أسفرت القمة الخامسة عشرة لدول “بريكس” الخمس (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا) التي انعقدت في جوهانسبرج في جنوب أفريقيا في الفترة من 22 إلى 24 أغسطس الجاري عن بعض التوجهات التي من شأنها أن تدعم الهدف الموحد الذي يجتمعون حوله وهو عالم متعدد الأقطاب، وتحول هذا التكتل إلى ثقل اقتصادي موازن للغرب، هدفه النهائي هو إزاحة هيمنة الدولار من النظام الاقتصادي العالمي. ووافق المجتمعون على “إعلان جوهانسبرج” الذي يعكس الرسائل الرئيسة لمجموعة “بريكس” بشأن المسائل ذات الأهمية الاقتصادية والمالية والسياسية العالمية.
مخرجات القمة
توسيع العضوية: عملت دول “بريكس” الخمس على البت في شأن توسيع العضوية، وهو ما كان محورًا رئيسًا في هذه القمة. وبعد أن توصلوا إلى اتفاقات بشأن المبادئ التوجيهية، والمعايير، والمخططات، والإجراءات الخاصة بعملية التوسع في بلدان بريكس التي تجري مناقشتها منذ فترة طويلة؛ استطاعوا التوصل إلى اتفاق على المرحلة الأولى من عملية التوسيع هذه والتي ستتلوها مراحل أخرى.
ومن بين أكثر من 40 دولة كانت قد تقدمت للعضوية، وافقت الدول الخمس على انضمام ست دول جديدة كأعضاء دائمين في “بريكس”، من بينهم ثلاث دول عربية، وهي: مصر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وإيران، وإثيوبيا، والأرجنتين، مؤسسين بذلك مجموعة “بريكس بلس”، وستنضم هذه الدول بداية من يناير 2024.
ويأتي هذا القرار عقب دراسة الوضع ليس فقط من الجانب الاقتصادي بل من الناحية الجيوسياسية أيضًا، بالإضافة إلى ضرورية أن تتمتع هذه الدول بعلاقات جيدة مع أعضاء “بريكس” الخمسة، وأخيرًا الأهمية السياسية لهذه الدول في منطقتها. كانت كل هذه النقاط عاملًا مهمًا ومحوريًا في اختيار الأعضاء الجدد والتي من شأنها أن تحقق مع دول “بريكس” منافع متبادلة، من خلال الاجتماع حول هدف موحد، نحو تعدد الأقطاب والتكامل التنموي.
المعاملات بالعملات المحلية: اتفقت الدول الخمس كذلك على أن يُعقد اجتماع لوزراء مالية الدول الأعضاء للبت في الأمور الاقتصادية، وعلى وجه الخصوص، التجارة بالعملات المحلية، وذلك في إطار الزخم العالمي لاستخدام العملات المحلية والترتيبات الأولية ونظم الدفع البديلة. على هذا الأساس، قامت “بريكس” بتكليف وزراء المالية والبنوك المركزية بالنظر في قضية العملات المحلية وأدوات ومنصات الدفع، على أن يقدموا تقريرًا إلى قادة “بريكس” بحلول القمة المقبلة.
ويأتي هذا بعد أن أعلن بنك التنمية الجديد عن إصدار أول سندات بالروبية الهندية في أكتوبر المقبل. علاوة على ذلك، يأتي هذا القرار عقب إصدار البنك الجديد أول سنداته بالراند، وهي العملة الرسمية في جنوب أفريقيا، الأسبوع الماضي. وعليه، كان يدرس إصدار سندات بالعملة المحلية لباقي الدول الأعضاء، ما من شأنه أن يقوم باستخدام عملات الدول الأعضاء في تمويل مشروعات بهذه العملات في الدول الأخرى، وذلك مثل إقراض اليوان الصيني لتمويل مشروع في جنوب أفريقيا بدلًا من الدولار.
دلالات محورية
تعود هذه القرارات التي تمت مناقشتها في القمة بالمنافع السياسية والاقتصادية على الدول الخمس الأعضاء من ناحية، وعلى الدول المنضمة حديثًا إلى “بريكس” من ناحية أخرى. هذا وتعد خطوة إلى الأمام باتجاه الأهداف المشتركة التي تسعى إليها الدول الإحدى عشر بالإجماع، وذلك كالتالي:
المكاسب الاقتصادية: تأتي على رأس المنافع المتبادلة من هذه القرارات المكاسب الاقتصادية التي من المتوقع أن تعود على الدول الأعضاء؛ فمن ناحية الدول الست التي تم قبول عضويتها، من شأن المعاملات التجارية بالعملات المحلية أن ترفع قيمة عملات هذه البلاد، وقد يسهم ذلك في حل مشكلات تدبير العملة الأجنبية والقدرة على التبادل التجاري بعملاتها المحلية، والذي من شأنه أن يخفض فاتورة الاستيراد والتجارة بالدولار.
هذا ومن شأن هذه القرارات أن تضع الدول الست في وضع أفضل لجذب المزيد من الاستثمارات وتعزيز السياحة التي تعد مكونًا رئيسًا في اقتصاد هذه البلاد، بالإضافة إلى تسهيل الوصول إلى المنح والقروض من خلال بنك التنمية الجديد، ما يفتح أمامها بابًا للخروج من شروط صندوق النقد الدولي ومؤسسات التمويل الدولية الأخرى. هذا وقد يعزز القوة التفاوضية بشأن المفاوضات المالية، مما يوفر لهذه الدول نفوذًا أكبر في الاقتصاد العالمي، بالإضافة إلى تمكنهم من الوصول إلى سوق مشتركة جديدة وواسعة لترويج وبيع سلعهم ومنتجاتهم. وأخيرًا، قد تؤدي هذه العضوية إلى إمكانية الحصول على التمويل من بنك التنمية الجديد وذلك لتمويل مشروعات البنية التحتية ومبادرات التنمية المستدامة.
أما من ناحية الأعضاء الخمسة الأساسيين، فإن اختيارهم لهذه الدول تحديدًا لم يأت بمحض الصدفة، فهم على دراية كاملة بالوضع الاقتصادي المتنامي فيها بشكل سريع، والذي من شأنه أن يضيف لمجموعة “بريكس” ثقلًا اقتصاديًا يدفعها إلى التقدم المتواصل، خاصة أمام الكيانات الاقتصادية الموازية والشبيهة مثل “مجموعة السبع” التي استطاعت “بريكس” تخطيها في عام 2022 لتصبح قيمة مساهمتها في الاقتصاد العالمي أكثر من 31% مقارنة ب30.7% لمجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى.
ومن المتوقع أن يصل النتاج المحلي الإجمالي لمجموعة “بريكس بلس” بعد انضمام هذه الدول الست، إلى نحو 37% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي والذي من المتوقع أن يستمر في النمو بل ومن المتوقع أن يتضاعف. ويتماشى هذا التعاون بحسب الأهداف التي تعمل هذه المجموعة على تحقيقها، وهي خلق قوة اقتصادية كبيرة، والعمل على تعددية القطبية في النظام العالمي، والحد من هيمنة الدولار. ليس هذا وحسب، بل أيضًا وبعد انضمام هذه الدول سيصبح الثقل الديموجرافي أيضًا ملحوظًا، بحيث يصل إجمالي سكان “بريكس بلس” 46% من سكان العالم.
المكاسب السياسية: تتمتع الدول الخمس الأساسية في “بريكس” بمكانة سياسية قوية ونفوذ سياسي كبير على الساحة العالمية، والتي من شأنها أن تسهم في توسيع نطاق حضور الدول الست الجدد على المستوى الدولي وتعزيز ظهورها بل وانخراطها بشكل أوطد على الساحة العالمية. كذلك يوفر هذا الانضمام للدول الست ديناميكيات وأبعادًا جديدة للعلاقات الثنائية مع دول “بريكس”، ما يشكل نقطة بداية جديدة للتعاون بينهم والذي بإمكانه أن يحقق الكثير إذ ما عملت الدول معًا نحو هدف التنمية المشتركة. هذا وقد تكتسب الدول الخمس نفوذًا جيوسياسيًا يضعها كبديل للنظام العالمي أحادي القطبية، وعليه، اتخذت المجموعة خطوات جادة بخصوص الانخراط مع ما يسمى “دول الجنوب العالمي” لموازنة النفوذ الغربي.
تحقيق التكامل: يعد انضمام هذه الدول لمجموعة “بريكس” خطوة إيجابية لتحقيق قدر كبير من التكامل بين الدول الإحدى عشرة والتي تنعم كل منها بالتميز في مجالات معينة؛ فعلى سبيل المثال، تتميز روسيا في مجال الحبوب ومصادر الطاقة، والهند في مجال تكنولوجيا المعلومات، والمملكة العربية السعودية بجانب الإمارات العربية المتحدة في مجال النفط، ومصر على خطوات التميز في الطاقة النظيفة والطاقة الخضراء.
وعليه، قد ينعم هذا التكتل بعناصر يمكن للدول الأعضاء تحقيق التكامل فيما بينهم من خلالها للزيادة من قوتها. ويأتي هذا التكامل من خلال الاستفادة بشكل أفضل من خبرات الدول لأعضاء في مجالات مثل: التنمية، والتصنيع، والنمو الاقتصادي، وغيرها، مما يصب في مصلحة الدول جميعها بحيث يتم تدارك الخلل القائم في كل دولة والعمل على تحسينه من خلال الاستعانة بخبرات الدول الأعضاء الأخرى.
ختامًا، يمكن القول إن هناك أزمات جديدة تنشب على الساحة العالمية ما يتطلب التوجه نحو اتجاهات جديدة من شأنها أن توفر فرصًا للتصدي لهذه المتغيرات وغيرها المتوقع أن تنشب مستقبلًا، والتي بلا شك تضم، على رأسها، الوضع الاقتصادي الصعب الذي تم فرضه على هذه الدول جراء الأزمات العالمية، والذي يتطلب إيجاد مخرجات جديدة لمواجهتها. وعليه، فهذه الخطوات تعد، قبل كل شيء، توجهًا استراتيجيًا لمواجهة أزمة الاستقطاب العالمي القائمة.
وعلى غرار هذه التوجهات، تزداد بالتأكيد الدول المنضمة حديثًا لـ “بريكس بلس” ثقلًا إقليميًا واقتصاديًا كبيرًا؛ لكونها تتحد مع دول محورية تملك مفاتيح اقتصادية وسياسية على المستوى العالمي. وتكتسب دول “بريكس” الخمس الأساسية ثقلاً جيوسياسيًا واقتصاديًا من خلال هذا الانضمام والذي من شأنه أن يضعها في وضع موازن للقوة الغربية. ولكنه من المبكر جدًا الجزم، بهذا الانضمام، أننا أصبحنا في عالم متعدد الأقطاب أو عالم ما بعد الدولار؛ إذ لا تزال الولايات المتحدة هي الرائدة والمهيمنة على الاقتصاد والسياسة العالمية بشكل كبير. ولكن هذا الانضمام لا يزال يمثل رسالة تمهيد لبناء هذا العالم.
.
رابط المصدر: