جوزيف ناي
كمبريدج ــ ربما ازدرى دونالد ترمب المؤسسات الدولية، لكن رئاسته ذَكَّـرَت العالم بأهمية المؤسسات الـفَـعَّـالة القادرة على الصمود. في انتخابات 2016، خاض ترمب حملته الانتخابية على أساس حجة مفادها أن مؤسسات ما بعد 1945 المتعددة الأطراف سمحت لدول أخرى بالاستفادة على حساب الأميركيين.
استندت جاذبية ترمب الشعبوية إلى ما هو أكثر من السياسة الخارجية بطبيعة الحال، لكن ترمب نجح في الربط بين الـسُـخـط المحلي والسياسة الخارجية من خلال إلقاء اللوم عن المشكلات الاقتصادية على الاتفاقيات التجارية “السيئة” مع دول مثل المكسيك والصين وعلى المهاجرين الذين ينافسون الأميركيين على الوظائف. لقد جرى تصوير النظام الدولي الليبرالي في فترة ما بعد 1945 على أنه الوغد الشرير.
كما أشرت في كتابي “هل تشكل الأخلاق أي أهمية؟ الرؤساء والسياسة الخارجية من فرانكلين ديلانو روزفلت إلى ترمب”، لم يكن الرؤساء الأميركيون ليبراليين مؤسسيين مثاليين قَـط. فكان دعم دوايت أيزنهاور للعمل السري في إيران وجواتيمالا، وجون ف. كينيدي في كوبا، متناقضا تماما مع القراءة الدقيقة لميثاق الأمم المتحدة. كما خرق ريتشارد نيكسون قواعد مؤسسات بريتون وودز الاقتصادية بفرض تعريفات جمركية على حلفائنا في عام 1971. وتجاهل رونالد ريجان قرار محكمة العدل الدولية الذي وجد أن قيام إدارته بزرع الألغام في موانئ نيكاراجوا عمل غير قانوني. وقَـصَـفَ بِل كلينتون صربيا دون الاستناد إلى قرار من مجلس الأمن.
ولكن قبل عام 2016، كان الرؤساء الأميركيون يدعمون المؤسسات الدولية في أغلب الأحوال كما سعوا إلى توسيعها، سواء تجلى ذلك في معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية في عهد ليندون جونسون؛ أو اتفاقيات الحد من التسلح في عهد ريتشارد نيكسون؛ أو اتفاقية ريو دي جانيرو بشأن تغير المناخ في عهد جورج بوش الأب؛ أو منظمة التجارة العالمية ونظام التحكم في تكنولوجيا الصواريخ في عهد كلينتون؛ أو اتفاقية باريس للمناخ في عهد باراك أوباما.
لم يحدث قبل ترمب قَـط أن أقدمت أي إدارة أميركية بتوسع على انتقاد المؤسسات المتعددة الأطراف على أساس سياسي. في عام 2018، أعلن وزير الخارجية مايك بومبيو أنه منذ نهاية الحرب الباردة قبل ثلاثة عقود من الزمن، خَـذَلَ النظام الدولي الولايات المتحدة، و”أصبح يُـنـظَـر إلى التعددية على أنها غاية في حد ذاتها. وأننا كلما زاد عدد المعاهدات التي نوقع عليها، يفترض أن نصبح أكثر أمانا. وكلما زاد عدد البيروقراطيين لدينا، كلما أنجزنا المهمة على نحو أفضل”. لقد اتخذت إدارة ترمب نهجا ضيقا يقوم على عقد الصفقات في التعامل مع المؤسسات وانسحبت من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية.
المؤسسات ليست كيانات سحرية، لكنها تخلق أنماطا قيمة من السلوك. والمؤسسات المتعددة الأطراف أكثر من مجرد منظمات رسمية، تتصلب أحيانا وتحتاج إلى الإصلاح أو الاستغناء عنها. الأمر الأكثر أهمية هو النظام الكامل للقواعد والمعايير والشبكات، والتوقعات التي تخلق الأدوار الاجتماعية، التي تنطوي على التزامات أخلاقية. الأسرة، على سبيل المثال، ليست منظمة، بل مؤسسة اجتماعية تسند إلى الوالدين دورا ينطوي على التزامات أخلاقية تجاه المصالح الطويلة الأجل لأطفالهما.
يزعم الواقعيون أن السياسة الدولية فوضوية وبالتالي فهي تنتهي إلى حصيلة صِـفرية: فمكسبي هو خسارتك والعكس صحيح. ولكن في ثمانينيات القرن العشرين، استخدم العالم السياسي روبرت أكسلرود دورات الكمبيوتر لإثبات أن الألعاب التي تنطوي على حافز عقلاني للغش إذا لعبتها ذات مرة من الممكن أن تتغير عندما تتوقع علاقة مستمرة. لقد أثبت مبدأ التبادلية كونه أفضل استراتيجية طويلة الأمد. ومن خلال تعزيز ما أسماه أكسلرود “ظل المستقبل الطويل”، تشجع الأنظمة والمؤسسات الدلية التعاون في ظل عواقب سياسية تتجاوز أي صفقة منفردة.
بطبيعة الحال، قد تفقد المؤسسات قيمتها وتصبح غير شرعية في بعض الأحيان. زعمت إدارة ترمب أن مؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية حولت الولايات المتحدة إلى “شيء أشبه بجوليفر العملاق”: حيث استخدم الأقزام الخيوط المؤسسية المتعددة الأطراف لتقييد العملاق الأميركي لمنعه من استخدام قوته في أي مفاوضات ثنائية. ومن خلال إعادة التفاوض على اتفاقيات تجارية عديدة بطريقة أضرت بمنظمة التجارة العالمية وتحالفات الولايات المتحدة، أظهرت إدارة ترمب أن الولايات المتحدة، باعتبارها أقوى دولة في العالم، يمكنها قطع هذه الخيوط وتعظيم قدرتها على المساومة في الأمد القريب.
لكن الولايات المتحدة يمكنها أيضا أن تستخدم مثل هذه المؤسسات لإلزام الآخرين بدعم المنافع العامة العالمية التي تصب في مصلحتها ومصالح الآخرين في الأمد البعيد. في حين شبه جورج شولتز، وزير خارجية رونالد ريجان، سياسة الولايات المتحدة الخارجية بعمل البستاني الصبور، فإن تصور ترمب للسياسة استند إلى مفهوم مختلف تمام الاختلاف للكيفية التي ينبغي ممارسة القوة بها. باستخدام استعارة مختلفة، اشتكى ترمب من ركاب المجان، لكن الولايات المتحدة تستأثر بعجلة قيادة الحافلة.
في هذا القرن الذي يتسم بالاتكالية المتبادلة العابرة للحدود، تصبح الانعزالية خيارا غير وارد، وتصبح القومية في مقابل العولمة اختيارا زائفا. فلا يحترم الفيروس أو ذرة الكربون أي حدود سياسية. يتعين علينا أن نتعلم كيف نجمع بين الهوية الوطنية القوية والاهتمامات العالمية. على حد تعبير المؤرخ يوفال هراري: “سواء شئنا أو أبينا، تواجه البشرية اليوم ثلاث مشكلات مشتركة تستهزئ بكل الحدود الوطنية، والتي لا يمكن حلها إلا من خلال التعاون العالمي ــ الحرب النووية، وتغير المناخ، والإرباك التكنولوجي”.
تحتاج الولايات المتحدة إلى شبكة من الشراكات المتعددة المستويات مع آخرين. يقدم الشركاء الأجانب المساعدة عندما يريدون ذلك، ولا يتأثر استعدادهم هذا بالقوة العسكرية والاقتصادية التي تتمتع بها أميركا فحسب، بل وأيضا بقوتها الناعمة الجاذبة، التي تستند إلى ثقافة مفتوحة وشاملة، وقيم ديمقراطية ليبرالية، وسياسة يُـنـظَـر إليها على نطاق واسع على أنها شرعية. الواقع أن “الاحترام اللائق لآراء البشر” على طريقة جيفرسون، واستخدام المؤسسات التي تشجع التبادلية من خلال فرض “الظل الطويل للمستقبل”، من العناصر الحاسمة لإنجاح السياسة الخارجية الأميركية. وكما قال هنري كيسنجر بحق، يعتمد النظام العالمي على قدرة دولة رائدة على الجمع بين القوة والشرعية. ولا غنى عن المؤسسات لتحقيق هذه الغاية.
الآن، في ظل قدر أقل من الهيمنة وفي مواجهة عالم أكثر تعقيدا، يتعين على الولايات المتحدة أن تتعاون مع الآخرين، وأن تستخدم قوتها الناعمة لاجتذاب تعاونهم. الحق أن أميركا تحتاج إلى ممارسة القوة مع الآخرين وليس فقط عليهم. وسوف يتوقف نجاح سياسة جو بايدن الخارجية على مدى السرعة التي نتعلم بها من جديد هذه الدروس المؤسسية.
* جوزيف ناي، سكرتير مساعد وزير الدفاع السابق، وأستاذ في جامعة هارفارد، مؤلف كتاب القوة الناعمة وكتاب مستقبل القوة وكتاب هل انتهى القرن الأميركي؟ و”هل الأخلاق مهمة القادمة”؟ الرؤساء والسياسة الخارجية من روزفلت إلى ترامب.
https://www.project-syndicate.org
رابط المصدر: