القيمُ ضرورة لأنسنة الإنسان، الإنسان بلا قيم يخرج من إنسانيته ويتحول إلى كائن متوحش مخيف. القيمُ مثل سامية يتطلع ويسعى الإنسان للتحقق بها، لتتكاملَ شخصيته، ويثري حياتَه بالمعنى، ولن يبلغ مدياتِها القصوى إلا الأفذاذ من البشر.
القيمُ ضرورة للحياة الإنسانية، وهي شرط لوجود كل مجتمع حيوي خلاق، هناك ثلاث مجموعات من القيم التي ينهل منها الإنسان وتشبعُ متطلبات معنوية أساسية لحياته، وهي: القيم الروحيَّة، والقيم الأخلاقيَّة، والقيم الجماليَّة، ولكل واحدة منها وظيفتها الأساسيَّة، وكل منها يحقق للإنسان كمالا على شاكلته، ويشبعُ احتياجات أساسية في حياة الفرد والمجتمع. وبين هذه المجموعات الثلاث للقيم علاقة عضوية من التأثر والتأثير المتبادل، فوجود كل منها يعزز وجود الأخرى ويثريها، وترسيخ كل منها يرسخ وجودَ الأخرى ويكرّسها(1).
الحقيقةُ القيميَّة كالحقيقة الدينيَّة، يدركهما الإنسانُ بالتدريج عبر التاريخ، فمع تقدّمِ الزمن تتضح رؤيةُ الإنسان وتنضج وتتكامل، تبعًا لتطورِ وعيه، وتراكمِ خبراته، وتكاملِ مناهج وأدوات المعرفة التي يوظفها في الفهم. مصاديقُ تحقّق القيم نسبيٌّ في حياة الفرد والجماعة، كما أنَّ السعادةَ والنجاحَ والكمالَ نسبيَّةٌ (2).
الكرامةُ والكونيَّةُ هما المعيارُ الذي تتحدّد على أساسه القيمُ الأخلاقيَّة، بمعنى أنَّ هذه القيمَ شاملةٌ، وأنّها قانونٌ كلّي يصلح للتعميم لكلِّ الناس الذين تتوحد مصائرُهم في الأرض، فمهما كان الإنسانُ فإنّه يحتاجُ الكرامة، لأن الكرامةَ تتحقّق بها إنسانيتُه، يحتاجها كلُّ إنسان بوصفه إنسانًا، بغضِّ النظر عن دينه وإثنيته وثقافته وعصره.
كما يحتاجُ الإنسانُ مهما كان: الصدقَ والمساواةَ والحريةَ والعدلَ والأمانةَ، وهي كلّها تكرِّس الكرامةَ وتحميها من الانتهاك. الكرامةُ والحرية والمساواة والعدل والصدق والأمانة كغيرها من القيم الإنسانيّة الكونيَّة، لم يولد الوعي بمفهومِها واكتشافِ مصاديقها دفعةً واحدة، بل تَطَلَّبَ وصولُ الإنسانيّة إلى الوعي بمعانيها المعروفة اليوم، والتعرّفُ على حدودها وتطبيقاتها ومصاديقها عبورَ محطات موجعة، وهي تقطع مسارًا طويلًا مريرًا شاقًّا عبر التاريخ. وذلك ما انتهى إليه الإعلانُ العالَمي لحقوق الإنسان، فلم تعد حقوقُ الإنسان الكونيَّة قيمًا ترتبط عضويًّا بالثقافة المحليّة والهوية المجتمعيّة؛ ذلك أنّ بعضَ الثقافاتِ المحلية والهوياتِ المجتمعية يتمايزُ فيها البشرُ، وتتفاوتُ حدودُ مكانتهم ومساحةُ حقوقهم وحرياتهم تبعًا لجنسهم ومعتقدهم وإثنيتهم.
لا حياةَ أخلاقيَّة بلا قيمٍ كلية كونيَّة تتجاوز الزمانَ والمكان والواقع، وتتموضع بوصفها معايير ثابتة للحق والخير والعدل والفضيلة والسلام والصدق والكرامة والمساواة والحرية والأمانة. مفاهيمُ هذه القيم تقف خارج التاريخ، لكن تطبيقاتِها تاريخيّة، تتناغم على الدوام وإيقاعَ رؤية الإنسان للعالَم وعلومه ومعارفه، وتعبّر مصاديقُها عن وعيه وتطوره الحضاري وثقافته ونمط عيشه في كلِّ عصر.
يرى «إيمانويل كانت» أَنَّ: «الصفة المميزة الجوهرية لأي قانون هي أنه كلي، أي صادق بالنسبة إلى جميع الأحوال من دون استثناء… وبالمثل القانون الأخلاقي، أو قانون الحرية، وهو القانون الذي يقول إن الفاعل الأخلاقي يتصرف أخلاقيًّا، إذا سيطر العقل على كل ميوله.
فإن كان هذا قانونًا، فيجب ألا يكون له استثناء مهما تكن الظروف، كما أنه لا يمكن أن يكون صادقًا بالنسبة إلى أناس من دون أناس، بل يجب أن يصدق على الجميع على السواء. خذ مثلًا: الواجب. إنه ليس واجبًا عليَّ فقط من دون غيري، وليس واجبًا في ظرف من دون ظرف آخر، ولا يحتمل أي استثناء لمصلحة هذا أو ذاك. والأخلاق يجب أن تتألف من قوانين صادقة بالنسبة إلى كل الكائنات العاقلة على السواء» (3). ويذهب «كانت» أيضًا إلى أنّ على الإنسان الذي يفعل أيَّ فعلٍ أن يفعله بالشكل الذي يصيّره تشريعًا عامًا لكلِّ البشر، إذ يقول: «افعل الفعل بحيث يمكن لمسلمة سلوكك أن تصبح مبدأ لتشريع عام… افعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك باعتبارها دائما، وفي الوقت نفسه، غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة»(4).
نعني بالأخلاقِ هنا ما يحكمُ به العقلُ العملي أو العقلُ الأخلاقي، وهي الأخلاقُ بالمعنى الفلسفي، ولا نعني بها الأخلاقَ بمعنى الأحكام على وفق التصنيف الفقهي، أو ما عرُف بالآدابِ الشرعيةِ في تراثنا، وهذه الآدابُ ضربٌ من الأحكامِ الفقهية، عندما أضحى مفهومُ الشريعةِ مطابقًا لمفهومِ الفقه.
لا تتنكّر القيمُ الأخلاقية الكونية للحقِّ في الاختلاف، والحقِّ في الاعتقاد، والحقِّ في التفكير، والحقِّ في إبداء النظر، والحقِّ في التعبير. التكفيرُ يصادر كلَّ هذه الحقوق ويتنكّر لها، لأنه لا يرى إلا وجهًا واحدًا للحقيقة، ولا يعتقد إلا بوجود صورةٍ واحدةٍ لله، وتصورٍ واحد لصفاته، وطريقٍ واحد إليه، وقوالبَ جزميةٍ للاعتقاد به، وكلماتٍ أبديةٍ في التعبير عنه.
ألا يجدر بنا أن نُسائل التراثَ الأخلاقي في عالَم الإسلام، لماذا عجز عن الوفاء ببناءِ ضميرٍ أخلاقي يحمي حياةَ الفرد والمجتمع من: انتهاك الكرامة، وتضييع الحقوق، وتجاوز الخصوصيات الشخصية؟ لماذا كانت مدونةُ الأخلاق شحيحةً، مقارنةً بمدوناتِ الحديث والرجال والتفسير والفقه والكلام واللغة وغيرها؟ لماذا يفتقر هذا التراث، على الرغم من سعته، إلى مقاربةٍ واقعية تتبصّر طبيعةَ الكائن البشري في ضوءِ الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع والمعارف الحديثة، لئلا تُكرِه الإنسانَ وتعنّفه على فعلِ ما هو الضدّ من طبيعتِه الإنسانيّة؟
إنّ ما نعنيه بافتقارِه لمقاربةٍ واقعية تتبصّر طبيعةَ الكائن البشري بعمق: أنه تراثٌ يتسع لعناصر متضادّة، وُلِدت في سياقات متنوعة، تعود إلى مجتمعاتٍ عاشت في أزمنةٍ مختلفة، وتنحدر من ثقافاتٍ متعدّدة وهوياتٍ متنوعة، وتحيل إلى مرجعياتٍ ليست موحدة. لذلك أخفق هذا التراثُ في تأليفِ المختلِف، وتوحيدِ المتعدّد، بالتعرّفِ على مشتركاته واستخلاصِ جوهره الأخلاقي، وصياغةِ رؤيةٍ تكرّس الحياةَ الأخلاقية، وتنشد تحقيقَ معادلة تَوازُنٍ تستجيب لاحتياجات مكوّنات طبيعة الكائن البشري، وتشبعها في سياق أخلاقي؛ لا يقدّم الجسدَ قربانًا للروح، ولا يجعل العقلَ قربانًا للمشاعر والعواطف، ولا يختزل الكلَّ في واحد.
الحقُّ في الاختلاف يفرض بناءَ قيمِ التنوع والتعدّدية والعيش المشترك، لكن يتعذر ذلك في مجتمع تتفشّى فيه أحكامُ تكفير المختلِف في المعتقد. التكفير هو اللغم الأخطر في التراث الذي يقوّض كلَّ مسعىً للانخراط في العصر، إنّه عنصرُ الممانعة الأقسى والأعنف لحضورِ المسلم الفاعل اليوم في العالَم. التكفيرُ في علم الكلام القديم يمنع المسلمَ من التفاعل العضوي الخلّاق داخل المجتمعات المتنوعة الأديان والثقافات، كما يمنع ولادةَ المواطنة بوصفها ركيزةَ بناء الدولة الحديثة، لذلك يتعذّر بناءُ الدولة الحديثة في البلاد التي تعتمد مقولاتِ الكلام القديم وتتخذها مرجعيةً في دساتيرها وتشريعاتها وقوانينها وبرامجها.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/37808