استضافت الولايات المتحدة القمة الأمريكية-الأفريقية في الفترة من 13-15 ديسمبر 2022، وهي القمة الثانية التي تُعقَد بين القادة من الجانبين بعد ثماني سنوات من القمة الأولى التي عقدت في عهد الرئيس أوباما عام 2014، ما يعكس تنامي انتباه الولايات المتحدة للأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للقارة الأفريقية. وقد عقدت القمة بعد وقت قليل من إطلاق الاستراتيجية الأمريكية تجاه أفريقيا، والتي تستهدف إعادة صياغة أهمية المنطقة لتحقيق مصالح الأمن القومي الأمريكي، وتعميق العلاقات التجارية الاقتصادية الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والقارة الأفريقية.
أهداف القمَّة ودلالات عقدها
أرادت إدارة بايدن من هذه القمة تحقيق مجموعة من الأهداف التي ترى أنها حاسمة في تلك المرحلة التي يتزايد فيها التنافس الدولي حول القارة الأفريقية، ومن بين هذه الأهداف استعادة الاهتمام والنفوذ الاستراتيجي بالقارة الأفريقية في مواجهة المنافسة الصينية الروسية، خاصةً أن القارة واعدة اقتصادياً على المديات القريبة والمتوسطة والبعيدة، وكذلك تفعيل وتعزيز التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري مع القارة في إطار المبادرات العديدة التي طرحتها الولايات المتحدة.
وعلى مستوى الأهداف الأفريقية من القمة، فقد تراوحت دوافع الدول الأفريقية من المشاركة في هذه القمة ما بين التأكد من مدى صدق النوايا الأمريكية في تفعيل التعاون مع القارة الأفريقية، خاصةً في الشق الاقتصادي وتنفيذ الوعود السابق قطعها بتقديم الدعم المالي والاقتصادي للقارة. وتهدف الدول الأفريقية للاستفادة من أجواء التنافس بين القوى الكبرى لتحقيق مصالحها الاقتصادية من خلال الانفتاح على التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة دون التخلي بالضرورة عن التعاون مع الصين وروسيا.
ومن الواضح أن هذه القمة عكست اتباع القوى الدولية الكبرى المتنافسة لدبلوماسية المؤتمرات والقمم الجماعية ومساعيها المستمرة للاستفادة منها باعتبارها آلية لدعم الوجود الاقتصادي في القارة، وتقوية الشراكات الاقتصادية والسياسية والأمنية مع أفريقيا، كما هو الحال مع القمة الروسية الأفريقية التي عقدت مرتين، والقمة الصينية الأفريقية، والقمة اليابانية الأفريقية، والقمة الهندية الأفريقية، والقمة الأوروبية الأفريقية وغيرها من القمم، باعتبار أن أفريقيا تمتلك العديد من الفرص الاقتصادية والاستثمارية الواعدة، والموارد البشرية والطبيعية الضخمة، وتحقق العديد من دولها معدلات نمو مرتفعة في ظل سوق واسعة تضم 1٫3 مليار نسمة.
وتأتي هذه القمة استكمالاً لسياسة الزيارات المكثفة للقارة الأفريقية التي بدأتها إدارة بايدن، عبر الجولات المتعددة لوزير الخارجية الأمريكي بلينكين الذي زار كينيا ونيجيريا والسنغال في نوفمبر 2021، وزيارته المغرب والجزائر في مارس 2022، وجنوب أفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا في أغسطس 2022.
من ناحية أخرى، مثَّلت القمة اختباراً حقيقياً لمدى فاعلية وجدوى الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه القارة الأفريقية، والتي أعلن عنها في أغسطس 2022 وتمتد لخمس سنوات، وقد شملت خطة استثمار بـ 11 مليار دولار مع 16 دولة أفريقية بهدف تعزيز الأمن الغذائي وكفاءة سلاسل التوريد في مواجهة الجفاف ومشكلات المناخ، إلى جانب تعهُّدها بالاستثمار في البنية التحتية، وتطوير القطاع الخاص، والتركيز على عدد من الأولويات منها التحول الرقمي والقدرات الأساسية للنظام الصحي، بما في ذلك القوى العاملة والبنية التحتية وتحسين سلاسل التوريد للسلع الأساسية والحصول على الكهرباء وتنسيق الأنشطة الاقتصادية للمانحين وتعزيز علاقاتها التجارية مع دول المنطقة، وذلك من خلال التركيز على القطاعات التي تتوافق مع أولويات الولايات المتحدة وتفي باحتياجات شركائها الأفارقة، مثل الأعمال التجارية الزراعية والطاقة والترفيه والرعاية الصحية التكنولوجيا، وتسهيل التجارة والهجرة بطريقة شرعية، مع تبادل المعلومات لتأمين حدود الدول الأفريقية، وتعزيز الشراكات بين الجمارك والشركات، وزيادة استخدام تدابير أمن البضائع، وتوسيع مشاركة البيانات مع الشركاء الأفارقة.
وحاولت الولايات المتحدة أن تستفيد من توجه شركائها الدوليين تجاه القارة الأفريقية من خلال الاستفادة من الآليات المبتكرة التي أُطلِقَت، ومن بينها برنامج الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار، وهي مبادرة استثمار في البنية التحتية من قبل مجموعة الدول الصناعية السبع بهدف تمويل يصل قيمته إلى 600 مليار دولار (تلتزم الولايات المتحدة بـ 200 مليار منها) لمنافسة مبادرة الحزام والطريق الصينية، وتهدف إلى تنفيذ مشاريع لتطوير البنى التحتية المرتبطة بالتحول الرقمي والطاقة وتحديات المناخ. وقد برهنت القمة على أن الولايات المتحدة قد وضعت المدخل الاقتصادي أولوية في إعادة تفعيل علاقتها بالقارة الأفريقية، خاصةً مع علمها بأن ذلك المدخل هو الحل لمنافسة النفوذ الصيني المتنامي في القارة الأفريقية، مع قيامها بالتخفيف من التركيز على حقوق الإنسان والحوكمة والديمقراطية.
المُخرجات
تمثَّل أهم مخرجات القمة في التخطيط لقيام الولايات المتحدة باستثمار ما لا يقل عن 55 مليار دولار في القارة الأفريقية على مدى السنوات الثلاث المقبلة، بما يخدم أجندة أفريقيا 2063، وإنشاء منصب ممثل رئاسي لتنسيق الجهود بشأن تنفيذ مبادرات القمة من أجل التأكيد على رغبة الولايات المتحدة في تفعيل مخرجاتها، وتوفير أكثر من 100 مليون دولار لتوسيع مبادرة القادة الأفارقة الشباب بهدف دعم الابتكار والتميز للشباب الأفارقة، ودعم الولايات المتحدة للاتحاد الأفريقي للانضمام إلى مجموعة العشرين بصفتها عضواً دائماً، وكذلك التوقيع على مذكرة تفاهم لإنشاء أكبر منطقة تجارة حرة في العالم باستثمارات تصل إلى حوالي 3.5 مليار دولار، وإعلان مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأمريكية عن استثمارات جديدة بقيمة 369 مليون دولار في جميع أنحاء أفريقيا في مجالات الأمن الغذائي والبنية التحتية للطاقة المتجددة والمشاريع الصحية، ودعم مبادرة التحول الرقمي مع أفريقيا لتوسيع الوصول الرقمي ومحو الأمية عبر القارة من خلال استثمار أكثر من 350 مليون دولار. وأكدت الإدارة الأمريكية نيتها استثمار 1.3 مليار دولار سنوياً في الفترة من 2022 إلى 2024 لسد الفجوة بين العاملين بقطاع الصحة في القارة، كما أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي عن شراكة استراتيجية للتحول إلى أنظمة غذائية مرنة وأسواق متنوعة لسلاسل التوريد.
من ناحية أخرى، أعلن الرئيس بايدن عن تخصيص 2 مليار دولار من المساعدات الإنسانية الطارئة الجديدة لأفريقيا، وعن خطط الولايات المتحدة لتوفير أكثر من 150 مليون دولار في شكل تمويل جديد لمعالجة التكيف مع المناخ وتحفيز الاستثمار في البنية التحتية للطاقة النظيفة في القارة. وعلى هامش القمة عقد الرؤساء التنفيذيون وقادة القطاع الخاص لأكثر من 300 شركة أمريكية وأفريقية اجتماعات مع رؤساء وفود القمة لتحفيز الاستثمار في قطاعات حيوية مثل الصحة والبنى التحتية والطاقة والأعمال التجارية الزراعية والرقمية.
التحديات
يمكن القول إن هناك عدداً من التحديات والمخاطر التي تواجه أطراف العلاقات الأمريكية الأفريقية الاقتصادية؛ فعلى المستوى الأمريكي، تعد المنافسة الدولية على النفوذ والحضور داخل القارة الأفريقية التحدي الأبرز لها، بالإضافة إلى المخاطر الناجمة عن الوجود الصيني والروسي والهندي في القارة الأفريقية، وتراجع نفوذ حلفاء الولايات المتحدة الغربيين في أفريقيا، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة ودول القارة الأفريقية نحو 64 مليار دولار عام 2021 في حين وصل بين الصين وأفريقيا إلى 254 مليار، بما يجعلها الشريك التجاري الأول للقارة. فيما أخذت روسيا في تطوير علاقاتها ونفوذها في القارة الأفريقية وزيادة التعاون الاقتصادي والتجاري معها، لكنه مع ذلك يظل محدوداً مقارنة بالصين وحتى بالهند، حيث لا يتجاوز 24 مليار دولار، بينما يصل التبادل التجاري بين الهند وأفريقيا إلى ما يقارب 90 مليار دولار، ومما يؤكد تنامي النفوذ الروسي في القارة أن معظم الدول الأفريقية رفضت إدانة الحرب الروسية في أوكرانيا مثلما أرادت الولايات المتحدة.
وتوفر البرجماتية الصينية، وعدم ربطها التعاون الاقتصادي والاستثمار مع دول القارة بالأوضاع السياسية والأمنية، نوعاً من الميزة النسبية لها في مواجهة الولايات المتحدة التي لديها تحد يتمثل في الآليات الديمقراطية والنظام المؤسسي الذي يزيد من دور مؤسسات مثل الكونجرس في السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا، أو في إقرار خطط العمل الاقتصادية والاستثمارية مع دول القارة الأفريقية، ويربطها في معظم الأوقات بالاعتبارات السياسية والموقف من الحكومات والإجراءات الديمقراطية المتبعة، وهو ما يجعل الشريك الأفريقي يتشكك في جدوى التوجه الأمريكي والمدة الزمنية اللازمة لتنفيذ تعهداته أو في أن تتحول هذه التعهدات من مجرد وعود إلى مشاريع وبرامج فعلية على أرض الواقع.
ويأتي على رأس التحديات التي تواجه المخرجات الناجمة عن القمة الأمريكية-الأفريقية أن العلاقات الصينية الأفريقية ليست مهمة للصين فحسب، ولكنها أكثر أهمية بالنسبة للدول الأفريقية حيث تمثل التجارة الصينية -الأفريقية حوالي 15% من حجم التجارة الكلية لدول القارة الأفريقية، فيما تمثل فقط نسبة 5% من التجارة الصينية، لذا لم تجد الدول الأفريقية البديل المناسب للصين حتى الآن، ولا يمكن اعتبار الولايات المتحدة البديل المناسب حالياً حتى في ظل تحركاتها الحالية واستراتيجيتها الجديدة.
وإذا ما تحدثنا عن التحديات والمخاطر على مستوى الجانب الأفريقي ونظرته لتطوير العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية، نجد أن القارة الأفريقية تعاني من مشكلة ارتفاع حجم الدين العام ليصل لنحو 546 مليار دولار، ما يعني أن القارة الأفريقية في حاجة إلى تخفيف عبء الديون وتخفيف قيود الملكية الفكرية أو ما سُمي باتفاق TRIPS التي وقف حائلاً دون حصول الدول الأفريقية على حق تصنيع اللقاحات ضد وباء كوفيد-19. ومن ناحية أخرى، لا تأخذ الولايات المتحدة بعين الاعتبار المخاوف والمصالح الخاصة بأفريقيا في توجهاتها، وهو ما تبين في العديد من المواقف خاصةً في ظل الأزمة الروسية الأوكرانية الأخيرة، والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا وعدم أخذها للجانب الأفريقي في الاعتبار عند اتخاذ هذه العقوبات والتي تأثرت بها الدول الأفريقية بشكل كبير، باعتبار أن معظمها دولاً نامية تستهلك الحبوب الغذائية وتعاني من مشكلات التضخم وتغير أسعار الطاقة.
حدود المكاسب والفرص المتاحة
ساهمت هذه القمة في تقديم دليل أمريكي على تغيير التوجه ناحية القارة الأفريقية بهدف تنفيذ الاستراتيجية الجديدة وتفعليها، وذلك من أجل الاستفادة من موارد القارة وفرصها المتصاعدة، حيث تمتلك أفريقيا احتياطيات ضخمة من الموارد الطبيعية، بالإضافة إلى الفرص الاستثمارية المتنامية، خاصةً مع تركيز الولايات المتحدة على تعزيز فرص القطاع الخاص الأمريكي داخل الساحة الأفريقية.
وقد أكدت الولايات المتحدة أن القمة ستُعقَد بشكل دوري خلال الفترة المقبلة على أن يُبحَث الشكل المؤسسي للتحاور في القضايا الاقتصادية والتجارية بين دول القارة والولايات المتحدة، وهو ما يمثل فرصة للولايات المتحدة لفتح قناة اتصال وآلية تواصل دائمة مع الجانب الأفريقي، بما يدعم التوجه الاقتصادي والاستثماري لها في القارة، وسيشكل ذلك مكتسباً لدول القارة لتعزيز حضورها على أجندة السياسة الخارجية الأمريكية في شقها الاقتصادي والتجاري، بالإضافة إلى شقيها السياسي والأمني.
ويمكن القول إن الوضع الدولي الحالي يخدم الدول النامية، لاسيما الدول الأفريقية في أن تحقق مصالحها عبر توظيف التنافس الدولي الاقتصادي المتصاعد بين القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة من ناحية وروسيا والصين من ناحية أخرى، لصالحها. وقد أصبحت القارة الأفريقية أكثر وعياً بحقيقة التنافس الدولي عليها، وعلى مواردها، لذا حاولت الاستفادة من هذا التنافس وتعظيم مكاسبها، ولذا أكد ممثلو الدول الأفريقية في القمة ضرورة إظهر الجانب الأمريكي التزامه بتوفير كل الأدوات المتاحة، ومنها تمويل التنمية والقروض والدعم الفني، ودعم الإصلاحات التشريعية لتحقيق التنمية في دول القارة.
خلاصة وتوقعات
تُشير القمة الأفريقية الأمريكية التي عُقِدَت في الولايات المتحدة في منتصف ديسمبر 2022 إلى توجه أمريكي جديد للتعامل اقتصادياً بالأساس مع القارة الأفريقية، وقد خرجت القمة بالعديد من الوعود الاقتصادية الأمريكية لدول القارة، إلا أن المهم هذه المرة هو تحويل هذه الوعود إلى أفعال، وهو ما تحاول الدول الأفريقية أن تضمنه من خلال التأكيد على دور الممثل الرئاسي لتنسيق الجهود لتنفيذ مخرجات القمة، وسرعة تحويل الخطوط العريضة التي أتُّفِقَ عليها إلى خطط عمل تنفيذية، إلا أن ما يعيق تحقيق ذلك هو الإجراءات الديمقراطية الداخلية الأمريكية التي تتطلب موافقة الكونجرس الأمريكي على ما تم الاتفاق عليه من وعود مالية واقتصادية قبل تنفيذها، ما يعني أن عامل الوقت دائماً وعدم المرونة هما التحدي الأساسي لتوسيع النفوذ الأمريكي في القارة الأفريقية في ظل جاذبية النموذج الصيني وعدم التزامه بنفس القيود الإجرائية الأمريكية.
ومن المتوقع أن تؤدي الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه القارة الأفريقية، وما تلاها من تحركات كان آخرها القمة الأفريقية الأمريكية، إلى زيادة النفوذ الأمريكي داخل القارة اقتصادياً، إلا أن مستقبل هذا النفوذ سيظل مرهوناً بالجدية في تنفيذ التعهدات الأمريكية، والحرص على استمرار نفس شكل التواصل المؤسسي مع زعماء القارة، ومدى الاستمرارية المؤسسية في نفس التوجه تجاه القارة، بمعنى أن الإدارة الأمريكية الحالية لو تغيرت قد تختلف سياسات واشنطن تجاه القارة بشكل كبير، وقد حدث ذلك في السابق في عهد إدارة الرئيس ترامب، وهو ما أبعد الولايات المتحدة عن منافسة الصين اقتصادياً داخل أفريقيا، وقلل من العلاقات التجارية بينها وبين دول القارة.
لكن بشكل عام، يبدو أن الولايات المتحدة لن تستطيع بسهولة، وفي المدى القريب، تقديم بدائل تنافسية حقيقية وكافية للدعم الاقتصادي الصيني لدول القارة، لكن من المؤكد أن استضافة الولايات المتحدة للقمة الأمريكية-الأفريقية الثانية والمبادرات التي أعلنتها في ختام القمة تُمثل نقطة تحول في سياسة الولايات المتحدة تجاه أفريقيا، وسيُختبَر جدية هذا التحول عبر قياس مدى التقدم في تنفيذ التعهدات التي أُطلِقَت في القمة، وداخل الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، من عدمه.
.
رابط المصدر: