ستختلف طريقة تطوّر العلاقة بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال من بلد إلى آخر، ومن قطاع اقتصادي إلى آخر، لكنها ستؤثّر في جميع الحالات على التوجّه الاقتصادي واستراتيجيات النمو، والاتجاهات الاجتماعية، والحوكمة السياسية. فضلًا عن ذلك، يبدو أن هذه الاتجاهات ستستمر، إن لم نقل تتكثّف، عقب الاختلالات في…
تُبيّن هذه المجموعة من المقالات –التي تشمل بلدانًا في أميركا اللاتينية، وأفريقيا، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وجنوب آسيا وجنوب شرق آسيا– أن مثلّث السلطة الذي يضمّ القوات المسلحة والقطاع الخاص وقادة الدولة يُعطّل على الأرجح عملية الدمقرطة في الكثير من البلدان أو على الأقل يُعيد توجيهها نحو قنوات خاضعة للسيطرة المشدّدة.
مُقَدِّمة
يقدّم التفاعل بين القوات المسلّحة الوطنية وقطاع الأعمال الخاص منظورًا مفيدًا للاطّلاع على الديناميات السياسية في الكثير من بلدان ما يُسمّى الجنوب العالمي. يسلّط اتجاهٌ متزايد من الحراك السياسي العسكري – الذي غالبًا ما يكون مصحوبًا بنشاط تجاري عسكري – الضوء على أهمية العوامل المحرّكة والنتائج في هذه العلاقات. واقع الحال أن دور المؤسسة العسكرية، سواءً انخراطها في مجال الأعمال أو سيطرتها على الوصول إلى الثروة والسلطة، يطبع إلى حدٍّ كبير المسارات السياسية لهذه البلدان.
تُبيّن هذه المجموعة من المقالات – التي تشمل بلدانًا في أميركا اللاتينية، وأفريقيا، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وجنوب آسيا وجنوب شرق آسيا – أن مثلّث السلطة الذي يضمّ القوات المسلحة والقطاع الخاص وقادة الدولة يُعطّل على الأرجح عملية الدمقرطة في الكثير من البلدان أو على الأقل يُعيد توجيهها نحو قنوات خاضعة للسيطرة المشدّدة. وهذا يتنافى مع نظرية الديمقراطية التقليدية، التي تفترض أن تحقيق القطاع الخاص درجات أكبر من الاستقلالية والنفوذ سيؤدّي إلى نشوء تحالفات اجتماعية سياسية داعمة للدمقرطة، وأن تراجع استقلالية القطاع الخاص، على النقيض من ذلك، يقوّض تلك الاحتمالات.
يتفاوت التوزيع الدقيق للميزات داخل مثلّثات السلطة هذه، ولكن المحصّلة النهائية في جميع الحالات تتمثّل في الغالب بالحفاظ على ما وصفه دوغلاس سي نورث، وجون جوزيف واليس، وستيفن ب. ويب، وباري ر. وينغاست، بـلقب “أنظمة الوصول المحدود” (limited access orders) التي يعمَد فيها أعضاء مثلّث السلطة إلى الحدّ من وصول القوى الاجتماعية الأخرى إلى الموارد القيّمة (الأرض والعمالة ورأس المال) والأنشطة القيّمة (التجارة والأسواق والخدمات العامة).
تُظهر هذه المقالات أن أنماط العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال الخاص تتأثّر بعوامل عدّة، أحدها هو درجة استقلالية قطاع الأعمال الخاص ومصادرها. على سبيل المثال، قد تكون الأنماط المتباينة للعلاقات بين المؤسسة العسكرية من جهة والجهات الأوليغارشية أو المحسوبة عليها في قطاع الأعمال من جهة أخرى، بمثابة وسيلة بديلة مفيدة لقياس المسارات السياسية. ويتسبّب صعود المؤسسة العسكرية بوصفها جهة فاعلة في قطاع الأعمال، سواءً بشكل رسمي أو غير رسمي، بتعقيد الأمور. وقد يؤدّي ذلك إلى منافسة أو مواجهة مباشرة مع كبار الجهات الفاعلة في قطاع الأعمال، التي ستسعى إلى “تسوية الملعب” الاقتصادي بشكل أكبر، ولكنه قد يشجّع أيضًا على التقاء المصالح مع هذه الجهات في معارضة حقوق العمّال والدمقرطة السياسية والاقتصادية الأوسع نطاقًا والتي من شأنها قلب أنظمة الوصول المحدود المذكورة آنفًا.
تجّلت أهمية هذه الديناميات بوضوح شديد في الحالتَين التاريخيتَين لكلٍّ من البرازيل في سبعينيات القرن العشرين وتشيلي في الثمانينيات منه، حيث جرى التفاوض على الانتقال الديمقراطي بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال (أو ممثّليه السياسيين) بمجرّد أن شعر هذا الأخير بأن استمرار الحكم العسكري سيتسبّب بتقييد مصالحه بدلًا من تعزيزها. وأسفرت دينامية مماثلة عن تدخّل الجيش التركي في العام 1980 من أجل وضع حدٍّ للحراك العمّالي وأعمال العنف بين اليسار واليمين، ثم تسليم الحكومة من جديد إلى المدنيين في العام 1983، الذين اتّبعوا برنامجًا نيوليبراليًّا من الناحية الاقتصادية ومحافظًا من الناحية الاجتماعية، لم يحبّذه الجيش.
مؤخرًا، حين استحوذ الجيش على السلطة من جديد في ميانمار في شباط/فبراير 2021، عارض عددٌ من وجوه قطاع الأعمال البارزين الحكّامَ العسكريين على الرغم من أنهم كانوا ضمن شبكات المحسوبية التابعة لهم حتى الانفتاح الديمقراطي في العام 2010؛ فقد تمكّنوا خلال العقد الفاصل من الخروج من ظل الجيش نحو مسار أكثر استقلاليةً ويمكن وصفه بالأوليغارشي، سعوا خلاله إلى تكوين الثروات وحماية مكاسبهم. في مصر، أبقى النظام المدعوم من الجيش في أعقاب انقلاب العام 2013، على التهميش الذي طال رجال الأعمال المحسوبين على الرئيس السابق حسني مبارك بعد انتفاضة العام 2011، ولكنه حرم في الوقت نفسه الوجوه المستقلة الأوليغارشية في قطاع الأعمال من الاضطلاع بدورٍ في وضع السياسة الاقتصادية، ناهيك عن ممارسة النفوذ السياسي.
وقد تخلّى الحزب الحاكم المدعوم من الجيش في أنغولا عن إرث الاحتكار الاقتصادي للدولة من أجل إنشاء قطاع مصرفي خاص محظيّ، في حين أن النظام الجزائري تصرّف على النقيض من ذلك، إذ نظر أوّلًا في الفكرة عبر ترقية مصرفيٍّ واحد من المحسوبين عليه، ثم أسقطه عندما اتّخذ مواقف سياسية مستقلّة. علاوةً على ذلك، شنّ الجيش الجزائري حملة لمكافحة الفساد بهدف احتواء الحراك المؤيِّد للديمقراطية الذي فرض الإطاحة برئيس الجمهورية في العام 2019، ثم إعادة تشكيل الائتلاف الحاكم في أعقاب ذلك، فاستعاد الجيش موقعه حارسًا للثروة والسلطة.
وتُظهر المكسيك والسلفادور أن هذا الدور لا يقتصر على القطاعات الاقتصادية النظامية بل قد يشمل أيضًا القطاعات غير النظامية وغير الشرعية، مثل أسواق المخدرات. في جميع الحالات، فإن النفوذ أو رأس المال المتراكم في مجالٍ ما – سواءً كان سياسيًّا أم اقتصاديًّا أم تنظيميًّا – يمكن إعادة استثماره في مجال آخر، ما يوضح أسباب تداخل الحراك السياسي العسكري في الكثير من الأحيان مع الطموحات الاقتصادية، والعكس صحيحٌ أيضًا.
في هذه البلدان وسواها، عكست تنمية القطاع الخاص تشويه اقتصاديات السوق من جانب الأنظمة المدعومة من الجيش أو بفعل التدخل العسكري المباشر. تُظهر الأمثلة أعلاه تباينًا كبيرًا. فقد عبّرت حالات بلدان أميركا اللاتينية وتركيا عن مستويات مرتفعة من تنمية القطاع الخاص، قي حين أن حالات بلدان الشرق الأوسط، إلى جانب قوس دول أفريقيا الغربية والوسطى التي شهدت انقلابات عسكرية منذ العام 2020، كشفت عن تداعيات التنمية المشوَّهة للقطاع الخاص والاستقلالية المقيَّدة بشدّة. وتقع بلدانٌ مثل إندونيسيا وباكستان، وربما ميانمار، في منزلةٍ ما بين المنزلتَين، حيث ثمة قطاعات خاصة متطوّرة نسبيًّا وأوليغارشيون نافذون في قطاع الأعمال، ولكن ثمة أيضًا جيوش معروفة تاريخيًّا بنزعتها التدخّلية (في الميدانَين السياسي والاقتصادي).
يترافق إحياء (أو تكثيف) السياسات الشعبوية والقومية المُغالية في المجموعة الأولى من البلدان مع تطوّر في أنماط وديناميّات التحالفات بين النخب الحاكمة وجيوشها وقطاع الأعمال. أما في المجموعة الثانية (البلدان الشرق أوسطية والأفريقية)، فإن إرث المراحل المتعاقبة من التأميم الاقتصادي والخصخصة غير المنتظمة (تُفاقمه العقوبات الدولية في حالات مثل العراق وليبيا والسودان) جعل من الريع نمطًا اقتصاديًّا أساسيًّا، وولّد رأسماليّة المحسوبيات التي تشلّ طبقة الأعمال وتقوّض دورها كقوّة اجتماعية سياسية. وفي حين أن المؤسسة العسكرية كثيرًا ما اعتبرت القطاع الخاص حليفًا في النظام السياسي الحاكم في أميركا اللاتينية وتركيا، وحتى في باكستان، رأت في بلدان أخرى أن القطاع الخاص منافسٌ سياسي محتمل لها (كما في مصر). وفي هذه الحالات خصوصًا، استغلّ الجيش ضعف كيان القطاع الخاص من ناحية، والتنظيمات الحكومية المؤاتية له من الناحية الأخرى، ليتحوّل إلى جهة توسّعية، وافتراسية في الكثير من الأحيان، في قطاع الأعمال.
ستختلف طريقة تطوّر العلاقة بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال من بلد إلى آخر، ومن قطاع اقتصادي إلى آخر، لكنها ستؤثّر في جميع الحالات على التوجّه الاقتصادي واستراتيجيات النمو، والاتجاهات الاجتماعية، والحوكمة السياسية. فضلًا عن ذلك، يبدو أن هذه الاتجاهات ستستمر، إن لم نقل تتكثّف، عقب الاختلالات في التجارة الدولية والاستثمارات العالمية الناجمة عن جائحة فيروس كورونا والحرب في أوكرانيا، إذ يتسبّب الركود الاقتصادي والانكماش المالي بتقويض التفاهمات السياسية وترتيبات الحكم التي ارتكزت عليها سابقًا العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال. تركّز هذه المجموعة من المقالات إذًا على هذه العلاقات في ستة عشر بلدًا في الجنوب العالمي، من أجل استنباط رؤى تحليلية وتحديد توجّه ناشئ ذي أهمية سياسية كبيرة لآفاق الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/views/39979