الشيخ الحسين أحمد كريمو
مقدمة فكرية
الناظر إلى الساحة العالمية عامة والعربية خاصة، والعراقية على وجه الخصوص ينتابه صُّداع من تشابك الخطوط وتخالف الاتجاهات حتى تشعر وكأنك في متاهة مظلمة لا نور فيها ولا خلاص من ظلمتها، وكأننا أمة كُتب عليها الشقاء بتسلط هؤلاء الأدعياء علينا، فصارت قوى الاستكبار العالمي أوصياء على بلادنا وكأننا يحكمنا سفهاء وقاصرون يحتاجون إلى رعاية، لأنهم ينقصهم الفهم والدراية في شؤونهم الخاصة عدا عن شؤون البلد الذي يحكمونه، ولكن للعدو وليس لأهل البلد الذي هم فيه، فقراراتهم، تأتي معلَّبة وجاهزة وهم يُنفِّذونها بكل أمانة ودقة حتى ولو كان فيها حرق البلد بأهله، أو المنطقة بشعوبها كما فعل الطاغية المقبور من قبل.
والعراق الجريح هو بلد التشابكات العجيبة الغريبة، فقد انتقلت الخطوط والتشابكات من لبنان الصغير، إلى العراق الكبير ليكون ملعباً للكبار، ومرتعاً لكل أنواع الجواسيس، وموطناً لكل أصناف البوم والغربان التي تنعق على الأطلال، فتحوَّل العراق من بيضة القبان للتوازن في الشرق الأوسط إلى بيضة النعام التي يختلفون عليها، فكل يُريد سهمه من العراق إلا العراقي فلا سهم له في خيرات وبركات بلده الطافحة من كل شكل وصنف ولون أولها الرافدين (دجلة والفرات)، وآخرها الأسودين (النفط والغاز)، وما بينهما من خيرات تذهب للشركات والعراقي خالي اليدين يستجدي راتبه الشهري ليسد جوعه ويستر عياله، وحتى هذا استكثروها عليه فسرقوها منه أيضاً.
فرحتُ أبحث فيما قرأتُ في كتب أهل العلم والفهم والدراية في الشأن العراقي خاصة بمحاولة لفهم ما يدور ويجري في الساحة العراقية، وكيف وصل بهم الأمر إلى هذا الوضع المذري؟ وما هو المخرج الحقيقي للعراق من هذا الأتون الذي وضعوه فيه؟ وكيف يمكن إنقاذ العراق من السقوط في هاوية التطبيع من العدو الذي يستجره إليها المطبِّعون والمطبِّلون؟
فرأيتُ في الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (قدس الله روحه الطاهرة)، بُغيتي، وضالتي فرحتُ أقلِّب بعض ما كتب عن العراق في أيام محنته وكأنه كان يُنظِّر لهذه المرحلة الحرجة من عمره ليُعطيهم الفكر الصحيح، والرؤية السليمة في طروحاته وأبحاثه التي كان يجود بها إما على شكل محاضرات أو كتباً بمختلف الأحجام، وأذكر أنني قدَّمت لكتاب له منذ سنوات حيث كتبتُ:
إن الظروف العصيبة التي تمر بالعالم..
والمشكلات الكبيرة التي تعيشها الأمة الإسلامية..
والمعاناة السياسية والاجتماعية التي نقاسيها بمضض..
وفوق ذلك كله الأزمات الروحية والأخلاقية التي يئن من وطأتها العالم أجمع.. والحاجة الماسَّة إلى نشر وبيان مفاهيم الإسلام ومبادئه الإنسانية العميقة التي تلازم الإنسان في كل شؤونه وجزئيات حياته وتتدخل مباشرة في حل جميع أزماته ومشكلاته في الحرية والأمن والسلام وفي كل جوانب الحياة..
والتعطش الشديد إلى إعادة الروح الإسلامية الأصيلة إلى الحياة، وبلورة الثقافة الدينية الحيّة، وبث الوعي الفكري، والسياسي في أبناء الإسلام؛ كي يتمكنوا من رسم خريطة المستقبل المشرق، بأهداب الجفون، وذرف العيون، ومسلَّات الأنامل”..
وذلك في كتاب صغير الحجم إلا أنه عظيم الأثر وغني المادة الفكرية في السياسة لو أخذ به الأخوة والساسة في العراق الجريح، وهو كتابه: (دعاة التغيير ومستقبل العراق)، يبحث فيه سماحته بأسلوب مبسط وسهل وممتع جداً أوليات السياسة الإسلامية، ويضع لها حدوداً ومعالم لمعرفتها، وبيان الخطوط الفاصلة بين السياسة الإسلامية وغيرها من السياسات المنافقة.
الفهم السياسي
ينطلق سماحة الإمام الراحل من القرآن الحكيم، ثم يقول: “إن من أهم تلك المفردات السياسية التي يجب على دعاة التغيير أن يتحلّوا بها هو: الفهم السياسي؛ إذ بدون الفهم المذكور لا يتمكن الإنسان من الشروع في العمل، وإن بدأ فإنه لا يتمكن من الاستقامة والاستمرار، ومهما كان يملك من الجلد والمقاومة، فإنه سيعجز عن مواصلة السير إلى الهدف المنشود.
ومن الواضح، أن بعض المثقفين من المتدينين، أو غيرهم، لا يعرفون السياسة ولا يفهمونها إلا فهماً سطحياً، فهماً مجرداً عن التجربة والتطبيق، فهم ـ غالباً ـ منشغلين بدراسة العلوم النظرية وغيرها؛ ولذا نرى المسلمين يُصبُّ عليهم البلاء صباً، وهم عاجزون عن معرفة السبب الحقيقي، والمصدر الكامن وراء ذلك، وبالتالي يعجزون عن رفعه وعلاجه، ومن ثم الخروج من المأزق بسلام.
فمن اللازم دراسة السياسة دراسة مستوعبة، وممارستها في الواقع العملي، وحيث لا يمكن تجريد السياسة عن علمي الاجتماع، والاقتصاد، فيتوجب على دُعاة التغيير من العاملين في الحقل السياسي دراستهما أيضاً.. ثم إنَّ الفهم السياسي بمفرده، مجرداً عن التجربة الميدانية، يُعتبر نقصاً في شخصية العامل، فلابد من النزول إلى الساحة السياسية بكل ميادينها، والاطلاع على مستواها ونمطها، ومدى استعدادها لتقبل التغيير”. (دعاة التغيير ومستقبل العراق؛ السيد محمد الشيرازي: ص9)
نعم؛ إن من أوليات العمل السياسي أن يطَّلع الإنسان على الكثير من العلوم في عالمنا المعاصر لا سيما الاجتماع، والاقتصاد، والإدارة، والإعلام، والتجارة، والقانون الدولي، وكل العلوم الإنسانية ليفهم المنطق السياسي، وينطلق بدبلوماسية صارت علماً من العلوم وواقعاً لا يمكن التخلي عنه في جميع دول العالم، وهذا ما ينقص أهل السياسة في العراق والدول العربية والإسلامية في هذا العصر بشكل عام إلا ما رحم ربي وتأثر بالنظام الغربي في ذلك حين درس عندهم وفي جامعاتهم.
والعجيب الغريب أنني أذكر أن أحد الأخوة المقربين من سماحة الإمام الشيرازي (رحمه الله) ذكر لي أن سماحته حين أراد أن يكتب كتابه (فقه السياسة) قرأ أكثر أربعين كتاباً في السياسة حتى كتبه، وربما كل سياسيينا لم يقرؤوا هذا العدد من الكتب السياسية ليستحقوا قيادة البلدان سياسياً، فهم أطفال في السياسة – بحسب تعبير أبو الحسن بني صدر أول رئيس للجمهورية الإيراني بعد الثورة الإسلامية – وهو توصيف دقيق جداً وينطبق على الساسة في بلادنا ولذا تراهم يفهمون بكل شيء إلا في السياسة.
فجنابه وعلى علمه وفقهه ومرجعيته المشهودة عندما أراد أن يكتب في الشأن السياسي راح يقرأ عن السياسة بكل أطيافها وأنواعها وأشكالها وأعرافها، حتى لا يكون في كتابته ثغرة أو مطعناً ولذا نهيب بأهل السياسة أن يقرؤوا ما كتبه سماحته عن السياسة، وبالجامعات أن يدرِّسوا تلك الكتب في جامعاتهم ولتكون من الكتب الأساسية والمقررات الجامعية إلى جانب ما يدرسونه من كتب من شرق الأرض وغربها وربما طلابنا يدرسون كل النظريات السياسية حتى البائدة منها كالاشتراكية، وغيرها ولا يدرسون السياسة الإسلامية، أو النظرية السياسية في الإسلام.
من أوليات الفهم السياسي
وسماحة الإمام الراحل يضع منهجاً مبسطاً ويُعطي خطوطاً عريضة للسياسة الإسلامية حيث يقول: “إن من أوليات الفهم السياسي؛ أن نعرف أن هناك ثلاثة أشياء ليست من الإسلام في شيء، وإن جاء المستغلّون لها بألف حجة ودليل، وهي:
1ـ إن كل شيء يهدّد وحدة المسلمين، ويفرقهم على أساس من القومية، أو الطائفية، أو العنصرية، فهو ليس من الإسلام في شيء، والمفروض أن تذوب كل هذه التقسيمات من خلال وحدة الإسلام العظيم، الذي يرى كل المسلمين سواسية، وأنهم أخوة تتكافؤ دماؤهم، فقد قال سبحانه وتعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون: 52)
2ـ إن كل مَنْ يصل إلى الحكم بلا استفتاء حرّ من الشعب، وبلا شورى منهم، ولا انتخاب واختيار، فهذه الصورة ليست من الإسلام في شيء، سواء كان وصوله إلى الحكم بسبب العشيرة، أو القبيلة، أو بسبب الملكية الوراثية، أو بسبب الانقلاب العسكري، أو بغير ذلك.
3 ـ إن كل بلد يُجَهر فيه بالمعاصي والمحرمات، وهو على مرأى ومسمع من الحكومة أو بتشجيع منها، فذلك دليل على انحراف تلك الحكومات عن الإسلام وابتعادها عنه، ولربما محاربتها له، فعلى التيار الإسلامي الذي ينشد التغيير ألا تغيب عنه هذه الأساليب والألوان، التي تقوم بها تلك الحكومات”. (دعاة التغيير ومستقبل العراق؛ السيد محمد الشيرازي: ص13)
الواقع في العراق
هذا الكلام من السيد الإمام الراحل كان قبل عقود، فماذا سيكون قوله وموقفه لو كان بيننا في هذا العصر ورأى وسمع ما يجري في العراق الذي أفنى حياته في سبيل تحريره من الطاغية، وتثقيفه وإعادته إلى الحياة السياسية بقوة لقيادة المنطقة بجدارة وصدارة؟
فالعراق اليوم صار لعبة بأيدي الصغار من أذناب الأمريكان والغرب عامة، وحتى دولة الكيان الصهيوني تلعب في أفنائه وبراحتها دون منازع أو رادع لها فهي الآن تخطط لتقسيم العراق بعد أن دمرته وأول خطواتها يتمثل الآن بالحرب الاقتصادية للضغط عليه ليخضع للعدو وينبطح له ويُقدِّم كل ما فيه إلى أعدائه بيدين مرتجفتين خائفتين، وبرأس منحنٍ إلى السفل ذلاً وصغاراً، فلماذا يفعل هؤلاء هذا الأمر المخزي ويُلحقون العار بالعراق الأبي الجريح الذي يُحاول أن يُلملم جراحاته وينهض من جديد ليكون في مكانه الطبيعي بين دول وقوى المنطقة كلها؟
قصة من الواقع المؤلم
ويروي سماحة الإمام الراحل هذه القصة المؤثرة والمعبِّرة فيقول: “نقل لي أحد الأفاضل؛ أن وزيراً قاجارياً (في عهد الدولة القاجارية في إيران)، كان قد صادقه أيام زيارته للعراق، فنقل له هذه القصة، (قال): كان في الجبال بين طهران وخراسان راهب مسيحي متبتّل متعبّد معروف في أوساط الناس بالزهد والانقطاع إلى الله تعالى، وكان في صومعة في الجبل، منذ أكثر من خمسين سنة، ولكني فوجئتُ ذات مرة بكتاب من الراهب يدعوني فيه لزيارته في يوم كذا؛ وحيثُ كنت أعرف زهده وتقواه، وكنتُ أُجلّه وأحترمه لبّيتُ دعوته، وحضرتُ عنده وإذا بي أجد عنده مجموعة من الناس تضم عدداً كبيراً من شخصيات البلد، وكلهم كانوا قد دُعوا أيضاً، وبعد أن استقرّ بنا المجلس.
قال الراهب: “اعلموا أني لم أكن راهباً في يوم من الأيام وإنما أنا من البريطانيين تلبّستُ بهذا الزيّ لخدمة وطني، وكنتُ أقوم في هذه المدة الطويلة بدور التجسس في إيران وأفغانستان؛ لغرض الحصول على المعلومات عن طريق العملاء!! والآن وأنا أحسُّ باقتراب موتي أتوبُ إلى الله مما عملته، وإني أظهر لكم إسلامي، وأرجو إذا متّ أن تجهزوني كما تجهزون المسلمين، ثم بدأ يبكي ليثير فينا أكبر قدر ممكن من الشفقة عليه والعاطفة، فهذه طريقتهم دائماً”.
ثم يُعلِّق سماحته قائلاً: “ولعل خطوته الأخيرة هذه أي؛ إخبارهم بأمره، وإعلان إسلامه، وبكائه، أيضاً كانت ضمن برنامجه الموجّه؛ لكي يُبيِّن لنا قوة دولته. (وسذاجتهم إذا قبلوا به بينهم).
نعم، هكذا يتغلغل الاستعمار في بلادنا، يدسّ عملاءه في كل مجتمع من المجتمعات الإسلامية التي تغطّ في سُبات وجهل عمَّا يدور حولها، مما يُسهل الأمر للاستعمار بالتدخل في شؤوننا، لذا لا بدَّ أن لا ينخدع الإنسان بالمظاهر، فليس المعيار ظاهر الإنسان، وإنما المعيار القلب السليم والعمل النابع من الإخلاص والإيمان، وهذه الأمور من الأمور الخفية التي لا تنكشف للإنسان إلا إذا كان دعاة التغيير أصحاب فهم سياسي وبصيرة نافذة ترى الأشياء على واقعها، وكما في الحديث الشريف: (المؤمن ينظر بنور الإيمان). (دعاة التغيير ومستقبل العراق؛ السيد محمد الشيرازي: ص 11)
التطبيع والتركيع في التجويع
في هذا العصر نحن بحاجة إلى الوعي السياسي، والبصيرة التاريخية لنستفيد في واقعنا ونحصِّن أنفسنا ومجتمعنا والعراق من مكائد الأعداء، ومنذ أيام قرأتُ حواراً قصيراً لامرأة باحثة نصرانية معروفة من أهل العراق ورأيتُها تملك بصيرة ووعي أكثر من كل المشتغلين في الشأن السياسي، حيث تقول الباحثة إيزابيل بنيامين ماما آشوري: “يوم أمس دار حديث بيني وبين خالي القسيس ماهر الذي كان يعمل في أحد كنائس البصرة سابقا، وسحبنا الحديث إلى ركض العرب وراء التطبيع وقلت له: أعتقد أن العراق آخر بلد من العرب سيقبل بالتطبيع.
فقال خالي: لربما لا تعرفين أن العراق دخل اتفاقية التطبيع ضمن بوابتين هما الأردن ومصر.
فقلت: له كيف ذلك؟ قال: بعد زيارة ثلاث وفود عراقية إلى إسرائيل سراً آخرها قبل أسبوعين وقبل يومين اجتمعنا نحن كبار قساوسة الآشوريين بوفد قادم من سوريا ولبنان وكان بينهم شخصية فاتيكانية كبيرة، وفي نهاية الحديث طلب منا أن نساند العراق لكي يخف الضغط عليه.
فقلت له: وبماذا نسانده؟ فقال: إن العراق تعرَّض لعملية تجويع مقصودة وتمَّ سحب كل مشارع الإعمار من يد الصين، وروسيا، وإيران، وغيرها ليتمَّ منحها إلى مصر والأردن، وهذا يعني أن العراق يعطي مصر والأردن النفط مليون ونصف المليون برميل يومياً يبيعه لمصر والأردن بسعر 42 دولار للبرميل بينما السعر الحالي للبرميل 60 دولار، فتبيع مصر النفط لإسرائيل بـ 42 دولار، وتبيع إسرائيل البرميل بسعر السوق العالمية بـ 60 دولاراً، فتربح إسرائيل في البرميل 18 دولار على المريح، وطبعاً لا يتم إعمار العراق، وطبعاً لم نذكر نفط كردستان 500 ألف برميل نفط شبه مجاني لإسرائيل.
ثم قال: هذا تطبيع من تحت الطاولة، ومن أجل التستر وإبعاد الشبهة عمدوا إلى افتعال أزمة الرواتب وأزمات أخرى سوف تظهر، لكي ينشغل الشعب العراقي عما يجري في الخفاء، ويضاف إلى ذلك قبل أيام تم رفع العراق من قائمة المنع التجاري فقد ذكرت صحيفة معاريف العبرية بأن الحكومة الإسرائيلية صادقت بشكل رسمي على قرار يتيح إزالة العراق من قائمة الدول التي يحظر القانون التعامل معها تجاريًا. وموشي كحلون وزير المالية وقَّع على القرار يوم الاثنين الماضي؛ ثم فتح خالي تلفونه وأراني اتفاقية رفع المنع الإسرائيلية”.
فلماذا كل هذا النفاق والدجل والضغط على هذا الشعب الأعزل الذي وثق بكم وأعطاكم كل الثقة في البرلمان والأحزاب والحكومة لترفعوا عنه إصره والأغلال التي عليه كما فعل رسول الله (ص) بمشركي العرب، ولكم فيه قدوة حسنة، وأسوة راقية ورائعة إذا كنتم تريدون بناء وطن حر كريم، ودولة قوية يُحسب لها العدو والصديق ألف حساب، فتلك هي ثقافة الإسلام وفكره السياسي كما طرحه في هذا الكتاب سماحة الإمام الشيرازي رحمة الله عليه.
رابط المصدر: