهين، بأن إيران ليست قاب قوسين أو أدنى من إنتاج قنبلة/سلاح نووي، تدعمه استنتاجات بعض المراكز النافذة في صنع القرار الأميركي، وتحذيرات البعض الآخر من الاستمرار في عقلية الحرب الباردة.
في الساعات الأخيرة، تم الإعلان عن استئناف جولة المفاوضات النووية بين واشنطن وطهران والدول الأخرى في بروكسل، الأسبوع المقبل، “بعد انتهاء المرحلة الأولى من إعادة النظر في المحادثات”، بحسب التصريح الرسمي الإيراني، مؤكداً التوصل إلى “نتيجة في المستقبل القريب” في الجولة الحالية، ما يقدم دليلاً آخر على سلمية برنامج إيران النووي، خصوصاً على ضوء موافقة إيران على فرق تفتيش الوكالة الدولية للطاقة النووية لمنشآتها النووية.
الموقف الأميركي الحقيقي تم تغليفه بسلسلة تصريحات وتهديدات مبطّنة، أبرزها تصريح وزير الخارجية أنتوني بلينكن بقوله قبل بضعة أيام “نحن على استعداد للنظر في خيارات أخرى إن لم تُغيّر إيران مسارها الراهن، (لكننا) ماضون في الاعتقاد بأن الديبلوماسية هي الخيار الأشد فاعلية”. وصرّح بحضور نظيريه “الإسرائيلي والإماراتي” بأن “الوقت ينفذ، واستغلت إيران فترة الانتظار لتعزيز برنامجها النووي بأساليب متعددة”.
ما يستطيع المرء استشرافه من تلك التصريحات هو ما يتردّد في الأوساط السياسية في واشنطن، عن أن الرئيس جو بايدن ماضٍ في تركيز أنظار استراتيجية بلاده على مواجهة الصين والتراجع “تدريجياً” عن الانخراط المباشر في قضايا الشرق الأوسط. ويذهب بعضهم إلى القول بأن آخر ما يتمناه بايدن هو إقدام “إسرائيل” على عمل عسكري ضد إيران، والذي من شأنه “إشعال المنطقة بكاملها”.
ستكون الجولة السابعة المرتقبة للمباحثات في بروكسل بشأن العودة إلى الإتفاق النووي إختباراً حقيقياً لإدارة بايدن، وكشفاً لرغبتها الفعلية في رفع كل العقوبات التي أقدمت عليها إدارة ترامب. هذا الإجراء سيكون السبيل الوحيد لحدوث اختراق حقيقي والتمهيد للبحث في أي تفاهم مشترك مع ايران بشأن تطوير الإتفاق.
.
رابط المصدر: