يمثل وضع تصوّر لتقاطعات التنوع الإثني والقواسم المشتركة بين أفراد المجتمع أحد التحديات الأساسية التي تواجه بناء الدولة بالنسبة لواضعي السياسات العامة. وعند قيام الدولة الحديثة، لم يكن لها اختيار مكوناتها من ألوان الطيف الاجتماعي للناس الذين تحكمهم، ليكون لزاماً على النظام السياسي البحث عن وسائل التعامل مع هذه التنوعات والاختلافات بوصفها تحديات طبيعية تواجه النظام، وليس باعتبارها تناقضات يستلزم حلها بواسطة إزالتها أو محاولة تطويعها أو ترويضها بالقوة، إلى أن تخرج عن طوعها مهددةً النسيج الوطني والاجتماعي في الدولة.
الدراسة تبحث في أنموذجين مختلفين ومتشابهين من عدة جوانب؛ فهما مختلفان في طبيعة المجتمع وثقافته، ونظام إدارة الدولة، والمكانة الاقتصادية، والموقع الجغرافي، وطبيعة إدارة التفاعلات الإثنية، أما من ناحية التشابه، فكلتا الدولتين تتفاعل فيهما الإثنيات (اللغوية، والقومية، والعرقية)، وكلتا الدولتين تأخذ بالنظام الفيدرالي، وكلتا الدولتين فيهما أقليات قومية ساعية للانفصال (كردستان، كيبيك).
وغالباً ما يواجه النظام السياسي أطرافاً ساعيةً إلى الخروج على هيمنة الحكومة المركزية، ولا سيّما الأطراف المتباينة عن الأغلبية الإثنية، لهذا يكون النظام السياسي دائم المحاولة في ابتكار سُبلٍ جديدة أو تكييفها من دون اللجوء إلى القوة المادية ابتغاء استمالة الأطراف وإبقائها ضمن الدولة، وعليه، فإن انتهاج إدارة ناجحة للتفاعلات الإثنية قد يصبح، على هذا النحو، سبيلاً لاستمرارية وجود الدولة إذا ما تمّ تكييف نظرية التعدّدية الثقافية وإنشاؤها على غير الأساس الذي يريده دعاتها، وهو الاعتراف بالتنوع الإثني عبر التعامل معه على أنه واقعٌ معين، في مقابل ذلك، ربّما ستسعى الأطراف بدورها إلى تصعيد مطالبها عبر ردود فعلٍ دفاعية لمواجهة محاولات المركز.
تظهر موضوعة المواطنة كتحدٍ حقيقي تواجهه الدولة العراقية بعد عام 2003، بالنظر لما شهدته من تغييرات قيمية، وصراعات سياسية أثرت بشكل ملحوظ على مسألة المواطنة، بل وتعدتها إلى تفتيت الهوية الوطنية العراقية، مما أدى إلى تحفيز وصعود الهويات الفرعية (الإثنية والدينية والمذهبية)، فضلاً عن ما أصابها من أزمات تتعلق بقضايا الأمن والتنمية والاستقرار السياسي، وقد نتج عن كل هذا ضعف المواطنة، التي أثرت بشكل كبير على تعاطي الدولة مع مختلف القضايا على المستويين الداخلي والخارجي، إن دراسة مسألة المواطنة والتنوع المجتمعي، يمثل تحدياً بحثياً بالغ الأهمية، لما يشكله هذا الموضوع من مفتاح لفهم أزمات ومشكلات الدولة العراقية، وآليات توظيف هذه المجاميع في استدامة الصراع السياسي للوصول إلى السلطة في العراق.
وفي إطار استخلاص التجربة، فقد أظهر النظام السياسي الكندي قدرته على استيعاب ضغوطات البيئة الاجتماعية المتنوعة؛ ومن ثم استيعاب مطالب الإثنيات، واستجاب بمرونة عالية لتلك المطالب والتحديات، وتعامل معها برؤية واضحة وتريث وعقلانية، عن طريق التوزيع العادل للثروة والدخل، وعن طريق إقرار التسويات الاجتماعية والسياسية في إطار النظام الديمقراطي، وحل فيدرالي للمشكلات الاجتماعية والسياسية، وذلك بمنأى عن الاحتكار والاستبداد أو التطرف، فممارسات النظام السياسي الكندي ممارسات ديمقراطية وسلطتها عقلانية، استطاعت التوفيق بين المصالح المتعارضة لذوي الأصول الفرنسية وذوي الأصول البريطانية، وانتهجت الدولة آليات وضوابط برلمانية ديمقراطية، مثل المناقشات البرلمانية، والمناقشات الحزبية، وحوار لجان الأحزاب السياسية، وحوار اللجان البرلمانية، فضلاً عن أحقية المعارضة في ممارسة العمل السياسي، واضطلاعها بدور المراقب، والمصحح للعملية السياسية في إطار حيادي، ونزاهة القضاء، ورقي المستوى التعليمي، وبالتالي يمكن الاستفادة منه في السياق العراقي.