يشهد الملف النووي الإيراني اليوم، واقعاً مختلفاً عن الواقع الذي شهده أثناء صعود الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة بداية عام 2020. ولا تزال التطوّرات في علاقات إيران مع الولايات المتحدة الأمريكية، والمجموعة الأوروبية تتواصل، في الوقت الذي تُشكّل عدّة عوامل رئيسة، ملامح حملة الضغوط الغربية ضد إيران، من دون أيّة إمكانيّة حقيقيّة لتوقُّع الهدف السياسي النهائي لهذه الجهود.
إدارة بايدن الديمقراطية والملف النووي: هاجس الابتعاد عن ترمب
أظهرت إدارة الرئيس جو بايدن منذ بداية حملتها الانتخابية عزمها وضع حدٍّ للتصعيد الذي بدأته إدارة ترمب في التعامل مع ملف الاتفاق النووي الإيراني. وأبدت الإدارة الديمقراطية قدراً كبيراً من المرونة لإحياء الاتفاق النووي الذي انسحب ترمب منه في مايو 2018. وأكد معظم الوجوه البارزة في الإدارة الجديدة أن الانسحاب من الاتفاق النووي كان خطئاً. وجرى اختيار المشرفين على الملف الإيراني في الإدارة الجديدة بعناية، بحيث يكونوا من المؤيدين للاتفاق النووي، ومن المتعاطفين مع فكرة إعادة تأهيل النظام الإيراني التي أطلقتها إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، ودافعت عنها باعتبارها المسار الأنسب لمنع التوتر في المنطقة، ومنع إيران من الحصول على السلاح النووي. وتمثّلت بوادر المرونة الديمقراطية عبر التساهل في تطبيق العقوبات التي كانت قد فرضتها الإدارة الجمهورية على مختلف القطاعات الاقتصادية الإيرانية، والتلويح بإخراج بعض المؤسسات السيادية من دائرة العقوبات. وكانت نتيجة هذا التساهل ارتفاع مبيعات النفط الإيرانية من نحو 150 ألف برميل في اليوم، إلى أكثر من 700 ألف برميل. كما أدّى هذا التساهل إلى زيادة لافتة في حجم التجارة الخارجية الإيرانية في عامي 2021 و2022، مقارنة بعامي 2019 و2020؛ حين كانت واشنطن تفرض شروطاً صارمة على التعاون التجاري مع إيران.
ونتيجة هذا الانفتاح الديمقراطي، انعقدت عدّة جولات من المفاوضات النووية خلال الأشهر الأخيرة من حكومة الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني التي انتهجت سياسة “الصمود الاستراتيجي” في وجه حملة الضغوط القصوى الأمريكية، وراهنت على صعود فريق سياسي جديد في واشنطن يرغب بإحياء الاتفاق النووي. وكادت تلك المفاوضات أن تتمخض عن عودة سريعةٍ إلى الاتفاق النووي، لولا تداخُل عدة أسباب، منها: القيود التي وضعها المحافظون على صلاحيات حكومة روحاني التفاوضيّة، بعد دخول المجال السياسي الإيراني فترة المخاض الانتقالي، واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.
وواصل الفريق الديمقراطي في واشنطن سياسة الانفتاح بعد صعود المحافظين في طهران، والذين كانوا قد أبدوا مواقف مناهضة للاتفاق النووي في الأشهر التي سبقت الاستحقاق الرئاسي الإيراني، وانخرط الديمقراطيون في عدة جولات من المفاوضات مع فريق دبلوماسي جديد من المقربين للدولة العميقة في طهران. وكانت واشنطن متفائلة بأنّ المواقف المناهضة للاتفاق النووي التي صدرت عن المعسكر المحافظ في إيران لم تكن مواقف حقيقية، بل كانت نابعة من تنافس الكتل السياسية الإيرانية على كعكة إحياء الاتفاق النووي، ورفع العقوبات عن إيران. وواصل الغرب مساعيه للحوار مع طهران حتى بعد أن رفع الفريق الجديد أجندة مختلفة كلياً عن الأجندة السابقة، وطرح على الطاولة مطالب لم تكن قد طرحت فيما سبق. وكانت الإدارة الأمريكية حريصةً على إنجاز العودة إلى الاتفاق النووي قبل الانتخابات النصفية الأمريكية، فيما كان الجانب الأوروبي يرغب بإنجاز ذات الأمر لأسباب متعلقة بأزمة الطاقة التي أعقبت الحرب الأوكرانية؛ ما جعل قضية العودة إلى الاتفاق النووي محور الاهتمام العالمي مرة ثانية في الأشهر الأولى من 2022، على الرغم من ارتفاع سقف المطالبات الإيرانية.
وكان الغرب يُفسِّر الخطوات التصعيدية التي قامت بها طهران بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، باعتبارها إجراءات مُضادّة، تهدف إلى إقناع الأطراف بجدوى العودة إلى الاتفاق. لكن تبيّنَ لاحقاً أنها إجراءات تصعيدية يُراد منها انتزاع مزيد من النقاط من الجانبين الغربي والأمريكي. وشكّلت تلك الخطوات التصعيدية تغييراً جوهريّاً في قواعد اللعبة، بحيث بدا أن طهران تجاوزت بالفعل صيغة الاتفاق النووي لعام 2015 الذي لم يعد صانع القرار في إيران مقتنعاً به. وفي سياق هذه القناعة الإيرانية الجديدة جاءت خطوات مثل: زيادة تخصيب اليورانيوم إلى حدود مواربة، وقرار البرلماني بضرورة صون المنجزات النووية، وورقة المطالبات الجديدة التي رفعها فريق المفاوضين في أكتوبر 2021.
وأدّى وقوف طهران إلى جانب موسكو في الحرب على أوكرانيا إلى وضع طهران في خانة العدو من وجهة النظر الأوروبية. وواجهت الجهود الديمقراطية لإحياء الاتفاق النووي مقاومة كبيرة من بلدان إقليمية حليفة للولايات المتحدة. وبذلت الإدارة الديمقراطية جهداً كبيراً لتحييد موقف الحلفاء الإقليميين لكنّ مناورة حلفاء واشنطن في المنطقة بالبحث عن بديل لها عرَّض مصالح الولايات المتحدة في المنطقة إلى خطر حقيقي. وبدا خيار العودة إلى الاتفاق النووي مُستعصياً بعد الانتخابات النصفية الأمريكية التي لم تتمخض عن موجة حمراء، لكنها أفقدت إدارة بايدن دعم الكونغرس بعد أن هيمنت عليه الوجوه الجمهورية. وكان الملف الإيراني أول ما ناورت الأغلبية الجمهورية بشأنه غداة الهيمنة على الكونغرس من خلال مشروع قرار لدعم الاحتجاجات في طهران، ورفض التفاوض مع إيران. كما تركت الأوضاع الداخلية في إيران أثراً ملحوظاً في يمين الحزب الديمقراطي. ولم يعُد خيار مواصلة التفاوض مع إيران يحظى بدعم معظم الأوساط السياسية الأمريكية.
كل تلك المعطيات جعلت “الموقف الديمقراطي” الداعي إلى التساهل مع إيران “خطوة في مناخ غير ملائم”، وسياسة تُعرِّض الولايات المتحدة لأخطار حقيقية، بانفراط تحالفها مع حلفاء تقليديين. وهي في المقابل، غير كفيلة بدفع إيران نحو العودة إلى الاتفاق النووي بعد أن بدت غير مقتنعة به. وإذا كانت أجواء التفاؤل هيمنت على الملف النووي طيلة عام 2021، وجزء من عام 2022، برغم توافر العديد من المعطيات الميدانية التي تناقض هذا التفاؤل، فإن تفاصيل التطورات والمواقف التي يشهدها الملف النووي الإيراني اليوم، تظهر أن حالة من التشاؤم فرضت نفسها على مناخ “معالجة الأزمة النووية الإيرانية” وفتحت هذا الملف أمام احتمالات جديدة.
العلاقات مع روسيا، والاحتجاجات، مُحرِّكات الضغوط الأوروبية على طهران
في الأسابيع الأخيرة، قامت العديد من الحكومات الأوروبية ومؤسّسات الاتحاد الأوروبي بإعداد حزم جديدة من العقوبات على إيران، لأسباب تتعلق بدعمها العسكري لروسيا، وانتهاكاتها حقوق الإنسان في البلاد. وفي منتصف يناير 2023، أشارت تقارير في وسائل الإعلام الغربية إلى أنّ العقوبات الجديدة تشمل حوالي 40 فرداً ومؤسّسة إيرانية، وثَبُتَ أنّ تلك التقارير كانت صحيحة؛ ففي 23 يناير، أعلن المجلس الأوروبي عن أسماء 18 فرد و19 مؤسّسة في إيران ستخضع لعقوبات الاتحاد الأوروبي. وعند العودة إلى الوراء، بدا أن التسريبات لوسائل الإعلام الأوروبية حول العقوبات الجديدة كانت مُتعمّدة، وكان الهدف منها الضغط على طهران، لكن يبدو أن إيران تجاهلت الإشارات الأوروبية. وأظهرت طريقة العمل الأوروبية أنّ أوروبا لديها آمال في أن يُقنِعَ التهديد بالعقوبات، إيران بتبنّي سلوك معتدل في سياستها الخارجية، وتراجع حملة النظام لقمع المتظاهرين. لكن ردّة فعل طهران لم تُشر إلى حصول أيٍّ من الأمرين؛ إذْ جاء رد فعل النظام انتقامياً، وسَرعان ما أصدرت إيران قائمة عقوبات إيرانية بحقّ 30 فرداً، و4 مؤسّسات أوروبية. ومن الواضح أن العقوبات الإيرانية كانت تهدف إلى بعث رسالة واحدة إلى أوروبا مفادُها أن طهران لن تسمح لضغوط العقوبات الأوروبية بتغيير سياساتها.
إن لعبة شد الحبل هذه هي في الأساس استمرار للوضع الراهن اليوم، ومن غير المُرجّح أن يتغيّر هذا الوضع في أي وقت قريب. وحتى لو قرّرت الحكومات الأوروبية، بما في ذلك حكومة المملكة المتحدة، تصنيف الحرس الثوري مُنظّمة إرهابية، فإن شكل هذه اللعبة لن يتغيّر بشكل أساسي. ومع ذلك، لا تزال أوروبا والولايات المتحدة تفتقران إلى سياسة واضحة تجاه إيران. وما يدور في ذهن الغرب إزاء سياسته النهائية تجاه إيران هو أن هناك عملية سياسية مُستمرّة فحسب. كما أن الجانب الإيراني ليس لديه أيضاً مسار مُستقبلي واضح، فيما يخص لعبة شد الحبل هذه مع الغرب. وما يُهيمن على مُقاربة طهران بهذا الخصوص هو التعنّت، والانتقام، والارتباك بشأن خطواتها التالية. وهو ما كان ذلك واضحاً جداً في رد فعل طهران على المنُاقشات الأوروبية بشأن تصنيف الحرس الثوري مُنظّمة إرهابية؛ فقد هدّد المسؤولون الإيرانيون بتصنيف جميع الجيوش الأوروبية على أنها “مُنظّمات إرهابية” ومعاملتها على هذا النحو عندما تعمل في منطقة الشرق الأوسط. ولم يكن من الصعب ملاحظة انفعاليّة التهديدات الإيرانية الغاضبة.
وتفترض طهران أنّ الضغط المضادّ على الأوروبيين سيُحقّق نتائج، وهذه القراءة الإيرانية ليست بالضرورة افتراضاً خاطئاً؛ فبعد كل شيء، لدى أوروبا تاريخ طويل من الاستسلام للضغوط، والمطالب الإيرانية؛ مثل إفراج بريطانيا عن الأموال الإيرانية المُجمّدة مُقابل إطلاق إيران سراح بعض الرهائن، وقضية الصحفية البريطانية من أصل إيراني نازنين زاغري راتكليف.
وأيَّد البرلمان الأوروبي مؤخّراً بالفعل، مقترحاً بتصنيف “الحرس الثوري الإيراني” جماعة إرهابية. لكنّ قرارات البرلمان الأوروبي ذات طبيعة رمزية واستشارية، ولا تمتلك هذه المؤسسة نفوذاً كبيراً لتغيير السياسات الفعلية للحكومات الأوروبية تجاه إيران. إنّ تعليق جوزيب بوريل، وهو أعلى مسؤول في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، الذي كان مفادُه أن الحكومات الأوروبية فقط، وليس البرلمان الأوروبي، هي التي يُمكنها أن تحسم مسألة تصنيف “الحرس الثوري”، بعث رسالةً إلى طهران مفادُها أنّ كبار مسؤولي الاتحاد الأوروبي، والحكومات الأوروبية، لا يزالون غير مُتّفقين، بشأن الخطوة التالية في الملف الإيراني. ويبحثُ الأوروبيون عن طرق لممارسة مزيد من الضغوط على طهران، لكن في نهاية المطاف، وكما قال بوريل: “لا يوجد بديل أفضل من المفاوضات لحل القضية النووية مع إيران”. وهذا النوع من الرسائل الأوروبية يمنح إيران الأمل في أن يعود الأوروبيون قريباً إلى طاولة المُحادثات.
وتعتقد إيران أنّ الولايات المتحدة أيضاً راغبةٌ بالعودة إلى طاولة المفاوضات. وأنّه بِمُجرّد أن تنتهي الاحتجاجات في إيران، سيرغب الأوروبيون والأمريكيون بالعودة للحوار الدبلوماسي مع طهران. ولذلك لا ينبغي أخذ التهديدات الإيرانية “بالانتقام” من أوروبا على محمل الجد؛ فلن يقوم الإيرانيون بأي إجراء كبير ضد أوروبا، بينما لا يزالون يأملون في أن يُقرّر الغرب العودة للمُحادثات.
في الوقت الحالي، لا يوجد دليل يُشير إلى أن أوروبا والولايات المتحدة على وشك إلغاء المسار الدبلوماسي مع إيران بالكامل، ولكن هناك الكثير من الأدلة التي تُشير إلى أن الولايات المتحدة وأوروبا تتطلّعان إلى تشديد سياسة العقوبات والضغوط الحالية على إيران. والهدف من ذلك هو إعادة طهران للمُحادثات ولكن على أمل الدخول في مفاوضات مُجدية. ويقوم الغرب بتشديد السياسات الحالية على مستوى الإجراءات الفعلية وعلى مستوى التهديدات؛ فعلى مستوى الإجراءات الفعلية، بدأت واشنطن في الضغط على الاقتصاد الإيراني من خلال العقوبات الخارجية الأمريكية على إيران.
معضلة انعدام البديل، والعودة إلى “حالة ترمب”
جعلت المعطيات الجديدة العودة إلى الاتفاق النووي متعذرة، لكنّها لم تُلغِ الحاجة إلى الاتفاق الذي يمكنه كبح جماح إيران النووية، خصوصاً بعد تقارير عن بلوغ طهران العتبة النووية، ورغبة بعض القوى داخل إيران بتجاوز العتبة، ودخول المرحلة النووية. ولا يزال “هاجس إيران النووية” يعمل على تحريك مختلف الأطراف، ومن ضمنها الثلاثي الأوروبي، نحو البحث عن “اتفاق نووي” يضع حدّاً للطموحات النووية الإيرانية، ويحول دون ميلاد “إيران نووية”. وذلك ببساطة لأن لا أحد يمتلك، ولا أحد يدّعي أنه يمتلك، حتى الآن، وسيلةً بديلةً عن “الاتفاق النووي” لإيقاف سيناريو إيران النووية، سوى بعض التلميحات الإسرائيلية، والأمريكية الخجولة بالخيار العسكري الذي يُعدُّ السيناريو الأسوأ لدى جميع الأطراف، فضلاً عن أنه غير مضمون النتائج مطلقاً حينما يتعلّق الأمر بإيقاف البرنامج النووي الإيراني.
وفي نفس الوقت الذي تُقرُّ فيه جميع الأطراف بعدم وجود بديل عن “الاتفاق النووي”، فإن مختلف الأطراف أيضاً، يجمعون على أنّ الاتفاق في صيغته التي أبرمت عام 2015 غير متناسب مع المرحلة الجديدة، إذ:
إيرانياً؛ أدّت الخطوات التصعيدية إلى تغيير “نقطة الصفر” التي انطلق منها اتفاق 2015، بعد تخصيب كميات كبيرة من اليورانيوم بنسبة 60% وأكثر، وتركيب أجهزة طرد بأضعاف ما كانت عليه في 2015، وإنشاء شلالات مترابطة من أجهزة الطرد المتطورة، وسط أحاديث عن بلوغ مرحلة تخصيب 90%، وإنتاج معدن اليورانيوم. ومن الطبيعي أن هذا الواقع، يدفع صانع القرار الإيراني نحو التفكير في تجاوز الاتفاق النووي، وحصد امتيازات جديدة، مقابل أي تنازل محتمل عن تلك المكتسبات. وانعكست هذه الرغبة بشكل واضح في ورقة المطالبات التي رفعها فريق المفاوضات الجديد في أكتوبر 2021.
إقليميّاً؛ جاء “الاتفاق النووي” لعام 2015 على حساب مصالح الحلفاء الإقليميين لواشنطن، إذ غابوا وغابت هواجسهم ومصالحهم عن مائدة الحوار. وأظهرت التجربة أن اتفاقاً يقوم على تغييب هواجس الجهات الإقليمية، من شأنه أن يُطلق يد إيران في ملفات المنطقة، ويُعمِّق من هشاشة الواقع السياسي الإقليمي، ويُلحق ضرراً بالغاً بالأمن والاستقرار الإقليميين. وأظهرت التجربة أن تغييب الحلفاء الإقليميين لا يؤدي إلى انسلاخهم عن حزب سياسي أمريكي فقط، بل قد يؤدي إلى إعادتهم التفكير في التحالف مع الولايات المتحدة، والبحث عن البدائل.
أوروبيّاً؛ كانت “الهواجس غير النووية” في الأعوام الفائتة تختص بالجهات الإقليمية، لكنّ مشاركة إيران في الحرب الروسية على أوكرانيا، أشركت البلدان الأوروبية في هذه الهواجس، ولفتت الانتباه الأوروبي إلى مخاطر برامج المسيرات، والصواريخ البالستية الإيرانية.
أمريكيّاً؛ كانت الإدارة الأمريكية التي أنجزت الاتفاق النووي في 2015، تتمتع بأغلبية في الكونغرس الأمريكي، لكنّ الديمقراطيين اليوم يفتقرون إلى هذه الأغلبية؛ ما يضطرّهم إلى البحث عن اتفاق يراعي مشاعر الأغلبية الجمهورية المهيمنة، وإن لم ينسجم مع كل طلباتها.
ملامح “حملة الضغوط القصوى” الجديدة
يتّفق مختلف الأطراف (بما في ذلك إيران والولايات المتحدة وأوروبا) على أنّ المرحلة الجديدة، تتطلب اتفاقاً جديداً، مُختلفاً عن الاتفاق النووي في نسخته الراهنة. وبما أن كلا الجانبين؛ الإيراني والغربي باتا يرغبان بالتوصُّل إلى اتفاق بشروطٍ أفضل، كُلاً من وجهة نظره، فقد اتجهت الأطراف إلى ممارسة لعبة الضغط من أجل تحقيق التراجُع المطلوب في مواقف الطرف المقابل؛ ما أسفر عن تصعيد متعدد الوجوه: ميداني، وسياسي، واقتصادي شهدته الأشهر الأخيرة.
أ. فعلى مستوى الخطاب السياسي:
- صعّدت الأطراف الغربية من لهجتها حيال الاتفاق النووي. وأكّد الجانب الأمريكي بشكل متكرر على أن المفاوضات النووية لم تعد ضمن أجندة واشنطن، وإنها تركز على ملفات أخرى من ضمنها دعم الاحتجاجات في إيران.
- صدرت مواقف أوروبية مشابهة كتلك التي تحدثت عن بلوغ المفاوضات النووية طريقاً مسدوداً بفعل السلوك الإيراني، مؤكدة على ضرورة أن تتضمن المفاوضات حديثاً عن ملفات خلافية أخرى، من ضمنها ملف المسيرات، وملف حقوق الإنسان.
ب. وعلى المستوى الميداني والعسكري:
- أعادت إسرائيل والولايات المتحدة سياسة “وخز العمق الإيراني” من خلال هجمات مجهولة الفاعل، بعد غيابها لأكثر من 18 شهراً؛ حيثُ هاجمت طائرات مسيرة مجهولة المصدر بشكل منسق ومتزامن في 28 يناير 2023، منشآت عسكرية إيرانية مرتبطة بالبرنامج الإيراني للمسيرات والصواريخ الباليستية. وعلى الأرجح، فإن الإسرائيليين أبلغوا الولايات المتحدة بذلك الهجوم مُسبقاً. بل إنّ ثمة احتمالاً قويّاً أن تكون الولايات المتحدة قد شاركت في ذلك الهجوم؛ إذ شهدت الأسابيع التي سبقت الهجوم زيارة كبار المسؤولين الأمريكيين لإسرائيل، بدءاً من جيك سوليفان (مُستشار الأمن القومي)، إلى بيل بيرنز (رئيس وكالة الاستخبارات المركزية)، إلى توني بلينكن (وزير الخارجية).
- أعادت الولايات المتحدة سياسة المناورات العسكرية المشتركة مع الحلفاء الإقليميين، والتدريب على توجيه ضربات عسكرية لأهداف في إيران؛ إذ أجرت الولايات المتحدة في منتصف فبراير 2023، مناورة “باز البازلت” (Juniper Falcon) التي شارك فيها حوالي 6400 جندي أمريكي، و1100 جندي إسرائيلي. واستمرت هذه التدريبات العسكرية لمدة أربعة أيام، ونُفِّذَت في البر والبحر والجو. وشكّلت رسالة إلى إيران، مفادُها أن الحرب الروسية في أوكرانيا، لم تشتت انتباه الولايات المتحدة، وأن واشنطن تمتلك قدرة عسكرية قوية لضرب إيران إذا لم تُحل الأزمة النووية دبلوماسياً. ويُعدّ هذا التمرين العسكري جزءاً من حملة الضغوط الأوسع ضد طهران، والتي تجري على مُستويات مُتعدّدة، بدءاً من المستوى الاقتصادي، إلى الدبلوماسي إلى العسكري.
- ضاعفت الولايات المتحدة، والبلدان الغربية عموماً، من وتيرة اعتراض شحنات الأسلحة الإيرانية في المنطقة، والتي كان آخرها كان في 2 فبراير 2023، حينما اعترضت البحرية الفرنسية شحنة أسلحة إيرانية قيل إنها كانت مُتوجّهة إلى الحوثيين في اليمن. ولا شكّ أن هذه الزيادة المُفاجئة في عمليات مُصادرة الغرب لشحنات الأسلحة الإيرانية في المنطقة جزء من حملة منسقة تهدف إلى رفع الكُلَف على إيران في حال قرّرت تجاهل الدعوات الغربية لإجراء مُحادثات دبلوماسية جديدة، وأكثر شمولاً.
ج. على المستوى الاقتصادي، صعّد الغرب أيضاً من خلال التشدّد في تطبيق العقوبات بعد أكثر من عامين من التراخي في تطبيقها، بحيث:
- حاولت الإدارة الأمريكية ضبط السيولة العراقية لمنعها من التدفق إلى إيران. ومنذ نوفمبر 2022، ضغطت واشنطن على بغداد للحد من، أو إنهاء استخدام إيران للقطاع المصرفي العراقي، وحاولت إجبار البنوك العراقية على تحسين أدائها في تنظيم الحوالات المالية بين عملائها للحد من الفساد ومن أنشطة سوء الاستخدام الأخرى. وبموجب هذه السياسة الجديدة، يتعيّن على البنوك العراقية ارسال الحوالات المالية بالدولار إلى البنك المركزي في بغداد حيث يُوافَق عليها بعد أن يوافق البنك المركزي الأمريكي (المجلس الاحتياطي الفيدرالي) على كل مُعاملة. وقد قامرت الولايات المتحدة في اختيار هذا المسار لأن هذه السياسة أدّت إلى رد فعل سلبي كبير في العراق، حيث فقد الدينار العراقي حوالي 10% من قيمته، وأدّى إلى إزاحة رئيس البنك المركزي العراقي من منصبه. ومع ذلك، وفي حين أن الإيرانيين يتوقّعون أن تؤدّي هذه السياسة الأمريكية الجديدة إلى رفع الكُلف المالية على طهران، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن التجارة بين إيران والعراق ستتوقّف. وهذا يعني أن طرق الدفع البديلة، مثل صفقات المُقايضة في البضائع، ستُستخدَم على الأرجح في المُعاملات التجارية المُستقبلية بين طهران وبغداد. وعلى أي حال، فإن هذه السياسة المصرفية الجديدة تُمثّل اختبار رئيس لإمكانية تشديد نظام العقوبات على إيران. وفي حال نجحت هذه السياسة، فإنها يُمكن أن تُلحق أذى كبير بإيران، لكنها تظل أيضاً سياسة محفوفة بالمخاطر وقد تخلق مُشكلة للولايات المتحدة في العراق من خلال توليد موجة جديدة من المُعاداة لأمريكا في البلاد. ولعل مثل هذه المُقامرة تكشف بشكل واضح عن الاستهداف الأمريكي الجديد لإيران.
- لوّحت الأطراف الغربية بشكل متكرر باللجوء إلى “آلية الزناد” (Snap Back) في مجلس الأمن لإعادة فرض العقوبات الدولية التي ألغاها الاتفاق النووي. كما فرضت البلدان الغربية حزماً متتالية من العقوبات على إيران بداعي قمع الاحتجاجات التي شهدتها منذ سبتمبر 2022.
- مارست ضغوطاً على أطراف دولية مثل الصين (للتوقف عن شراء النفط الإيراني)، وكوريا الجنوبية (لعدم الإفراج عن الأموال الإيرانية المحتجزة). وقد وصلت صادرات النفط الإيرانية إلى أعلى مستوى خلال 4 سنوات في نوفمبر 2022، مع تصدير طهران حوالي 1.3 مليون برميل من النفط يومياً إلى الصين. وغضّت الولايات المتحدة خلال العامين الماضيين الطرف عن هذه التجارة عن طيب خاطر؛ حيث أرادت إدارة بايدن ضخ المزيد من النفط الإيراني في السوق العالمي، لكي تنخفض أسعار النفط بشكل عام. ومع انخفاض أسعار النفط الآن، تسعى الولايات المتحدة مرة أخرى إلى تقليص صادرات النفط الإيرانية، وتأمل أن يكون ذلك بمنزلة ورقة ضغط على طهران، لكي تستأنف المُحادثات مع الغرب.
إنها ببساطة عودة إلى “حالة ترمب” (Trump Situation)، حيثُ الحديث عن الاتفاق الشامل مع إيران، يترافق مع ممارسة “أقصى الضغوط” عليها؛ ما يُعيد المشهد إلى عام 2019، حين كانت واشنطن ترى ضرورة في وقف الطموح النووي الإيراني من خلال اتفاق يُغني عن مغامرة عسكرية، ويحولُ دون بلوغ إيران مرحلة صنع القنبلة النووية، لكنّ هذا الاتفاق لا يكون “كاملاً” من وجهة النظر الأمريكية، إلا إذا كان “شاملاً”. وإن الطريق إلى الاتفاق “الشامل”، لا يكون عبر التراخي في تطبيق العقوبات، بل عبر ممارسة خريطة مفصلة من خطوات الضغط، أو “حملة ضغوط قصوى”. وبالطبع، لا يهدف الغرب من تلك السياسة إلى بدء حرب مع إيران، بل الضغط على طهران لتغيير مسار سياساتها.
السيناريوهات المحتملة
السيناريو الأول: رضوخ إيران لمفاوضات شاملة. يفترض هذا السيناريو أن تنجح الضغوط القصوى التي تمارسها إدارة بايدن في تحقيق ما لم تستطع تحقيقه حملة الضغوط القصوى التي مارستها إدارة ترمب منذ مايو 2018 حتى نهاية ولايتها، لأن هذه الضغوط تتمتع هذه المرة بدعم من الكتلة الغربية، وتأتي في ضوء موقف صيني محايد، فضلاً عن مباركة الأطراف الإقليمية. وإذا كانت طهران علَّقت آمالها في سياسة الصمود الاستراتيجي (2018-2020) على انتهاء الضغوط القصوى مع نهاية ترمب وصعود الديمقراطيين، فإن انعدام مثل هذا الأمل يزيد من احتمال نجاح هذا السيناريو. لكن إلى الآن لا تُرجِّح الظروف الحالية تحقيق هذا السيناريو الذي يتناقض مع رؤية إيران الاستراتيجية في عزل الملفات ورفض الانخراط في حوار شامل ومناقشة الملفات الإقليمية، كما أن الموقف الإيراني الرسمي لا يظهر حتى اللحظة أي انعطاف يمكن أن يزيد من احتمال تحقيقه.
السيناريو الثاني: التفاوض وفق سقف يُلبي التطلعات الإيرانية. يأتي هذا السينايو في نقطة مقابلة من السيناريو الأول، ويفترض أن تنجح إيران في إرغام الجانب الغربي (والولايات المتحدة على وجه التحديد) على مناقشة الملف النووي فقط ضمن اتفاق يمنح إيران نقاطاً إضافية وضمانات مقابل تنازل طهران عن بعض خطواتها الصعيدية. هذا السيناريو يجد داعمين دوليين لحصوله من ضمنهم لوبيات في الولايات المتحدة (التي تحدثت مصادر عن تحركهم باتجاه تفعيل هذه الفكرة)، وجهاز السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي. لكنه مع ذلك يواجه من العقبات ما يكفي للحد من آمال تحققه، إذ إنه يُعرِّض تحالف الولايات المتحدة مع شركائها الإقليميين لأخطار كبيرة، كما أنه لا يتناغم مع الخطاب السياسي الحاكم على الغرب والذي يرفض فكرة أي مفاوضات مع إيران لا تتضمن ملفات جوهرية من ضمنها حقوق الإنسان والمسيرات الحربية.
السيناريو الثالث: الانخراط في مفاوضات متعددة المسارات. ويعتمد هذا السيناريو على تحقيق أهداف حوار شامل دون أن تنخرط إيران في ذلك الحوار الشامل الذي طالما رفضته من منطلقات استراتيجية. ويفترض هذا السيناريو أن تنخرط إيران في مفاوضات حول ملفها النووي مع الولايات المتحدة (وأطراف دولية أخرى) على أن تنخرط في مفاوضات متزامنة حول ملفات خلافية مع أطراف إقليمية. ويعتمد هذا السيناريو على قوة المبادرات التي تطرحها الأطراف الإقليمية، وبتجنُّب إيران التنازل عن فكرة رفض الحوار الشمل فإنها تمنع مخاطر الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة ضمن سيناريو الانهيار، كما تفتح مجالاً لضمان مناقشة الملفات التي تشمل الهاجس الأساسي للقوى الإقليمية.
السيناريو الرابع: فشل مساعي الحوار، ومواصلة التصعيد النووي. وهو أسوأ السيناريوهات إذ يفترض انهيار كل المحاولات في ضوء عدم انصياع الأطراف لمطالب الجانب الآخر، واستمرار إيران في التصعيد النووي، كما يفترض هذا السيناريو مواصلة إيران مسارها التصعيدي، وقيام أحد الأطراف أو أكثر من واحد منهم باستهداف مواقع داخل إيران ضمن ضربة عسكرية محدودة هدفها الإخلال بالبرنامج النووي ووقفه. وفي مثل هذه الحالة فإن المجال سيكون مفتوحاً أمام هجمات مرتدة تقوم بها إيران ضد أهداف تتمركز غالبيتها في محيطها الجغرافي. وهذا السيناريو الذي يهدد بزعزعة الاستقرار الإقليمي سيكون وارداً لكنه لن يكون السيناريو الأكثر احتمالاً، إذ يفترض ألا تريد غالبية الأطراف المؤثرة على الملف الإيراني تصعيداً مفتوحاً يؤدي إلى انفلات أمني شامل. ومن هذا المنطلق فإن من المرجح أن تعمل أطراف عدة على فتح قنوات وساطة لخفض احتمال هذا السيناريو.
استنتاجات
يُظهِرُ تتبُّع التطورات التي طرأت على الملف النووي الإيراني، ومواقف أطراف المفاوضات النووية، والأطراف المؤثرة فيها، أن موقف الإدارة الأمريكية الديمقراطية المتساهل مع إيران، والذي بدأته إدارة بايدن غداة الصعود إلى الحكم، ودعمه الثلاثي الأوروبي، انتهى الآن، لتحل مكانة العودة إلى “حالة ترمب”. وباتت الظروف المحيطة بالملف النووي الإيراني تشبه إلى حد كبير ظروف عامي 2019 و2020، حيث الدعوة الأمريكية إلى ضرورة بدء حوار شامل لإنجاز اتفاق بديل، يصحبها تصعيد متبادل، تمثَّل إيرانياً في خطوات التنصل من الالتزامات النووية، وتمثَّل أمريكيّاً وغربيّاً، في تطبيق مُغلَّظ للعقوبات، وتصعيد عسكري، وسلسة وخزات أمنيّة استهدفت مواقع في العمق الإيراني. وفي ضوء استمرار القناعة بضرورة التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران يبدو أن التحول في الموقف الأمريكي جاء بعد قناعة الإدارة بعدم تجاوب طهران مع الموقف الديمقراطي المتساهل، وضرورة الضغط المضاعف عليها من أجل توصل سريع إلى اتفاق، وبعد تغيير جذري في خطابات القوى المؤثرة على الملف الإيراني غداة الحرب الأوكرانية، والاحتجاجات الإيرانية، والضغوط الإقليمية.
لكن الفارق هذه المرة يكمن في أن حملة الضغوط الجديدة تأتي من موقف أقوى؛ إذ تتمتع بدعم أوروبي واضح، خلافاً لما كان عليه الحال في “حملة ترمب”، حين قاد الأوروبيون تمرداً ضدّ سياسات ترمب، ودعموا الموقف الإيراني بشكل صريح في وجه الإدارة الجمهورية.
وأغلب الظن أن تضافر الموقفين الأمريكي والأوروبي في حال استمراره، سيضع إيران أمام مشكلات جمّة، لا على الصعيد الاقتصادي فحسب، وإنما على الصعيد السياسي كذلك، خصوصاً إذا أخذنا بالحسبان المضاعفات الناجمة عن مشاركة إيران في الحرب الأوكرانية، وحياد الصين، وتماشي معظم القوى الإقليمية مع حملة “الضغوط القصوى” في حلتها الجديدة. إلّا أنّ ذلك لا يعني بالضرورة ضمان نجاح هذه الضغوط في جرّ إيران إلى “طاولة حوار شامل”. إذ تطالب إيران بدورها بإعادة التفاوض حول برنامجها النووي، لكنْ بما يتلاءم مع منجزاتها النووية الجديدة، وترفض استراتيجياً فكرة الانخراط في “حوار شامل”. ويعني ذلك أن استراتيجية الضغوط القصوى لا تزال تواجه عقبات جمة، تفتح المجال أمام عدة احتمالات من ضمنها انهيار كل شيء، والاتجاه نحو التصعيد الشامل. كما تفتح المجال أمام التفكير في مناهج بديلة، تحول دون الانهيار؛ مناهج تضع ضمن الأجندة توافقات مُكمِّلة للاتفاق النووي.
.
رابط المصدر: