يحمل الفضاء الكثير من الأسرار والفرص التي يمكن للدول استخدامها تكنولوجياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. وقد صار جليا أن أهداف اكتشاف الفضاء ليست كلها علمية ولخير البشرية. حيث تعمل بعض أنظمة الإنذار المبكر لإطلاق الأسلحة النووية عبر الأقمار الاصطناعية، كما أن تزايد خطر ضربها يزيد من احتمال عسكرة الفضاء لحماية الدول لأقمارها… لقد تلاشت فكرة أن الفضاء ملك الجميع… فأيّ دولة إذن تملك الكلمة العليا في اكتشاف الفضاء وتوظيفه خدمة لأهدافها؟ وما حجم الدور الذي تلعبه الشركات الخاصة في هذا المجال؟
صار الفضاء امتدادا مستقبليا لجغرافيا الأرض التي نعرفها، وتحول إلى ساحة جديدة للتنافس الجيوسياسي وسباق نحو الفوز بأسبقية الهيمنة على أسراره وموارده. لم يعد الفضاء مكانا للاكتشاف والمعرفة العلمية فقط، بل أصبح أساسيا جدا في حياتنا اليومية، لدوره في تسهيل الاتصالات والإنترنت وازدهار اقتصادات الدول، وأخيرا لأغراض عسكرية واستخباراتية في عصر أصبحت فيه المعلومات سلاحا استراتيجيا مهماً.
وعلى الرغم من أن الاتفاقات الدولية تنص على أن الحق في الاكتشاف العلمي للفضاء مكفول للدول جميعا وتمنع الدول من أن تعلن سيادتها على الفضاء، فإن التسابق شرس بين الدول الكبرى للهيمنة على الفضاء الخارجي.
بدأ السباق الفضائي مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 وبداية مرحلة جديدة من النظام العالمي
لقد أصبح هذا التسابق واقعا حيا له نتائج على العلاقات الدولية، خصوصا مع تزايد أعداد الدول التي لها وجود في الفضاء الخارجي بدرجات متفاوتة، والتي لها برامج لاكتشاف الفضاء أو إطلاق مركبات فضائية سواء مأهولة أو غير مأهولة. وقد وصل عدد هذه الدول إلى نحو 80 دولة. كذلك، لعبت الشركات الخاصة دوراً مهماً في انخفاض تكلفة تصنيع مركبات الفضاء وإرسالها، نتيجة الطفرة الهائلة في الأبحاث وسياسة إعادة تدوير وإطلاق الصواريخ التي تحمل الأقمار الاصطناعية.
مع انتهاء الحرب الباردة كانت هناك حالة من التفاؤل بأن السلام سيسود العالم. وبعدما كان الفضاء حكرا على الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، تحول إلى مجال جديد للتعاون الدولي
إذن، أيّ دولة تملك الكلمة العليا في اكتشاف الفضاء؟ وما حجم الدور الذي تلعبه الشركات الخاصة في هذا المجال؟ وهل تحتكر الشركات الخاصة التكنولوجيا المتعلقة بإرسال مركبات الفضاء لتفرض على الحكومات وباقي الشركات التكنولوجية الاعتماد على مواردها، كما هو الحال في برنامج “ستارشيلد” لشركة “سبيس إكس”؟
نظرة تاريخية
بدأ السباق الفضائي مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 وبداية مرحلة جديدة من النظام العالمي، وهي مرحلة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. كان كلٌّ من الجانبين في ذلك الوقت يركز على استغلال قدراته التكنولوجية ليظهر أنه الأقوى على الساحة الدولية. عندها، لم يكن الفضاء مجالا للاستثمار من الجانبين نظرا لانشغالهما بالتنافس التقليدي وإضعاف كل منهما الآخر اقتصاديا وسياسيا. لكن الفضاء ظهر كجبهة جديدة لجمع المعلومات الاستخباراتية عن الطرف الآخر، مما تطلب تكثيف الجهود من الطرفين لحماية مصالحهما وتأمين الأفضلية التقنية.
تغيرت هذه المعادلة في عام 1957 بإطلاق الاتحاد السوفياتي صاروخا باليستيا عابرا للقارات، يحمل القمر الاصطناعي “سبوتينك-1” والذي كان أول قمر اصطناعي يتم وضعه في مدار الأرض. تسبب هذا الإطلاق في مخاوف كبيرة لدى الغرب من قدرة الاتحاد السوفياتي على إطلاق صواريخ نووية تهدد أمن أوروبا والولايات المتحدة. غير أن هذا الإطلاق كان بداية لحقبة جديدة من التنافس بين العدوين اللدودين، وأيضا بداية لاعتبارات سياسية جديدة.
أطلقت الولايات المتحدة أول أقمارها الاصطناعية عام 1958 تحت اسم “إكسبلورر-1″، وفي العام نفسه وقع الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور مرسوما لإنشاء إدارة الطيران والفضاء الوطنية (ناسا)، وهي وكالة حكومية فيدرالية متخصصة في استكشاف الفضاء. وفي محاولة من الولايات المتحدة لتصدر العالم في اكتشاف الفضاء، أنشأ إيزنهاور برامج مخصصة لأغراض الأمن القومي الأميركي، بالتزامن مع برامج وكالة “ناسا”. كان هدف غالبية هذه الجهود الحصول على معلومات استخباراتية من الأقمار الاصطناعية عن الاتحاد السوفياتي. وشهدت الفترة 1961-1964 تضاعف ميزانية وكالة “ناسا” بأشكال خيالية لتنافس برامج الاتحاد السوفياتي الخاصة بالهبوط على القمر.
أوقفت وكالة “ناسا” برنامجها “مكوك الفضاء” في عام 2011 لعدم رغبة الحكومة الأميركية في دفع مبالغ مالية باهظة آنذاك لتمويل هذا البرنامج
هذه المرحلة من التنافس تغيرت مع انتهاء الحرب الباردة حيث كانت هناك حالة من التفاؤل بأن السلام سيسود العالم. فبعدما كان الفضاء حكرا على الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، تحول إلى مجال جديد للتعاون الدولي. ومنذ عام 2000، أصبح هناك رواد فضاء يعيشون فيها ويقومون بمختلف التجارب في المختبر المداري. وعلى الرغم من التعاون الدولي، لا يزال هناك العديد من العوائق أمام الدول لإرسال البشر إلى مسافات أبعد في الفضاء، من ضمنها التكلفة الهائلة لتصنيع مركبات فضائية. ونتيجة لذلك، أوقفت وكالة “ناسا” برنامجها “مكوك الفضاء” في عام 2011، لعدم رغبة الحكومة الأميركية في دفع مبالغ مالية باهظة آنذاك لتمويل هذا البرنامج. ثم عادت وكالة “ناسا” في عام 2014 لإحياء هذا البرنامج، واعتمدت في ذلك على شركتين من خلال التعاقد، هما “بوينغ”، و”سبيس إكس”.
حلقت شركة “سبيس إكس” بعيدا، على العكس تماما من “بوينغ”، ليس فقط على المستوى الأميركي، بل على المستوى العالمي، فصار الأمر أشبه باحتلال الفضاء
منذ عام 2014، أحدثت الشركات الخاصة طفرة هائلة في مجال أبحاث الفضاء، مما أدى إلى خفض التكلفة لتصنيع المركبات الفضائية نتيجة لقدرة الشركات على إعادة استخدام أجزاء كبيرة من المركبات العائدة إلى الأرض. وقد حصلت شركة “بوينغ” على 4.2 مليار دولار لتبني مركبة الفضاء المأهولة “ستارلاينر”، وحصلت شركة “سبيس إكس” على 2.6 مليار دولار لتبني مركبة “دراغون”. وعلى الرغم من الفارق في التمويل بين شركتي “بوينغ”، و”سبيس إكس”، فإن الأخيرة نجحت في إطلاق المكوك “دراغون” إلى محطة الفضاء منذ نحو أربع سنوات، وقامت بنحو 14 رحلة خاصة إلى المدار حاملة على متنها رواد فضاء، في مقابل رحلة واحدة مأهولة فقط لمركبة ستارلاينر شابتها العديد من الأعطال التي أجلت موعد إقلاعها، حتى انطلقت إلى محطة الفضاء الدولية في الخامس من يونيو الماضي في مهمة كان من المقرر أن تستغرق 8 أيام. ومع ذلك، حدثت أعطال أخرى، حيث تعطلت خمسة من محركات التحكم في المركبة من بين 28 محركًا، كما تم اكتشاف عدة تسريبات للهيليوم في نظام الدفع الخاص بها.
استغرق الأمر من وكالة ناسا وشركة بوينغ عدة أسابيع لمحاولة حل هذه المشكلات، حتى تم الإعلان في 24 أغسطس الماضي عن قرار عدم عودة رواد الفضاء على متن مركبة “ستارلاينر” نفسها، وبقائهم في محطة الفضاء الدولية حتى موعد لا يتجاوز فبراير من العام القادم، حيث سيتم إرسال مركبة “دراجون” التابعة لشركة سبيس إكس لإعادتهم إلى الأرض بأمان.
ورغم أن هذه الأخبار ليست جيدة لرواد الفضاء العالقين أو لشركة بوينغ بشكل عام، إلا أن شركة سبيس إكس تظهر في الصورة كالمأوى الأخير لوكالة ناسا في إنقاذ رواد الفضاء التابعين لشركة بوينغ. بالطبع، لهذا الأمر آثار سلبية على سمعة بوينغ وأي خطط مستقبلية لإرسال مركبات فضائية مأهولة.
وفي تحقيق نشرته أخيرا مجلة “إيه آر إس تكنيكا” العلمية، تحدثت عن الأسباب التي جعلت شركة “بوينغ” تتخلف عن القيام بالمهام المكلفة بها وتحقيق انتصارات، وذكرت أن التحقيق توصل إلى أن إدارة الشركة لم تنجح في خلق البيئة المثلى للنجاح في الفضاء نظرا إلى حساسية هذا المجال وتعقيده. وركز التحقيق أيضا على كون الشركة اهتمت فقط بالربح المالي من المشروع، من دون التركيز على إيجاد طرق علمية مبتكرة تمكن الولايات المتحدة من الوصول إلى أبعد نقطة على سطح القمر وهي القطب الجنوبي. ولم تكن شركة “بوينغ” معتادة على العمل بطريقة التعاقد بسعر ثابت، مما يعني أن الشركة خصصت موارد لإنتاج مركبة “ستارلاينر” أقل من احتياج المركبة لتحقيق النجاح، لأن إنفاق المزيد من الأموال على المركبة يعني النقص في الأرباح.
“سبيس إكس” تتجاوز “بوينغ”
حلقت شركة “سبيس إكس” بعيدا، على العكس تماما من “بوينغ”، ليس فقط على المستوى الأميركي، ولكن على المستوى العالمي. فصار الأمر أشبه باحتلال الفضاء، والآن يوجد في المدار أكثر من 10 آلاف قمر اصطناعي تملك شركة “سبيس أكس” 6648 قمرا اصطناعيًا منهم.
وفي السنوات القليلة الماضية، ارتفع بشكل كبير عدد الصواريخ التي أطلقت، مما جعل من الممكن إطلاق آلاف الأقمار الاصطناعية إلى مدار الأرض. ونتيجة للنجاح المذهل الذي حققته شركة “سبيس إكس”، من المتوقع أن يصل عدد الأقمار الاصطناعية في مدار الأرض إلى مليون قمر في فترة قصيرة.
أزاحت الصين روسيا من مكانتها كمنافس أول للولايات المتحدة في مجال اكتشاف الفضاء والسيطرة عليه
وفي ديسمبر/كانون الأول من عام 2022، أعلنت شركة “سبيس إكس” عن إطلاق برنامج “ستارشيلد”، للأقمار الاصطناعية، الذي يقدم خدمات للاتصالات الآمنة وخدمات الاستشعار عن بُعد من خلال شبكة الأقمار الاصطناعية التي تمتلكها. وسيعزز هذا البرنامج مكانة الشركة لجهة فرض سيطرة أكبر على المجال الفضائي. كما أن هذا المفهوم يمكّن الشركة من عرض خدماتها اللوجستية مثل خدمات التحكم والسيطرة على الأقمار الاصطناعية، وصيانة الأقمار وأمنها السيبراني، ومعالجة البيانات المشفرة، وخدمات الإطلاق، والأهم توفير أنظمة تشغيل.
ونظرا إلى توفير البنية التحتية والموارد الدائمة لتقديم خدمات عبر الأقمار الاصطناعية، اعتمد كثير من الشركات العاملة في المجال الفضائي على موارد شركة “سبيس إكس”، وهو أمر أتاح لتلك الشركات توفير الكثير من الأموال لانتفاء حاجتها لإطلاق أقمار اصطناعية خاصة بها. الأمر الذي يشبه الحوسبة السحابية، حيث توفر شركات التكنولوجيا البنية التحتية كخوادم عملاقة تحتاج إلى ظروف خاصة لبنائها وتمكنها من معالجة كميات هائلة من البيانات في وقت قصير. وتقوم هذه الشركات ببيع خدمات البنية التحتية لكثير من العملاء. وبالنسبة إلى العملاء، يكون شراء هذه الخدمات بالطبع، أقل تكلفة بكثير من إنشاء قواعد بيانات خاصة بهم.
من يمتلك الأقمار الاصطناعية الموجودة في الفضاء؟
وقد سهّل برنامج “ستارشيلد” الخدمات المقدمة من الأقمار الاصطناعية، ولكن في المقابل، أصبح من السهل على شركة “سبيس إكس” احتكار هذا المجال. ومن الممكن أن يثبط هذا الاحتكار قدرة الدول على المنافسة أو الاحتواء، ويعزز سيطرة “سبيس إكس” على الفضاء.
المنافسة السياسية
أزاحت الصين روسيا من مكانتها كمنافس أول للولايات المتحدة في مجال اكتشاف الفضاء والسيطرة عليه، ذلك أن بكين تركز على الاستفادة من الموارد الطبيعية على سطح القمر واتخاذ القمر منصة إطلاق مركبات فضاء لما هو أبعد من ذلك، أي المريخ. حيث عثر على أدلة على وجود نسبة كبيرة من أكاسيد المعادن على سطح القمر تشمل معادن مهمة كالسيليكون والتيتانيوم والألومنيوم.
وقد بدأ اهتمام بكين بالفضاء منذ عام 2013، حيث صرح الزعيم الصيني شي جين بينغ وقتها بأن إنجاز الصين ما هو إلا نتيجة طبيعية لتقدم الصين التكنولوجي.
تزداد مخاوف الولايات المتحدة من التقدم الصيني في مجال اكتشاف الفضاء مع خطط بكين لهبوط رواد فضاء على سطح القمر بحلول عام 2030
آخر هذه المحاولات التي تظهر إصرار بكين على الهيمنة على الفضاء الخارجي، إطلاقها مركبة فضاء آلية أطلق عليها اسم “تشانغي-6” في منتصف أبريل/نيسان الماضي. مهمة هذه المركبة الذهاب إلى أبعد نقطة في القمر، وهي القطب الجنوبي، التي لم يتم الوصول إليها قبل ذلك، تمهيدا لإرسال مركبات فضاء مأهولة وإنشاء محطة فضاء صينية.
أيضا تهدف “تشانغي-6” إلى جمع عينات من القطب الجنوبي للقمر واستخدامها في رصد الأماكن الغنية بالمعادن التي تدخل في الصناعات التكنولوجية كصناعة الرقائق. علاوة على ذلك، تستخدم هذه العينات في دراسة النشاط البركاني على سطح القمر.
وقد أصبحت الصين أول دولة تستطيع جمع عينات تصل إلى حوالي كيلوغرامين من الصخور والتربة من الجانب البعيد للقمر بفضل المركبة “تشانغي-6” التي مكثت يومين في أبعد نقطة على سطح القمر. وهذه العينات مهمة للغاية في تفسير تاريخ تكوين الأرض والقمر، وكذلك لتفسير تكوين حوض القطب الجنوبي على سطح القمر المعروف بحوض “ساوث بول آيتكن” نتيجة لقصف كويكبات كبيرة لسطح القمر وإحداث نتوءات كبيرة وتكوين بيئة جغرافية وعرة مما يصعّب هبوط المركبات الفضائية هناك.
وكالات الفضاء حول العالم
ويعتبر هذا الإنجاز تاريخيا للصين لعدة اعتبارات، أهمها صعوبة الاتصالات التي تتحكم في السيطرة على المركبة الفضائية في هذه المنطقة. كما يمكن للصين الكشف عن أسرار تتعلق بالطبيعة الجغرافية لسطح القمر غير المعروف للعلماء وللدول الأخرى، مما يرفع أسهم وقدرات الصين في اكتشاف الفضاء ويدفعها خطوات للأمام بعيدا عن منافستها الولايات المتحدة.
وتزداد مخاوف الولايات المتحدة من التقدم الصيني في مجال اكتشاف الفضاء مع خطط بكين لهبوط رواد فضاء على سطح القمر بحلول عام 2030. كذلك، تريد بكين الحصول على عنصر “الهيليوم-3” المهم جدا لتوفير الطاقة لتحقيق الاندماج النووي وحل مسألة الطلب على الطاقة لأعوام طويلة. فقد أعرب رئيس وكالة “ناسا” بيل نيلسون في لقاء صحافي نشر في مايو/أيار الماضي عن قلقه البالغ من محاولات بكين المستمرة لتحقيق السيطرة على الفضاء.
وشدد نيلسون على أنه لا يرغب في وصول بكين إلى القطب الجنوبي من القمر نظرا لاعتقاده بأن هذه المنطقة مليئة بالنتوءات الضيقة وغير الممتلئة بأماكن كثيرة تصلح لهبوط مركبات الفضاء، وأيضا لاحتوائها على الماء والثلج المهمين لصناعة الوقود للمركبات الفضائية. وشدد على أن هذه المنطقة يجب أن تكون مخصصة للدراسات العلمية للدول كافة.
وقال إن ما يقلقه بشدة هو الجانب العسكري الطاغي على البرامج الصينية الفضائية، والذي مكّن الصين من التمرد على القوانين الدولية الخاصة بتنظيم العمل في الفضاء.
الهند والصين واليابان، ثلاث دول نجحت في الوصول إلى القمر في إنجاز تاريخي لهذه الدول. ولكن هذا الإنجاز هو منافسة حقيقية للهيمنة على الفضاء وتحقيق أقصى استفادة منه
وقامت الصين أيضا بنشر أول دفعة من الأقمار الاصطناعية، التي يصل عددها إلى 18 قمرا اصطناعيا، في محاولة لإنشاء شبكة من الأقمار الاصطناعية لتسهيل توصيل الإنترنت إلى الأماكن النائية داخل الأراضي الصينية. وتحاول بكين بناء نسخة أخرى من شبكة الأقمار الاصطناعية الخاصة بشركة “SpaceX”، التي مُنعت من العمل داخل الصين. وجاء هذا الإطلاق في أغسطس/آب الماضي ضمن خطة بكين لإرسال آلاف الأقمار الاصطناعية لاحقا، التي قد تصل إلى 14 ألف قمر اصطناعي وفقا للخطة الصينية. وهذه الخطوة مهمة للغاية لتعزيز مكانة الصين وزيادة قدراتها في اكتشاف الفضاء، حيث يمكن استخدام هذه الشبكة من الأقمار الاصطناعية لتوصيل الإنترنت لكثير من الدول النامية، مما يخدم المصالح الاستراتيجية الصينية.
السباق العالمي إلى الفضاء
بالطبع، هذه خطوة مهمة على المستوى المحلي لتوصيل الإنترنت، لكنها تحمل تبعات هامة على صعيد العلاقات الدولية. وما يخشاه الغرب، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، من هذه الخطوة هو احتمال استخدام بكين لشبكاتها الفضائية لأغراض عسكرية، كما حدث عندما استخدمت أقمار “SpaceX” لمساعدة الجانب الأوكراني.
تعي الولايات المتحدة أهمية الشرق الأوسط في محاولاتها لتقويض الدور المتنامي للصين، حيث تريد واشنطن ضمان أن تكون الدول المحورية في الشرق الأوسط ضمن الرؤية الدولية لاكتشاف الفضاء بشكل آمن وسلمي، وضمان الاستخدامات الجيدة للبشرية. فموارد المملكة العربية السعودية وموقعها الجغرافي يجعلان منها دولة استراتيجية ومحورية في معادلات سباق اكتشاف الفضاء وتأثير ذلك على العلاقات الدولية بين الشرق والغرب. وقد وقّع رئيس وكالة “ناسا”، بيل نيلسون، ممثل الولايات المتحدة الأميركية، اتفاقا للتعاون مع ممثل المملكة العربية السعودية محمد بن سعود التميمي، الرئيس التنفيذي لـ”وكالة الفضاء السعودية” في شهر يوليو/تموز الماضي. ويشكل الاتفاق تحولا جوهريا في العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، حيث يعزز التعاون العلمي ويبرز الدور الأساسي الذي تلعبه القوى الفضائية الناشئة، وخاصة في الشرق الأوسط، في العصر الفضائي الجديد. ويعتبر هذا الاتفاق خطوة إلى الأمام وإضافة لاتفاقات “أرتميس” التي وقعتها الرياض عام 2022.
الخطر القادم من الصين
تعي الولايات المتحدة الخطر القادم من هيمنة الصين على الفضاء، وتحاول تكوين تحالف دولي قوي يمكنها من احتواء تقدم الصين المتسارع. يضم هذا التحالف 43 دولة، وأطلق عليه اسم تحالف “أرتميس”، وأنشئ عام 2020 وهو مجموعة من الممارسات الجيدة المفترض بالدول الأعضاء اتباعها عند إرسال مركبات فضائية مأهولة أو آلية. وتحالف “أرتميس” أشبه بالتحالفات العسكرية التقليدية التي تحاول من خلالها واشنطن نشر الممارسات التي تريد تثبيتها على المستوى العالمي، كانخراطها في حلف “الناتو” لمواجهة الأخطار العسكرية القادمة من روسيا، وأيضا حماية حلفاء الولايات المتحدة من أي خطر، فقد أصبح الفضاء جزءا أساسيا في العلاقات الدولية الحديثة.
وليست المنافسة حصرية بين الولايات المتحدة والصين لاكتشاف القمر والحصول على موارده، ولكنّ هناك دولا عدة دخلت في هذا السباق. وأعلنت الهند أنها أرسلت أول مركبة فضاء في تاريخها إلى سطح القمر العام الماضي. ودخلت اليابان التاريخ أيضا في يناير/كانون الثاني من العام الحالي كخامس دولة تهبط على سطح القمر، بعد إرسالها المهبط الذكي (SLIM) الذي يعتبر مهماً جداً لهبوط المركبات الفضائية في حيز ضيق للغاية وبدقة عالية.
أهداف عسكرية
الهند والصين واليابان، ثلاث دول نجحت في الوصول إلى القمر في إنجاز تاريخي لهذه الدول. ولكن هذا الإنجاز هو منافسة حقيقية للهيمنة على الفضاء وتحقيق أقصى استفادة منه. حيث أضيف مجال الفضاء والأمن السيبراني كجبهتين جديدتين على صعيد المنافسة الجيوسياسية التقليدية بين الدول. فبعدما كانت المنافسة مقتصرة على الاقتصاد وتحقيق السيطرة على المحيط الاستراتيجي للدول، أصبح الفضاء وأمن المعلومات أساسيا في الحفاظ على المصالح وحماية استقرار الدول الفاعلة على الصعيد الدولي.
تزايد خطر ضرب أقمار اصطناعية في الفضاء، يزيد احتمال عسكرة الدول للفضاء لحماية أقمارها وأنظمتها ضد أي أخطار
وقد صار جليا أن أهداف اكتشاف الفضاء ليست كلها علمية ولخير البشرية، إنما يحمل الفضاء الكثير من الأسرار والفرص التي على الدول استخدامها تكنولوجياً، واقتصادياً، وسياسياً وعسكرياً. فمن المتوقع أن تكون الأقمار الاصطناعية في الفضاء جزءا من الأهداف العسكرية وقد تتصاعد التوترات الدولية نتيجة تزايد الهجمات ضدها.
هذا تحول كبير، إن حدث، في موازين القوى العسكرية على المستوى الدولي، حيث إن جزءا من أنظمة الإنذار المبكر لإطلاق الأسلحة النووية يتم عبر الأقمار الاصطناعية. فتزايد خطر ضرب أقمار اصطناعية في الفضاء، يزيد احتمال عسكرة الدول للفضاء لحماية أقمارها وأنظمتها ضد أي أخطار. ففكرة أن الفضاء مملوك للجميع، تتلاشى جزئيا مع تصاعد وتيرة التنافس على الوجود والمحاولات العديدة لتقنين أوضاع الفضاء طبقا لرغبة الدول المختلفة. وأصبحت الحاجة ملحة لوجود تشريع دولي ينظم هذه المسألة، وإلا فسيكون للطرف الأقوى الكلمة العليا في التحكم بالفضاء.