نحن نحتفل بذكرى بيعة أفراد الأمة في منطقة غدير خُم، لعلي بن أبي طالب أميراً للمؤمنين، وخليفة من بعد رسول الله، وفي ذلك الظرف الزمكاني المعروف تاريخياً، والأمر الإلهي المباشر لتنفيذ هذا التبليغ الحاسم، ونعده عيداً عظيماً نؤكد فيه ولائنا وإيماننا بإمامة أمير المؤمنين، ونتبادل التهاني…
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
سورة النساء- الآية،26
ما كان يخسره ابوبكر وعمر بن الخطاب لو التزما بيعتهم يوم الغدير لأمير المؤمنين، و رضيا به خليفة من بعد رسول الله، صلى الله عليه وآله، وهما يعلمان علم اليقين أنه أفضل منهما في كل شيء؟! ربما كانت الأمة تجتمع على تنصيبهما للخلافة بعد حين لاسباب وظروف معينة، كما حصل الأمر مع معاوية في فترة حكم أمير المؤمنين، ولكانوا وفروا على أنفسهم عناء تلكم الأخطاء الكارثية التي اعترفوا بها فيما بعد للتاريخ وللأجيال، كما وفروا على الأمة كل هذا الضياع لسنّة النبي الأكرم، وللرؤية الصحيحة والموحدة للإسلام، وما تبعه من تناحر وصراع بين افراد الأمة كلفها دماء وأعراض وخسائر لا تُعد.
سألوا معاوية ذات مرة: لماذا تُصرّ على تمردك وعدم امتثالك لأوامر أمير المؤمنين بالتنحّي عن إمارة الشام؟ قال: “حتى أرى اسمي (توقيعي) على الكتب والرسائل بأني خليفة المسلمين”.
إنها نزعة التسلّط في النفس البشرية، فالتطلع الى القيادة، من أكثر ما شغل بال الانسان على مر التاريخ، وقد انقسمت البشرية للوصول الى هذه الغاية الى طريقين طويلين ممتدان مع الزمن؛ الأول: طريق الأنبياء والمرسلين من السماء ممن يحملون راية الدين، ويدعون الناس الى توحيد الله والإيمان بوجود حياة أخرى فيها الحساب والكتاب، والثواب والعقاب، وأن الحياة الدنيا ليست كل شيء، أما الطريق الثاني: فقد شقّه الفلاسفة ممن حلموا راية العقل والفكر البشري، و راحوا يدعون الناس الى الاكتفاء بما ينتجونه هم من أفكار وتصورات واستنتاجات رجاء العيش في هذه الحياة بأفضل ما يكون قبل الموت والفناء، ومن لم يستمتع في حياته فهو من الخاسرين!
أقصر الطرق الى السعادة
نحن نحتفل بذكرى بيعة أفراد الأمة في منطقة غدير خُم، لعلي بن أبي طالب أميراً للمؤمنين، وخليفة من بعد رسول الله، وفي ذلك الظرف الزمكاني المعروف تاريخياً، والأمر الإلهي المباشر لتنفيذ هذا “التبليغ” الحاسم، ونعده عيداً عظيماً نؤكد فيه ولائنا وإيماننا بإمامة أمير المؤمنين، ونتبادل التهاني؛ “جعلنا الله وإياكم من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين”، ولكن! أمير المؤمنين غير موجود بيننا اليوم، أليس كذلك؟، بل وحتى كثير من تعاليمه ومناهجه في الحياة، غائبة عن حياتنا، وهي حقيقة يؤكدها الجميع بغير قليل من الأسى والأسف، بيد أن استمرارية هذه الولاية حافظت على فاعليتها ودورها المحوري في الأمة بوجود الأئمة المعصومين الأحد عشر من بعد أمير المؤمنين، ثم الامتداد الولائي المستمر بوجود الفقهاء والعلماء ممن تتوفر فيهم الشروط الواردة في النصّ عن الامام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، بأن يتولوا قيادة المجتمع نيابة عنه، معتمدين على رصيد ضخم من الروايات والسنن، الى جانب التخويل بالنظر في أعماق ما تحمله الآيات القرآنية من أحكام وقوانين و دروس وعبر، كلها تمكن الفقهاء من صياغة أنظمة متكاملة لحياة الناس، وتجيب على كل سؤال حائر، وتساعد على حل أي مشكلة في حياة الانسان؛ الفرد والجماعة، فيكون دور هؤلاء الفقهاء “مرجعياً” يرجع فيه الناس الى ما يحتاجونه لشؤون حياتهم، وهذه الخصيصة ما يتميّز بها الشيعة عن سائر المذاهب الاسلامية الاخرى، بوجود شيء اسمه “الاجتهاد” في أحكام الدين، فتكون من مسؤولية مرجع الدين؛ الاجتهاد لاستنباط الاحكام الشرعية بما يستجيب ويواكب التطورات المستمرة في وسائل حياة الانسان.
ومن خلال هذه المناسبة السعيدة، واستذكارنا لبيعة الغدير، يمكننا تفهّم فلسفة الرسالات الإلهية، وظهور الانبياء للبشر، مع وجود كلمات الوحي في كتاب مقدسة سمعها الناس في حينها، وكذلك الحال بالنسبة للقرآن الكريم، كلها تقدم خطوط عريضة عن قيم ومبادئ انسانية محببة للنفوس ومتطابقة مع العقل، مثل العدل، والحرية، والتملّك، وحتى مسائل عقدية، مثل؛ التوحيد، والإمامة، والمعاد، بيد أننا بحاجة الى تطبيقات عملية صحيحة لهذه القيم الأساس يعجز العقل البشري عن توفيرها للانسان، فمن هو العادل؟ ومن هو الظالم؟ وكيف يكون التوحيد لله –تعالى-؟ “لأن لدى العقل مجموعة يُسميها الأصوليون؛ المستقلات العقلية؛ الظلم قبيح، والعدل حسن، و ردّ الوديعة جيد، وهي كليات يقولها العقل، وخطوط عريضة لا تكفي لوحدها لسعادة الانسان في هذه الحياة، أما في التفاصيل فإن العقل يقول عن كثير من الاشياء: لا أعلم”! (منهج الغدير- الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي)، بينما مرجع الدين، وبمساعدة الروايات والتدبر بالقرآن الكريم مع تحكيم العقل، قادرٌ على التصريح بأن الاستبداد بالرأي داخل الأسرة، وسوء الخُلق يمثل بداية تنتج انساناً يمارس الطغيان والظلم في الدائرة الحكومية، وفي السوق، وايضاً عندما يتسنّم منصباً حكومياً، وإن إظهار المرأة والفتاة أجزاء من جسدها بقصد او غير قصد يؤدي في نهاية الأمر وبعد حين الى ضياع الشباب في متاهات الفوضى الجنسية.
هذه المقدرة الخاصة مستمدة من الأئمة المعصومين، عليهم السلام، عندما بينوا أنهم أئمة وقادة على القلوب، بينما الحكام قادة على “الجسوم”، كما جاء في جواب الإمام الكاظم على سؤال هارون العباسي بأن “أنت من بايعه الناس خفية و رضوا به إماماً”؟ فقال له الإمام: “أنا إمام القلوب وأنت إمام الجسوم”، وهذه الرواية منقولة من كتاب الصواعق المحرقة لأبي حجر العسقلاني.
وهذا لم يكن منذ الدولة العباسية، بل منذ الايام الأولى من نكث بيعة الغدير، فقد كان طلاب السلطة مستميتين لأجل الحكم والتسلّط على الناس، بينما كان أمير المؤمنين حريصاً على ديانة الناس ومصيرهم في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة ايضاً.
ولذا نجد المكابرة من الحكام الطغاة على مر الزمن بأنهم الأقدر على توفير السعادة للناس، وأن بامكانهم توفير السكن والعمل وتملك السيارات والامتيازات والاستمتاع بالحياة دون الحاجة الى أحكام الدين والأخلاق والآداب، حتى وإن اقتضى الأمر تشريع قوانين تناقض وتلغي قوانين أخرى قبلها، بدعوى تطور الزمن و”لكل حادث حديث”!
العنف والقتل لمواجهة العقل والدين
لم يفِ الحكام بوعدهم بتحكيم العقل والجهد البشري لتنظيم حياة الانسان، وإلا لما شهدنا الحروب الكارثية والسياسات الفاشلة المدمرة لحياة الشعوب، ومنها الشعب العراقي، فقد بان كذبهم ودجلهم السياسي بغية إبعاد الناس عما هو متطابق مع فطرتهم التي فطر الله الناس عليها، لذا لا يجدوا حرجاً في ارتكاب أي جريمة بحق المعارضين ومن يتحدث حتى بلغة العقل والعلم قبل الدين، وكان التأسيس على يد الحكام المتسلقين الى قمة الحكم بعد استشهاد رسول الله، صلى الله عليه وآله، واستمر المنهج مع عودة السيادة الأموية على الجزيرة العربية وعلى الأمة كلها، وتبعاً لهم؛ الدولة العباسية والدول والانظمة السياسية المتعاقبة وحتى يومنا هذا.
إن منهج العنف والدموية والتضليل الذي واجه منهج الغدير، واكب تطورات الزمن، فنجده اليوم متسيّداً يفرض نفسه على الواقع، واحياناً نلاحظ من يلتمس له العذر بالوجود كونه أمراً لابد منه! بدعوى جدوائية القسوة لتحكيم النظام والقانون، وهو ما لا يرتضيه العقل، وقد أدرك الغربيون خطل فكرة فرض القانون من الخارج لتحقيق النظام، بدلاً من احترام القانون انطلاقاً من داخل نفس الانسان وقناعته وإيمانه.
فاذا كان الأمويون والعباسيون يمارسون القتل بالسيف مع أمير المؤمنين، والامام الحسين، وبالسمّ مع سائر الأئمة المعصومين، لإبعادهم عن الساحة، فان أشباههم اليوم اختاروا اساليب جديدة تتوائم مع العصر الجديد، فالدماء والاغتيالات تسبب لهم مشاكل ونتائج عكسية، بينما إشاعة الاخبار الكاذبة، والحرب النفسية، يجدونها اساليب “ناعمة” لمحاربة مرجع الدين وجعله يتحاشى التصدّي لقيادة الأمة عندما يجدد سمعته مهددة بالتشويه، فمن نسج الاخبار والاقاويل المتعلقة بالاموال والحقوق الشرعية، او العجز في تفهم الحياة العصرية، والانسجام مع حاجات الناس، لاسيما الشباب والمرأة على وجه التحديد، و جهلهم بأمور محورية ومصيرية مثل الاقتصاد والسياسة والأمن، بينما الحقيقة تؤكد عكس هذا تماماً، فان عدم ممارسة المرجعية الدينية لهذه المسائل وإدارتها بنفسها، لا يعني بأي حال من الاحوال عدم تفهمها لملفات اقتصادية وسياسية، لاسيما “الديمقراطية” التي كثر الحديث عنها كتجربة قائمة للحكم في العالم، فهي تؤمن وتدعو للانتخاب الحر، وايضاً للحريات الفردية والجماعية وفق الشروط المعروفة، وتعاطيهم للقضايا الراهنة لن يكلف الأمة خسائر بسبب الفشل او التناقض في التطبيقات كما هو الحال في معظم الانظمة السياسية في العالم، لسبب بسيط واحد، وهو؛ أنهم يجعلون الدين المرشد والمحرك للسياسة والاقتصاد والقانون وكل شيء في الحياة، والتجارب العملية على هذا كثيرة وعديدة يلمسها القارئ والمتابع في الوقت الحاضر.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/ahlalbayt/39281