من يطالع الرسائل العملية لعلمائنا الأعلام يجد عدة تصنيفات لأبواب الفقه فهناك من يقسمها الى عبادات ومعاملات والبعض الى فقه فردي وفقه اجتماعي وهكذا ، ويمكن أن نقسم الفقه من زاوية معينة الى فقه مؤثر وفقه متأثر ، فبعض المسائل الفقهية تعالج بعض القضايا عندما تحدث للمؤمن المكلف ، مثلاً عندما يتنجس ثوب المؤمن تشرح بعض المسائل كيفية تطهيره أو عندما يشك المصلي في عدد ركعاته يجد حكماً يعالج هذا الشك ، وبعض الأحيان يحصل للمكلف مسائل ابتلائية في المعاملات فمثلاً إذا استلم قرضاً من مصرف حكومي فما حكم الفوائد عندها يجد حكم تلك المسألة في الرسالة العملية لمرجع تقليده .
وما تقدم يمكن أن نطلق عليه (الفقه المتأثر) لأنه يعطي حكماً للمسألة عندما تحدث للمكلف من دون أن يلعب دوراً في صناعة أجواء المسألة والتأثير بها ومحاولة الاستفادة منها وتحويلها لصالح المكلف بدل أن تكون ضد المكلف ، فمثلاً يعاني المكلف من مسألة القروض المقترضة من المصارف الأهلية بل وحتى الحكومية بسبب التعامل الربوي المحرّم لتلك المصارف ، فهناك مسائل يُطلب فيها عن حكم هذا التعامل وتعطى فيها الإجابة وهو ما اصطلحنا عليه بـ(الفقه المتأثر) فهو يتعامل مع متغيرات المسائل الفقهية دون أن يكون لاعباً مؤثراً تأثيراً إيجابياً فيها .
بينما نجد هناك فقهاً لا يتوقف عند الإجابة وكأنه غير معني بذلك بل يحاول أن يكون طرفاً في صياغة المسألة الفقهية وهو (الفقه المؤثر) ، ففي مثالنا السابق الخاص بالقروض يقوم (الفقه المؤثر) بالسعي لإنشاء مصرف إسلامي حتى يخلّص المكلف من مثل هذه المشاكل الفقهية والورط الربوية ، فوجود مشاكل تقع للمكلف في المسائل الفقهية تعتبر رسالة بأننا بحاجة للتحرك للخلاص من هذه المشاكل ، فوجود ورط ربوية ليس حلها بإبعاد المكلف عنها بتحريم التعامل معها فقط وإنما بوضع بديل بتأسيس مصرف إسلامي كي يستفيد المكلف من القروض الشرعية ، والغناء لا ينفع معه التحريم فقط فيجب أن نضع بديلاً يسد الفراغ الذي يحدثه ترك الغناء مثل الابتهالات والمواليد ، ولا يكفي تحريم وضع صور الفنانين والفنانات فقط فينبغي أن يكون البديل موجود مثل صور المراقد المطهرة والعلماء والمراجع والمناظر الطبيعية وغيرها مما يجوز وضع صورته .
وتقسيم الفقه الى هذين القسمين نابع من ثقافة النطق والصمت التي أسسها أمير المؤمنين علي عليه السلام عندما قال : (( هذا القرآن – ويقصد به الكتاب المطبوع – هو القرآن الصامت وأنا القرآن الناطق )) ، فالقرآن الكريم يحوي على العديد من القواعد الفكرية والفلسفية والعقائدية والفقهية ونحتاج الى من يستخلصها وينطّقها ويجسدها على أرض الواقع ، إذ لا يكفي أن نقول (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الْكَافِرُونَ ))/ [المائدة:44]، فيجب أن نرى ذلك مطبقاً على أرض الواقع ، فمن كان يدّعي أنه سائر على نهج القرآن ويسير عكس هذه الآية سوف يقف بوجه انتشار دين الله وتطبيقه ، لذا نحن بحاجة الى شخص شبيه بعلي عليه السلام كي يكون ناطقاً ينطّق أحكام القرآن ولا يتعامل معها وكأنها معلومات عابرة ، ويكون مؤثراً في الفقه لا متأثراً كي يخلّص المؤمنين من التورط في المخالفات الشرعية .
فكم من مؤمن ومؤمنة وقع في مخالفة شرعية من حيث لا يعلم بسبب القانون الوضعي المعمول به حالياً ، فهناك من يحتكم للقانون الوضعي في الإرث وإذا به يقع في ظلم ذوي القربى بسبب بعض فقرات ذلك القانون التي لا تتوافق مع الشرع الإسلامي ، وكم حالة لطلاق أجريت في المحكمة الوضعية لم تستوفي شروط الطلاق وبالتالي تقع في إشكال عند زواجها بآخر ، لذا لا بد من أن ننتقل من الفقه المتأثر بأن نحرّم فقط اللجوء الى القانون الوضعي في تلك المسائل بل لا بد من سن قانون خاص بالقضايا الشرعية تضبط تصرفات المكلفين في تلك المسائل وتمنعهم من الوقوع في الحرام الذي دفعنا وما زلنا ندفع تبعاتها الى يومنا هذا ، فإلى متى نبقى متأثرين وليس مؤثرين ؟!