بعد مرور ثماني سنوات على اتفاق السلام والمصالحة المنبثق عن عملية الجزائر عام 2015، تجددت الأعمال العدائية بين الجيش المالي وتنسيقية حركات أزواد المعارضة (CMA) التي تتألف من ثلاث مجموعات رئيسية: الحركة الوطنية لتحرير أزواد (MNLA)، والحركة العربية لأزواد (MAA)، والمجلس الأعلى لوحدة أزواد (HCUA). وتتكون هذه الحركات من جماعات الطوارق والعرب، بالتزامن مع الانسحاب التدريجي للبعثة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار (مينوسما) من شمال مالي، في إطار الجدول الزمني المحدد (ستة أشهر) وسياق التعقيد المحيط بعملية الانسحاب.
من هذا السياق، يشهد شمال مالي حربًا من الرمال المتحركة، في ظل تدهور الوضع الأمني والإنساني، ومُعاناة السكان المحليين من ويلات الصراع، وتصاعد الهجمات الإرهابية من قبل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة، وسيتم توضيح دوافع وتداعيات تجدد الصراع بإقليم أزواد.
دوافع محددة
احتدمت المعارك الميدانية بين أطراف الصراع الرئيسية: الجيش المالي وحركات أزواد، مع دخول قوات فاجنر على خط الأزمة منذ بداية الاشتباكات في أغسطس 2023 ببلدة بير قرب مدينة تمبكتو، حيث تصاعدت وتيرة هجمات الجماعات المتمردة على قاعدتين للجيش المالي في بلدة ليري بوسط البلاد القريبة من الحدود مع موريتانيا. كما تعرضت مدينة تمبكتو وتحديدًا مركز التعليم الإسلامي الذي يضم عشرات الآلاف من المخطوطات القديمة لحصار من قبل الجماعات الإرهابية، ومحاصرة بلدة بوريم الواقعة بين مدينتي جاو وتمبكتو.
تأتي هذه الاشتباكات بعد تضارب الرؤى بشأن أحقية أطراف الصراع في الحصول على أصول ومعدات وقواعد البعثة الأممية (مينوسما) المنسحبة، وتنديد حركات أزواد بانسحاب البعثة دون التنسيق معها والاكتفاء فقط بالتنسيق مع الجانب الحكومي، حيث سلمت قوات البعثة معسكراتها إلى السلطات المالية، لكن تعتقد الجماعات الانفصالية أنه ينبغي إعادتها إلى سيطرتهم. وتشعر حركات أزواد بالقلق من أن انسحاب البعثة قد يمنح المجلس العسكري الانتقالي ذريعة لإعادة السيطرة على المناطق التي تنازلت عنها الحكومة المالية في اتفاقيات 2014 و2015، وكثف الجانبان جهودهما للسيطرة على الأراضي في المناطق التي أخلتها البعثة خلال الفترة الأخيرة، مع تقدم للجماعات المتمردة لحصار المدن بتأثير كرة الثلج من خلال تجنيد عناصر أخرى في المناطق الحضرية.
على هذا الأساس، أطلقت حركات أزواد اسمًا جديدًا يُعرف بالجيش الوطني الأزوادي، بدلًا من الإطار الاستراتيجي الدائم للسلام والتنمية (CSP-PSD)، باعتباره جيشًا متماسكًا، في ضوء استمرار جماعات الطوارق في مطالبهم بالانفصال والحكم الذاتي لإقليم أزواد جراء تهميش وإهمال الحكومات المتعاقبة لهذا الإقليم، وقد تتلقى هذه الحركات إمدادات من حركات مماثلة في النيجر المجاورة، وهو ما يعني توسع أعداد المعارضين للحكومة المالية داخل البلاد وخارجها. في حين أعلن الجيش المالي تعبئة جنود الاحتياط لمواجهة هجمات الجماعات المتمردة.
تداعيات خطرة
تُواجه الحكومة المالية حربًا متعددة الجبهات، وليس فقط مع الجماعات المتمردة، وتعتبر مشاركة قوات فاجنر غير كافية ولا يمكنها ملء الفراغ الأمني الذي خلّفه انسحاب بعثة (مينوسما)، في ظل ضعف قدرات الجيش على احتواء أنشطة الجماعات المتمردة والإرهابية، ويضفي تجدد الصراع تعقيد الوضع السياسي والاقتصادي والأمني، وتعثّر التقدم المحدود للمرحلة الانتقالية، ويمكن توضيح أهم تداعيات الصراع على النحو التالي:
• تصاعد أنشطة الإرهاب: تصاعدت حصيلة الهجمات الإرهابية العنيفة خلال الفترة الأخيرة منذ بدء المرحلة الأولى من عملية انسحاب البعثة الأممية (مينوسما) في 25 أغسطس 2023، مع استهداف المدنيين بشكل كبير، والقواعد الرئيسية للجيش المالي. ووفقًا لمشروع بيانات الأحداث وموقع النزاع المسلح (ACLED)، تشهد مالي في المتوسط أربع هجمات عنيفة يوميًا منذ بداية عام 2023، وهو ما يُمثل زيادة بنسبة 15% مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2022. هذا بجانب سيطرة الجماعات الإرهابية على مساحات أكبر من الأراضي في مناطق موبتي، سيجو، ميناكا، وأجزاء من جاو خلال أقل من عام، ومحاصرتهم للمدن بعد الهجوم الإرهابي في 7 سبتمبر 2023 على قارب نهري قرب مدينة تمبكتو على نهر النيجر، وموقع عسكري في منطقة بامبا في اتجاه مجرى النهر في مدينة جاو، وإغلاق خطوط الطيران الجوية، ليصبح شمال البلاد منفصلًا عن جنوبه.
• تفاقم الأزمة الإنسانية: يُواجه العديد من السكان المحليين أزمة إنسانية متزايدة نتيجة أعمال العنف، ويحتاج أكثر من ثلث مواطني مالي إلى مساعدات إنسانية بسبب القتال، وقد سجل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية (أوتشا) نزوح أكثر من 33 ألف شخص من منطقتي تمبكتو وتاوديني في شمال مالي إلى موريتانيا والجزائر، في ظل امتداد الحصار من مدينة تمبكتو لمزيد من المناطق المحلية، مع صعوبة وصول المدنيين للخدمات والمنتجات الأساسية، ولا تزال الجهات الفاعلة الإنسانية تتعرض لأعمال السرقة والاختطاف، مما يزيد من تعقيد عملية إيصال المساعدات الإنسانية، وتفاقم مخاطر الحماية وتقليص وصول الخدمات الاجتماعية الأساسية بالنسبة للفئات السكانية الأكثر ضعفًا في منطقة جاو.
• تعطيل إجراء العملية الانتخابية: رغم إجراء الاستفتاء على الدستور في 18 يونيو 2023، وما تضمنه من خطوات تقدمية في ملف الإصلاح الانتخابي، وتأكيدات الحكومة الانتقالية بشأن الاستعداد للانتخابات المقبلة التي من المقرر أن تكون في فبراير 2024، لكن أعلن المتحدث باسم الحكومة “عبد الله مايجا” في نهاية سبتمبر تأجيل الانتخابات لأسباب فنية مرتبطة باعتماد الدستور الجديد ومراجعة القوائم الانتخابية، والخلافات مع الشركة الفرنسية (Idemia) التي تُشارك في عملية التعداد السكاني السابق على الانتخابات، فضلًا عن تدهور الوضع الأمني. بذلك، تكون هذه المرة الثانية لتأجيل الانتخابات، مما يُنذر بمزيد من العقوبات الاقتصادية من قبل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس).
• انخراط أطراف إقليمية: تزداد مخاوف كلٍ من الجزائر وموريتانيا من تداعيات الاشتباكات المسلحة في شمال وشمال غرب مالي، مع تصاعد القتال على الحدود الموريتانية، مما جعل موريتانيا في حالة تأهب لتأمين الحدود، تخوفًا من انتقال المعارك إلى حدودها، وإرباك معادلة الجزائر القائمة على استقرار منطقة الساحل الأفريقي، في ظل تعدد جبهات عدم الاستقرار في الإقليم، وتحديدًا تزامن الاشتباكات في شمال مالي مع تداعيات الانقلاب العسكري في النيجر، وحالة التصعيد بشأن التدخل العسكري. وقد حاولت الجزائر الدخول في أزمة النيجر بجهود دبلوماسية لاحتوائها بطرح خارطة طريق لحل الأزمة بشكل سلمي، أما الوضع في شمال مالي، فيُهدد مصير اتفاق السلام والمصالحة الذي رعته الجزائر، وذلك بما يزيد من مخاطر تهديد أمن جنوب الجزائر باحتمالية تسلل الجماعات الإرهابية.
حاصل ما تقدم، يمكن القول إن الصراع المتصاعد في شمال مالي يرسم صورة لمشهد غير مستقر محفوف بالتوترات، مع احتمال نشوب حرب أهلية شاملة بمجرد الخروج النهائي لبعثة مينوسما، واتساع دائرة المعارك بمشاركة جهات مسلحة أخرى في الأعمال العدائية، واستغلال الجماعات الإرهابية هذه التوترات لتوسيع نفوذها، وتمدد الارتدادات الخطرة والسيولة الأمنية إلى منطقة غرب أفريقيا ككل.
.
رابط المصدر: