في ظل التطورات المتلاحقة للأزمة الروسية الأوكرانية، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن فتح باب التطوع للأجانب للقتال في صفوف الجيش الأوكراني ضد الجيش الروسي الذي يشن حملة عسكرية واسعة النطاق في أوكرانيا. وتشكل تلك الخطوة متغيرًا جديدًا في الأحداث الجارية إذ سيفتح الباب أمام احتمالية أن تكون أوكرانيا ساحة جديدة لتوظيف المرتزقة والمقاتلين العابرين للحدود، فضلًا عن أنها ستكون تطبيقًا عمليًا جديدًا للحروب الهجينة، علاوة على إذكاء الأبعاد الأيديولوجية والقومية والعرقية في الحرب المستعرة.
الفيلق الدولي
قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في بيان له إن “كل الأجانب الراغبين في الانضمام إلى المقاومة ضد المحتلين الروس وحماية الأمن العالمي، مرحب بهم من قبل القيادة الأوكرانية، للحضور إلى دولتنا، والانضمام إلى صفوف قوات الدفاع الإقليمية”، مضيفًا “يجري تشكيل وحدة منفصلة من الأجانب، يطلق عليها الفيلق الدولي، للدفاع عن أراضي أوكرانيا، ستكون هذه شهادة رئيسية على دعمكم لبلدنا”، مشيرًا إلى أنه على الراغبين في الانضمام الاتصال بالمحلق العسكري في أقرب سفارة أوكرانية.
ويجب الإشارة إلى أن دعوة زيلينسكي تستند إلى لوائح الخدمة العسكرية الأوكرانية التي تمت الموافقة عليها بموجب المرسوم الرئاسي رقم 248 الصادر في 10 يونيو 2016 والتي تسمح للأجانب بالانضمام إلى الجيش الأوكراني بموجب عقود على أساس طوعي، وقانون المقاومة الوطنية الجديد الصادر في يناير 2022 الذي يسمح بانضمام الأجانب المقيمين في أوكرانيا لمدة 5 سنوات للجيش الأوكراني.
وأصدر “زيلينسكي” يوم 28 فبراير مرسومًا رئاسيًا يبدأ سريانه من 1 مارس يسمح للمتطوعين الأجانب الراغبين في دعم أوكرانيا أمام الغزو العسكري الروسي بدخول البلاد دون تأشيرة مؤقتًا خلال فترة سريان الأحكام العرفية، ولا ينطبق القرار على المواطنين الروس.
وفي استجابة سريعة لدعوة زيلينسكي، قالت وزيرة الخارجية البريطانية “ليز تراس” إنها تدعم الأفراد من بريطانيا الذين قد يرغبون في الذهاب إلى أوكرانيا للانضمام إلى قوة دولية للقتال، وأن الأمر متروك لهم لاتخاذ قرارهم بأنفسهم. جاء ذلك بعد إعلان الحكومة البريطانية عن عدم إرسالها قوات عسكرية للقتال على الأرض، وإنما سيتم دعم الجانب الأوكراني “للقتال في كل الشوارع بكل قطعة من المعدات يمكننا الحصول عليها” بحسب ما صرح به وزير الدفاع “بن والاس”.
وكذا، أعلن وزير خارجية لاتفيا “إدجار رينكيفيتش” أن برلمان بلاده أقر تشريعًا يسمح للمتطوعين بالقتال في أوكرانيا. وبينما صرح القائم بالأعمال الدبلوماسية “فولوديمير شالكيفسكي” في العاصمة الأسترالية “كانبرا” بأن هنالك العديد من المواطنين الأستراليين قد اتصلوا ممن كانوا على استعداد للسفر إلى منطقة الحرب للانضمام إلى القوات الأوكرانية، حذر رئيس الوزراء سكوت موريسون الأستراليين من الذهاب إلى أوكرانيا لحمل السلاح وتقديم الدعم في الحرب ضد الغزو الروسي. وأكدت وزيرة الخارجية ماريز باين أن الأستراليين الذين قاتلوا مع جماعات مسلحة غير حكومية على جانبي الصراع قد “يرتكبون جريمة جنائية”، وقالت “بصراحة، أود أن أشجعهم بشدة على الالتزام بنصائح السفر الصادرة في هذا الشأن، وهي عدم السفر إلى أوكرانيا”.
عوامل محفزة
هناك عدد من العوامل المحفزة التي قد تسهم في دخول المقاتلين الأجانب على خط المواجهة في أوكرانيا، يمكن تلخيصها على النحو التالي:
– الحدود المفتوحة: تسيطر روسيا حاليًا على أجزاء متفرقة من الحدود في الشرق والشمال الشرقي والجنوب الأوكراني، بينما تظل الحدود الأوكرانية مفتوحة مع بولندا وسلوفاكيا والمجر ورومانيا ومولودوفا بجانب أجزاء من البحر الأسود، وهو ما يفتح الباب أمام سهولة تدفق المقاتلين الأجانب سواء القادمين من داخل الدول الأوروبية من خلال الطرق البرية أو عبر البحر الأسود في حال قررت تركيا السماح بتدفق المرتزقة القادمين من ساحات القتال في سوريا أو من المقيمين على أراضيها.
– المقاتلون الأجانب منذ عام 2014: شهدت أوكرانيا أزمة مشابهة للأزمة الحالية في عام 2014 عندما شن الانفصاليون في إقليم دونباس والمدعومون من روسيا عمليات استهدفت السيطرة على كامل الإقليم، واستقلاله عن السيادة الأوكرانية. مثلت هذه الحرب محفزًا للصراع انتقل على إثره عدد كبير من المقاتلين الأجانب للقتال في صفوف الانفصاليين في مواجهة قوات الجيش الأوكراني، في المواجهات التي أسفرت عن سيطرة الانفصاليين على مدينتي دونيتسك ولوهانسك في مايو 2014 وإعلانهما جمهوريتين مستقلتين اعترف بهما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 21 فبراير 2022.
ويذكر أن الرئيس الشيشاني رمضان قديروف الموالي لروسيا قد أرسل قوات في عام 2014، وأعلن قبل أيام عن إرسال عدة الآلاف من المقاتلين بهدف المشاركة في الحرب ضد أوكرانيا. وأشارت صحيفة “ديلي ميل” البريطانية إلى إعلان “ماموكا مامولاشفيلي” قائد الفيلق الوطني الجورجي السابق والذي انخرط في قتال عام 2014 عن تجهيز عدد من المقاتلين من جنود الجيش والقوات الخاصة السابقين والتوجه بهم إلى أوكرانيا عبر الحدود مع بولندا للقتال ضد روسيا.
– اليمين المتطرف: تلاحظ أن الخطاب الرسمي الأوكراني عمل على مخاطبة المنتمين لليمين المتطرف الأوروبي والمدافعين عن النظام العالمي والمتخوفين من التمدد الروسي الذي يسعى لاستعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي، إذ أكد “زيلينسكي” في خطابه أن “هذا ليس مجرد غزو روسي لأوكرانيا، إنه بداية حرب ضد أوروبا”، وهو نفس الأمر الذي أكده وزير الدفاع الأوكراني “أوليكسي ريزنيكوف” في تعليقه على الدعم الأوروبي الأخير لبلاده في منشور على صفحته بموقع فيس بوك “أمس حدث منعطف حقيقي لأن الحرب أصبحت حرب أوروبا كلها.. لقد أدركوها أخيرًا.. الآن نصف أوروبا يجهز ويحزم ويرسل لنا أسلحة ووسائل دفاعية ضد الدروع.
فيما قال وزير الخارجية “دميترو كوليبا” إن المقاتلين الأجانب من الراغين في الدفاع عن أوكرانيا و”النظام العالمي” كجزء من الدفاع الإقليمي لأوكرانيا، وأضاف “معًا هزمنا هتلر، وسنهزم بوتين أيضًا”. ويُذكر أن أوكرانيا تشهد تناميًا في قوة التيارات اليمينية المتطرفة خلال السنوات الأخيرة، ومنها قوة “آزوف” التي برزت في ذروة الصراع عام 2014، وهي الآن وحدة ضمن جيش الجيش الأوكراني.
– اللاجئون في دول الجوار: يشكل اللاجئون في دول الجوار أحد العوامل التي تحفز انضمام المقاتلين الأجانب للصراع الحالي؛ إذ تتواجد أعداد كبيرة منهم قادمة من الشرق الأوسط وأفغانستان ومناطق الصراع في الدول القريبة من أوكرانيا، ومن الوارد أن يكون بعضهم حاملًا لأفكار تنتمي للتيار الإسلامي المتطرف، وقد ترى تلك العناصر في المشاركة في القتال ضد روسيا عودة لمشهد الجهاد الأفغاني.
وتجدر الإشارة إلى أن المهاجرين وطالبي اللجوء من الفارين من الوضع الأمني المتردي في أفغانستان وسوريا والعراق يعانون من حالة إنسانية متردية على الحدود البولندية البيلاروسية، والتي تتهم فيها حكومة بولندا بيلاروسيا بتهجير قسري لطالبي اللجوء عبر أراضيها، أو حتى الوصول للأراضي الألمانية، وهو ما قد يدفع أعدادًا منهم إلى الاشتراك في القتال نظير تحسين أوضاعهم المعيشية.
معوقات التنفيذ
– محدودية الدعم: يتضح ذلك من عدد الدول التي أعلنت بشكل مباشر عن تأييدها لدعوة “زيلينسكي” إذ اقتصر التأييد الصريح على بريطانيا ولاتفيا، بينما آثرت الولايات المتحدة الأمريكية التي تخلت في السنوات الأخيرة عن سياسة التورط العسكري في النزاعات الخارجية، وأغلب الدول الأوروبية والغربية الصمت حيال تلك الدعوة، واقتصرت ردود الأفعال والتحركات الرسمية على تقديم الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي والإنساني لأوكرانيا، والاشتراك في إغلاق المجال الجوي أمام حركة الطيران الروسي، وحزمة العقوبات التي تم إقرارها وغيرها من الخطوات التي تم اتخاذها. بل ووصل الأمر إلى حد التحذير من المشاركة في تلك الدعوة وهو ما يتضح من تحذير رئيس الوزراء الأسترالي مواطنيه من التوجه للقتال في أوكرانيا.
– المخاطرة الأمنية: تدرك الدول الأوروبية أنه في حال المشاركة في عملية انضمام المقاتلين الأجانب للصراع فإن ذلك يشكل خطرًا أمنيًا كبيرًا طويل الأجل، إذ تعاني الدول الأوروبية منذ سنوات من خطر المقاتلين الأجانب سواء العائدين من سوريا والعراق بعد انخراطهم في القتال بتنظيم داعش الإرهابي، أو عناصر الذئاب المنفردة التي تقوم بتنفيذ عمليات إرهابية بعد دخولها الدول الأوروبية بشكل رسمي أو غير رسمي، أو حتى المتطرفين يمينيًا والذين نفذوا خلال السنوات الأخيرة عدة هجمات في أوروبا أسهمت في زعزعة الاستقرار الأمني والاجتماعي في أوروبا.
وتشير التجارب المناظرة في سوريا وليبيا بل وفي أوكرانيا ذاتها إلى أن وجود مثل هؤلاء المقاتلين يزيد الأمور الأمنية تعقيدًا، ويجعل ترتيب الأمور في مرحلة ما بعد الصراع أمرًا محاطًا بالتهديدات انطلاقًا من عدم إمكانية التحكم في تحركات تلك المجموعات المسلحة أو ولائها.
وهو الأمر الذي تحقق نفسه على المسرح الأوكراني بعد عام 2014، ففي فبراير 2015 قام ممثلو 15 كتيبة في إنشاء هيئة أركان عامة لتنسيق أعمال المقاتلين الأجانب لتكون هيئة منفصلة عن هيئة الأركان التابعة للجيش الأوكراني، وفي ديسمبر 2016 أعلن بعض قادة الكتائب عن فرض حصار اقتصادي على دونيتسيك ولوهانسك على الرغم من عدم إصدار حكومة كييف أوامر بذلك، ولكن لم تجد خيارًا سوى تبني هذا الحصار كسياسة رسمية لها، وفي عام 2019 قام القائد السابق لكتيبة “آزوف” بإحضار 100 مقاتل إلى لوهانسك لعرقلة قرار الرئيس الأوكراني ببدء فك الاشتباك وفق اتفاق مينسك.
– وقف إطلاق النار وبدء عملية التفاوض: تعمل روسيا حاليًا على تأمين السيطرة على إقليم دونباس وربطه بشبه جزيرة القرم جنوبًا مع حصار العاصمة كييف وعزل المدن الأوكرانية عن بعضها البعض، وتجنب الدخول في حرب مدن لما له من خسائر كبيرة قد تتكبدها القوات الروسية.
وتهدف روسيا إلى تكثيف الضغط على النظام الأوكراني من أجل التراجع عن طموحاته بالانضمام إلى حلف الناتو، ومن ثم قد تلجأ روسيا إلى وقف العملية العسكرية حال التوصل إلى نقطة توازن مع النظام الأوكراني والغرب والجلوس على مائدة المفاوضات لمناقشة المخاوف الروسية، خاصة أن تلك الخطوة ستكون مدعومة برغبة عالمية لعدم التصعيد وتجنب شبح حرب كبرى، ومن ثم فإن الاعتماد على خيار المقاتلين الأجانب سيكون بمثابة شوكة في حلق أوروبا وسيجعلها تحت طائلة التهديدات الإرهابية المختلفة.
تداعيات التنفيذ
في حال تمت الاستجابة لدعوة الرئيس الأوكراني “زيلينسكي” وانضمت أعداد كبيرة من المقاتلين الأجانب للصراع الدائر في أوكرانيا فإننا سنكون أمام نتيجتين:
1- ظهور أفغانستان جديدة: في حال دخل المقاتلون الأجانب على خط الأزمة الأوكرانية الروسية فإن ذلك يعد مؤشرًا على إمكانية تحول أوكرانيا إلى “أفغانستان جديدة” لتكون قبلة للمقاتلين بمختلف تصنيفاتهم، فمنهم من يشارك على أساس إيديولوجي سواء على الجانب الديني المتطرف أو الجانب اليميني المتطرف، أو ممن يشاركون كمقاتلين مرتزقة يتقاضون أموالاً نظير مشاركتهم في أعمال القتال.
2- التوظيف الرابع للمرتزقة: في حال حدوث سيناريو انضمام المقاتلين الأجانب، فستكون الحرب في أوكرانيا التوظيف الرابع للمرتزقة والمقاتلين العابرين للحدود في الحروب والصراعات الإقليمية خلال السنوات الأخيرة وذلك بعد الحرب في سوريا والأزمة الليبية وحرب ناجورنو قره باغ، وهو ما من شأنه إحداث مجموعة من الانعكاسات السلبية التي تقوض الأمن الإقليمي وفي هذه الحالة الأمن في القارة الأوروبية وتحديدًا في دول شرق أوروبا ودول البلطيق.
وكما حدث في التوظيفات الثلاثة سالفة الذكر فإن توظيف المقاتلين الأجانب العابرين للحدود يحمل عادة توظيفًا سياسيًا من الأطراف المنخرطة في الأزمة ليمكنها بعد ذلك من استغلال هؤلاء المرتزقة كورقة مهمة على طاولة المفاوضات بما يضمن تحقيق مصالح جيوسياسية معينة لهذه الأطراف، وفي حالة الحرب في أوكرانيا تتضح لنا أطرافًا بعينها يمكن أن تستغل هذه الحرب لتحقيق الأهداف سالفة الذكر.
ونخص من هذه الدول أولًا بيلاروسيا التي يمكن أن توظف ورقة اللاجئين الموجودين على حدودها للقتال مع روسيا بصحبة القوات التي أرسلها الرئيس الشيشاني رمضان قديروف إذ ما تحول الأمر برمته إلى حرب عصابات بما يحفظ لروسيا قواتها النظامية، ويعد دليلًا إضافيًا من بيلاروسيا على ولائها التام لروسيا، يتماشى مع سماحها ببدء الهجوم الروسي على أوكرانيا انطلاقًا من حدودها، فضلًا عن دعوة رئيسها لوكاشينكو موسكو إلى نشر سلاح نووي على أراضيه إذا تم نشره في بولندا أو ليتوانيا.
ثانيًا، قد تقرر تركيا الدخول في تسهيل مهمة اشتراك اللاجئين في القتال واستغلال الأزمة الأوكرانية لإصلاح علاقتها المتوترة مع الغرب، والتأكيد على أهمية دورها للأمن الأوروبي انطلاقًا من خبرتها الكبيرة في دعم المقاتلين الأجانب في سوريا وليبيا على مدار سنوات.
إجمالا، تأتي دعوة الرئيس الأوكراني “زيلينسكي” لانضمام المقاتلين الأجانب في النزاع الأوكراني الروسي في سياق رغبته لتعزيز المقاومة الشعبية ضد روسيا، وإظهار ما يجري على أراضيه بأنه اجتياح روسي ينذر برغبة موسكو في فرض السيطرة على كافة أراضي الاتحاد السوفيتي السابق، بما يشكل تهديدًا للأوروبيين جميعًا. فيما قد تعكس هذه الدعوة أيضًا رغبة من “زيلينسكي” في زيادة الضغط على الدول الأوروبية لتشجيعها على اتخاذ قرار انضمامها للاتحاد، وزيادة الدعم العسكري لها في مواجهة روسيا. وعلى الرغم من التصريحات الأوكرانية الرسمية بتسجيل آلاف المقاتلين الأجانب في السفارات بالخارج، إلا أنه من المرجح أن تكون الاستجابة لتلك الدعوة محدودة وألا تحظى بدعم كبير؛ نظرًا لما تدركه الدول الأوروبية والغربية من خطورة دعم هذا الخيار على مستقبل الأمن الأوروبي بعد انتهاء الحرب الحالية التي ستنهي يومًا ما.
.
رابط المصدر: