بهاء النجار
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
التأمل الأول :
الفقير القرآني يختلف عن الفقير العرفي ، وكذلك الغني القرآني ، وعلى أتباع القرآن الكريم أن يزيحوا عن أذهانهم التعريف العرفي للفقير والغني إلا بحسب ما تقتضيه الحاجة ، وأن يُبدلوا ذلك بالتعريف القرآني لهما ، عندها سنستفيد فائدة كبيرة ، وهي أن الناس كلهم فقراء وبالتالي لا يوجد مبرر (حتى لأنفسنا الأمارة بالسوء) للتعالي أو التكبر ، وأن المال والمنصب والجاه والصحة وغيرها لا تدل على أن الإنسان غني ، فهو فقير في كل الأحوال ، وأن هذه الأمور تفضّلَ عليه بها الغني الحميد الذي لا يتفضل عليه أحدٌ من الخلق ، والشعور بهذا الفقر الى الله تعالى يستلزم الخضوع والتوسل والاستعانة والاستغاثة والتذلل وغيرها مما يعكس هذا الشعور بالفقر ، وبدونها فلا يستبعد أن يشعر هذا الإنسان بأنه مستغني حتى عن الله سبحانه ولو بدرجة من الدرجات ، أو على الأقل هو مستغني عملياً حتى عن الله جل جلاله ، وهذا مخالف للعبودية إن كان يدعيها لنفسه .
التأمل الثاني :
يعتبر المفسرون أن مخاطبة القرآن للناس تدل على أن المقصود هم عموم الناس من المؤمنين والكافرين ، ومن المعلوم أن حقيقة الفقر والحاجة الى الله تعالى منحصرة بالمؤمنين الحقيقيين وتتلاشى كلما كان الإيمان شكلياً فضلاً عن أن ينعدم الإيمان ويُستبدَل مكانه بالكفر ، وكذلك الأمر بالنسبة الى الغنى الذي لا يشمل غير الله عز وجل ، فكيف يشمل الخطاب الجميع ممن يؤمن بذلك الخطاب إيماناً عملياً وممن لا يؤمن بذلك لا عملياً ولا نظرياً ؟
لا نريد الدخول في بحوث تفسيرية لأنها خارج النهج المتبع في تأملاتنا ، ولكن ما نستفيده من ذلك أن على المؤمنين الفاعلين الرساليين أن يفعّلوا حقيقة الفقر المطلق للناس والغنى المطلق لله سبحانه عند الناس – من المؤمنين والكافرين – كي يكون هذا الخطاب القرآني واقعياً ، فما تناولته الآية الكريمة هو إشعارٌ بضرورة أن يعرف الجميع حقيقتهم المفتقرة الى الله جل جلاله حصراً ، وغنى الله جل شأنه عن الناس ، وهذا مجال واسع للعمل الرسالي لمن لم يجد بعد عملاً يقوم به .
التأمل الثالث :
في المراحل الأولى من الإيمان قد يظن المؤمن – وربما بوسوسة من الشيطان – أن الله تعالى عندما يأمر الناس بالعبادة فإنه محتاج الى عبادتهم لأنه سبحانه – وبحسب ظنهم وفهمهم البسيط – يعاقب من لم يلتزم بأمره ، ولو كان غنياً عن عبادتهم لتركهم وشأنهم عبده أم لم يعبده ! ويبدو أن هذا حال أغلب الناس خاصة إن كان إيمانهم بسيط أو غير مؤمنين .
أما إذا تطوّر إيمان العبد وارتقى فسيجد أن عبادته الله عز وجل هي لحاجة العبد لربه وفقره إليه ، وليس العكس ، لأن العبد بحاجة الى سيده ومولاه بشكل دائم ، وعندما يتوعد الله سبحانه عباده بالعقوبة إن لم يلتزموا بأوامره لتنبيههم وتذكيرهم – إن لم نقل تحذيرهم – بأن حاجاتهم يقضيها الغني الحميد .
التأمل الرابع :
من الوهلة الأولى لقراءة الآية محل التأمل قد يظن بعض الناس – وخصوصاً ممن لم يفَهِم الدين فهماً صحيحاً – أن الافتقار الى الله تعالى هو إهانة للناس وتقليل وتحقير لهم ، ولكن عندما نفكك الموضوع سنجد فهماً إيجابياً مخالفاً ، فكل إنسان لا بد ان يكون محتاجاً ومفتقراً للآخرين ، فالجاهل يفتقر ويحتاج العالم ، والمريض يفتقر لعلاج الطبيب ، وهكذا ، فإذا قارنا مقارنة مُجرَّدة من تَدخُّل النفس الأمارة بالسوء بين الافتقار الى الله سبحانه والافتقار الى غيره من الخلق سنجد الكفة تميل وبقوة الى كفة الافتقار الى الله عز وجل ، لأن الافتقار الى غني مطلق خيرٌ من الافتقار الى فقير ، فالأول تكريم للمفتقر ، أما الثاني فهو إهانة له ، وما دام الافتقار لا مفرّ منه فليكن لأغنى غني ، بل للغني الذي لا غنى لغيره عن غناه جل جلاله ، ولو قال الباري عز وجل أيها الناس أنتم الفقراء الى الحاكم أو القوي أو ما شابه لكان بالفعل إهانة لهم .
التأمل الخامس :
كلما شعرنا بحقيقة الافتقار إلى الله تعالى كلما شعرنا بغناه جل وعلا، وتتضح حقيقة الافتقار عند الشدائد ، خاصة إذا كانت تلك الشدائد كبيرة، سواء كانت هذه الشدائد دنيوية (كالمرض والعوز والفقر والبلاء والظلم وغيرها) أو شدائد أخروية ( كالذنوب وعذاب القبر وعذاب الآخرة وأهوال يوم القيامة والحرمان من بعض الطاعات وجمود العين من البكاء من خشية الله وعدم الشعور بالنعم الإلهية وغيرها ) ، ومثل هذه الشدائد لا يمكن لأي غني أن يحلَّها ويفككها ويفرّجها إلا الغني الحميد جل وعلا ، فالغني يكون غنياً بما يملك من إمكانيات ، وكلما زادت إمكانياته زاد غناه عن الآخرين ، وزاد افتقار الآخرين إليه ، ولا يوجد غني على الإطلاق يمتلك إمكانيات مطلقة وذاتية قادرة على تلبية إحتياجاتنا وسد فقرنا إلا الله جلّت قدرته ، أما من لا يشعر بهذا الافتقار فلا يرى الغنى الإلهي شيئاً يستحق الاهتمام .
التأمل السادس:
من وسائل الوصول الى الغنى – كشكل من أشكال التخلق بأخلاق الله – أن يكون الإنسان فقيراً ومفتقراً الى الله تعالى ، فعندها يكون مرتبطاً بالله جل جلاله إرتباطاً يتناسب مع مقدار الشعور بالفقر الى الله سبحانه ، هذا الارتباط يجعل الإنسان متعلقاً بمسبب الأسباب ومطمئناً لما يسببه ولا تهمه الأسباب التي ظاهرها بأيدي المخلوقين لأنه يؤمن بأن هذه الأسباب بيد مسببها جل وعز ، وما دامت كذلك فلا تعنيه نتيجة تلك الأسباب لأنه يراها دائماً إيجابية بحكم تعلقه بخالقه الذي زادت قوة إرتباطه به بعد الافتقار إليه ، وأن حاجته الى الآخرين لا تكون إلا لكون هؤلاء هم من الأسباب الذين سببهم الله تعالى لخلقه وليس لاحتياجه إليهم ، عندها لا يعير أهمية لأذى المؤذين وعرقلة المعرقلين من البشر وعموم المخلوقين ، عند ذلك يتحقق الغنى عن العالمين .
التأمل السابع:
هناك برامج مقترحة يمكن أن تنفع في التعلق بالغني المطلق جل وعلا والافتقار إليه والاستغناء عن مَن دونه ليتحقق الغنى عن الآخرين ، ومن هذه البرامج :
1) ذكر ( يا غني ) ، وخصوصاً يوم السبت ، إذ يُنقَل أن من الأذكار المستحبة في هذا اليوم هو ( يا غني ) ، على أن يكون هناك تفاعل قلبي مع اللفظ اللساني ، ليستشعر الذاكر بالعلاقة بينه كفقير وربه الغني ذي الرحمة ، وكأنه يطلب من ربه أن يغنيه عن العالمين .
2) الأدعية التي تتناول موضوع الغنى ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر دعاء ( اللهم أدخل على أهل القبور السرور ) الذي تتضمن بعض مقاطعه مسألة الغنى ، مثلاً ( اللهم أغن كل فقير ) أي اللهم أغن بغناك كل فقير إليك مِن كل مَن سواك ، وكذلك ( اللهم سُدّ فقرنا بغناك ) أي سُدّ فقرنا إلى غيرك بغناك فنستغني عنه ، إضافة الى ( وأغننا من الفقر ) .
فإن كان هذا الدعاء يوم السبت سنجمع بين الفقرتين أعلاه من البرنامج المقترح ، والله الموفق .
التأمل الثامن:
إن من نعم الله علينا أنه غني عن عبادتنا بل عن وجودنا ، فلو كان سبحانه محتاجاً إلينا لما عفا عنا ، ولما تجاوز عن خطيئاتنا وعن سيئات أعمالنا ، ولحاسَبَنا على كل صغيرة فضلاً عن الكبيرة كي يسد حاجته كما يحاسب بعضنا للبعض الآخر كي يقضم منه قضمة من ماله أو ممتلكاته ، لأنه محتاج الى هذا المال والممتلكات .
فإذا تحسسنا هذا العفو الإلهي الناجم عن غناه تعالى سنشعر بالعبودية والتي لا تكون حقيقية إلا إذا شعرنا بالفقر والاحتياج الى لطفه وعطفه وعفوه عن تقصيرنا تجاهه جل وعلا ، فالقوي إن لم يكن غنياً سيأكل الضعيف ويذلّه ، أما إذا كان القوي غنياً فسيكون عفواً غفوراً ، وسيكون الضعيف كريماً تحت حُكم ذلك القوي ( ولقد كرّمنا بني آدم ) ، فعلينا أن نذلّ أنفسنا أمام ذلك الغني الحميد عز وجل شكراً على تكريمه إيانا.
التأمل التاسع:
يكون الإنسان فقيراً ( ليس فقير المال ، وإنما محتاجاً وتابعاً وذليلاً لغيره ) عندما يتبع الشيطان ويثق بوعوده ويمتثل لأوامره فيعصي الله عز وجل ويرتكب الفحشاء ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ) ، ويكون غنياً بافتقاره الى الله تعالى فيكون ذليلاً طائعاً له راجياً مغفرته وتوبته ، ( والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم ) .
هذا الكلام قد لا يروق للبعيدين عن التربية الإيمانية والمتأثرين بالأجواء المادية ، الذين يحصرون الغنى والفقر بالمال ، فيسعون الى الغنى حتى وإن كان تحققه بطرق شيطانية غير شرعية ، وربما يقبلون بالدين ولكن عندما يحقق لهم الغنى ويتركونه عندما تكون النتيجة الفقر ، ولو تثقف هؤلاء بثقافة قرآنية لتصرفوا تصرفاً مغايراً .
التأمل العاشر:
الفقير الى الله تعالى يلجأ ويتضرّع إليه سبحانه ، فيعبده عبادة تناسب شعوره بذلك الفقر والاحتياج ، عبادةً لا تتوقف عند حدود الحركات الجسمية بل تستوعب التفاعل الروحي مع المعبود ، بل وأكثر من ذلك ، إذ تدفعه الى الاستعانة بالغني الحميد جل وعلا لإعانته على زيادة شعوره بالفقر الى الغني المطلق وأن يكون فقره هذا غنى عن المخلوقين ، وأن يهديه الصراط المستقيم الذي يبيّن حقيقة الفقر والغنى ، الفقر الى الله عز وجل والغنى عن غيره ، هذا الصراط قد أنعمه تعالى على الذين تخلّصوا من الغضب الإلهي ومن الضلال نتيجة معرفتهم بحقيقة الفقر والغنى ، فكان افتقارهم الى الله الغني جل شأنه دافعاً للارتقاء في سُلّم الكمال والتقرب الى بارئهم سبحانه ، واستغناؤهم عن المخلوقين جعلهم يسيرون في خطى إصلاح أنفسهم وإصلاح غيرهم من دون التأثر بأي ضغط من أي أحدٍ من العالمين .
التأمل الحادي عشر:
إن الافتقار الى الآخرين ليس مذموماً في نفسه ، لأنه أساس من أسس حركة الحياة ، فكل إنسان يتحرك بحسب حاجته ، فإن احتاج الى العلم ذهب الى العالم ، وإن احتاج الى العلاج ذهب الى الطبيب وهكذا ، ولكن المذموم أن يكون الافتقار سبباً لطاعة وإتباع المفتقَر إليه (الغني) حتى لو تعارض مع طاعة وإتباع الغني الحميد جل وعلا .
وبالتالي فإن افتقارنا لسفراء الله وخلفائه في أرضه أمر طبيعي بل هو مفروض علينا ، لأن إفتقارنا إليهم أولى من إفتقارنا للعالم والطبيب وغيرهما ، وهو في صلب الافتقار الى الله تعالى وليس متقاطعاً معه ، لذا فإن الفراهيدي – العَلَم المعروف – فَهِمَ هذه النكتة عندما قال في وصف أمير المؤمنين علي عليه السلام ( إحتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل دليل على أنه إمام الكل ).
التأمل الثاني عشر:
قد يتمنى كثير من المؤمنين أن يكونوا خاشعين في صلواتهم ، ويحاولون أن يحققوا هذا الحلم بإجبار أنفسهم عليه ، مع إن الإجبار على ذلك لا يجدي نفعاً بل قد يؤدي الى تبعات سلبية ، لذا فعلى المتشوق الى الخشوع أن يمرّن نفسه ويدربها على الشعور بالحاجة والفقر الى الله تعالى لأنهما يساعدان في تحقيق الخشوع في الصلاة ، خاصة إذا علمنا أن الخشوع وعدمه في الصلاة هو إنعكاس لعلاقة العبد مع ربه في عموم حياته ، فمن كان يخشى الله تعالى في أموره اليومية فيتجنّب المعاصي ويحافظ على الواجبات ويهتم ( يدخله الهمّ ) إذا قصّر في ذلك فإن مثل هذا الشخص سيكون حضور قلبه في الصلاة وخشوعه أكثر ممن لا يهتم إذا عصى أو ترك واجباً .
كما يمكن الاستنتاج أن الخشوع في الصلاة والخضوع والتذلل والتوسل وطلب العون والمغفرة أمور تدل بدرجة من الدرجات على الاعتراف بالفقر والافتقار الى الباري عز وجل .
التأمل الثالث عشر:
إن المؤمن المثقف بالثقافة النبوية يعرف جيداً أن أعدى أعدائه نفسه التي بين جَنبَيه ، وبالتالي فإنه لا يطيعها بل يستغني عنها وعن ما تأمر به من سوء ، لأن طاعتها يجذّر فقرنا إليها ، فنلبّي لها كل ما تريد حتى ترضى ، ولن ترضى ، إضافة الى أن الرضوخ إليها يخالف الحقيقة القرآنية المتمثلة بفقرنا الى الله تعالى ، والطامة الكبرى أن طاعتنا للنفس الأمارة بالسوء تدل بدرجة من الدرجات الاستغناء عن الله سبحانه ! مع إنه جل وعلا هو الغني الحميد ، وربما تصل طاعة البعض لهذه النفس الى درجة عبادتها وكأنها آلهة ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) .
وما ينطبق على النفس ينطبق على الشيطان ، من الإنس والجن ، فالاستغناء عنه يدل على طاعة الله سبحانه والافتقار إليه ، وطاعته – أي الشيطان – تدل على الفقر والاحتياج إليه .
التأمل الرابع عشر:
ربما من حق الغني أن يكون ذا كبرياء ، ولكن بشرط ان يكون بالفعل غنياً ، لا أن يكون في الحقيقة فقيراً ومحتاجاً الى غيره ويدّعي الغنى ، وبما أن الغنى المطلق لله جل وعلا فيكون الكبرياء حصراً لله عز وجل ولا يحق لأحد التكبر لأنه فقير ومفتقرٌ لغيره .
أما المعصومون من الأنبياء والأوصياء ، فهُم رغم غِناهُم عن الآخرين وحاجة الناس إليهم إلا أنهم لم يستكبروا ولم يتكبّروا عليهم ، بل بالعكس كانوا أكثر الناس تواضعاً ، ولو كان هذا الغنى عند آخرين لاستغلوه ليتكبروا على من احتاج إليهم .
وبالتالي فإن تكبرَنا على الآخرين فهذا يعني أننا لا نشعر بحقيقة الفقر الى الله سبحانه ، وإن تواضعنا فقد وضعنا قدمنا على طريق الفقر إليه جل شأنه .
التأمل الخامس عشر:
ونحن نعيش الذكرى العطرة لولادة المرتضى عليه السلام ، وفي يومه يوم الأحد ، لا بد لنا أن نقتبس من نوره الخالد قبساً يضيء لنا جانباً من جوانب فِهمِ الآية الكريمة محل التأمل باعتباره القرآن الناطق والمجسّد والمبيّن لمعانيه ، إذ يقول سلام الله عليه : ( استغنِ عن من شئت تكن نظيره ) ، إذ يمكن لكل مؤمن إذا جاهد في تربية نفسه تربية قرآنية أن يشمخ بكبرياء ساحقاً الذل بقدميه إذا استغنى ولم يفتقر لأي جهة أو قوة – فضلاً عن الأفراد – تحاول إذلاله بصورة مباشرة كالغزو والاحتلال ونهب الثروات بصورة علنية أو بصورة غير مباشرة من خلال بث السموم الفكرية والثقافية والأخلاقية عبر الغزو الفكري والثقافي والأخلاقي ، ويحوّل حاجته وافتقاره من هذه القوى المتسلطة الى الله تعالى فيلتزم بما يريده الله سبحانه دون ما تريده تلك القوى المستعبدة فيستغني عن ما في أيديهم فيكون نظيرهم فيستطيع أن يقف بوجههم من دون أن يخسر شيئاً .
التأمل السادس عشر:
وفق النصيحة العلوية ( استغنِ عن من شئت تكن نظيره ) ، فهل يمكن للانسان أن يستغني عن الله عز وجل ولا يكن فقيراً إليه ؟
من المستحيل أن يتجرأ شخص ويقول (نعم) ؟ ولو كَابَرَ شخصٌ وقالها فنسأله : ما دمت مستغنياً عن الله تبارك وتعالى فهل أنت نظيره ؟ فهل تستطيع أن تخلق خلقاً من العدم ؟ وأن ترزق الخلائق بالعدل ومن دون أن تنقص خزائنك ؟ أم تستطيع أن تعلم ما في السماوات والأرض ؟ وأن تسمع وترى كل ما يدور في هذا الكون ؟ وتعلم الغيب فتعرف أحداث المستقبل بالتفاصيل والدقة ومن دون أي خطأ ؟ وهل يمكنك أن لا تنام ؟ ولا تأكل ؟ ولا تتنفس ؟
بينما الإنسان المنصف يرى أنه فقيراً إلى الله عز وجل لأنه يعلم أنه لا يمكن أن يكون نظيراً له جل وعلا ، وبذلك طبّق الشق الثاني من النصيحة العلوية ( واحتج لمن شئت تكون أسيره ) فيكون أسيراً لله الغني الحميد وفقيراً إليه ولا يكون أسيراً لغيره فيكون ذليلاً مهاناً .
التأمل السادس عشر:
الموت وما بعده من أبرز مبررات ودواعي الفقر الى الله تعالى ، وإن كان الموت لوحده لهان الأمر ، ولكن ما بعد الموت أمر وأدهى ، والموت نفسه من أوضح أشكال الغنى عند الله الحي الذي لا يموت جل جلاله ، فالميت بحاجة الى الحي ، والحي غنيٌ عن الميت باعتبار أن الحي عنده ما يفوق ما عند الميت ، وقد لخّص ذلك أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء الصباح بعبارة ( يا من توحّد بالعز والبقاء وقهر عباده بالموت والفناء ) .
أما إذا جسّد المؤمنُ الفقرَ الى الله سبحانه من خلال عقيدته وعبادته وسلوكه فسيرى الموت ضرورة لا بد منها للعبور الى الجانب المشرق من الوجود وهو الآخرة ، خاصة إذا كان فقرُه الى الغني الحميد دافعاً لتعميق العلاقة معه جل وعلا ، فيزداد شوقاً لذلك العالم ، وبالخصوص إن نظر الى الموت على أنه مرحلة تطهير للذنوب ورفع للدرجات .
التأمل السابع عشر:
إن الإنسان المؤمن الفقير الى الله تعالى يجب أن يكون غنياً عن الآخرين وأن ينحصر فقره إليه عز وجل ، فمن كان فقيراً ذليلاً الى غيره فسوف لن يكون فقيراً الى الله سبحانه إلا إذا كان طولياً متناسقاً وليس عرضياً متقاطعاً ، فعلى المستوى الفردي مثلاً لا بد للمؤمن أن يتحصن بأدوات الغنى كي يحصر فقره الى الله عز وجل فقط وفقط ، ومن هذه الأدوات العلم والمال والوجاهة وغيرها ، فالإنسان العالم يكون غنياً عن الجاهل ، وذو المال غنياً عن من لا مال له والوجيه غنياً عن من لا وجاهة عنده ، وكلما قلّ نصيبه من هذه الأدوات كلما زادت فرص الفقر الى من يملكها ونقصان فرص الغنى عنهم ، وهذا أمر مقلق .
أما على المستوى الاجتماعي بل وحتى السياسي والحكومي فيجب على الدول الإسلامية التي ترفع راية الإسلام أن تكون متكاملة اقتصادياً مستقلة سياسياً غير محتاجة – قدر الإمكان – الى غيرها من الدول وخصوصاً التي تحمل نوايا وبرامج خبيثة ضد الإسلام وأبنائه ومنهجه .
التأمل الثامن عشر:
كي نفهم الغنى الإلهي عن عبادة الناس وافتقار الناس الى غناه عز وجل علينا أن نصحح فِهمَنا للعلاقة بيننا وبين ربنا جل وعلا ، فالقوانين والتشريعات التي أمر بها الله سبحانه هي عبارة عن ( خارطة طريق ) للإنسان ، إن التزم بها قادته الى السعادة وإن فرّط بها صار مصيره البؤس والشقاء ، وهذا ما نجده في حياة أُسرِنا الناجحة ، وذلك عندما ينصح الأب ابنه بنصائح تنفعه في حياته ، فإن التزم بها الابن كان ناجحاً في حياته وإن لم يلتزم بها عانى من الفشل .
إن تطبيق أحكام الله تعالى تجعل الإنسان سعيداً ومطمئناً يملأ الرضا قلبَه فلا يدخله همٌّ ، وبالتالي فإن من يبحث عن السعادة والاطمئنان والرضا عليه أن يبحث عن الأحكام الشرعية ليطبقها ، وهذا يعني أنه محتاج ومفتقر الى هذه الأحكام والى من وضعها ، وإن لم يسعَ إليها فسوف لن يضر الله شيئاً لأنه غني حميد .
التأمل التاسع عشر:
يركّز القرآن الكريم في مواضع عدة على ( التوكل على الله ) ، إذ يبيّن أن هذه الصفة من صفات المؤمنين وأن الله تعالى يحب المتوكلين ، ومن يتوكل على الله تعالى فهو حسبه ، ومن يكن الله حسبه يكن غنياً عن ما في أيدي الناس ، وفي الوقت نفسه فإن المتوكل على الله لا يتوكل إلا بعد أن تتشرب ثقافة وتربية الفقر والافتقار إليه وغناه المطلق جل وعلا ، فمن تكون هذه الثقافة عنده ضعيفة فسوف لن يشعر بالحاجة المطلقة الى التوكل على الله ، إذ يرى نفسه قادرة على تمشية أمور حياته فلا حاجة الى التوكل على الحي الذي لا يموت ، وإنما يتوكل فقط عندما تشتد به الظروف وتتعسر ويرى الأبواب مُغلَّقة ، وفي الحقيقة أن الأمور مُعسرةً في الأساس لكن الله سبحانه يسّرها والأبواب مُغلَّقة إلا أنه تعالى فتحها ، إلا أن المسكين يتصور أنها مُيسّرة ومفتوحة بجهده ، أما الفقراء الى الله من المؤمنين والصالحين فيرون هذه الحقيقة فنرى التوكل عندهم متوغلة ومتجذرة في نفوسهم .
التأمل العشرون:
على المؤمن أن يربي نفسه على ثقافة الافتقار الى الله تعالى ، فليس من الصحيح أن يبقى شيءٌ من كيانه أو وجوده وحياته غير مفتقر إليه سبحانه ، ومن وسائل التربية على هذا الافتقار:
1) أن ينظر الى ثماره المحفّزة، كالغنى عن ما في أيدي الآخرين ، والعزة والشموخ والإباء .
2) أن يمرر نفسه بين الحين والآخر في ابتلاءات إختيارية كي يشعر بفقره واحتياجه الى الله عز وجل ، كأن يتصدق بنسبة كبيرة من ماله ليدفعه العوز الى الشعور بالفقر الى الله جل شأنه ، وهذه تربية عملية على الافتقار .
3) أن يستعين بالدعاء كما استعان الأولياء والصلحاء به ، فهو سلاح المؤمن في كل شيء ، مثل ( ربي لا تكلني الى نفسي طرفة عين أبداً فإنك إن وكلتني إليها تباعدني عن الخير – الفقر الى الله – وتقربني من الشر – الفقر الى الآخرين – ) فمثل هذا الدعاء يرسّخ ثقافة الافتقار الى الله جل وعلا في قلب الداعي .
التأمل الحادي والعشرون:
عندما يكون الإنسان بلا مسؤولية فإن شعوره بالفقر الى الله تعالى يكون مُستبعَداً ، فإذا صارت عنده مسؤولية يتولد هذا الشعور وينمو كلما زادت هذه المسؤولية . والإنسان المؤمن – بحُكُم إيمانه – فإنه يشعر بمسؤولية عظيمة تجاه نفسه وعائلته وربما مجتمعه وحتى العالم بأسره ، ويرى من مسؤوليته مواجهة كل إنحراف وضلال والقضاء عليهما ، وهذه المسؤولية تتطلب وضع خطط وبرامج عملية لتستقطب عامِلِين كفوئين ومتفانين في العمل بحيث يكون عملهم كفريق واحد ولفترة طويلة ومن دون أي تلكؤ أو تراجع أو فشل لتحقيق خطوات متقدمة نحو الإصلاح والهداية ، وبالتالي تكون الحاجة للاستعانة بقوة خارقة وغير اعتيادية مطلوبة ، وهذا عين الافتقار .
فإذا كانت المسؤولية هداية جميع البشر وبمستوى راقٍ وعالٍ ، كمسؤولية الإمام المهدي عليه السلام ، فسيكون الافتقار بمرتبة راقية وعالية لا يمكن أن يتصورها من مسؤوليته بسيطة .
التأمل الثاني والعشرون:
إن الفقر الى الله تعالى هو أمر تكويني ، وكذلك غناه سبحانه عن الاخرين ، فضلاً عن غناه عن الناس ، بمعنى أن الناس مفتقرون الى الله جل جلاله وأن الله جل شأنه غني عن العالمين ، سواء قبلوا أم لم يقبلوا ، اقتنعوا أم لم يقتنعوا ، آمنوا بذلك أم لم يؤمنوا .
أما تطبيق الفقر الى الله تعالى وغناه جل جلاله في معتقدنا وسلوكنا فرداً وجماعة هو أمر تشريعي ، إذ نرى البعض يفعّل ذلك في حياته ولا يهتم لذلك البعض الآخر ، ولكي نكسب رضا الرب لا بد أن ينسجم الأمر التكويني والأمر تشريعي ويتطباقا ، وهذه مهمة المؤمنين .
للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :