السفير د. علاء الحديدي
احتفلت أوكرانيا، في ٢٤ أغسطس الجاري، بالذكرى الـ٣١ لاستقلالها عن الاتحاد السوفيتي السابق، والذي تزامن مع مرور ٦ أشهر على بدء الحرب الروسية الأوكرانية. ورغم التوقعات التي سادت في بداية هذه الحرب بسرعة انتهائها، إلا أنه لا تلوح في الأفق أية مؤشرات على قرب انتهائها. بل إن المؤشرات الحالية تشير إلى امتداد هذه الحرب لفترة طويلة قادمة بعد أن أصبحت هذه الحرب بمثابة مأزق وجدت كل الأطراف نفسها فيه. هذا المأزق الذي دفع الرئيس الأمريكي إلى الإعلان عن حزمة مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا بقيمة ٣ مليارات دولار، ليصل مجموع ما قدمته واشنطن إلى قرابة ١٣ مليار دولار. وتتجلى مظاهر هذا المأزق في ثلاثة جوانب على النحو التالي:
أولاً- المأزق العسكري:
تُشير التقديرات الغربية إلى فقدان الحملة الروسية في إقليم الدونباس في شرق أوكرانيا للزخم الذي كانت تتمتع به في بداية هجومها على محافظة لوهانسك ونجاحها في السيطرة الكاملة عليها، ورغم نجاحها أيضًا في السيطرة على حوالي ٦٠٪ من محافظة دونيتسك الأكبر حجمًا، إلا أنها لم تستطع حتى الآن تحقيق تقدم ملموس خلال الأسابيع الماضية سوى الاستيلاء على بعض المواقع الصغيرة هنا وهناك. وترجع التقديرات الغربية ذلك الأمر لعدة أسباب، يأتي على رأسها قيام موسكو بنقل العديد من قواتها التي كانت تحارب في الشرق إلى الجنوب وتحديدًا حول مدينة خيرسون للتصدي للهجوم المضاد الذي أعلنت القيادة الأوكرانية أنها بصدد القيام به لاستعادة هذه المدينة قبل حلول شهر سبتمبر القادم، وهو الموعد المتوقع أن تجري فيه موسكو استفتاء بين السكان حول الانضمام إلى روسيا، على غرار ما تم مع شبه جزيرة القرم في عام ٢٠١٤.
على الجانب الآخر، يعول الجانب الأوكراني، ومن ورائه حلف الناتو، على وصول بعض المعدات والأسلحة الغربية المتطورة لتغيير موازين القوة على الأرض وتحويل دفة الحرب لصالحهم. ومثال ذلك انظمة صواريخ مدفعية سريعة التنقل من راجمات الصواريخ الأمريكية من طراز هايمرز HIMARS التي يصل مداها إلى ٨٠ ثمانين كيلو مترا، وحصلت أوكرانيا على ١٦ منها بالفعل وتأمل في أن تحصل على حوالي ٥٠ إلى ٦٠ راجمة أخرى. وكان وفد من الكونغرس الأمريكي قد زار كييف مؤخرًا وأعلن أنه بصدد الموافقة على إرسال المزيد من هذه الراجمات ليصل عددها إلى ما بين ٢٥ إلى ٣٠، وهو ما يقل عن الطلب الأوكراني. يضاف لما سبق أيضًا حصول كييف على ٦ مدافع Howitzer هاوتزر الفرنسية من طراز Caesar سيزرمن أصل ١٨ قطعة بحوزة فرنسا، وهي المدافع التي يصل مداها إلى حوالي ٣٨ كم وتم استخدامها في قصف القوات الروسية المتواجدة على جزيرة الثعبان في البحر الأسود والتي تبعد عن ميناء أوديسا بمسافة قريبة وأجبرها على الانسحاب. مثل هذه النجاحات رغم محدوديتها من الناحية العسكرية دفعت وزير الخارجية الروسية سيرجي لافروف إلى التصريح بأن أهداف الكرملين توسعت إلى ما بعد الاستيلاء على إقليم الدونباس، وتشمل الآن الاستيلاء على منطقتي خيرسون وزابوريزكا، مضيفًا أنهم يمكن أن يتقدموا إلى أبعد من ذلك إذا تلقت كييف المزيد من الأسلحة بعيدة المدى من شركائها. وقد جاء هذا التصريح ليحذر واشنطن من مغبة قيامها بتزويد القوات الأوكرانية بصواريخ جديدة لراجمات الهيمرز المستخدمة حالياً، ولكن يصل مداها إلى ٣٠٠ كم. وهو الأمر الذي تتردد الإدارة الأمريكية في القيام به رغم إلحاح الجانب الأوكراني خشية واشنطن من استخدام كييف لمثل هذه الصواريخ الأبعد مدى في ضرب الأراضي الروسية ذاتها، وهو ما سيعد تصعيدًا خطيرًا قد لا تحمد عقباه ولا تريده واشنطن.
يكشف ما تقدم عن أن الجانب الأوكراني ومن ورائه الولايات المتحدة، ورغم كل ما قيل عن فاعلية السلاح الغربي في مواجهة السلاح الروسي أو عدم كفاءة القوات الروسية وفقدانها عنصر المبادأة وغيرها من التحليلات والتقديرات، فإن أوكرانيا والغرب يواجهون صعوبات شديدة في التصدي للآلة العسكرية الروسية. وقد ظهر ذلك جليًا في النقص الشديد الذي تعاني منه القوات الأوكرانية في مجال الذخيرة، حيث تطلق المدفعية الأوكرانية قذيفة واحدة في مقابل كل عشر وأحيانًا عشرين قذيفة روسية، وهو ما بات الغرب يتخوف من نفاد ما لديه من مخزون قبل نفاد المخزون الروسي. يزيد الوضع سوءًا اكتشاف صعوبة استخدام بعض الذخائر التي تنتجها بعض دول الناتو في بعض أنواع الأسلحة التي تنتجها دول أخرى، حيث واجهت القوات الأوكرانية صعوبات في توفير الذخيرة اللازمة للمدافع الألمانية ذاتية الدفع من طراز 2000 Panzerhaubitze والتي تم تزويد أوكرانيا بها. وعليه، يشكك العديد من المحللين في قدرة القوات الأوكرانية على نجاح قواتها في استعادة منطقة خيرسون كما أعلنت كييف من قبل، أو على الأقل ليس خلال الشهرين القادمين، وخاصة بعد التعزيزات التي أرسلتها موسكو إلى هناك. وهو ما يعني عمليًا جمود الموقف العسكري على ما هو عليه حاليًا ولفترة طويلة قادمة.
ثانيًا- المأزق الاقتصادي:
رغم كل العقوبات الاقتصادية التي فرضت على موسكو، وتوقع انكماش الاقتصاد الروسي ما بين ٨ إلى ١٢ ٪، إلا أن هذا لم يحدث بعد ٦ أشهر من بداية الحرب. إذ يقول البنك المركزي الروسي إن نسبة الانكماش المتوقعة ستتراوح ما بين ٤ إلى ٦٪ فقط، وهو ما يقترب من توقعات صندوق النقد الدولي الذي خفض توقعاته بانكماش الاقتصاد الروسي من ٨،٥٪ في شهر مارس الماضي إلى ٦٪ فقط حاليًا. وهو (أي الاقتصاد الروسي) بذلك لا يختلف كثيرًا عن التوقعات الخاصة بالاقتصاد الألماني، والتي تتحدث عن انكماش بنسبة ٥٪ جراء ما هو متوقع من وقف ضخ الغاز الروسي إليه. هذا فضلًا عن وصول نسب التضخم في دول الاتحاد الأوروبي إلى مستويات غير مسبوقة وصلت إلى حوالي ٩٪ جراء ارتفاع أسعار الطاقة تأثرًا بتخفيض أمدادات الغاز الروسية وتقلص المعروض ودون وجود بدائل كافية تعوض النقص الحالي والمتوقع في هذه الإمدادات خلال فصل الشتاء القادم.
يأتي هذا الوضع بعد أن راهن الغرب كثيرًا على تخفيض حجم المبيعات الروسية من النفط والغاز إليه، على الأقل في المديين القصير والمتوسط. ورغم كثرة الحديث عما كان متوقعًا من انخفاض في الإنتاج الروسي بسبب العقوبات المفروضة عليه، وخاصة في مجال تكنولوجيا استخراج النفط وبعد انسحاب العديد من الشركات الغربية، إلا أن ارتفاع أسعار النفط الذي وصل إلى حوالي ١٢٠ دولارًا للبرميل في شهر مايو الماضي، قد عوض كثيرًا من تراجع حجم المبيعات الروسية للغرب. ومع قيام موسكو بتقديم تخفيض على سعر خام الأورال الروسي الخاص بها بحوالي ٢٠ إلى ٣٠ دولارًا للبرميل، قامت كل من الصين والهند بزيادة حجم مشترياتهما من النفط الروسي. وبعد أن كانت الهند لا تستورد أكثر من ١٪ فقط من الصادرات الروسية من النفط قبل بداية الحرب، وأصبحت نيودلهي الآن تستورد ١٨٪ من هذه الصادرات طبقًا لبيانات شهر مايو الماضي.
لا يعني ما تقدم أن الحرب الاقتصادية التي بدأت بين الاقتصاد الروسي من ناحية ومن ناحية أخرى الاقتصاد الغربي بشقيه الأوروبي والأمريكي بصدد الحسم قريبًا بانهيار اقتصاد أحد الطرفين، ولكن يعني ببساطة استمرار النزيف الاقتصادي والمزيد من التضخم والتدهور ودون وجود بدائل أو حلول اقتصادية سريعة.
ثالثًا- المأزق السياسي :
رغم بعض التصريحات المتداولة إعلاميًا، مثل تصريح المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر بعد لقائه الرئيس بوتين مؤخرًا في موسكو من استعداد الأخير للدخول في مفاوضات لحل النزاع في أوكرانيا على حسب تعبيره، أو حالة التفاؤل القصيرة التي صاحبت الاتفاق على استئناف تصدير القمح الأوكراني من ميناء أوديسا وإمكانية البناء على هذا الاتفاق للتوصل إلى اتفاق أكبر وأشمل يتضمن تسوية سياسية كما يروج الأتراك.
ومما يزيد الموقف تعقيدًا، أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قد أعرب أكثر من مرة عن رفضه أي اتفاق مع روسيا يتضمن التنازل عن أراضٍ أوكرانية، وهو الموقف الذي يحظى بدعم ٨٤٪ من السكان. وكان البعض مثل وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر وبعض القادة الأوروبيين مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد دعوا إلى ذلك من أجل التوصل إلى تسوية سلمية توقف نزيف الحرب الحالية. ومن المعروف أن روسيا على الجانب الآخر لن تقبل بأقل من الاعتراف بسيادتها على شبه جزيرة القرم ومناطق أخرى في الشرق والجنوب ستكون محل مفاوضات قادمة، أو هكذا يأمل البعض.
هذا، ومع حالة الجمود العسكري الحالية على جبهات القتال، وعدم قدرة أي طرف على تحقيق اختراق يقلب المعادلة العسكرية الحالية على الأرض، وإصرار كل طرف على مطالبه القصوى دون أية بادرة على الاستعداد لقبل حل وسط، فإن ذلك يعني استبعاد أي تسوية قريبًا، أو حتى البحث عن مخرج سياسي للأزمة تحت وطأة الضغوط الاقتصادية التي يعاني كلاهما منها. فكلا الطرفين المتحاربين ما يزالان يراهنان على قدرتهما في التغلب على الصعوبات الحالية والمضي قدمًا في مخططاتهما ضد الطرف المناوئ له حتى يتم إجباره على الجلوس على طاولة المفاوضات.
ختامًا، يمكن القول إن جميع الأطراف، من روسيا إلى أوكرانيا فالولايات المتحدة الأمريكية في دول حلف الناتو، وقد وجدوا أنفسهم في مأزق لا يستطيعون الخروج منه، بل على العكس من ذلك، فإن الحديث يدور الآن حول أهمية حسم الموقف عسكريًا بقدر الإمكان قبل دخول الشتاء، لأن عدم الحسم هذا سيؤجل أي خطط عسكرية لما بعد الشتاء إلى ربيع العام القادم، وهو ما يعني عمليًا الدخول في مرحلة من الجمود وغياب أي أفق لحل أو تسوية سياسية قريبًا، ولكن هذا الحسم العسكري يبدو بعيد المنال كما سبق وتم إيضاحه.
.
رابط المصدر: