نقاط أساسية
- تستخدم “هيئة تحرير الشام”، المُصنَّفة منظمة إرهابية، استراتيجية مُتعدّدة الأوجه تجمع بين الانتهازية والتحالفات المحليّة والحوافز الاقتصادية والتكتيكات الخطابية لتعزيز أهدافها التوسّعية في شمال حلب السورية.
- التدخّلات التركية المُتكررة لوقف محاولات التوسّع العسكري لهيئة تحرير الشام خارج إدلب تُشير إلى أن أنقرة تُعارض التنظيم، لكنها مع ذلك لم تُغلِق المجال بشكل تام أمامه، تَاركةً له مساحة للعمل.
- من المُرجّح ألا تتوقّف “هيئة تحرير الشام” عن توسيع نفوذها في عفرين ومنطقة درع الفرات ضمن معايير المساحة المسموح لها بذلك، والمُقيّدة بعاملين رئيسين على الأقل: الخطوط الحُمر التي رسمتها تركيا بهذا الخصوص؛ وحدود قدرات التنظيم على مواصلة نهجه التوسعي.
شهد شهر سبتمبر 2023 اشتباكات بين فصائل المعارضة السورية التابعة للجيش الوطني السوري والفصائل التابعة لـ «هيئة تحرير الشام» شمال مدينة حلب، ما أدى إلى تدخل عسكري مباشر من جانب الهيئة. وتُعَدُّ هذه المحاولة الرابعة في غضون ستة عشر شهراً من جانب المجموعة للتوسع عسكرياً في شمال حلب (عفرين ومناطق «درع الفرات»)؛ وهي منطقة خاضعة لسيطرة القوات التركية ووكلائها المحليين وحكومة المعارضة السورية المؤقتة المدعومة من أنقرة. وتشير التدخلات المتكررة من جانب «هيئة تحرير الشام» إلى أن هذه المحاولة لن تكون الأخيرة على الأرجح، الأمر الذي يُثير تساؤلات حول الأهداف بعيدة الأمد للمجموعة في هذه المنطقة، وموقف تركيا بخصوص جهود «هيئة تحرير الشام» للتوسع.
تتناول هذه الورقة، أولاً، محاولات «هيئة تحرير الشام» الأخيرة والسابقة للتوسع في شمال حلب، والأنماط السائدة، المرتبطة بهذه المحاولات والمساعي، التي تُسلِّط الضوء على أهداف الهيئة على الأمد المتوسط في المنطقة. وتُحلل الورقة، ثانياً، إجراءات تركيا مع الأخذ بعين الاعتبار أهداف أنقرة والقيود الدولية. وتستشرف الورقة، ثالثاً، مسار التطور المحتمل لدور “هيئة تحرير الشام” في شمال حلب.
“هيئة تحرير الشام” خارج إدلب: أنماط التوسُّع
تمثلت الشرارة التي دعت “هيئة تحرير الشام” إلى التدخل نهاية سبتمبر 2023 في خلاف حول معبر الحمران الحدودي الاستراتيجي، والذي يُشَكِّل بوابة اقتصادية حيوية تقع بين درع الفرات والمناطق الخاضعة لـ “قوات سورية الديمقراطية” (قسد). كما يحظى معبر الحمران بأهمية إضافية تَتَمَثَّل في أنه أحد المعابر التي يمر من خلالها الوقود من الشرق إلى الغرب. وكان المعبر قُبيل هذا التصعيد خاضعاً لسيطرة فصيل إسلامي معارض معروف باسم “القطاع الشمالي” في حركة “أحرار الشام” أو “أحرار عولان” التي كانت تابعة لأحرار الشام، لكنَّ انهيار الأخيرة بعد حربها مع “هيئة تحرير الشام” في نهاية 2016 جعل “أحرار الشام” تلتحق بـ “الجبهة الشامية” (مجموعة كبيرة في درع الفرات وجزء من الجيش الوطني السوري). وانفصلت “أحرار عولان” عام 2022 عن “الجبهة الشامية” واقتربت من “هيئة تحرير الشام”. كما أصبحت عام 2023 جزءًا من تحالف القوات الإسلامية المحلية الموالية لـ “هيئة تحرير الشام” التي انطلقت بشكل أساسي في مناطق ريف شمال وشمال شرق حلب المعروفة باسم “تجمع الشهباء”.[1]
بدأ الصراع الأخير نتيجة الانقسام داخل فصيل “أحرار عولان”، حيث أعلن بعض قادة ومقاتلي الفصيل انتمائهم إلى “الفيلق الثاني” التابع لـ “الجيش الوطني السوري” في حين ظل آخرون ضمن الهيكل الأصلي التابع لـ “هيئة تحرير الشام”. ويتألف الفيلق الذي تقوده فرقة سلطان مراد من مقاتلين تركمان من ريف شمال حلب. ويعتقد أن العلاقات الوثيقة بين “أحرار عولان” و”هيئة تحرير الشام” تُعَدُّ السبب الرئيس لهذا الانشقاق، خاصة على ضوء تاريخ الصراع بين “أحرار الشام” و”هيئة تحرير الشام” في إدلب.
وتقاتلت المجموعة المنشقة على المعبر، حيث وفر “تجمع الشهباء” دعماً كاملاً لـ “أحرار عولان” الذي تحالف مع “هيئة تحرير الشام”، وعبَّرت عن معارضتها للسياسات الاستفزازية في الجيش الوطني السوري ووزارة الدفاع التابعة للحكومة المؤقتة. ورحب الجيش الوطني السوري بدوره بالمنشقين للانضمام إلى صفوفه، حيث شاركت العديد من الفصائل التابعة للجيش الوطني السوري في المواجهات ضد “أحرار عولان”. وأغلقت تركيا المعابر الرئيسة الثلاثة مع سورية خلال الصراع، وبعثت مسؤولين لتسهيل المفاوضات بين الجانبين دون أي نجاح. في غضون ذلك وصل الدعم الذي وفرته “هيئة تحرير الشام” إلى “أحرار عولان” إلى حد إرسال تعزيزات من معقلها في إدلب، غير أن القوات التركية انتشرت في عزاز لمنع تقدم هذه التعزيزات.
وتُعَدُّ هذه رابع محاولة من جانب “هيئة تحرير الشام” للتغلغل في شمال حلب عسكرياً، وثاني محاولة مباشرة تتعلق بمعبر الحمران الحدودي. وجاءت محاولة التوسع الأولى في يونيو 2022 بعد انشقاق “أحرار عولان” عن “الجبهة الشامية”، ما أدى إلى صدامات بين الطرفين. وفور اندلاع هذه الصدامات أرسلت “هيئة تحرير الشام” تعزيزات ضخمة إلى عفرين لدعم “أحرار عولان”. وأصدرت “هيئة تحرير الشام” بياناً يتهم “الجبهة الشامية” بمحاربة مجموعات أخرى والتحريض على الانقسام. كما زعمت أن تدخلها يهدف إلى حماية جبهة المعارضة، ووقف الفوضى في شمال حلب. وتمكنت “هيئة تحرير الشام” من السيطرة على العديد من المواقع، خاصة في عفرين قبل تدخل تركيا، وارغام “هيئة تحرير الشام” على الانسحاب بعد التوصل إلى اتفاق وقع عليه الجيش الوطني السوري والفصائل التابعة لـ “هيئة تحرير الشام”.
وجرت المحاولة الثانية في أعقاب صراع داخلي واسع النطاق بين عدة فصائل تابعة للجيش الوطني السوري في أكتوبر 2022. وانطلقت شرارة الصراع بعد اغتيال الناشط الإعلامي البارز محمد أبو غنوم في مدينة الباب، ما أدى إلى خروج احتجاجات واسعة تطالب بالعدالة والمحاسبة. وشهدت الأيام التالية تداول مقطع مصور على وسائل التواصل الاجتماعي يتضمن جزءًا من التحقيق مع المتهمين باغتيال أبو غنوم، حيث اعترف هؤلاء المتهمين بتلقي أوامر من قيادة “فرقة حمزة” التابعة للجيش الوطني السوري لتنفيذ الاغتيال. وأدت هذه الأنباء إلى قيام “الجيش الوطني السوري” بشن حملة واسعة النطاق في عفرين بقيادة “الجبهة الشامية” ضد “فرقة حمزة” التي تلقت دعماً من فصائل حليفة، خاصة سيء السمعة أبو عمشة قائد “فرقة سليمان شاه”. وسيطرت “الجبهة الشامية” على العديد من المواقع التابعة لـ “فرقة حمزة” في ريف عزاز والباب، واعتقلت العديد من أعضاء الفرقة.
واغتنمت “هيئة تحرير الشام” الفرصة، وتدخلت باستخدام قوة مسلحة ضخمة لدعم “فرقة حمزة”، ما أدى إلى تغيير موازين القوة. وتمكنت “هيئة تحرير الشام” بسرعة من السيطرة على مدينة عفرين بعد هذا التدخل. لكنَّ “هيئة تحرير الشام” هذه المرة صعَّدت من خطابها، واتهمت أصحاب المصالح من المسلحين والمدنيين في شمال حلب بالفساد وسوء الإدارة في مجالات الأمن والخدمات والاقتصاد، ودعت إلى تغييرات جوهرية في قيادة المنطقة. وانطوى تدخل “هيئة تحرير الشام” على أثر كبير في شمال حلب، حيث عزز نفوذ المجموعات التابعة أو التي تدعمها الهيئة في جرابلس والباب. واغتنم لواء “أحرار عولان” الفرصة، وسيطر على معبر الحمران الحدودي الذي كان وقتها خاضعاً لسيطرة “الجبهة الشامية”.
وزعمت “هيئة تحرير الشام” بادئ الأمر أن هدفها يَتَمَثَّلُ في وقف الاقتتال الداخلي بين الفصائل، لكنْ بعد إحراز تقدم جوهري في غضون أيام في مواجهة مقاومة ضعيفة على ما يبدو من الخصوم بدأت بشن هجوم على مدينة عزاز مقر الحكومة السورية المؤقتة والقيادة السياسية والعسكرية، خاصة “الجبهة الشامية”. لكنَّ القوات التركية تدخلت عند ذلك الحد، وفرضت اتفاقاً ينص على انسحاب “هيئة تحرير الشام” الفوري والكامل من كل المناطق في ريف حلب الشمالي.
وعلى الرغم من انسحاب “هيئة تحرير الشام”، لم تُسلَّم مناطق محددة مثل معبر الحمران الحدودي إلى وزارة الدفاع التابعة للحكومة السورية المؤقتة حسب الاتفاق. لذلك طالبت فرقة سلطان مراد في يناير 2023 “لواء أحرار عولان” بتسليم معبر الحمران الحدودي إلى الحكومة السورية المؤقتة.
وأدى رفض “أحرار عولان” إلى اندلاع مواجهات بين الطرفين، ما دفع قوات “هيئة تحرير الشام” للتدخل للمرة الثالثة. وتمكنت قوات “هيئة تحرير الشام” من السيطرة على العديد من المواقع التابعة لفرقة سلطان مراد في عفرين، ما دفع تركيا مرة أخرى للتدخل لوقف الاشتباكات، وإرغام “هيئة تحرير الشام” على ترك المنطقة في الوقت الذي ظل المعبر الحدودي تحت سيطرة “أحرار عولان”.
وبرزت العديد من الأنماط من هذه الأحداث التي تسلط بعض الضوء على أساليب “هيئة تحرير الشام” للتوسع:
- اغتنام أي فرصة: يبدو أن “هيئة تحرير الشام” تستخدم الصدامات مع الجيش الوطني السوري أو ضد حلفائها المحليين مثل “أحرار عولان” فرصة للتدخل في شمال حلب.
- بناء تحالفات محلية والدفاع عنها: يبدو أن “هيئة تحرير الشام” عازمة على حماية حلفائها المحليين، حيث يُعَدُّ أفضل مثال على ذلك تدخلاتها لدعم “أحرار عولان”، ومطالبتها بمعبر الحمران الحدودي.
- المكاسب الاقتصادية: هناك أسباب اقتصادية خلف تدخل “هيئة تحرير الشام”، حيث تمنح سيطرة “أحرار عولان” على معبر الحمران الحدودي قدرة غير مباشرة للوصول، وحتى السيطرة على معبر مهم بين المناطق الشرقية الخاضعة لسيطرة “قسد” والمناطق الخاضعة للمعارضة غرب الفرات. وتنطوي السيطرة على المعبر الذي يستخدم لمرور شاحنات الوقود من شرق سورية على أهمية اقتصادية بالنسبة لـ “هيئة تحرير الشام”. ومع سيطرة حليف للهيئة على المعبر، أصدرت حكومة الإنقاذ التابعة للهيئة أمراً بإلغاء التراخيص على واردات النفط والوقود. وشَكَّلَ هذا القرار بداية مرحلة جديدة بالنسبة للهيئة، حيث تمكنت من سيطرة شبه كاملة على قطاع الوقود في مناطق نفوذها في إدلب وغرب حلب.
- على رغم انسحاب “هيئة تحرير الشام” في كل مرة، فإنها حافظت على بعض نقاط الدعم: عملت تركيا في كل مرة تتدخل فيها “هيئة تحرير الشام” على إرغام الهيئة على الانسحاب، لكنَّ الهيئة تمكنت في كل تدخل وانسحاب من إقامة درجة من النفوذ والسيطرة في تلك المناطق. على سبيل المثال، لم ينسحب “أحرار عولان” المدعومين من الهيئة أبداً من معبر الحمران الحدودي خلافاً للاتفاق الذي فرضته تركيا. كما أن “هيئة تحرير الشام” تترك خلفها في كل مرة تدخل فيها عفرين نفوذاً أمنياً أقوى.
- القليل من المقاومة من المجموعات المحلية: يُعتقد أن “هيئة تحرير الشام” واجهت القليل من المقاومة من المجموعات المنافسة بعد أن أصبحت أكثر قوة وانضباطاً.
- خطاب ومحاولات “هيئة تحرير الشام” للاسترضاء: تضمنت محاولات “هيئة تحرير الشام” عادة مساعي لاسترضاء السكان المحليين، واستغلال الانقسامات، والتأكيد على الاستقرار في إدلب مقارنة مع الفوضى والفساد في شمال حلب. على سبيل المثال، هاجمت عناصر يُعتقد أنها تابعة للجيش الوطني السوري مدنيين أكراد في منطقة جنديرس جنوب عفرين خلال استعدادهم للاحتفال بعيد النيروز في مارس 2023. وأدى الهجوم إلى مقتل أربعة مدنيين أكراد، ما أثار موجة من الغضب، واندلاع العديد من المظاهرات في المنطقة. في غضون ذلك حضر أبو محمد الجولاني زعيم “هيئة تحرير الشام” إحدى هذه المظاهرات، حيث وقف بالقرب من اشخاص يُعتقد أنهم أقارب الضحايا. وأظهر مقطع مصور هؤلاء الأشخاص وهم يطالبون الجولاني بالحماية من الفصائل التي نفذت الهجمات ضد الأكراد، حيث تعهَّد الجولاني بحمايتهم ومحاسبة الجناة. لكنَّ الجيش الوطني السوري عمل على تصحيح الوضع، واعتقل الأشخاص المسؤولين عن الحادثة، وأكد بأنهم غير تابعين للجيش.
وتُشير هذه الأنماط مُجتمعةً إلى أن الهيئة تستخدم استراتيجية مُتعدّدة الأوجه تجمع بين الانتهازية والتحالفات المحليّة والحوافز الاقتصادية والتكتيكات الخطابية لتعزيز أهدافها التوسّعية في شمال حلب. وثمة عدة عناصر رئيسة واضحة في استراتيجيتها هذه، أولها، انتهاز الهيئة الفرص للتدخّل عندما تنشأ صراعات داخلية بين الفصائل أو عندما تكون هناك صراعات بين حلفائها والجيش الوطني السوري – وهي ظاهرة من المُرجّح أن تستمر. ثانياً، تُركّز الهيئة بشدة على بناء التحالفات المحليّة والدفاع عنها، كما يتَّضح ذلك من خلال دعمها للواء “أحرار عولان” وتدخّلاتها المُتكرّرة لحماية هذه الجماعة. ثالثاً، يبدو أن الدوافع الاقتصادية تؤدي دوراً في بعض هذه التدخّلات، لاسيما في تأمين بوابات اقتصادية حيويّة مثل معبر الحمران الحدودي، حيث يأتي الوقود من شرق سورية إلى إدلب. رابعاً، وحتى عندما تنسحب الهيئة، فإنها تحتفظ بجيوب من الدعم وتُحافظ على وجودها، كما رأينا مع احتفاظ “أحرار عولان” بمعبر الحمران بعد انسحاب الهيئة وتعزيز وجودها الأمني في عفرين.
والنمط الآخر، أن الهيئة لم تواجه مُقاومة تُذكر من الجماعات المحليّة في كل مرة تتدخّل فيها، الأمر الذي قد يُشجّعها على ذلك. كما أن الجماعة لم تدخل لغاية الآن في اشتباكات كبيرة مُطوّلة مُباشرة مع فصائل الجيش الوطني السوري في أيٍّ من المحاولات الأربع السابقة. وأخيراً، تميل الهيئة إلى استخدام أسلوب الخطاب ومحاولات استرضاء السُكاّن المحليّين مع استغلال الانقسامات، وغالباً ما تؤكّد على الاستقرار النسبي في إدلب مُقارنةً بحالة الفوضى والفساد المُتصوّرة في شمال حلب، ما يُشير إلى أنه قد يكون لديها بعض التطلّعات لتوسيع نموذج حُكمها.
اقرأ أيضاً: |
رد فعل تركيا
بعد اتفاق وقف إطلاق النار الروسي-التركي لعام 2020، طرأ تحسُّن ملحوظ على الأمن والإدارة والظروف المعيشية في إدلب، في حين عمّت الفوضى وانعدام الأمن في شمال حلب. وروّج البعض لفكرة أن تركيا مُستعدّة لتوسيع تجربة الهيئة وتوظيف قدراتها في شمال حلب. ويبدو أن بعض المؤشّرات قد دعمت هذا الفكرة؛ وعلى سبيل المثال، يعتقد أحد قادة الجيش الوطني السوري، في حديث مع مُعِد الورقة، أن تركيا في عام 2022 كانت مشغولة للغاية بإدارة شمال سورية، الأمر الذي جعله يخشى من أن تكون الهيئة هي الفاعل المحلّي القادر على تولّي مسؤولية الأمن والحكم، بخاصة في عفرين، من دون أن تواجه مُعارضة تركية. ومن الأفكار الشائعة الأخرى أنه بالنسبة لتركيا، كان التعامل مع كيان سوري واحد يُسيطر على كامل المناطق التي تُسيطر عليها المعارضة أسهل وأكثر كفاءة من التعامل مع فصائل مُتعدّدة أصغر حجماً ومُنخرط في مُنافسة دائمة. وقد اكتسبت هذه الفكرة مزيداً من الزخم بعد جهود الهيئة لإعادة تقديم وتسويق نفسها.
ربما تكون تركيا قد درست هذه الفكرة، خصوصاً أن لديها علاقة عمل جيدة مع الهيئة. وعلى الرغم من أن أنقرة صنّفت جبهة النصرة مُنظّمة إرهابية، إلا أنها لا تتّخذ موقفاً مُناهضاً للهيئة. علاوة على ذلك، وبحسب أحد المسؤولين الذين تحدّثوا إلى كاتب الورقة في عام 2018، فإن التمييز الرئيس لتركيا في الشمال الغربي هو بين مُقاتلي المُعارضة الأجانب والمحلييّن، وليس بين المُتطرّفين و”المعتدلين”. ومع ذلك، فإن التدخّلات التركية المُتكررة لوقف محاولات التوسّع العسكري للهيئة تعد مؤشّراً واضحاً على أن تركيا تُعارض التنظيم. كما أن العديد من قادة المُعارضة ينكرون هذه الفكرة بشدّة، مؤكّدين أن تركيا كانت دائماً، ولا تزال، ترفض وجود الهيئة في الأراضي التي تُسيطر عليها. وعلى الأرض، لم يكتف حلفاء تركيا بتطهير أولئك الذين يشتبه في أن لهم صلات بالهيئة، بل يُعارضون أيضاً إدراج “تجمّع الشهباء” الذي يضم فصائل مُتحالفة مع الهيئة تحت مظلة الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، وبالتالي حرمانها من الدعم المالي والدعم السياسي من أنقرة.
من الناحية السياسية، تبدو تركيا مُتحمّسة قليلاً للتنازل عن السيطرة للهيئة، التي لا تزال مُصنفة مُنظّمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة وروسيا وغيرها من الدول. إن السماح للهيئة بالدخول إلى تلك المناطق قد يؤدّي إلى رد فعل روسي وأمريكي. وعلى سبيل المثال، عندما تدخّلت الهيئة في عفرين في أكتوبر 2022 (للمرة الثانية)، أصدرت الولايات المتحدة بياناً ذكرت فيه أنه يجب سحب قوات الهيئة من شمال حلب، مؤكدةً أن الجماعة مُصنّفة مُنظّمة إرهابية. ووصفت الولايات المتحدة توغّل الهيئة هناك بأنه مُثير للقلق. وزعمت عدة تقارير أن الحكومة الأمريكية طالبت أنقرة بإجبار الهيئة على مُغادرة المنطقة.
علاوة على ذلك، ومن خلال سماح تركيا للهيئة بالدخول هناك، فإنها بذلك تُهمّش دور المُعارضة السورية التي يُمثلها الائتلاف الوطني السوري، الذي يندرج تحته كل من الحكومة السورية المؤقّتة والجيش الوطني السوري. تستضيف تركيا وترعى هذه الكيانات وتوفّر لها الحماية والدعم المالي والسياسي. إن قبول تركيا بالوجود الأمني والعسكري للهيئة في ريف حلب الشمالي سيؤدّي حتماً إلى إضعاف مؤسّسات المُعارضة السورية، وربما يُمثّل نهاية هذه الكيانات؛ وبالتالي، ستفقد تركيا أحد أهم أدواتها في السياق السوري، وهو أهم قضية خارجية بالنسبة للحكومة التركية، بخاصةٍ بالنظر إلى صراعها المُستمر مع حزب العمال الكردستاني وأزمة اللاجئين.
ولتوصيف الوضع بشكل أكثر دقة، يبدو أن أنقرة تحاول الإمساك بالعصا من المُنتصف: ففي حين تُظهر الإجراءات التركية بوضوح أن أنقرة تُعارض التوسّع التام للهيئة، إلا أنها لم تُغلق المجال بشكل تام أمام التنظيم. على سبيل المثال، وعلى الرغم من أن تركيا أجبرت الهيئة على الانسحاب عدة مرات، فإنّ الأخيرة خلقت دائماً حقائق جديدة على الأرض، واحتفظت ببعض الإنجازات المادية أو الاجتماعية أو السياسية (معبر حدودي ونقاط تفتيش أمنية، وما إلى ذلك من أمور). وفي مثال آخر، يبدو أن الهيئة تواصل بناء تحالفات محليّة – لاسيما تجمّع الشهباء – والذي يُسهّل تعزيز نفوذ الهيئة في مناطقه. كما وسّعت الهيئة أنشطتها الأمنية في تلك المناطق. وقد تكون ذلك إمّا سياسة مُتعمّدة من قبل تركيا، أو مؤشّر على أن أنقرة لا تريد دائماً إدارة المنطقة بشكل دقيق. وفي كلتا الحالتين، فإن رد فعل تركيا يترك مساحة للهيئة للعمل.
المسار المُستقبلي لتوسُّع الهيئة خارج إدلب
لا تزال إدلب تُمثّل المعقل الرئيس للهيئة وعلى رأس أولوياتها؛ فعلى مدى السنوات الست الماضية، أنشأت الهيئة هيئات حكومية وإدارية جديدة لتنظيم الأمن والخدمات المحليّة وإدارة شؤون المنطقة بطريقة مركزية. ولا يزال هذا العمل يشهد تطوّراً مستمراً، ويرى الكثيرون بالفعل أن نموذج الهيئة بهذا الخصوص ناجحٌ، بخاصةٍ عند مقارنته بشمال حلب، حيث على الرغم من الدعم التركي الكبير (بخاصةٍ في مجال الطاقة والمياه والتعليم، على سبيل المثال لا الحصر)، فإن انعدام الأمن، وتعدّد الفاعلين، والموارد المحدودة والُمنافسة بين الفصائل والاقتتال الداخلي، كلها عوامل تُقوّض فُرص الاستقرار هناك.
ولكن لا تخلو مُهمّة الهيئة من التحدّيات، حيث كان لهجمات الحكومة المُستمرّة، سواءً من خلال القصف المدفعي أو الصاروخي، والغارات الجوية التي تُشَنُّ بين الفينةِ والأخرى، تأثير سلبي على استقرار وأمن المناطق الخاضعة لسيطرتها. وفي الأشهر الأخيرة، شهدت الهيئة أيضاً انقسامات داخلية وعمليات تطهير يُمكن أن تتكرّر في المُستقبل، والتي قد يكون لها تداعيات على تماسك التنظيم. علاوة على ذلك، تسعى الهيئة إلى إعادة تقديم وتسويق نفسها إذ يبدو أن هدفها الأساسي التخلّص من تصنيفها تنظيماً إرهابياً من خلال تحوّلها إلى حركة أكثر اعتدالاً وبراغماتية اجتماعياً وسياسياً وأيديولوجياً، وكذلك من خلال التعاون مع الدول الغربية في الحرب ضد الإرهاب، وبخاصة ضد تنظيم “داعش”؛ وبالتالي، وفي المُستقبل المنظور، سيظل تركيز الهيئة على إدلب.
في الوقت نفسه، من المُرجّح ألا تتوقّف الهيئة عن توسيع نفوذها في عفرين ومنطقة درع الفرات ضمن معايير المساحة المسموح لها بذلك. واستناداً إلى سنوات طويلة من عدم الاستقرار والاقتتال الداخلي والقتال على الموارد في شمال حلب، ستجد الهيئة المسوغات للتدخّل هناك. وقد لا تنطوي هذه التدخّلات بالضرورة على عمل عسكري مُباشر، ويمكن أن تأتي من خلال شركاء محليين مثل أحرار عولان. وفي كلتا الحالتين، سيسعى التنظيم إلى تعزيز موطئ قدمه له في المنطقة وإضعاف المنافسين المُحتملين. وبمرور الوقت، قد يكون لذلك تداعيات سلبية على المُعارضة السورية، لاسيما الجيش الوطني السوري والحكومة المؤقّتة، ويُمكن أن يُعزّز ذلك موقف الهيئة بوصفها فاعلاً وشريكاً موثوقاً به، خصوصاً إذا نجح التنظيم في عملية إعادة تقديم وتسويق نفسه.
وهناك أيضاً الكثير من الإغراءات الاقتصادية التي من شأنها أن تُعزّز تدخّلات الهيئة؛ ففي خضّم الانحسار العام في الموارد في سورية، وانخفاض المُساعدات، وتنامي العلاقات الاقتصادية والتجارة بين شمال غرب سورية وشمال شرقها، من المُرجّح أن تؤمّن الهيئة المزيد من الموارد من خلال تلك التدخّلات. إن السيطرة على معبر بين قوات سورية الديمقراطية ودرع الفرات لا تؤمّن حصِّة من الأنشطة التجارية بين الجانبين فحسب، بل تُساعد أيضاً في تأمين خطوط الإمداد التي تمتد من المناطق التي تُسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية وصولاً إلى إدلب؛ فتعزيز وجود التنظيم في عفرين هو الذي يضمن تحقيق مثل هذه التطلّعات.
وعلى الرغم من أن الهيئة ستسعى لذلك بشغف، فإن إجراءاتها ستكون مُقيّدة بعاملين رئيسين على الأقل: أولاً، سياسة تركيا والخطوط الحُمر التي رسمتها أنقرة بهذا الخصوص. ثانياً، حدود قدرات التنظيم، حيث إنه لا يمتلك القُدرة الإدارية والأمنية والعسكرية لابتلاع الشمال بكل مشاكله بالرغم من خطابه القوي. ويُشير ذلك إلى أن السيناريو المُحتمل، المُتمثِّل بالتوسّع البطيء في شمال حلب، سيتكرّر في المُستقبل المنظور.
[1] تَشكَّل هذا التجمع في 1 فبراير 2023 من ثلاثة فصائل: “أحرار عولان”، و”أحرار التوحيد-الفرقة 50″، و”لواء صقور عزاز”. ويعتقد أن مجموع المقاتلين التابعين للتجمع يصل إلى نحو 1,500-2,000 مقاتل. وينتمي هذا التجمع إلى الفكر السلفي (ويتألف في معظمه من “أحرار الشام”، و”صقور الشام”). ويَعدُّون أنفسهم وطنيين وجزءًا من “الجيش الوطني”. لكنَّ الأخير أصدر بياناً بعد يومين من تشكيل “تجمع الشهباء” نفى أن يكون جزءًا منه.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/astiratijiyat-hay-at-tahrir-al-sham-kharij-idilb-anmat-altwssue-wahududoh