فراس حج محمد
لا يوجد في إنجاز الكتّاب، شعراً أو نثراً، كتاب قد يطلق عليه أنّه الكتاب الأبديّ الخالد، لأنّ من يعتقد أنّه قد وصل إلى هذه المرتبة في الكتابة عليه أن يقف عندها، فليس بعد الكمال والاكتمال شيء، ولذلك فإنّ الكتّاب في معظمهم، وخاصّة ممّن يعلمون أنّ الكتابة مسؤوليّة لا يرى فيما كتب أنّه جيّد بالمطلق، بل دائما يسعوْن إلى ما هو أفضل، ولذلك فإنّهم يصدرون الكتاب تلو الكتاب من أجل أن يتجاوزوا المرحلة الّتي وصلوا إليها في الكتاب السّابق، وبحثا عن ذلك الكتاب الّذي يطمحون إليه في مخيّالاتهم، الكتاب الّذي يغنيهم عن تأليف الكتب.
لذلك فالكتّاب ما زالوا يعتبرون أنّ كلّ منجز هو قمّة في وقته، وعليهم أن يتجاوزوه إلى ما هو أهمّ؛ بحثاً عن الفرادة والتّميّز. ويصرّح الشّاعر عبد الكريم الطّبّال أنّ “الشّاعر طوال حياته يحاول أن يكتب قصيدة واحدة، ويستمرّ في الكتابة، أملا في الوصول إليها، ولكنّه لا يصل، فالقصيدة الكاملة دائما غائبة. وقد تجد شاعراً أصدر دواوين عدّة، ورغم ذلك لا يزال يكتب. لماذا يكتب؟ لأنّ القصيدة الّتي يبحث عنها لم يصل إليها بعد”.
وعليه، لو أنّ أحدهم كتب كتابا عظيما، وظنّ أنّه أفضل ما عنده، يجب عليه ألّا يكتب كتابا أدنى منه، ويتوقّف عن التّأليف، وهذا عينه ما قاله الكاتب أسامة العيسة في ردّه على سؤال: “هل أنت راض عن إنتاجك ولماذا؟ بالطبع غير راض، أتمنّى أن أرضى حتى أتوقف عن الكتابة”. إذن فالمسألة ليست أن يكون الشّخص مؤلّفا، أو كم كتابا أصدر.
هناك كتب في التّاريخ كانت فرائد ولم تتكرّر، ولم يكتب أصحابها غيرها، وقد يمضي كاتب ما حياته من أجل أن يقدّم كتابا واحدا فقط، فهناك مثلا كتاب “الكتاب” لسيبويه في النّحو العربيّ، ذلك الكتاب الّذي يعدّ شاملا وكاملا ومكتملا فيما يخصّ قواعد العربيّة، لذلك كانت له أهمّيّته المتميّزة عند كلّ الدّارسين والمؤلّفين من بعده، فكلّهم عالة عليه ومحتاجون إليه. ولا شكّ في أنّ هناك حالات شبيهة بحالة سيبويه في التّاريخ العربيّ والتّاريخ الإنسانيّ العامّ، ولنتذكّر مثلا الملاحم التّاريخيّة: الأوديسا والإلياذة والإنياذة والشّاهنامة والمهاهبارتا، وبغضّ النّظر عمّا يقال عن تلك الملاحم في أنّها في صيغتها النّهائيّة قد أضيف عليها وعدّلت إلّا أنّها في أصل وضعها، كان كلّ واحد منها كتابا شاملا، يبحث عن الخلود وتخليد الفكرة. كم كتابا مثل هاتيك الكتب في عالم التّأليف؟ لا شكّ في أنّها قليلة ونادرة.
تبدو المسألة مهمّة من وجهة نظري وتحتاج إلى التّأمل أكثر. ولنحاول النّظر إليها بمناقشة مسألة وجود الكتب السّماويّة الخالدة الثّلاثة: التّوراة والإنجيل والقرآن الكريم، متجاوزين عن وجود الأناجيل الأربعة، فثمّة إنجيل واحد نزل على سيّدنا عيسى عليه السّلام، كما أنّ هناك توراة واحداً نزل على موسى وقرآنا واحدا نزل على محمّد عليهما السّلام. لماذا لا يوجد إلّا كتاب واحد لكلّ نبيّ ولكلّ ديانة؟ هذا هو السّؤال الفلسفيّ الّذي تجب الإجابة عليه، ولكنّني سأركّز الحديث على ظاهرة القرآن الكريم من النّاحية الإبداعيّة الأدبية، فهي المقصودة هنا.
ورد في القرآن الكريم آيات متعدّدة تشير إلى تميّز القرآن بوصفه كتابا كاملا، جاء في بداية سورة البقرة “ذلك الكتاب لا ريب فيه”، وفي مفتتح سورة هود “كتاب أحكمت آياته ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير”، وفي الآية الأولى من سورة الكهف “الحمد لله الّذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا”، وقد وصف القرآن نفسه في مفتتح سورة النّمل، وسورة القصص، وسورة الزّخرف، وسورة الدّخان بأنّه “كتاب مبين”، وأنّه “الكتاب الحكيم” كما في سورة لقمان، وأمّا الآية الأكثر دلالة قول القرآن في سورة فصّلت: “وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ”، من خلال هذه الإشارات النّصّيّة يتبيّن أنّ هذا الكتاب كامل لا يضاف إليه، ولا يحذف منه، وأيّ زيادة عليه أو نقصان منه تفسده فسادا بيّنا، فهو المكتمل بذاته صنعة ودلالة وفكرة ورسالة.
ولو كان هناك كتاب آخر مع القرآن لنقضه، وأصبح الكتابان عرضة للخلل، وربّما من هنا جاء قول القرآن عن نفسه مستوعبا الكتب السّابقة “التّوراة والإنجيل” إلى كتاب آخر بديل عنهما “وأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ”. ولأنّ الله هو الكامل المكتمل لا يصدر عنه إلّا الكامل المكتمل، فقد وصف الله نفسه بصفات القرآن، فهو “الحكيم الحميد”، أمّا الكاتب من البشر فهو يحاول الوصول إلى النّموذج الّذي في ذهنه عن القصيدة أو الرّواية، أو أيّ كتاب يؤلّفه، ولذلك فإنّه يظلّ مهووساً بالتّجديد وَفقا لنظرية أفلاطون في المحاكاة. لذلك لا يصحّ أن يكون هناك إلّا قرآن واحد يتمتّع بكلّ صفات الصّنعة الأدبيّة الّتي تجعل منه كتابا خالدا، لا يُنقض ولا يُستبدل، و”لا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلَا تَنْقَضِي عِبَرُهُ وَلَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ”.
لكلّ ذلك أرى أيضا أنّه ليس من المقبول عقلا أن يكون لكلّ ديانة ولكلّ نبيّ إلّا كتاب واحد مرشد لحياة أتباعه، منه يستقون النّور ويسيرون على طريق الهدى، فكان كتاب التّوراة واحدا وكتاب الإنجيل واحدا أيضا، بصرف النّظر عمّا هو كائن الآن من الأناجيل الأربعة الّتي كتبها أتباع المسيح.
تقودني هذه الفكرة للحديث حول مدى فهم المفكّرين والفلاسفة لظاهرة القرآن الثّقافيّة بشكل عميق، فالقرآن إلى الآن لم يُدرس كظاهرة إبداعيّة ثقافيّة وفلسفيّة، واكتفى الجميع بدراسة القرآن دراسة تفسيريّة: تشريعيّة وعقائديّة، حتّى وهم يناقشون مسألة الإعجاز البيانيّ، لم تُدرس إلّا بما يؤيّد قداسة القرآن الكريم، وأنّه معجزة تدلّ على صدق النّبوّة. ولذلك لا بدّ من دراسة القرآن الكريم من جديد، وبأسلوب بنائيّ كلّيّ بوصفه نموذجا ثقافيّا شاملا لأمّة كاملة، يستوعب النّشاط الإنسانيّ من نواحيه كافّة؛ الاجتماعيّة والسّياسيّة، والإبداعيّة أيضا، وما تحيل عليه من ظاهرة لغويّة وأدبيّة تحمل رسالتها للكتّاب فيما يتّصل بصنعة الكتابة على مرّ العصور، وما يعنيه ذلك من عدم التّكرار، وجودة الأسلوب، وفرادة المنجز الإبداعيّ.
يقول الرّوائي هنري ميلر بعد أن تعرّف على كتابات الشّاعر الفرنسيّ آرثر رامبو: “واليوم، بعد كلّ ما كتبت، أجد رغبتي الأعمق في التّخلص من الكتب التي ألّفتها، وفي أن أقف نفسي على خلق الهراء الخالص، الفنتازيا الخالصة”. وربّما للسبب ذاته توقّف آرثر نفسه عن الكتابة عند سن معيّنة، ولم يستمر فيها طوال حياته، إنه لأصدق كاتب مع نفسه، ومع الغاية الأساسية الحقيقية من الكتابة.
وشبيه بموقف ميلر موقف وليام فورستير في فيلم “العثور على فورستر”، إذ جاء في الفيلم على لسان بروفسور روبرت كروفورد في وصف كتاب وليام الوحيد: “كثير من المؤلّفين الطّموحين حاولوا أن يكتبوا رواية القرن العشرين العظيمة، بينما وليام فورستير ألّفها من أوّل مرّة. هذا كان الكتاب الوحيد الذي قرّر نشره. حسبما نعرف كان هذا هو عمله الوحيد”. إنّه كتاب ظل يُقرأ لسنوات طويلة من أناس متعدّدين، ويقرأه الشّخص الواحد مرّات عديدة. هذه هي الكتب العظيمة، وهذا ما ينطبق على القرآن الكريم كذلك وبدرجة أكبر دلالة وأعظم برهاناً.
وربّما لأجل ذلك لفت القرآن الكريم نظر المؤمنين من أتباعه إلى فعل القراءة في مواطن متعدّدة، وليس إلى فعل الكتابة، فالقراءة يستطيعها كلّ من وُهب عقلا سليما، ولكنّ التّأليف خاصّ بالعقليّة الفريدة الّتي لا توجد كلّ حين. إنّه ليخيّل إليّ الآن أنّ كلّ هذه الكتب الّتي أتخمت المكتبة الإنسانيّة، أو معظمها في أحسن الأحوال، لا تساوي شيئا إطلاقا، لأنّها لا تشكّل علامات فارقة في مسيرة البشريّة. ولم تُحدث ما أحدثته الكتب السماويّة من حركة اجتماعيّة وثقافيّة على السواء.
.
رابط المصدر: