أصدر الرئيس الأوكراني، “فولوديمير زيلينسكي” خلال يومي 23 و24 من الشهر الجاري، عددًا من القرارات الخاصة باستبعاد مسؤولين رفيعي المستوى من مناصبهم في الحكومة الأوكرانية. وطال الاستبعاد شخصيات تتولى مناصب عدة، من ضمنها؛ نائب مدير مكتب الرئيس الأوكراني، ونائب وزير الدفاع الأوكراني، وخمسة من حكام الأقاليم الأوكرانية المختلفة، ونائب المدعي العام، بالإضافة إلى عدد من المسؤولين الآخرين وتقييد سفر عدد آخر للخارج. بشكل يسترعي الانتباه إلى ضرورة الاطلاع على أسباب هذه القرارات وأبعادها أملاً في الوصول إلى رؤية واضحة عن النتائج المترتبة عليها.
فضائح الفساد المالي
تناولت صحف أوكرانية منذ 23 يناير 2023، تفاصيل فضيحة فساد مالي كشفت عنها أسعار المواد الغذائية التي يقوم الجيش الأوكراني بشرائها بأسعار تضخمية. حيث نشرت صحيفة تُدعى “دزيركالو ديزنيا” أن وزارة الدفاع تقوم بشراء منتجات غذائية للقوات المسلحة بتكلفة يتجاوز سعرها ثلاثة أضعاف التكلفة الأصلية في متاجر كييف. يأتي ذلك بعد أن تم تسريب نسخة من تعاقد الجيش الأوكراني مع موردي الطعام للوحدات العسكرية في مناطق “بولتافا، وسومي، وكييف، وجيتومير، وتشيرنخيف، وتشيركاسي” لعام 2023، تم توقيعها بتاريخ 23 ديسمبر 2022، بقيمة تتجاوز 13 مليار هريفنيا. وعلى الفور عقد الصحفي القائم على التحقيق، “يوري نيكولوف”، مقارنة بين الأسعار الواردة بالوثيقة وبين نظيرتها لدى سلسلة متاجر شهيرة في كييف، وتبين له أن الأسعار الواردة بالوثيقة مبالغ فيها بشكل كبير.
من جانبه، علق وزير الدفاع الأوكراني، “أليكسي ريزنيكوف”، على الفضيحة واصفًا إياها بأنها عبارة عن هجوم معلوماتي مصطنع تحت ذريعة وهمية. ورد الصحفي القائم على التحقيق بأن عبر عن عدم تصديقه لتفسيرات الوزير وطالبه بتقديم مبرراته.
من ناحية أخرى، شهدت بداية الأسبوع الجاري، السبت 21 يناير 2023، اعتقال نائب وزير البنية التحتية الأوكراني، “فاسيل لوزينسكي”، وفصله من منصبه على خلفية الاتهامات الموجهة له بسرقة نحو 400 ألف دولار من قيمة المساعدات الشتوية المخصصة لشراء الإمدادات بما في ذلك المولدات الكهربائية. ووفقًا لبيانات الجهات المعنية بمكافحة الفساد في أوكرانيا، فإن “لوزينسكي” قد تواطأ مع مقاولين بخصوص تزوير أسعار المولدات الكهربائية بمشاركة عدد من المسؤولين المحليين والإقليميين الآخرين اللذين لم يتم ذكر أسمائهم بشكل علني بعد. وهي الأنباء التي يُرجح أن يكون الرئيس الأوكراني قد تحدث عنها في خطابه المسائي ليلة الأحد 22 يناير 2023، عندما أكد أن أساليب الفساد القديمة لن تعود إلى أوكرانيا مرة أخرى دون ذكر تفاصيل عن أي قضية يتحدث عنها تحديدًا.
وفي سياق مماثل، تلقى “بافلو خليمون”، نائب رئيس حزب خادم الشعب –حزب الرئيس الأوكراني، يوم الإثنين الموافق 23 يناير 2023، قرارًا بالفصل على خلفية مزاعم بالفساد المالي. وذلك بعد أن نشر موقع إخباري أوكراني صباح اليوم نفسه، تحقيقًا بشأن قيامه بشراء عقار كاملاً في كييف تعادل قيمته المالية ما يتجاوز بمراحل قدرات “بافلو”. وترتب على ذلك أن طالب رئيس الحزب، “دافيد أراخامية”، بالتحقيق في الأمر وأصدر قرارًا بطرد “خليمون” على الفور.
ما وراء قرار تقييد سفر المسؤولين
أصدر الرئيس الأوكراني في 24 يناير 2023، قرارًا بطرد نائب المدعي العام الأوكراني، “اليكسي سيمونينكو”، والذي ثبت قيامه –خلال فترة سريان الأحكام العرفية- بالذهاب في إجازة عائلية للاحتفال بحلول العام الجديد لمدة 10 أيام في إسبانيا. إذ غادر المسؤول الأوكراني البلاد بتاريخ 30 ديسمبر 2022 عبر نقطة تفتيش “كراكوف” في سيارته الخاصة. وعاد مرة أخرى بتاريخ 8 يناير 2023 في نفس السيارة.
وبطبيعة الحال، استنكر “زيلينسكي” في تصريحاته الأخيرة سفر المسؤولين أثناء وقوع بلادهم تحت طائلة النيران الروسية على مدار الساعة. مؤكدًا أن تجاهل الحرب ترف لا يمكن لأحد تحمله. ومعلنًا في السياق نفسه، في 23 يناير 2023، عن توقيعه عددًا من المراسيم ذات الصلة من ضمنها قرار مبدئي لمجلس الأمن القومي بشأن تنظيم سفر المسؤولين الأوكرانيين للخارج، بما في ذلك؛ جميع المسؤولين في الحكومة المركزية والمحلية على كافة المستويات، وضباط إنفاذ القانون، والمسؤولين المنتخبين، والمدعين العموم، وجميع اللذين يتعين عليهم العمل في الدولة. ووفقًا للرئيس الأوكراني، فإنه “يبدو أحيانًا أن بعض الأشخاص في المدن الخلفية نسوا الحرب تمامًا وبدئوا في تجاهل الواقع”. وتابع، “يريدون الراحة الآن، سوف يرتاحون خارج خدمة الدولة. لن يتمكن المسؤولون بعد الآن من السفر لقضاء عطلة أو لغرض آخر غير حكومي”.
أوكرانيا قبل وبعد الحرب: الفساد عادة لا تنقطع
فيما قبل الحرب، لطالما انشغلت الصحافة الأوكرانية بالحديث عن قضايا الفساد وكل ما يتعلق بها من تفاصيل. بشكل يجعل من الفساد قضية شبه يومية في الحياة السياسية الأوكرانية. ولم لا؟! وقد احتلت أوكرانيا المرتبة رقم 122 من أصل 180 لدى منظمة الشفافية الدولية في عام 2021، بشكل يجعلها واحدة من الدول الأكثر فسادًا حول العالم. وبشكل يُفسر أيضًا السبب الذي دفع الاتحاد الأوروبي لمطالبة أوكرانيا بعمل إصلاحات تتعلق بمكافحة الفساد واحد من المتطلبات الرئيسة التي تسمح بالحصول على عضوية أوكرانيا في الاتحاد. غير أن انهماك البلاد في مسألة الحرب، لم يغير من وجود الفساد شيء سوى أن يكون منحه المزيد من الفرص كي يتوارى عن الأنظار. وذلك بعد أن أصبح لدى الصحافة والمدققين وغيرهم ما يهتمون به بشكل يفوق البحث عن سقطات وهفوات المسؤولين الأوكرانيين التي بلغت في الكثير من الأحيان حد الخيانة أو التعاون مع الروس. علاوة على ذلك، منحت الحرب المسؤولين الفاسدين الفرصة السانحة للوصول إلى أكبر قدر ممكن من الأموال التي تتدفق على أوكرانيا من الغرب بلا انقطاع وبلا أدنى فرصة للتدقيق في أوجه صرفها.
وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها السلطة في أوكرانيا خلال الحرب، لإظهار مدى حرصها على مكافحة الفساد وعلى أن يصل كل سنت مُرسل من الغرب إلى مقصده الحقيقي، إلا أنه يبدو أن الفضائح الأخيرة تُبرهن على عدم جدوى وفاعلية أي من التحركات الرقابية الأوكرانية على الأرض. وهو الشيء الذي يجعل من الحديث عن تحقيق الشفافية ومكافحة الفساد في أوكرانيا، خاصة في وقتٍ الحرب، مثل حديث نظري يظل تحقيقه محض أحلام خرافية. وذلك نظرًا لأسباب عدة، من ضمنها؛ أن أغلب أجهزة الدولة في حالة من الخراب وانتشار الفساد لدى شريحة كبيرة تصل لأعلى مستويات السلطة في أوكرانيا منذ عقود، وعدم وجود موانع أخلاقية تحظر السطو على الأموال العامة. بالإضافة لوجود عوائق تشريعية تجعل من الفساد شيئًا مغريًا، فوفقًا للمحامي الأوكراني “روتسيسلاف كرافيتس”، “يدفع القانون الأوكراني أحيانًا للفساد، ودون تغييره من المستحيل التغلب على الفساد”. مؤكدًا، “أنه من الضروري الآن تغيير النهج تجاه قضايا الفساد، وسن التشريعات بطريقة لا ينتهكها الناس. بينما، نقوم نحن على العكس من ذلك، بسن تشريعات منظمة بشكل يجعل الناس يرغبون في انتهاك القانون”.
وفي ضوء التصريحات الأخيرة لـ “لجوزيب بوريل” في 23 يناير 2023، عقب مشاركته في اجتماعات بروكسل، التي قال فيها إن “إجمالي المساعدة العسكرية ستصل إلى 3.6 مليارات يورو”، وأنه “في الوقت نفسه، قدم الاتحاد الأوروبي بأكمله لأوكرانيا مساعدات عسكرية ومالية وإنسانية بقيمة 49 مليار يورو”. وكذلك تصريحات الرئيس التنفيذي للمفوضية الأوروبية، “فالديس دومبروفسكيس”، والتي أصدرها في وقتٍ سابق، بخصوص توقيع مذكرة تفاهم نيابة عن الاتحاد الأوروبي لتزويد كييف بحزمة جديدة من الدعم المالي الكلي لعام 2023 بمبلغ يصل إلى 18 مليار يورو على شكل قروض. يطرح السؤال نفسه، حول كيف من الممكن أن يؤثر بروز قضايا الفساد الداخلي في أوكرانيا على السطح خصوصًا في الفترة الراهنة على مستقبل التدفقات المالية الغربية على كييف؟
وفي ضوء ما سبق، نجد أن قضايا الفساد ربما لا تغير من موقف قيادات أوروبا والولايات المتحدة تجاه مساعدة أوكرانيا شيئًا، وذلك لعدة أسباب في مقدمتها معرفتهم السابقة بطبيعة الفساد المتفشي في أعلى مستويات السلطة في أوكرانيا، وإصرارهم رغم ذلك على منح مساعدات مالية وإنسانية وعسكرية عالية القيمة، بالإضافة إلى أن هدف الوحدة التي أظهرها الغرب في دعم أوكرانيا ليس من وازع الحفاظ على أوكرانيا كدولة بحد ذاتها، ولكنها تنبع من رغبة حثيثة لوقف المخطط الروسي الصيني المشترك الذي يهدف لكسب الحرب التي سيترتب عليها إنشاء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب وانزواء عصر نظام القطب الأمريكي الواحد للأبد. غير أن تمسك الغرب باستمرار دعمه لأوكرانيا، ربما يساهم بإثارة المزيد من الغضب الشعبي من الأوضاع الاقتصادية المتردية في أوروبا على خلفية الحرب. وكذلك الحال فيما يتعلق باحتجاجات البريطانيين الأخيرة في مقابل حكومة بلادهم التي لا تبخل على أوكرانيا بشي، وتأكيد نواياها للاستمرار في تقديم نفس النوع من الدعم، مستقبلاً، على حساب الشعب الغاضب من ارتفاع تكاليف المعيشة والطاقة.
.
رابط المصدر: