محمد علي جواد تقي
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.
على مدى قرن من الزمان ونحن نسمع عن مفاهيم ودلالات الرحمة، يعد بها بمن بيدهم زمام العالم من قوى كبرى اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً من خلال قوانين وأنظمة تتضمن بنود توحي أن الالتزام بها تضمن الخير والسلامة والأمان للانسان، بالرغم من حجم التناقض بين هذه الشعارات، وما مارسته تلكم القوى بحق شعوب ضعيفة، كما فعلت اميركا بفيتنام، وما فعلته فرنسا بالجزائر، وبريطانيا بالهند، بيد أن حجم التقدم العلمي ومسيرة التطور التقني في المجالات كافة، كان يسدل الستار على تلكم التناقضات، بالمقابل يبرز شعارات مثل: “حقوق الانسان”، و “حقوق المرأة”، و”حقوق الطفل”، فبات الانسان في الغرب تحديداً، وفي الدول الصناعية عموماً ينام مطمئناً بوجود الضمان الصحي، والتأمين على الحياة، وخدمات عامة، مقابل نظام ضريبي يقنع نفسه بها مُجبراً.
رحمة للعالمين وليس للمؤمنين فقط
حتى أن المسيحية؛ وهي دين سماوي، يبلغ اصحابها اليوم في العالم على أنها مصدر رحمة، ولكن! للمسيحيين فقط، ومن يعتقد بأن “المسيح رحمة، وهو قد إفتدانا من لعنة الناموس، وأنه يتحمّل جميع الخطايا وجميع الآلام رحمةً بالبشر”، (الكتاب المقدس- العهد الجديد307)، فالرحمة ليست للجميع بالمجان، إنما “عليك أن تدفع”!! وإلا فان مصيرك القلق والخوف والجوع، واحياناً كثيرة؛ الموت، لان سينطبق عليك مفهوم آخر في مقابل الرحمة وهو؛ “التمرّد”، وهو ما تحدث عنه الغربيون كثيراً وتحديداً؛ الاميركيون عندما تحدثوا عن “المتمردين على الحرية”!
في مقابل هذه القراءة للرحمة في العالم، والتي تباع وتشترى حسب الطلب، وربما تصاب بأزمة حادّة ورهيبة، نقرأ عن رحمة فريدة من نوعها سبقت العالم في زمانها وتطبيقاتها، فقد جربتها البشرية في القرن السابع للميلاد، مع بزوغ فجر الدعوة الاسلامية، وصدور الأمر الإلهي ببعثة النبي محمد رسولاً خاتماً الى البشرية، وقبل كل شيء، صدر التحديد في مهمة هذه الرسالة الخاتمة من قبل السماء، بأن {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، بمعنى أن ظهور النبي في مدينة مكة، وفي الجزيرة العربية، لا من أجل إقامة نظام سياسي توسعي يرمي الى الهيمنة على البلاد والثروات.
إن مفردة الرحمة التي جاءت في القرآن بصيغ ومرات عديدة، كما جاءت في أحاديث المعصومين، عليهم السلام، تدل بمجملها على العطاء الدائم وغير المحدود للانسان، كما هي الشمس التي تطلع كل يوم منذ آلاف السنين، على الكافر وعلى المؤمن على حدٍ سواء، وعلى الظالم وعلى العادل، كما في الحديث الشريف ما مضمونه؛ المولود البنت رحمة من الله، كما أن غيث السماء رحمة أيضاً لجميع البشرية في العالم، ثم إن القرآن الكريم يصرّح بأن هدف الخلقة بالاساس هو {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، (سورة هود، 119)، ومن هذه الغاية السماوية تم اشتقاق المهمة النبوية لرسول الله، صلى الله عليه وآله، بأن كان رحمة للعالمين.
ولكن؛ ما هي مصاديق هذه الرحمة المحمدية على العالم؟
نستفيد من كلمة قيّمة –من جملة الكلمات والمحاضرات- لسماحة الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي –طاب ثراه- في مناسبة المبعث النبوي الشريف، وهو يشير الى هذه المصاديق ومنها:
أولاً: الرحمة غير المحدودة
حظي الانسان بأنواع من الرحمة في حياته اليومية، منها؛ ما هو محدود مثل؛ أعضاء البدن، ومنها ما هو محدود بالزمان والمكان، مثل الشمس والقمر، ومثل؛ السلامة والأمان والحرية وغيرها من الوسائل التي تحقق للانسان الرحمة الإلهية التي يعيشها يومياً، وربما لا يشعر بها كثيراً، فربما يفقد وسيلة من هذه الوسائل، مثل أن يفقد عضواً من بدنه، أو يفقد السلامة في حادث سير، فانه يبقى في ظل الرحمة الإلهية بوسائل أخرى، لأن الله –تعالى- رحمن ورحيم على طول الخط، بيد أن ثمة وسيلة غير محدودة نحو الرحمة الإلهية “إذا فقد الانسان هذه النعمة أو هذه الرحمة فانه يفقد كل شيء، وهذه النعمة والرحمة هي رحمة وجود الهادين إلى الله سبحانه وتعالى، وعلى رأس هؤلاء وفي القمة؛ خاتم الأنبياء، محمد صلى الله عليه وآله”.
كما أن الانسان في أي مكان بالعالم ربما لا يستشعر قيمة الرحمة الإلهية بوجود النظام الشمسي ونظام الجاذبية، وقوانين الطبيعة التي توفر كل اسباب الراحة والرفاهية له، فان وجود النبي الخاتم هو الآخر غير منظور من جميع سكان العالم، ولذا فان الإشارة هذه الرحمة تخصّ المؤمنين الذين يسيرون على نهجه، ويلتزمون أحكامه وبما جاء به من عند الله، ومثلهم كمثل من يستضيئ بنور الشمس ممن هو بعيد عنها لمختلف الاسباب.
ولذا على الانسان العاقل والسوي أن لا يفعل ما يفقده هذه الرحمة الواسعة على الارض لأنها خسارة لا تعوّض، فالذي يخسر منهج وضاء ونظام أخلاقي واجتماعي متكامل في الحياة، ويلجأ الى وسائل أخرى يتصور أنها تحقق له السعادة والرفاهية، فهو إنما يجري خلف السراب، لان ما يحصل عليه هو من ظواهر الحياة، لا تلبث أن تزول بزوال اسبابها، بينما وجود النبي الأكرم في حياة الانسان، تضمن له السلامة والنجاح والتطور، له ولجميع افراد عائلته، بل وللأجيال من بعده، حتى إن علماءنا يوصونا بالشكر لله على وجودنا بالحياة على دين الإسلام، ومؤمنين بنبوة محمد، وبالولاية لأهل البيت، بفضل الأباء والأمهات المؤمنين، والذين ربما تحملوا الكثير وضحوا لبقاء هذه الإيمان في حياتهم وحياة أحفادهم.
ثانياً: الرحمة مع الهداية
وهنا ثمة الفتاتة غاية في الاهمية في نظام الخلقة في العالم وفي الكون، فالرحمة موجودة تنساب على كل شيء في الارض والسماء، ثم تأتي الخطوة الثانية والحكيمة في تحقيق الفائدة من هذه الرحمة، وبمعنى أدق؛ فلسفة الرحمة وهي؛ الهداية، ولذا نجد حرص الشركات المصنعة لمختلف الوسائل والسلع الاستهلاكية، وأيضاً العقاقير الطبية، إرفاق القطعة المصنعة بنشرة ورقية تضم طريقة الاستخدام، ورغم انتشار المعلومات على الشبكة العنكبوتية (الانترنت) نلاحظ التزام المصانع بهذا التقليد القديم حتى يكون المستهلك على بينه من أمره.
فوجود الانسان في هذه الحياة يمثل وجه من وجوه الرحمة الإلهية، حيث يجد نفسه قادراً على النمو والتطور وإثبات ذاته، والتنافس مع الآخرين، وتحقيق التفوق، والتفاخر، وغيرها من الفرص والحالات الايجابية، حتى حالات المرض والابتلاءات التي تصيب الانسان فان العلماء يجدون فيها نوعاً من الرحمة كونها تمثل جزءاً من الامتحان للصلابة والصبر. ولكن! كيف يتم كل هذا؟ ومن الذي يرشد الانسان الى كل هذه السبل والطرق ليخرج من الابتلاءات والتحديات مرفوع الرأس في الحياة الدنيا وفي الآخرة؟
للاجابة على هذا السؤال يكفي أن نعرّج على التخبطات الفضيعة في العالم بسبب سوء استخدام الطبيعة والموارد الطبيعية وايضاً الموارد الانسانية، وكيف أن العالم يقف عاجزاً، حائراً أمام ما يواجهه من مساوئ وكوارث بسبب جملة من الانحرافات دون أن يجد مخرجاً الى سبيل.
وفي الجانب الإيجابي يشير الفقيه الشيرازي الى حقيقة التطور المستمر في ميدان العلم فيما يتعلق بالحيوان والكائنات المجهرية تحديداً مستشهداً بالآية الكريمة: “إنما يخشى اللهَ من عبادهِ العلماءُ”، بأنها “بُعدٌ من أبعاد الآية الكريمة السالفة الذكر”، في إشارة الى؛ {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. إذ ” كلما ازداد علم الإنسان، ولو في حدود علم الطبيعة، أو علم الأحياء، فانه يجد نفسه أمام قدرة علمية لا تُحَدُّ، وأنَّ كُلَّ كائنٍ تَحكمه معادلاتٌ علمية معقدة للغاية، ولم يكتشف البشر رغم مرور آلاف الأعوام، كل تلك المعادلات العلمية الدقيقة، وربما بعد مئة مليون عام – إذا كان للبشر عمر- لن يكتشف البشر جميع هذه المعادلات؛ فالعالِم يقف أمام معادلات علمية دقيقة للغاية، وعندما تقول الآية الكريمة: {أعطى كلَّ شيء خلقَهُ ثم هدى}، أي هداه للإستفادة من الوسائل التي أتاحها الله له”.
ثالثاً: الرحمة العامة للجميع
الشمولية الواردة في الآية الكريمة ربما “تعني جميع العوالم؛ فهو، صلى الله عليه وآله، رحمة لعالم الإنسان، وعالم النبات، وعالم الحيوان، وعالم الجماد، وللمؤمن وللكافر”، وبالامكان مراجعة سيرته العطرة لنرى كيف حرص النبي، وهو بداية دعوته، ومن مثله يفترض ان يفكر باستجماع القوة العسكرية والبشرية لمواجهة التحديات، بينما نلاحظ الاهتمام بالشجر والحجر وهو في طريقه للحرب في غزوة بدر الظافرة، وحكايته مع القطة التي نامت على ردائه فبقي في مكانه ولم ينهض ويوقضها، حتى افاقت هي بنفسها.
ومرة أخرى ندين التاريخ، وايضاً بعض “الاصحاب” الذين رافقوا النبي في حياته، وعاشوا اللحظات معه، ولم يسجلوا ما صدر وبدر منه خلال تعامله مع الناس، وكيف كان يعيش ويتعامل مع الاشياء في الحياة، إلا النزر اليسير الذي وصلنا، والذي ينمّ عن قصور كبير يؤكده العلماء، لاسيما فيما يتعلق بالاحكام والتشريعات، فضلاً عن الآداب والاخلاق والسنن.
فعندما يرحم النبي الأكرم ويعفو عن المشركين الذي آذوه وهددوه بالموت، فانه كذلك مع اتباع الديانات السماوية في الجزيرة العربية وخارجها، والامثلة كثيرة في هذا السياق، لاسيما ما يتعلق باليهود والنصارى، فقد كان يحاول دائماً تحييدهم في الصراع الدائر مع المشركين وأعداء التوحيد والقيم السماوية.
إن الاخلاق المحمدية هي التي مهدت الطريق لكثير من اتباع الديانات الاخرى للدخول في دين الله أفواجاً، في حياته، صلى الله عليه وآله، وبعد رحلته، طيلة الفترات الزمنية المتعاقبة.
ولابد من التوقف هنا قليلاً؛ فان الذي نشر الاسلام في الآفاق منذ القرون الخوالي، ولاسيما في فترة الانتشار الكبير باتجاه الشرق، من بلاد السند واندونيسيا، ومروراً ببلاد فارس، ثم البلاد العربية كلها، ثم البلاد الافريقية، ثم البلاد الاوربية، ثم جميع انحاء العالم في الزمن الحالي، لم يكن بفضل قوة المال، ولا السلاح، ولا الاغراءات والوعود، وإنما كان بالطبيقات العملية للأخلاق المحمدية التي أسرت القلوب وجذبت النفوس التي لم تجرب أنماط من السلوك البشري من شأنها تحقيق السعادة والأمان للانسان، كما جربته مع الاخلاق الاسلامية المتضمنة كل اشكال الرحمة للانسان في الحياة، يشمل الطفل والمرأة، والشيخ الكبير والشاب اليافع، والعالم والجاهل، وجميع افراد الجنس البشري، وهم في ذلك لم يكونوا مجبرين على الانتماء والإيمان بالله وبنبوة رسوله، إنما الرحمة الإلهية والرحمة المحمدية يرونها تهب عليهم كالنسيم خلال احتكاكهم بالمؤمنين المقيمين عندهم.
لماذا العالم حزين!
قبل فترة من هبوب عاصفة “كورونا” على العالم، شاهدت تقريراً من اميركا يتحدث عن أحوال شريحة المتقاعدين ممن لا يملكون فرصة عمل، و ذكر عن احصائيات رسمية أنه حوالي 15مليون اميركي من هؤلاء يعيشون تحت خط الفقر، وتضمن التقرير حديث لعسكري متقاعد في الجيش الاميركي في العقد السادس من العمر، وهو على متن قارب سياحي وفّر له فرصة عمل ليتمكن من العيش، ويقول بغير قليل من الحسرة: “ربما أموت وأنا انتعل حذائي”.
في بلد مثل الولايات المتحدة لا يجد جندي في سلاح البحرية، كان يفتخر به زعماؤه ايام زمان، ويتباهون به على العالم، ظلاً من الرحمة يعيش تحته، وهو يتوقع أن تتكفل الدولة الغنية بتكاليف حياته، ولو بالكفاف منه حتى لا يضطر للعمل المتعب.
هذا مثال بسيط ونموذج من آلاف النماذج المريعة من انعدام الرحمة في العالم الغربي، فضلاً عن العوالم الأخرى التي تتذرع بفقدان الموارد الطبيعية ما يمكنها من توفير حاجات الناس، أما عن الامثلة التي نعيشها الآن في الوقت الحاضر فهي غنية عن اي تعليق، عندما نجد الفارق الكبير بين بلداننا الاسلامية، والبلدان الغربية، وتحديداً اميركا، المفترض ان تكون الأغنى في العالم والاكثر أماناً من الناحية الغذائية والاستهلاكية، فنجد الذعر الغريب من نوعه لدى سماعهم بإجراءات الطوارئ وتوقف المصانع لمواجهة فيورس كورونا المستجد، فباتت الأسواق الاستهلاكية أكثر الوجهات ازدحاماً حيث تعرضت بعضها لهجوم المتبضعين، بل وشهدت بعضها عراكاً بالأيدي على اقتناء السلع الضرورية! وهو ما لم نشهده في بلداننا، ولاسيما العراق، ولله الحمد، والسبب ليس في قوة النظام الاقتصادي والسياسي لدينا، أو ضعف في النظام الاقتصادي هناك، إنما القضية تعود الى حالة الاطمئنان النفسي بأن الانسان يعيش مرحوماً مهما حصل في المحيط الذي يعيش فيه، بينما هناك، فان الشكوك وعدم الثقة هو سيد الموقف في اي رسم أي صورة مستقبلية، وقد ثبت بما لا يقبل الشك، من جملة “افرازات كورونا” أن المواطن الغربي لم يعش يوماً واحداً مطمئناً على مستقبله من الناحية طعامه ودوائه ومستلزماته الاساسية.
ينقل سماحة الفقيه الشيرازي عن والده الإمام السيد محمد الشيرازي أنه “في الأيام الأخيرة أي حوالي شهرين قبل وفاته، وخلال استقباله عدداً من العلماء، قال لهم: لم يعد لدي وقت للكتابة؛ أكتبوا أنتم كتاباً ضخماً حول فضل النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، على الحضارة البشرية، بمعنى ان كل هذه النعمة والخير الذي نجده في حضارة اليوم، إنما تم تحت ظل خاتم النبيين، صلى الله عليه وآله”، وأضاف في جانب آخر من حديثه –طاب ثراه-: “كل من ينام آمناً في هذا العالم إنما هو ببركة النبي الأعظم، صلى الله عليه وآله، وكل مقدار من الحرية في العالم، هو ببركة النبي الأعظم، صلى الله عليه وآله”، الذي حقق نقلة نوعية في الحياة البشرية، وما يزال، إنما المهم في الأمر التوجه والاستضاءة بهذا النور البهي للخروج من ظلمات الجهل التي ما تزال تطبق علينا بكوارثها ومعاناتها، ومنها ما نعيشه من أزمة غريبة ورهيبة تحت عنوان “كورونا”.
رابط المصدر: