إعداد: الأستاذين إبراهيم شريف السيد ورضي الموسوي
تقديم الاستاذ : عبدالله جناحي
مقدمة:
تشكل اللامساواة، في الدخل والثروة، داخل كل بلد وفيما بين الدول، واحدة من أبشع ظواهر السياسات النيوليبرالية في ظل عولمة لا تضع اعتبارا لقيم الانصاف والعدالة أو للأبعاد الاجتماعية ولا تخلق آليات عالمية لمعالجة بعض الأضرار الخطيرة لانفتاح الأسواق. فعندما تصل ثروة أغنى ثلاثة أمريكيين، بل غيتس مؤسس مايكروسوفت، وجف بيزوس مؤسس شركة أمازون، ووارن بفت قطب الاستثمار الأمريكي، إلى ما مجموعه 248 مليار دولار، وهو مبلغ يعادل ثروة 160 مليون يشكلون نصف الشعب الأمريكي الأقل ثراء، فإننا بلا شك أمام “أزمة أخلاقية” كما وصفها أحد كتاب دراسة صدرت حديثا عن معهد أبحاث السياسات Institute for Policy Studies.
إن التفاقم السريع لهذه الظاهرة يقود إلى تهديد الاستقرار الاجتماعي داخل كل دولة، ويزيد التوترات بين الشعوب والأمم مما يقوّض السلم العالمي. لقد ساهمت مؤشرات قياس اللامساواة، ومنها معامل جني (Gini coefficient)، في تعليق الجرس وكشف تزايد فجوة الدخل، حين أشارت إلى ارتفاع المؤشر في مختلف دول العالم خلال العقود الثلاثة الماضية، بما فيها الدول التي تسود فيها درجات متقدمة من العدالة الاجتماعية كالسويد التي ارتفع فيها مؤشر اللامساواة قرابة عشر نقاط. وبجانب التفاوت الكبير واللامساواة في الدخل، فإن أرقام اللامساواة في الثروة أكثر فظاعة واختلالا. يحدث هذا في الدول الصناعية المتقدمة، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان، فكيف هو الحال في البلدان العربية التي تعاني أصلا من الفقر والبطالة وسوء توزيع الثروة وعدم الاستقرار، فضلا عن الاستبداد والفساد اللذين يُغيّبان الأرقام الحقيقية للواقع الاقتصادي والاجتماعي.
ثمة من يضع مسئولية تفاقم ظاهرة التوزيع غير العادل للدخل والثروة على تقويض السياسات النيوليبرالية، مدعومة بتسارع عملية العولمة، لقدرة شبكات الحماية الوطنية مواجهة توحّش رأس المال بعد انفلاته من قيوده. هذا هو العنصر الأهم على الصعيد العالمي في معادلة الفقر واللامساواة، لكن الاستبداد والفساد السياسي هو سبب آخر لا يقل أهمية في تشكل هذه الظاهرة الخطرة في الوطن العربي، وهو ظاهرة يرى المحللون أنها قد تقود إلى هزات اجتماعية وأزمات اقتصادية ومالية جديدة تقلق حتى التيار الرأسمالي المحافظ. ولا شك أن هذه الانحدارات تنعكس مباشرة على الواقع الاقتصادي والاجتماعي الخليجي والعربي، خصوصا في ضوء استمرار أسعار النفط منخفضة، الأمر الذي يقود إلى استفحال الأزمات الاجتماعية.
في ديسمبر 2013، قال الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في خطاب له : “ تزايد اللامساواة فيالدخل هو التحدي المهم لعصرنا“. أما صندوق النقد الدولي فقد خَلُص تقريرٌ أصدره في أكتوبر 2017 إلى نتيجة مفادها أن زيادة ضرائب الدخل على الأغنياء ستساعد في تقليص اللامساواة دون أن يكون لها أثر سلبي على النمو. وقال الصندوق: “إن الأدلة التجريبية لا تثبت أن النمو يتأثر سلبا بوجود ضرائبتصاعدية على الأقل في المستويات غير المفرطة“. وقد خصص الصندوق موضوع اللامساواة كمحور لمجلته الفصلية “الراصد المالي” لخريف 2017 وتناول ثلاث سياسات يجري نقاش واسع حولها أحدها الضرائب التصاعدية.
وعلقت صحيفة الغارديان على ذلك قائلة: “إن صندوق النقد استخدم نشرته المؤثرة في دحض الحجةالقائلة إن النمو الاقتصادي في البلدان الغربية المتقدمة يتأثر سلبًا إذا أجبرت حكوماتها أعلى 1% دخلًامن السكان على دفع المزيد من الضرائب“. هذه كانت دائما حجة الأثرياء في الدفاع عن مصالحهم من خلال تقليص الضرائب التي يدفعونها على أرباحهم. ويبدو أن هناك توجهاً لدى عدد متزايد من اقتصاديي صندوق النقد الدولي حول أهمية الضريبة التصاعدية على أصحاب الدخول المرتفعة لاستقرار المجتمعات سياسيا واجتماعيا من أجل أن يكون المواطنون جميعهم شركاء في ثمرات النمو والعولمة.
ولم يتأخر حزب العمال البريطاني بزعامة جيرمي كوربن عن استغلال تقرير الصندوق لدعم موقفه المدافع عن فكرة إعادة توزيع الدخل لصالح الطبقات الاجتماعية الدنيا، إذ دعا لوضع نظام ضريبي عادل يتم بموجبه رفع معدل ضريبة الدخل إلى 45% لمن يزيد دخله عن 80 ألف جنيه استرليني، و50% لمن هم فوق 123 ألف جنيه .
المتابع لمواقف صندوق النقد الدولي السابقة يعرف مدى التغيير الذي حدث في موقف مسؤولي الصندوق خلال السنوات الأخيرة بعد أن أصبح من المستحيل تجاهل ظاهرة تفاقم اللامساواة. في 18 يونيو 2003 سخرت السيدة آن كروغر، النائب الأول للعضو المنتدب للصندوق، من الحديث حول موضوع اللامساواة، وذلك في خطاب لها في مؤتمر بسان بطرسبرغ حول العولمة، قائلة: “هناك شكوى متكررةحول أن ثمار العولمة لم يشارك فيها الجميع. هؤلاء يدّعون أن عدم المساواة في النتائج هي كعبأخيل العولمة. نحن نتساءل حول هذا الانشغال بمسألة اللامساواة، فالفقراء يسعون جاهدين لتحسينوضعهم المادي بشكله المطلق بدل السعي لاعتلاء سلم توزيع الثروة. لذلك يبدو أن من الأهم التركيزعلى حالة الفقر بدل موضوع اللامساواة “ .
نحاول في هذه الورقة تقديم عرض وتحليل موجز عن مسألة اللامساواة في حيازة الثروة وفي انتاجها، على مستوى العالم والوطن العربي والبحرين. هناك بالطبع أشكال أخرى من اللامساواة في مجالات التعليم والصحة والجندر والأصل العرقي والقومي والديني وبين الأرياف والمدن وبين الأجيال غيرها، ولكنها ليست مجالا لبحثنا. ويجب أن ننبه أن هذه الورقة لا تهدف إلى اقتراح حلول محددة، رغم أنها ستعرّج على بعض الأفكار المتداولة في هذا المجال، كما أنها لن تتناول مسائل أخرى متعلقة بتفاوت الثروة مثل اللامساواة التي يخلقها هذا التفاوت في التعليم والصحة وغيرها.
أولا: اللامساواة على مستوى العالم
بين ماركس وكوزنتس:
هل تقود حركة تراكم رأس المال إلى تركزه في أيد أقل فأقل دوما؟ حاول الإجابة على هذا السؤال الاقتصادي الفرنسي توماس بكيتي الذي بحث في حركة تمركز الدخل والثروة في يد قلة من الرأسماليين خلال ثلاثة قرون مغطيا أكثر من 20 دولة.
في البيان الشيوعي الصادر عام 1848، كان كارل ماركس ورفيق دربه فريدرك أنجلز قد توصلا إلى النتيجة المقتبسة في بداية هذه الورقة حول حتمية التراكم اللانهائي لرأس المال، الأمر الذي يعتبره ماركس أمرًا عضويًا من خصائص الرأسمالية، تركّزا مستمرا ومتعاظما في الثروة في أيد قليلة، يرافقه تركّز في السلطة السياسية.
وكان ديفيد ريكاردو قد سبق ماركس في توقع حتمية تركز رأس المال لكنه كان يعتقد أنه سيكون تركزا عند ملاك الأراضي بسبب الزيادة المضطردة في عدد السكان والناتج بحيث تصبح الأرض نادرة بشكل متزايد بالنسبة للسلع الأخرى، بدل تركز الثروة لدى الرأسماليين الصناعيين كما عند ماركس. وكان الحل الذي اقترحه ريكاردو هو فرض ضرائب متصاعدة على إيجارات الأراضي .
عندما أطل ماركس على الحياة السياسية كانت الحقيقة الأكثر بروزا في عصره هي الحال البائسة للطبقة العاملة الصناعية (البروليتاريا): يوم عمل طويل، وأجر منخفض، وصحة معتلة، ومنازل كالأقفاص في أحياء قذرة، ومعدل أعمار منخفض، واستغلال عمل الأطفال الصغار في المصانع، وهي الأحوال التي رصدها فريدريك أنجلز في واحد من أكثر كتبه شهرة “أحوال الطبقة العاملة في انجلترا”. ورغم النمو الصناعي الهائل، فقد ركدت الأجور في العقود الست الأولى من القرن التاسع عشر عند مستويات منخفضة شبيهة بمستوياتها في القرن الثامن عشر، في الوقت الذي زاد نصيب رأس المال من الدخل/الأرباح. في ظل هذا الوضع البائس للبروليتاريا وإفلاس المنظومة السياسية والاجتماعية القائمة، تطورت الحركات الاشتراكية في العالم الصناعي .
وعلى النقيض من ماركس وريكاردو، رأى الاقتصادي الأمريكي سايمون كوزنتس (Kuznets) أن الرأسمالية تنزع إلى عدم المساواة في بدايتها، لكن هذه تنخفض في أطوارها المتقدمة إلى أن تستقر عند مستوى مقبول. وقد كتب كوزنتس رأيه عام 1955 في أعقاب الحرب العالمية الثانية، معتمدا على إحصاءات لم تكن متوفرة من قبل. درس كوزنتس الإحصاءات المتوفرة للفترة 1913 و 1948 فوجد أن حصة العشر الأعلى (10%) من أصحاب الدخل في بداية الفترة يساوي 45 إلى 50% من الدخل القومي السنوي، وأن هذه الحصة انخفضت أكثر من 10 نقاط مئوية مع نهاية الأربعينيات. وقد اقترح كوزنتس أن اللامساواة تتبع منحنى على شكل جرس (حرف U مقلوب). وقد كان “منحنى كوزنتس” سلاحا أيديولوجيا من أسلحة الحرب الباردة لإبقاء الدول المتخلفة في فلك الرأسمالية . كانت ملاحظته حول انخفاض اللامساواة بعد الحرب الأولى صحيحة، لكن ليس للسبب الذي توقعه، أي حراك ناشئ من طبيعة الرأسمالية، بل نتيجة لحروب عالمية وصدمات اقتصادية واجتماعية وسياسات جديدة.
تزايد اللامساواة على مستوى البلد الواحد:
” لا يمكن للتمايزات الاجتماعية أن تقوم إلا على المنفعة العامة”
من إعلان حقوق الإنسان والمواطن، المادة 1، 1789
هكذا يبدأ الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي كتابة “الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين” الذي نشره بالفرنسية في 2013، وترجم إلى الانجليزية في العام التالي، فأحدث اهتماما بالغا بموضوع بحثه الرئيس حول اللامساواة. لم يكن بيكيتي أول من كتب في الموضوع لكنه كان أكثرهم توثيقا لحركة تركّز رأس المال خلال القرون الثلاثة الماضية ومناقشة أسبابه معتمدا على مصادر معلومات كثيرة أهمها إحصاءات الضرائب والدخل الوطني والتركات (الإرث). وقد ساهم عمل بيكيتي وغيره في إعادة الاهتمام بموضوع اللامساواة وتفاوت الدخل والثروة، فقد جاء في وقت تشهد فيه الرأسمالية تحديات جمّة وغضبا شعبيا ضد الشركات الكبرى والمصارف وكبار المدراء والنتائج السلبية للعولمة. إن موضوع الغنى الفاحش وتوزيع الثروة لم يتحول إلى موضوع ساخن في الولايات المتحدة إلا في السنوات الأخيرة بعد الركود الاقتصادي الكبير نهاية 2008 الذي تسبّب فيه جشع أرباب المال في وول ستريت.
ويمكن تلخيص استنتاجات بيكيتي حول تركز رأس المال بالتالي: تركّز الثروة متأصل ومن طبيعة رأس المال، كما استنتج ماركس وأنجلز، ويعتبره بيكيتي التناقض المركزي للرأسمالية. إلا أن هناك فترة استثنائية بين 1914 والسبعينيات وقعت خلالها حربان عالميتان خفّضتا النمو الاقتصادي ودمّرتا ثروات رأسمالية ضخمة، صاحبهما تغييرات في السياسات الاقتصادية للدول الرأسمالية أقرت فيها ضرائب تصاعدية وسياسات تقدمية لتوزيع الدخل. يقول بيكيتي
ان “القوة الرئيسية التي تقوض الاستقرار هيتفوق معدل العائد على رأس المال الخاص (r) على معدل نمو الدخل والناتج (g) بنسب كبيرة وبشكلمستمر“ . ويضيف إن اقتصاد السوق إذا ما ترك لنفسه يمكن أن يشكل تهديدا للمجتمعات الديمقراطية وقيم العدالة الاجتماعية التي تأسست عليها. إن رأس المال ما أن يتكون فإنه يتكاثر، وفي غياب الكوابح التي تخفف من سرعة نموه فإن النتيجة الحتمية تركزا وتراكما أكبر لرأس المال ولامساواة أشد . ان “التفاوت بين الثروات لا علاقة له بروح ريادة الأعمال، كما انه غير ذي نفع للنمو“ . هذه العبارة الأخيرة ربما تفسر سبب اقتباس بيكيتي من إعلان حقوق الانسان الذي أصدره الثوار الفرنسيون.
منذ الثورة الصناعية كان رأس المال يتركز في يد القلة، هذا ما لاحظه كل من ريكاردو وماركس. استمرت حصة أصحاب رأس المال في الصعود في حين عاشت الطبقة العاملة حالة من الفقر والبؤس إلى أن طلّت في منتصف القرن التاسع عشر ثورات “ربيع الأمم” في أوروبا ومخاطر الصراع الطبقي على النظام الرأسمالي ، فبدأت أوضاع العمال في التحسن نسبيا مع الربع الأخير من القرن التاسع عشر. غير إن تراكم رأس المال وتركزه استمر ولم يوقفه إلا اضطرابات الحربين العالميتين والكساد العظيم في الثلاثينيات وبروز الخطر الشيوعي، حيث اضطرت أوروبا وأمريكا لتدشين عصر جديد تميّز بتوزيع أفضل للدخل والثروة. لكن هذه الحقبة التي انخفضت فيها اللامساواة بشكل ملحوظ، والتي بنى على أساسها كوزنتس نظريته، انتهت مع نهاية السبعينيات وعاد رأس المال لطبعه في التراكم اللامتناهي وبدأ يسجل نفس مستويات ما قبل حقبة الحربين والكساد العظيم.
النموذج الأمريكي
“يمكننا أن نحصل على الديمقراطية في هذا البلد، أو على ثروة هائلة تتركز في يد القلة، ولكن لا يمكننا أن نحصل على الإثنين معا”
لويس برانديس، عضو المحكمة الفدرالية الأمريكية العليا (1856-1941)
إن معدل الضريبة يعكس بشكل مباشر حجم دولة الرفاه والسياسات التوزيعية للدخل. في عام 1981 وصل أعلى معدل ضريبة على الدخل الخاص في الدول المتقدمة إلى 62%، في حين تراجع إلى 35% عام 2015.
تقول الدكتورة أندريا كامبل إن أمريكا هي ثالث أقل دولة من ناحية نسبة الضرائب للناتج المحلي في الدول المنضوية لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (الترتيب 32 من 34 دولة). في 2009 كانت حصيلة الضرائب على المستوى الفدرالي والولايات والمحليات 24.1% وهي نسبة تساوي نصف النسبة في الدنمارك . وكانت تشيلي (18.2%) والمكسيك (17.4%)، الدولتين الناميتين، الوحيدتين اللتين تقل فيهما الضرائب عن مستواها في أمريكا. ومن الملاحظ أن الدول الاسكندنافية ودول شمال القارة الأوروبية بشكل عام ترتفع فيها الضرائب وتكون دولة الرفاه في أفضل حالاتها.
في العقود الأخيرة من القرن العشرين كانت الضرائب ترتفع في أغلب العالم الصناعي خاصة بعد استحداث ضريبة القيمة المضافة في الستينيات والسبعينيات، باستثناء الولايات المتحدة التي قامت بخفض فعلي للضرائب على أرباح الشركات بينما زادت الضرائب على معاشات الأفراد (لتغطية نفقات التقاعد والتأمين الصحي للكبار). في أوروبا تستخدم الضرائب بفعالية أكبر لإعادة توزيع الثروة وتخفيف اللامساواة، لذلك فإن تركّز الثروة في الولايات المتحدة عند شريحة 1% الأعلى دخلا تعادل ضعفاً إلى ثلاثة أضعاف المعدل في الدول الأوروبية.
ونتيجة لهذه السياسات فإن دخل الفئات المتوسطة والفقيرة في الولايات المتحدة بالكاد تغير خلال العقود التي تفجرت فيها ينابيع الثروة للأغنياء جراء العولمة والتقدم التكنولوجي وارتفاع الانتاجية. فبين الأعوام 1979 و2015، انخفض الأجر الحقيقي لأدنى 10% من العمال والموظفين 4%، وارتفع بالنسبة للوسيط العددي منهم فقط 9%، بينما سجل أعلى 10% أجرا زيادة بلغت 35%.
ولم يحدث هذا الجمود في دخل أغلب الأمريكيين بسبب ضعف انتاجيتهم، فقد زادت انتاجية العامل
الأمريكي بشكل مضطرد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبينما ارتفعت انتاجية العامل الأمريكي منذ 1979 حوالي 133% فإن أجر الساعة للعامل لم يرتفع أكثر من 19% .
إن أحد أسباب زيادة قدرة الأغنياء في التحكم في قرار توزيع فائض القيمة لصالح رأس المال والمدراء على حساب العمال وصغار الموظفين يرجع إلى اختلال موازين القوى بين العمل ورأس المال. في ثلاثينيات القرن العشرين نشطت الحركة العمالية إثر الكساد العظيم وتبنّي الرئيس فرانكلين روزفلت سياسات اقتصادية واجتماعية تقدمية، وارتفع عدد المنتمين للنقابات ثلاثة أضعاف من حوالي 10% إلى أكثر من 30% من القوى العاملة في منتصف الأربعينيات. وظلت الحركة النقابية الأمريكية قوية نسبيا حتى الستينيات، بدأت بعدها رحلة أفول مستمر للنقابات أوصلتها إلى وضع أعادها إلى ما كانت عليه في بداية الثلاثينيات، إلى 11% فقط من القوى العاملة. ويمكن ملاحظة العلاقة العكسية بين عضوية النقابات وحصة أعلى 10% دخلا من الرسم البياني، فخلال أقل من خمسة عقود منذ بدأ تراجع الحركة النقابية، استطاع رأس المال أن يرفع حصته من الدخل حوالي 50%. لقد تمكن أعلى السكان دخلا من تعزيز قوتهم التفاوضية وفرض شروطهم وتغيير قواعد اللعبة لصالحهم مما فاقم من اللامساواة في الدخل.
وما أن بلغنا القرن الحادي والعشرين حتى عاد أصحاب أعلى 1% من الدخل إلى برجهم العاجي الذي بدأوا فيه مطلع القرن العشرين حينما حصدوا 23.9% من إجمالي الدخل القومي. إن انهيار أسواق المال عام 1929 ثم الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية والسياسات الاقتصادية التقدمية كلها أدت إلــى
تقليص حصة هذه الفئة من الدخل إلى 8.9% من الإجمالي . ومنذ السبعينيات استعاد هؤلاء موقعهم بفعل قانون التراكم المستمر لرأس المال الذي تعطل أربعة عقود بسبب عوامل خارجية.
ورغم إن دولا صناعية أخرى تشكو من نفس الظاهرة الأمريكية في انخفاض دخل الطبقات الدنيا والمتوسطة، إلا أن هذه الدول، بعكس الولايات المتحدة، لديها شبكات أمان اجتماعي أفضل تساهم في إعادة توزيع الثروة، ففي الدنمارك مثلا لا يتجاوز عدد من هم تحت خط الفقر 5.5% من السكان مقابل 17.5% في الولايات المتحدة التي تقبع في قاع الدول الصناعية المتطورة من حيث نسبة الفقراء .
وبطبيعة الحال لا يمكن فصل اللامساواة في حيازة الثروة عن اللامساواة في الدخل، فكلاهما يغذي الآخر، الثروات الكبيرة تنتج دخولا ضخمة، والدخول الكبيرة تنتج ثروات عظيمة، كلاهما يصنعان الطبقات العليا في المجتمع. ويمكن ملاحظة تسارع عملية تراكم رأس المال لدى أثرى شرائح المجتمع من خلال الأرقام التي تنشرها مجلة فوربس سنويا حول المليارديرات في أمريكا والعالم. فقد زادت ثروة من يملكون ملياراً فما فوق من ترليون واحد (ترليون= ألف مليار) دولار إلى سبعة (7) ترليون دولار بين 2000 و2016، عدا ترليونات أخرى يملكها شيوخ وملوك ورؤساء مستبدون حصلوا على ثرواتهم بوضع اليد بحكم مناصبهم أو قراباتهم وتستثنيهم فوربس من قائمتها. وقد وصل عدد المليارديرات في العالم في 2017 إلى 2,043 .
في عام 1982 كان متوسط ما يملكه أثرى 400 أمريكي يساوي 230 مليون دولار لكل واحد (يملك أقلهم 80 مليونا). أما في 2016 فإن متوسط ما يملكه كل واحد من هؤلاء بلغ 6 مليار دولار (يملك أقلهم 1,700 مليون)، كما في الرسم البياني.
لقد استعاد الأثرياء الأمريكيون مكانتهم التي خسروها في ثلاثينيات القرن الماضي، وأصبح الواحد في المئة (1%) الأكثر ثراء يملكون أكثر من 40% من كل الأصول (الموجودات) التي يملكها الأمريكيون مقابل أقل من 60% يملكها ال 99% الباقون.
العلاقة بين اللامساواة والتغيرات الثقافية والسياسية:
على الأرجح، هناك علاقة جدلية بين ظاهرة اللامساواة والتغيرات الثقافية والسياسية. فليس صدفة صعود الشعبوية اليمينية في أوروبا والولايات المتحدة في وقت تفاقمت فيه اللامساواة في الدخل والثروة وفي موازين السلطة السياسية. لكن ما طبيعة هذه العلاقة وكيف تعمل؟ هذا ما يحاول الإجابة عليه عالم السياسة رونالد أنغلهارت.
في مقال حول العلاقة بين اللامساواة وعملية التحديث، يقول انغلهارت إن ما حدث منذ 1980 هو زيادة في تفاوت الدخل إلى درجة جعلت 1% من الأمريكيين يسيطرون على 40% من مجمل الثروة في بلدهم. يضيف انغلهارت إن الدخل الحقيقي لأغلب الأمريكيين لم يتغير منذ 1991 في حين تضاعف دخل مدراء أكبر الشركات من 20 مرة من متوسط دخل العامل في 1965 إلى 273 مرة في 2012.
ويعزو انغلهارت هذه الظاهرة التي تشمل كل الاقتصاديات المتقدمة إلى “تغيّر في موازين القوى بين النخب والجماهير بسبب عملية التحديث المستمرة” . يقول الكاتب إن عملية التحديث في العصر الصناعي أدت إلى نشر التعليم وتجميع العمال في المدن مما أدى إلى تمكينهم من تشكيل نقاباتهم وتحسين شروط العمل من خلال المفاوضة الجماعية. وقد تمكنت الأحزاب اليسارية من تعبئة الطبقة العاملة خلف سياسات اقتصادية تساهم في توزيع أكثر عدالة للدخل مثل الضرائب التصاعدية والضمان الاجتماعي ودولة الرفاه.
لكن بروز مجتمع ما بعد الصناعة (postindustrial society) غيّر قواعد اللعبة مرة أخرى. إن نجاح دولة الرفاه في توفير حياة كريمة لأغلب المواطنين جعل موضوع الصراع الاقتصادي/الطبقي من أجل حصة أكبر في الدخل أقل استعجالا. هنا برزت القضايا غير الاقتصادية العابرة للطبقات مثل سياسات الهوية والبيئة والجندر والأقليات والمثليين، وهي قضايا قسّمت المجتمع على أساس ثقافي وهوياتي وقوّضت القاعدة السياسية لسياسات التوزيع العادل للثروة. وقد استغل الأثرياء هذه الأجواء لتقديم سياسات تُعلي مصالحهم مما أعاد تركّز رأس المال إلى وتيرته العالية. يتوقع أنغلهارت نه في هذه المرة لن تكون الطبقة الوسطى في مواجهة الطبقة العاملة، بل الأغلبية في مواجهة الأقلية الثرية .
وقد تمكنت الحركات والشخصيات الشعبوية اليمينية من استغلال البطالة وركود الدخل رغم النمو الاقتصادي، وفقدان الوظائف بسبب العولمة، وقضية الهجرة، وأزمات الاتحاد الأوروبي، وما سبق ذلك من تقويض النقابات العمالية وتهميش دورها في عهد رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر. وكانت الأحزاب الكبرى، اليسارية واليمينية، قد واصلت تحولها السياسي باتجاه الوسط مع تبنيها السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، فزالت الفوارق الأيديولوجية بينها. هذه السياسات البراغماتية الليبرالية أفقدت هيمنة اليسار التقليدي وسط العمال وفتحت مجالا لانتشار بديل شعبوي يميني استفاد أيضا من تخلي اليمين عن مواقفه التقليدية المحافظة بتبنيه مواقف اجتماعية ثقافية تقدمية (في مجالات البيئة والعائلة والمرأة والمثليين والأقليات). وجاءت نهاية الحرب الباردة لتسدد ضربة قوية للاشتراكية بكل ألوانها ودفعت أحزابها أكثر إلى الوسط، فتلاشت الفوارق الكبيرة بين اليمين واليسار في الاقتصاد. ومنذ السبعينيات تراجع الوعي الطبقي وحلّ مكانه، خاصة لدى الشباب، الوعي الفردي والتعبير عن الذات واتخاذ مواقف ثقافية تتحدى السائد. أدى هذا إلى ردود فعل، خاصة لدى كبار السن وجزء من الطبقة العاملة، فأخذت هذه القطاعات تصوّت إلى أحزاب يمينية عنصرية تصدّ رياح التغيير الثقافي باسم الدفاع عن الهوية الوطنية والمواطن البسيط ضد النخبة المعولمة الفاسدة.
اللامساواة بين دول العالم:
“خلف كل ثروة هائلة تقبع جريمة”
أونور دوبلزاك، روائي فرنسي (1799-1850)
في سبتمبر 2015 أقرت الأمم المتحدة في قمة حضرها زعماء دول العالم 17 هدفا تسعى لتحقيقه حتى عام 2030 بهدف التنمية المستدامة. كان الهدف رقم 10 يتعلق بخفض اللامساواة داخل حدود الدولة الواحدة وبين دول العالم. وقد لاحظت الأمم المتحدة أنه بينما انخفضت اللامساواة بين الدول فإنها ارتفعت داخل حدود الدولة الواحدة، وأن هناك إجماعا متزايدا على أن النمو الاقتصادي لا يكفي بحد ذاته لتقليص الفقر إذا لم يشمل الجميع ولم يهتم بالأبعاد الثلاثة للتنمية: الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. ومن أجل خفض اللامساواة فإن السياسات يجب أن تهتم لحاجات السكان المهمشين والأقل حظا .
وقد لاحظت الأمم المتحدة أن الفترة ما بين 1990 و2010 شهدت تزايدا في لامساواة الدخل في الدول النامية بلغ 11%، وأن هناك أدلة تثبت أن اللامساواة، بعد حد معين، تضر بالنمو ولا تساهم في خفض مستويات الفقر. وأضافت أنه من غير الممكن خفض اللامساواة دون معالجة اللامساواة في الفرص.
منذ الثورة الصناعية، التي حررت المجتمعات الأوروبية من قيد الاقطاع، إلى الربع الأخير من القرن العشرين، كانت درجة اللامساواة تتسع بين الدول الصناعية من جهة وبقية دول العالم من جهة أخرى. منذ 1900 إلى 1980 تركّز 75% إلى 80% من الإنتاج العالمي للسلع والخدمات في يد أوروبا وأمريكا، لكن بحلول 2010 تراجعت حصتهما إلى 50% وهو المستوى الذي كانا عليه في 1860. لقد انعكس اتجاه منحنى التباعد بين الدول الصناعية وبقية دول العالم منذ ثمانينات القرن العشرين بفضل النمو السريع في الدول النامية، خاصة الصين والهند أكبر بلاد الأرض سكانا. إن عملية “اللحاق” مستمرة ولكن لا يمكن استبعاد انتكاسة في الاتجاه العكسي .
كبير الاقتصاديين السابق في البنك الدولي، فرنسوا بورغينون، يقول ان العولمة والسياسات الاقتصادية الليبرالية كان لهما أثر كبير في زيادة اللامساواة داخل حدود الدولة الواحدة وانخفاضها بين الدول، خاصة بسبب نقل الشركات الكبرى جزءا هاما من انتاجها إلى الدول النامية. منذ التسعينيات انخفضت اللامساواة بين الدول الصناعية المتقدمة والدول النامية، على عكس مسارها منذ الثورة الصناعية، خاصة بسبب الصعود السريع للاقتصادين الصيني والهندي. لكن اللامساواة على مستوى البلد الواحد في حالة تصاعد مستمر منذ الثمانينيات. وبرأي بورغينون فإن نخبا جديدة تشكلت في هذه الظروف عملت على خفض ضرائب الدخل وقلصت دولة الرفاه مما أدى إلى تهميش فئات من المواطنين وزيادة اللامساواة. هذه العولمة الليبرالية التي مكّنت الشركات من الحركة الحرة من دولة لأخرى لخفض نفقاتها وضرائبها، حدّت من امكانية الدولة في مواجهة اللامساواة .
ثانيا: اللامساواة في الوطن العربي
إن شحّ المعلومات يجعل من الصعب على الباحثين الوصول إلى مؤشرات دقيقة حول اللامساواة في الأقطار العربية، فبعضهم يضع هذه الأقطار في خانة الدول المتوسطة في اللامساواة، وآخرون يضعونها في مؤخرة دول العالم.
وقد صدرت مؤخرا ورقة أعدّها فريق من المختصين المرموقين بعنوان “قياس اللامساواة في الشرق الأوسط 1990-2016: أسوأ منطقة في العالم من حيث اللامساواة“، خلصت إلى أن الشرق الأوسط هو أسوأ مناطق العالم من حيث توزيع الدخل، حيث يحصل أعلى 10% على 61% من مجمل الدخل مقابل 36% في أوروبا الغربية و47% في الولايات المتحدة و 55% في البرازيل. وقد عزت الدراسة هذا التفاوت الكبير في الدخل إلى عاملين: الأول تفاوت الدخل بين الأقطار الغنية بالنفط من ناحية والأقطار الغنية بالسكان من ناحية أخرى، والثاني اللامساواة الكبيرة داخل القطر الواحد. وقد حددت الدراسة أقطار الشرق الأوسط بدول المشرق العربي إضافة إلى تركيا وإيران. قالت الدراسة أن اللامساواة داخل القطر الواحد ربما تكون أسوأ مما قدّروه في الورقة بسبب صعوبة الوصول إلى المعلومات المالية الصحيحة .
وتبين احصائيات أخرى للبنك الدولي للفترة 1990-2016 أنه رغم التحسن النسبي في مؤشرات اللامساواة خلال الربع قرن المنصرم، فإن دخل أعلى 1% و 10% من السكان يساوي 27% و 61% على التوالي من اجمالي الدخل القومي، مقارنة بفقط 9% لأفقر 50% من السكان . هذه النسب لصالح الأغنياء لا يوجد مثيل لها في الاقتصاديات المتقدمة حتى في أسوَئِها من ناحية توزيع الدخل، أي الولايات المتحدة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن دول مجلس التعاون لا تعتمد نظاما ضريبيا على الدخل بينما يشيع التهرب الضريبي في دول عربية أخرى، فإن أهم آلية لإعادة توزيع الثروة مفقودة على مستوى المنطقة بشكل عام.
في بحث له بعنوان “تفسير اللامساواة والفوارق الاجتماعية بواسطة عدسة إقليمية”، يقول آدم هنية أن التدخل الخارجي في العالم العربي أكثر من مجرد عدوان عسكري، فالترويج لسياسات نيوليبرالية تعتمد آليات السوق لا يمكن فصله عن أشكال هيمنة أكثر جهرا. أما آليات هذا الترويج فتشمل توفير القروض والمساعدات المالية المشروطة وتطبيق برامج التكيف الهيكلي، ونتيجة لذلك تغيرت السياسات الاقتصادية للحكومات العربية جذريا وتم تسليع الأراضي ورفع الدعم عن الفلاحين مما قاد إلى واحد من أشد أنماط اللامساواة في ملكية الأراضي في العالم. كما أدت خصخصة مؤسسات الدولة وتحرير سوق العمل إلى تدهور الظروف المعيشية للعمال. المنطقة كانت استثناء عالميا من حيث بقاء مستويات الفقر جامدة رغم تسجيل معدلات نمو جيدة وتراكم الثروات الذي تشهد عليه الارتفاعات الكبيرة في أسهم الشركات في الأسواق المالية. إن السياسات النيوليبرالية ترمي إلى تعزيز مواقع أصحاب النفوذ في السوق، واللامساواة التي نراها في الوطن العربي تعكس هذه العملية تحديدا .
في ورقة بحثية صدرت من اللجنة الاجتماعية والاقتصادية لغربي آسيا (الاسكوا) خلص الباحثون إلى أن “موجات الأمل في التغيير التي عمت أنحاء المنطقة العربية في عام 2011، ناتجة عن صحوة الطبقة الوسطى التي أدركت أن المقايضات التي اعتاشت عليها لفترة طويلة لم تعد تفي بوعد توفير حياة أفضل”. الورقة أعادت تعريف الطبقة الوسطى على أساسين أحدهما اقتصادي مرتبط بخط الفقر، والآخر اجتماعي متعلق بالتعليم والمهنة. قال الباحثون إن نظام “المقايضة السلطوية” في الدول العربية بدأ في الانهيار من عقد التسعينيات مع شروع الحكومات بإجراء “إصلاحات” اقتصادية هيكلية تقلصت بموجبها الإعانات وإنفاق الدولة، وخصخصت العديد من مؤسساتها، وحُررت التجارة، وجُمدت الوظائف في القطاع العام، وتفاقمت اللامساواة، وتضاءلت فرص الخريجين في ايجاد فرص عمل، وتدنى عائد التعليم، وتراجعت الأجور، وارتفعت البطالة وسط الشباب حتى بلغت 26% عام 2012 وهي ضعف المعدل العالمي. أدى هذا إلى تدهور في الخدمات العامة خاصة في قطاعي التعليم والصحة ولجوء الطبقة الوسطى إلى القطاع الخاص المكلف لتوفير حاجتها. هذه في الحقيقة نتيجة “إصلاحات” في أنظمة غير ديمقراطية قادتها نخب فاسدة عوَّلت على تحرير التجارة وتشجيع الواردات وإهمال الصناعة المحلية واعتمدت “سياسيات للخصخصة ساهمت في ملء جيوب النخبة”. نتيجة لذلك تفاقمت اللامساواة في كل أنحاء المنطقة. وتقدر الدراسة حجم الطبقة الوسطى العربية بـ 45% مقابل 53% للفئات الفقيرة. الباحثون يخلصون إلى نتيجة ثورية: “المستقبل المشرق رهن بتغيير ثوري لنظم الحوكمة وبتفكيك نظام المقايضة السلطوي البالي.. وتحقيق العدالة الاجتماعية” .
وقد طرح الباحثون رؤية تستند على نموذج إنمائي يجمع الطبقات الوسطى والفقيرة في تحالف ديمقراطي تحت شعار “إعانات للفقراء وعمل لائق للطبقة الوسطى”. (ليس من الواضح لدينا لماذا التمكين والعمل اللائق للطبقة الوسطى فقط!). كما دعوا إلى توجيه الاستثمارات لإنعاش الصناعات التحويلية وذات القيمة المضافة العالية أي في القطاعات التي توفر أكبر عدد من الوظائف الجيدة. وأكدوا أن الحماية الاجتماعية مفيدة للنمو وتطلق دورة من التقدم الاجتماعي والاقتصادي، شريطة ألا تستخدم لشراء الذمم بل كاستثمار في النمو والعدالة وكأساس للاستقرار، وطالبوا بتفكيك رأسمالية المحاباة وإصلاح النظام الضريبي وخفض الإنفاق العسكري الذي يفوق في المنطقة العربية المستويات الأوروبية وتحويل أمواله للتنمية، وفي نفس الوقت شدّدوا على أهمية دور الدولة الاقتصادي والتكامل الاقتصادي العربي.
في دراسة لحالة أربع دول عربية هي مصر والأردن وفلسطين وتونس نشرها منتدى البحوث الاقتصادية بالقاهرة عام 2016، قال الباحثون إن “عدم المساواة الاقتصادية بين الفئات الاجتماعية والديموغرافية في المنطقة العربية في ارتفاع متزايد”. وقالت الدراسة إنه للوهلة الأولى تبدو اللامساواة منخفضة في المنطقة العربية، غير أن انخفاض التوظيف في القطاع العام وبرامج إعادة الهيكلة وانخفاض أسعار النفط والحد من فرص الهجرة إلى أوروبا تؤدي جميعها إلى تفاقم اللامساواة في الفرص. وتقول الدراسة إن مؤشرات التعليم والتطور لدى الأطفال ونتائج الامتحانات الدولية التي تنعكس سلبا على سوق العمل، سيئة مقارنة بالدول النامية الأخرى. تحذر الدراسة من أن تفاقم اللامساواة لا يتعلق فقط بقضية الانصاف والعدالة الاجتماعية، فهو يعيق التنمية الاقتصادية ويرفع كلفة توفير الأمن، وأن اللامساواة بين الجماعات أمر مقلق بالخصوص لأنه ينتقل عبر الأجيال ويوقع جماعات اجتماعية كاملة في فخ الفقر ويؤدي إلى زيادة الاستقطابات والتوترات الاجتماعية وعدم الاستقرار السياسي .
وفي دراسة للبنك الدولي وجد الباحثون صعوبة في تقدير معدل اللامساواة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بسبب عدم توفر المعلومات الضريبية (التي لا يمكن الركون إليها حتى إن وجدت بسبب اتساع ظاهرة التهرب الضريبي) وعدم دقة المسوح حول نفقات الأسرة. إن أفضل ما وصلوا إليه هو أن معدل اللامساواة في الوطن العربي حسب مقياس معامل جيني Gini يبلغ حوالي 38.5 نقطة مئوية، وهو رقم معتدل يشبه معدلات شرق آسيا، لكنه أفضل من معدلات جنوب الصحراء (45) وأمريكا اللاتينية (52 نقطة)، علما إن أكثر الدول الأوروبية تقع قرب أو تحت 30 نقطة مئوية في حين يزيد المعدل في الولايات المتحدة عن 41 نقطة . لكن الدراسة لاحظت أن معدل اللامساواة “المعتدل” بالقياس العالمي وارتفاع دخل الفرد خلال العقدين الماضيين والتطورات التي حدثت في مجالات الصحة والتعليم، لا تجيب عن سؤال لماذا عصفت بالمنطقة العربية رياح “الربيع” العربي. في رأي الباحثين إن السبب يمكن أن يُرجع إلى تصورات الطبقة الوسطى حول تراجع مستويات المعيشة والخدمات العامة، وعدم مشاركتها في حصة عادلة في الثروة وفي ثمرات النمو الاقتصادي. الدراسة تخلص إلى أن الطبقة الوسطى تريد صوتا أعلى وفرصا أفضل ومحاسبة حقيقية، لذلك انهار العقد الاجتماعي القائم .
وفي رأينا إن أغلب هذه الدراسات التي تركز على اللامساواة في النفقات بدل اللامساواة في الثروة، تغفل جانبا هاما في عمليات حسابها لمعدلات اللامساواة في الوطن العربي وهو جانب الفساد المستشري في السلطة السياسية وتمكّن نخبة صغيرة من السيطرة على موارد عامة ضخمة دون رقابة أو مساءلة وتحويلها سرا للخارج، منها على سبيل المثال مدخولات نفطية لا تدخل موازنة الدولة، وعمولات صفقات السلاح الضخمة التي تتميز بها المنطقة العربية، ووضع اليد على الأراضي وغيرها (هذا الجانب سنتناوله لاحقا في معالجة موضوع “غنيمة” الأرض). وقد لاحظت دراسة البنك الدولي أن حصة العرب في الودائع المخبأة في الملاجئ الضريبية Tax Havens التي تلجأ إليها الأموال غير المشروعة، أعلى كنسبة من الناتج المحلي من مثيلاتها في الدول الأخرى.
لذلك ليس مستغربا أن يكون “مكافحة الفساد” و”العدالة الاجتماعية” هما العاملان الأول والثالث بنسبة 64% و57% على التوالي في استطلاع الباروميتر العربي حول أسباب انتفاضات الربيع العربي . في المنطقة العربية لا ينظر كثير من المواطنين إلى تركّز الثروة على أنه ثمرة جهد شخصي أو تراكم طبيعي لرأس المال، بل يرى غالبها شكلا من أشكال الغنيمة والسطو بسبب موقع كبار الأثرياء في هرم السلطة أو تحالفهم معها.
إن غياب الحكم الصالح في الوطن العربي، أدى إلى فشل سياسات التنمية المستدامة، فأصبح البقاء في السلطة والاستفراد بالقرار والتنفع منه هو المشروع الأساس للنخب الحاكمة. لقد تقلصت الأحلام والأجندات القومية الواسعة إلى وطنية ضيقة تستجيب لمتطلبات التبعية الدولية التي تقدم الحماية لبقاء النظام الحاكم، ثم ما برحت أن تشوهت إلى أجندات فئوية تأخذ أشكالا طائفية وقبلية وطبقية وجهوية. وقد تحولت الدولة العربية الوطنية إلى دولة بوليسية وأصبح ما يحدد البقاء في السلطة ليس مشروعية قيادة ثورة ضد الاستعمار أو انقلاباً عسكرياً ضد عملائه، ولا مشروعية صناديق الانتخاب أو مشروعية الإنجاز، ولكن “مشروعية” يمنحها نظام عالمي تسنده منظومة إقليمية، مدعوم بقوة بوليسية وعسكرية محلية، وفي بعض الأحيان يتم استيراد قوات من خارج حدود الدولة لحماية النظام من خصومه في الداخل، أو الحصول على مليارات الدولارات من دول نفطية لضمان استقرار النظام السياسي أو قيادة ثورة مضادة ضد أي نظام جديد يهدد النظام العربي القائم. يتم في هذه الدولة الأمنية الاستبدادية التحول من بناء الهوية المشتركة، التي عملت الدولة القطرية في بدايتها على تعزيزها، أحيانا على حساب الهوية القومية، إلى تمزيق هذه الهوية الوطنية الجامعة وتشجيع الهويات الفرعية باستغلال الشروخ والخلافات المجتمعية وإرث التاريخ ورموزه لخلق حالة عدم ثقة مستمرة بين مكونات المجتمع تمنعه من الوحدة في مواجهة النخبة الحاكمة.
اللامساواة في مجتمعات الخليج العربي:
هناك أبعاد عديدة لقضية اللامساواة. سنحاول في هذه الورقة إلقاء ضوء على بعض هذه الأبعاد في مجتمع خليجي، لكن لنبدأ أولا بشرح الآلية غير الرأسمالية لتركز الثروة.
آلية تركّز الثروة في يد النُخب المقررة وحلفائها: الاقتصاد النفطي الريعي المترسخ في أقطار الخليج العربي يسمح بنمو ثروة سريعة وضخمة في يد قلة من أصحاب القرار السياسي وحلفائهم، بعضها خارج الآليات الرأسمالية الطبيعية لتراكم رأس المال. هناك معادلة طفيلية تعمل بالشكل التالي:
- الدولة تُصدّر النفط وتتحصل على أمواله.
- الأموال تتوزع على قسمين، واحد يذهب إلى النخبة المقررة والآخر لتغطية نفقات الدولة.
- ريع الفئة المقررة المباشر يأخذ شكلين: إما تحويلات سرية بالاقتطاع المباشر من عائدات النفط قبل دخولها خزينة الدولة، أو مباشرة معلنة أو سرية لتمويل “دواوين” كبار المسؤولين وتقديم خدمات مجانية لهم في غياب المساءلة والرقابة الشعبية.
- نفقات الدولة التي تصرف على مشاريع البنية التحتية والمرافق والمشتريات الحكومية يتسرب جزءٌ منها للنخبة عن طريق حصة العمولات من صفقات الأسلحة الدولية والعقود المحلية،
- وجزء آخر يخرج من جيب المواطن (لبناء منزله أو الاستثمار في مشروع عقاري) لشراء الأراضي الأميرية/الحكومية التي “غنمها” كبار المسؤولين من خلال عطايا.
ما يحدث فعلا هو توزيع ثروة بالمقلوب، من الفقير ومتوسط الحال وصغار رجال الأعمال إلى الفئة الطفيلية المتحكمة بالقرار. بطبيعة الحال، من يقوم بالاستيلاء على الثروة ليس من مصلحته دفع ضرائب عليها، لذلك فمنطقة الخليج العربي هي من البلاد القليلة في العالم التي تنعدم فيها ضرائب الدخل والعقار فضلا عن ضرائب الثروة.
ولتبيان حجم “غنيمة” الأرض التي يستحوذ عليها المتنفذون، يبين الرسم البياني حجم الأراضي البحرية التي يتم ردمها سنويا في البحرين، وهي أراض تملكها الدولة ويستخدم بعضها لمشاريع الاسكان والمرافق الحكومية، فيما يُوهب القسم الأكبر منها لكبار المسؤولين والمتنفذين والحاشية من الموالين المقربين. في الفترة ما بين عامي 2000 و 2015، وهي مدة الطفرة النفطية الثالثة التي شهدت ارتفاعا حادا في أسعار الأراضي وحمى المضاربات العقارية، تسارعت عملية الردم للشواطئ الضحلة، خاصة القريبة من العاصمة المنامة، التي تم وضع اليد عليها بعد أن كانت مملوكة من الدولة، فزادت مساحة البحرين 66 كيلومترا مربعا ، أي 9% من مساحة البلاد الصغيرة. في هذه المناطق التي يتركز فيها النشاط التجاري والسكني، يبلغ قيمة الكيلومتر المربع ما لا يقل عن نصف مليار دولار.
الحصيلة الإجمالية لهذه الثروة من “غنيمة” الأراضي تبلغ عشرات المليارات من الدولارات، عدا قيمة عشرات الكيلومترات من الأراضي التي تم وضع اليد عليها ولكن لم يتم ردمها بعد، فضلا عن أراضي اليابسة التي تم تقاسمها. وقد انعكس حجم هذه الثروة الريعية في تعاملات سوق العقار حيث زادت قيمة المعاملات السنوية 10 أضعاف، من حوالي 500 مليون دولار في بداية الطفرة العقارية عام 2001 إلى حوالي 5 مليار دولار في قمة الطفرة عام 2008 .
إن طريقة الحساب التقليدية حول اللامساواة في المنطقة العربية باستخدام مسوح نفقات الأسرة أو غيرها -إن وجدت- غير كافية لاكتشاف فجوة الدخل والثروة الهائلة، فهي مثلا لا تأخذ بعين الاعتبار هذه الثروات المتضخمة من ريع الأراضي، مرة بسبب طفرة أسعارها حوالي عشر مرات، ومرة أخرى بسبب تحويلها من ملك عام إلى خاص.
البعد الجيلي: ونقصد به العدالة بين الأجيال الحاضرة والمستقبلية من ناحية الفرص والدخل وعبء الدين العام وتوزيع الموارد ونتائج النشاط البشري على تلوث البيئة واستهلاك الموارد الطبيعية غير المتجددة. المخاطر البيئية أضحت معلومة وخطيرة خاصة ظاهرة الاحتباس الحراري والكوارث التي سينجم عنها.
اللامساواة لا تكون بين الطبقات والفئات المجتمعية المختلفة فحسب، بل من الممكن أن تحدث بين الأجيال ضمن الطبقة الواحدة وبين الأبناء والآباء بسبب غياب السياسات التنموية المستدامة. وفي هذه العجالة سأركز فقط على مسألة تتعلق بالدين العام وكلفة نظام معاشات التقاعد والعجز والوفاة للمؤمن عليهم تحت مظلة الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي.
إن أغلب الأقطار العربية، حتى النفطية منها، راكمت ديونا متزايدة خلال السنوات الماضية. في البحرين مثلا، التي يقل عدد مواطنيها عن 700 ألف نسمه، وصل الدين العام في نهاية عام 2016 إلى حوالي 10 مليار دينار (26 مليار دولار)، ومن المتوقع أن يتجاوز 100% من الناتج المحلي في 2018، أي أكثر من 12 مليار دينار (32 مليار دولار)، بعد أن كان لا يتجاوز 10% من الناتج المحلي قبل 10 أعوام. هذه الديون المتراكمة على الدولة تحتاج إما إلى معجزة نفطية جديدة تضاعف أسعار النفط، أو إلى تقليص نفقات الدولة بشكل كبير يصاحبها فرض ضرائب ورسوم متزايدة. لكن من المؤكد أن من سيدفع الثمن، في بلد لا يملك احتياطيات نفطية كبيرة ولم يحافظ على وضع مالي قوي، هم الأجيال القادمة من الشباب الذين لم يشهدوا العصر الذهبي للنفط.
هذا ليس كل ما في الأمر، فأنظمة التقاعد في بعض الأقطار العربية مفلسة ولا تستطيع الوفاء بالتزاماتها المستقبلية. في البحرين، بلغ العجز الاكتواري (التزامات صناديق التقاعد المستقبلية تجاه المؤمن عليهم ناقصا الأصول المتراكمة لهذه الصناديق) عام 2016 ما يزيد عن 10.4 مليار دينار (27.5 مليار دولار). من هو الخاسر الأكبر من استمرار تراكم هذا العجز الاكتواري؟ من المؤكد أن الصناديق التقاعدية ستعجز بعد بضع سنين عن دفع كل مستحقات المتقاعدين، فأصولها (احتياطاتها) المتراكمة البالغة حوالي 10 مليارات دولار ستنفد عام 2028 حسب توقعات الخبير الاكتواري ، الأمر الذي قد يدفعها إلى مضاعفة الاشتراكات التي يسددها المؤمن عليهم وتخفيض المستحقات التقاعدية. إن الغالبية الساحقة من هؤلاء المتضررين هم من فئة الشباب الذين لم يدخلوا سوق العمل بعد أو الذين مازال أمامهم عشرات السنين قبل الوصول إلى سن التقاعد.
كان من الممكن تجنب أزمة الدين العام والعجز الاكتواري بالحكم الصالح الذي يسخر موارد الدولة لصالح التنمية العادلة المستدامة. لقد تم التعامل مع الأراضي الأميرية المملوكة من الدولة باعتبارها أملاكا خاصة يمكن التصرف بها في غير المصلحة العامة، إذ وُهبت أراض شاسعة لنخبة محدودة العدد، تتجاوز قيمتها عشرات المليارات من الدولارات، بدل بيعها في مزادات علنية تملأ خزينة الدولة المنهكة اليوم بالمصروفات الأمنية والعسكرية والعمولات، وفي المستقبل بخدمة الدين العام وسد عجز صناديق التقاعد.
اللامساواة بين موظفي الحكومة وموظفي القطاع الخاص: دولة الرفاه التي شيدت على فوائض الأموال النفطية اعتمدت على عقد اجتماعي غير مكتوب: الولاء للسلطة والتنازل عن الحقوق السياسية مقابل العطايا من الوظائف الحكومية المريحة ودعم الأغذية والمحروقات والطاقة والماء والسكن وغيرها. لهذا أصبح القطاع الحكومي المدني والعسكري هو الموظف الأكبر للمواطنين. في البحرين مثلا، يبلغ عدد موظفي القطاع الحكومي المدني 52 ألف موظف بحريني بالإضافة إلى نحو 30 ألفا يعملون في القطاع العسكري والمؤسسات الحكومية، مقابل 90 ألف بحريني يعملون في القطاع الخاص.
التمييز لصالح القطاع العام على القطاع الخاص يأخذ أبعادا متعددة، سواء من حيث الفارق في الأجر، أو في حقوق التقاعد، أو في عدد أيام الإجازة السنوية مدفوعة الأجر (42 يوما للموظف العام مقابل 21 يوما للخاص). ومن ناحية الأجور، فإن 50% من موظفي القطاع الخاص يحصلون على أقل من 400 دينار شهريا (1,060 دولار)، مقابل فقط 4% في القطاع العام. كما أن وسيط (median) الأجر الشهري في القطاع العام المدني يزيد 86% عنه في الخاص (744 دينار مقابل 400). هذه الميزة التفضيلية تستمر حتى بعد الإحالة للمعاش، إذ يبلغ وسيط المعاش التقاعدي لموظف القطاع العام المدني 766 دينارا مقابل 395 للخاص .
وبطبيعة الحال يفضل أغلب الناس الحصول على أجر أعلى مقابل عمل أقل. وعندما يتعرض الاقتصاد لهزات كبيرة من قبيل الانخفاض الحاد في أسعار النفط، تقوم الحكومة بخفض نفقاتها فيتزايد التنافس على الوظائف المحدودة التي تعرضها. وبالإضافة إلى أشكال المحسوبيات العائلية وغيرها الشائعة في الأوضاع الطبيعية، فإن سياسة التوظيف الرسمية في البلدان التي تتعرض لانقسامات سياسية حادة تستخدم كسلاح لمكافأة الفئات والطوائف الموالية ولتأديب “المتمردة” منهم، أي الفئات التي يتركز فيها وجود المعارضة. في هذه الدول تصبح الأولوية القصوى للمؤسسات الحاكمة رص صفوف الأقليات المؤيدة للإبقاء على قاعدة اجتماعية متماسكة للسلطات، خاصة في القوات الأمنية والعسكرية، في وجه أغلبية معارضة تنتمي في غالبيتها لجماعات مختلفة عن جماعة النخب الحاكمة.
إن اللامساواة بين دخول الأفراد في القطاعين العام والخاص مرشحة للاستمرار في غياب إصلاحات هيكلية للقطاعين، لكنها ستكون أكثر وطأة على الفئات المحسوبة على المعارضة التي تحرم من الحصول على فرص متساوية لتقلد الوظائف الحكومية.
اللامساواة بين الوافدين والمواطنين: الاقتصاد الخليجي مدمن نفط في التصدير، ومدمن عمالة وافدة في الاستيراد. في البحرين، يوظف القطاع الخاص جل العاملين الوافدين اذ يبلغ تعدادهم 516 ألف إضافة لحوالي 120 ألفاً من خدم وعمال المنازل. يشغل أغلب هؤلاء الوظائف الدنيا المنخفضة الأجر في الأعمال التي لا تتطلب مهارات متميزة أو تعليما عاليا خاصة في قطاع الانشاءات. متوسط الأجر (لا توجد إحصاءات للوسيط) الذي يحصل عليه العاملون الوافدون في هذا القطاع أقل من ثلث متوسط ما يحصل عليه البحرينيون (213 دينارا مقابل 690) .
من ناحية فإن السبب الرئيس لانخفاض الأجور هو الخزان الضخم من العمالة الرخيصة المتوافرة في شبه القارة الهندية على وجه الخصوص، ومن ناحية أخرى غياب الحماية للعمالة الوافدة من حيث الحد الأدنى للأجر ووجود نظام الكفالة شبه العبودي الذي يمنع أو يعيق انتقال العامل من رب عمل لآخر لتحسين شروط عمله. هذا التمييز ضد العامل الوافد يتلاشى في حالة الوظائف الوسطى التي تتطلب تعليما عاليا أو مهارات جيدة، حيث يقترب أجر الوافد من أجر المواطن، وربما يزيد في حالة كبار الموظفين من ذوي البشرة البيضاء.
اللامساواة بين المرأة والرجل: أغلب خريجي الجامعات خلال العقدين الماضيين هم من النساء. كما أن المراتب الأولى في نتائج امتحانات الثانوية العامة والاعدادية والابتدائية تهيمن عليها الفتيات. والفجوة العلمية بين الفتيات والفتيان كبيرة لصالح الفتيات كما تبينها امتحانات دراسة التوجهات العالمية للرياضيات والعلوم (TIMSS). لكن كل هذا لم يحقق بعد النتائج المرجوة بالمساواة في الأجر رغم الزيادة المستمرة في عدد النساء العاملات وفي أجرهن.
وفي حين أن متوسط ووسيط الأجر متساو تقريبا في القطاع العام المدني، فإن متوسط الأجر الشهري للمرأة في القطاع الخاص عام 2016 بلغ فقط 68% من أجر الرجل (524 دينار للمرأة مقابل 772 دينار للرجل). لكن الفجوة في الأجور تتزايد بين الرجال والنساء مع تقدم العمر وإطالة أمد بقائهم في العمل. إن متوسط أجر النساء بالنسبة للرجال في القطاع الخاص ينخفض إلى 50% للشريحة العمرية من 40 إلى 49 ، و 40% للشريحة العمرية من 50 إلى 59. هذا يعني أن فرص المرأة للترقي بعد حصولها على الوظائف الوسطى محدودة .
خاتمة
“اللاتوازن بين الغنى والفقر هو أقدم الأمراض وأشدها فتكا بالنسبة لكل الجمهوريات”
الفيلسوف والكاتب اليوناني بلوتارك
إن طرح حلول لمسألة المساواة على صعيد القطر الواحد أمر هام، لكنه على الأرجح غير كاف. فاللامساواة قضية عالمية، وهي لذلك بحاجة إلى حلول عالمية. ورغم التنافس الشديد بينهم من أجل تعظيم المكاسب الفردية، فإن هناك قدراً كبيراً من التضامن بين أصحاب رؤوس الأموال عندما يتعلق الأمر بسعيهم المستمر لفتح الأسواق وخفض الضرائب وإضعاف أنظمة الحماية العمالية وتقويض القوة التفاوضية للعمال بهدف الحصول على حصة أكبر من الدخل مقابل ما يحصل عليه العمل. لكن هذه القوة المتعاظمة لرأس المال العالمي تخلق تناقضا داخليا قد يؤدي إلى تقويض مكاسبه خلال العقود الماضية.
يقول الباحثان الفرنسيّان في معهـد الدراسات السياسية في باريس، بـرتران بــادي ودومينيك فيـــد إن العالم يواجه اليوم ضغطاً تفاوتياً، أو ضغط لامساواة مثل ذلك الذي أخاف البرجوازيات الوطنية الأوروبية نهاية القرن التاسع عشر، فكانت ردّة فعلها هي اختراع السياسات الاجتماعية. لكن ردّة الفعل اليوم أبعـد من أن تكون هي نفسها، والجمـاعة الدولية تشيح بنظرها عمّـا يمكن أن يكون سياسة إعادة توزيع عالمية.. لاشكّ أنّ مظاهر الظلم الاجتماعي والاقتصادي المختلفة تشكّل منظومة، وأنّها تشـهـد على نمط تنميةٍ بات على وشك أن يلفظ أنفاسه .
أما صندوق النقد الدولي، فإن عددا متزايدا من الباحثين فيه أصبحوا يتبنون فيه فكرة أن اللامساواة في الدخل تؤثر سلبا على استدامة النمو على المدى المتوسط لأن تركز الثروة لدى أغنى 20% من السكان لا تصل مفاعيله للطبقات الدنيا، بينما نمو دخل الطبقات الفقيرة يساهم إيجابا في نمو إجمالي الناتج المحلي. ويخلص تقرير أصدره مجموعة من الباحثين في الصندوق إلى نتيجة مفادها أن نمو دخل الفقراء والطبقة المتوسطة هو المحرك الأكبر لعجلة النمو، الأمر الذي يستدعي وجود سياسات تركز على الفقراء والطبقة المتوسطة مثل الحصول على تعليم وصحة وحماية اجتماعية أفضل .
لا يقتصر سبب اللامساواة في الدخل والثروة في الوطن العربي على آلية التراكم اللانهائي التلقائي التي يقول ماركس وبيكيتي إنها متأصلة في طبيعة رأس المال. في وطننا العربي تشتغل آلية إضافية لتركيز رأس المال في أيد قليلة، آلية الفساد المستشري في جسد الدولة القطرية الذي يعتبر موارد الدولة غنيمة تستأثر بها النخبة الحاكمة وتستخدمها لرشوة المجتمع، وهي أشد خطرا لأنها تأخذ ولا تعطي إلا بما يكفي لشراء الضمائر أو لضمان صمت الجياع، بينما تقوم آلية التراكم الرأسمالي على قسمة غير عادلة بين رأس المال والعمل.
طرح الباحثون في ورقة الإسكوا السابقة الذكر رؤية تستند على نموذج إنمائي جديد يجمع الطبقات الوسطى والفقيرة في تحالف ديمقراطي، وهو ما رآه أيضا الأمريكي انغلهارت حول التحالف العريض بين الأغلبية ضد الأقلية الثرية. كما دعوا إلى توجيه الاستثمارات في القطاعات التي توفرأكبر عدد من الوظائف الجيدة، وطالبوا بتفكيك رأسمالية المحاباة وإصلاح النظام الضريبي وخفض الإنفاق العسكري، وركّزوا على أهمية دور الدولة الاقتصادي. ويعنينا كثيرا ما لاحظه الباحثون أن المنطقة العربية هي الأقل تكاملا في مجالات التجارة والاستثمار، وأن “الخطوات الأولى في مسار التكامل الاقتصادي كفيلة وحدها بتحقيق فوائد هائلة” قدروها بزيادة في الناتج المحلي بنسبة 3% سنويا. لكن كل هذه تحتاج إلى إصلاحات بنيوية للدولة العربية والمنظومة القومية تقوم على قواعد الديمقراطية والحكم الرشيد، وتنهي عقودا من الخضوع لمصالح القوى العالمية الرأسمالية.
وعلى الصعيد العالمي، يقترح بيكيتي وأنتوني أتكنسون وبورغينون وآخرون نظاما ضريبيا عالميا على الثروة، وضرائب تصاعدية على أصحاب الدخول الكبيرة والتركات والعقارات، وضمان ثروة دنيا لكل شاب يبلغ سن الرشد، ومحو أشكال التمييز، وتنظيم أسواق العمل وتنسيق دولي من أجل ضمان أكبر قدر من الشفافية لمنع التهرب الضريبي. غير أنهم يعترفون بصعوبة هذا الحل لأنه يتطلب درجة عالية من التنسيق الدولي وتكاملا سياسيا وإقليميا، لكن لا يوجد خيار آخر للجم الرأسمالية.
رابط المصدر: