مصطفى قطبي
منذ نشأة الدولة التركية قامت سياستها على القبضة المتوحشة، وحاولت صهر جميع العناصر غير التركية في بوتقة القومية التركية. لأن كل الشعوب المحتلة من قبلها كان لها ماض أعرق وحضارة أغنى منها، لهذا لجأت إلى وسائل بدائية لتحقيق أهدافها وذلك بقتل وإفناء هذه العناصر التي لم تتأقلم مع متطلباتها الخيالية القديمة الجديدة في بناء الدولة الطورانية العظمى.
هذه الدولة كانت دولة قوية عسكرياً وسياسياً واقتصادياً… ودامت لأكثر من 600 عام على القتل والدم والدسائس والمؤامرات.. ومع ذلك أطلق عليها العديد من ذوي الشأن الخلافة العثمانية، واعتبرت عند العديد من أصحاب الشأن أيضاً أنها الدولة الإسلامية التي فتحت العالم! وحتى مناهجنا الدراسية كانت تستخدم مصطلح الفتح العثماني أو الخلافة العثمانية! وغضت النظر عن القتل والتدمير في هذه الدولة… يسودها القتل والدماء بلا رحمة ولا رحمة في كل أنحاء السلطنة رغم قوتها وجبروتها!
إن تركيا واحدة من أكثر دول العالـم ارتكابـاً للمجازر عبر التاريخ، ثم تورد إحصائية موثقة ودقيقة تظهر فيها حقيقة هذا النظام الإرهابي وجذوره، وماذا فعل أسلافه بشعوب المنطقة، حيث أبادت السلطنة العثمانية البائدة ووريثتها تركيا الحالية الملايين من أصحاب القوميات والأديان الأخرى بما في ذلك المسيحيون والمسلمون، منهم: الأرمن، اليونانيون، البلغار، الجورجيون، الروس، الكلدان، الآشوريون، السريان، العرب، الفرس.
فيما يلي عرض بسيط ومختصر قدمه مركز فيريل لجرائم الأتـراك وأجدادهم وأذنابهم في المنطقة:
ــ مذابح في حلب ومعرة النعمان عام 1515 استمرت سبعة أيام، قتل فيها نحو 40 ألفاً في حلب، و15 ألفاً في معرة النعمان.
ــ مذابح في دمشق عام 1516 بحق المسيحيين والمسلمين لثلاثة أيام، قتل فيها عشرة آلاف، وكذلك مجازر مماثلة في ريف إدلب وحماة وحمص والحسكة قتل فيها 35 ألفاً.
ــ 1517 مذابح أخرى في حلب قتل فيها ما يزيد عن 50 ألفاً، عقب صدور الفتاوى الحامدية.
ــ مذابح بدر خان بحق الآشوريين عام 1847، قام بها السفّاحان أميرا حكاري وبوهتان، بإيعاز من السلطان العثماني، قتل 10 آلاف آشوري في منطقة حكاري.
ــ من 1840 حتى 1860: مذابح الستين بحق المسيحيين في لبنان في منطقة حاصبيا والشوف والمتن وزحلة قتل فيها أكثر من 12 ألفاً.
ــ مذابح في دمشق 1846، قتل فيها 11 ألفاً، وفي اللاذقية 6 آلاف. ثم مذابح القلمون، وفي معلولا، صيدنايا، رنكوس، جبعدين، معرة صيدنايا، تلفيتا، قتل فيها 20 ألفاً.
ــ مجازر ديار بكر وطور عابدين عام 1895 بحق الأرمـن قتل فيها أكثر من 15 ألفاً.
ــ مجازر في آضنة عام 1909 قتل فيها 30 ألف أرميني على يد السفاحين العثمانيين.
ــ بين 1914 و1916: ارتكبت مجازر تسببت بمقتل 600 ألف سـرياني في منطقة جبال طوروس وجبل آزل.
ــ بين عامي 1915 و1916 ارتكبت مجازر بحق الأرمن، قتل فيها مليون وربع المليون في ديار بكر، أرمينيا، أذربيجان، شمال العراق، الأناضول، أضنة، طور عابدين، طوروس.
ــ بين عامي 1914و1920م ارتكب العثمانيون مذابح سـيفو، بحق السريان والآشوريين.
بين عامي 1914 و1923 ارتكبت مذابح بحق اليونانيين البونتيك، وقتل على أثرها أكثر من 350 ألف يوناني.
ــ وبين عامي 1937 و1939 ارتكبت مذبحة درسيم (تونجلي) قتل فيها 60 ألفـاً.
ما يؤكد أن تركيا العثمانية مسؤولة عن قتـل ما يزيد عن 6 ملايين إنسان وتشريد 24 مليوناً آخرين، ومع ذلك يتبجح أردوغان ويدعي بأنه يدخل إلى سورية وليبيا والعراق… ويعتدي عليهما بدعوة من شعبيهما، فيما هناك داخل تركيا من يكذب أردوغان، ويكشف زيفه وادعاءاته الباطلة، حيث لم يوفر بعض المكونات التركية من مجازره، بسبب ولعه في السلطنة وطموحه المريض لإعلان نفسه خليفة عثمانياً جديداً.
قد لا يعجب البعض ما سوف نقرأ في الأسطر التالية عن الدولة العلية العثمانية، ولكن المرجو أن نقرأ بتؤدة وحيادية… يحكى ويحكى الكثير عن قصص قتل الإخوة والأبناء والأحفاد لتولي العرش العثماني أو للحفاظ عليه أطول زمن ممكن، ودائما كانت بصمات الجواري واضحة في سفك الدم! وتعتبر مسألة قتل الإخوة بعضهم لبعضهم الآخر طمعاً في السلطة أحد أهم القضايا التي سادت في الحقبة العثمانية، وهي في ذاك الوقت مسألة عادية جداً بل تعتبر قانونية فقد أصدر السلطان محمد الفاتح مرسوماً تركياً جاء فيه: “إذا تيسرت السلطنة لأي ولد من أولادي فيكون مناسباً قتل إخوته في سبيل تأسيس نظام العالم، وقد أجاز هذا معظم العلماء، فيجب العمل به”. وبذلك يكون محمد الفاتح أول سلطان في التاريخ يفتي بقتل الإخوة وحتى الرضع منهم بلا ذنب ارتكبوه سوى كونهم إخوة السلطان!؟
كان السلطان يوم جلوسه على العرش يأمر بقتل إخوته! ويحكى أن السلطان أورخان قتل أخويه خليل وإبراهيم وابنه صاوجي بك، وأن السلطان سليمان القانوني قتل ابنه البكر “مصطفى”، والسلطان “يلدرم بايزيد” أعدم شقيقه “يعقوب” خنقاً في شهر رمضان، والسلطان “محمد جلبي” المعروف بـ”محمد الأول” قتل أخويه “عيسى جلبي” و”موسى جلبي”، والسلطان “بايزيد الثاني” ابن السلطان “الفاتح” قتل عمه “دوزمجه مصطفى”، والسلطان “سليم الأول” قتل أخويه الأمير “كوركود”، والأمير “أحمد”، والسلطان مراد الثالث قام بإعدام 5 من إخوته، والسلطان محمد الثالث ابن السلطان مراد الثالث، أمر بقتل 19 أخاً له و30 بنتاً!
وبالإضافة لهذا قام بقتل ابنه الأمير “محمود”، والسلطان “محمد الفاتح” قتل أخاه الرضيع ذا الأشهر الستة، والسلطان عثمان بن أحمد خان قتل شقيقة الأمير محمد، والسلطان عثمان نفسه قتل لإزاحته عن السلطنة، والسلطان أحمد الثاني ابن إبراهيم قتل عام 1643 م، والسلطانة الجارية كوسم خلعت ابنها السلطان إبراهيم وأعدم بعد ذلك في عام 1648 م، والسلطان مصطفى الرابع أمر بقتل السلطان سليم وهو في السجن ومصطفى نفسه قتل أيضاً في السجن، والسلطان سليم الثالث ابن مصطفى الثالث قتل عام 1808 م، والسلطان عبد العزيز ابن السلطان محمود الثاني قتل بعد خلعه عام 1876م ولم يتردّد السلطان مراد، وهو على فراش الموت في معركة كوسوفو عام 1389م، بإصدار تعليماته، حسب الرواية الرسمية التركية، من أجل خنق نجله يعقوب حتى لا ينافس شقيقه بيازيد الأول في الحكم، ناهيك عن قطع رؤوس أصحاب المناصب العثمانية فمثلاً السلطان سليمان خان قطع رأس قائد الانكشارية فرحات باشا، والسلطان أحمد خان الأول قطع رأس الوزير الأعظم، والصدر الأعظم صوفي محمد باشا قتل خنقاً عام 1649 م، والصدر الأعظم أباضه يساوش باشا أعدم نحو عام 1650 م، والصدر الأعظم داما أبشير باشا أيضاً أعدم…
إن سيرة القتل في السلطنة العثمانية ابتدأت منذ اللحظات الأولى من نشوئها، فيتحدث الكاتب والصحافي الشهير التركي شاتين ألطان، في كتابة “خفايا التاريخ”، عن الخلاف الذي نشب بعد وفاة أرطوغرول بين ابنه عثمان وعمه دوندار، وانتهى بقتل عثمان لعمه واستيلائه على الحكم… وتُبين المعلومات التركية، أن السلاطين العشرة الذين حكموا الدولة العثمانية بين عامي 1299 و1566 ميلادي قد قتلوا جميعاً أبناءهم أو أشقاءهم من دون أي رحمة من أجل السلطة، وقد استمرت هذه “العادة” في العائلة العثمانية حتى انتهاء الحكم العثماني عام 1922، حيث ارتكب جميع السلاطين وعددهم 36، باستثناء 9 منهم جرائم عائلية… والجواري السلطانات اتبعن طريق السلاطين في قتل أبنائهن، فالسلطانة كوسم أزاحت ابنها السلطان “إبراهيم” من فوق العرش، وسلمته إلى الجلاد ليقتله وأعدم بعد عزله بـ10 أيام في 18 آب 1648م، كما حاولت قتل حفيدها “محمد الرابع” ذي السنوات العشر، وكانت مدة حكم كوسيم 37 عاماً، والسلطانة جوهرهان ابنة السلطانة كوسيم قتلت أبناء أخيها السلطان مراد الرابع، والسلطانة هرم أعدمت زوج السلطانة فاطمة “قرة أحمد باشا”… واستمر حكم الجواري في الدولة العلية العثمانية حتى انهارت…
إن الحقيقة المؤرخة تقول إن عدد الأمراء العثمانيين الذين قُتلوا على أيدي آبائهم وأشقائهم وأبنائهم قد وصل إلى 121، مقابل 44 رئيساً للوزراء “الصدر الأعظم” أعدمهم السلاطين العثمانيون. حقيقة يجب أن توضع أمام نصب عيني كل من يحلم بأمجاد الدولة العثمانية، ويعتبر أن نموذجها الحالي المثالي هو تركيا بقيادة العثماني أردوغان “حسب قول الكاتب والصحفي التركي شاتين ألطان”. هذا هو الوجه الآخر للدولة العلية العثمانية، فإذا كان قتل الأبناء والأحفاد والإخوة سمة السلطنة، والجواري يتدبرون شؤون الحكم، فترى كيف كان واقع شعوب السلطنة؟
ويبدو أن الجينات في الجسم البشري، تنتقل من شخص إلى آخر حتى بحكم وراثة الحكم. وهذا ما أثبته ويثبته التاريخ يوماً بعد آخر، من خلال ممارسات الرئيس الحالي أردوغان حتى تجاه أعوانه ومساعديه، حيث أقصاهم عن مناصبهم ومسؤولياتهم بالآلاف لا بالمئات سواء بالاعتقال أم الإحالة إلى التقاعد أو النفي وسوى ذلك من إجراءات لجأ إليها، وغدت عنوان مسيرته الراهنة في قيادة بلاده.
وبحكم الجينات التي انتقلت إلى الرئيس أردوغان من أسلافه، لا من سلفه السلطان عبد الحميد الثاني فقط، فإنه يجدد في تاريخ تركيا الحديث، يجدد أحداثاً شاهدتها تركيا في أواخر القرن التاسع عشر وصولاً إلى مطلع القرن العشرين، ولا يزال قسم منها عالقاً في ذاكرة قراء التاريخ المعاصر لدول منطقتنا. ولا أحد يدري كم ستطول مدة حكم السلطان الحالي حتى تجدد تركيا نفسها على نحو ما تجددت في عهد الرئيس كمال أتاتورك بعد آخر سلاطين بني عثمان رشاد الخامس 1844-1918، وهو تاريخ انتهاء حكمه خلفاً للسلطان عبد الحميد الثاني الذي انتهى حكمه في العام 1909.
في سياق هذا المسار الذي يتبعه الرئيس الحالي لتركيا، لا بد أن تواجه بلاده ما واجهته أيام السلاطين الذين سبقوه إلى سدة الحكم، حتى انتهى بها الأمر إلى زمن “الرجل المريض” في نهايات الحرب العالمية الأولى 1914 ـ 1918، فكان زمن كف يده عن الأقطار العربية التي سبق أن أخضعها لسلطانه على مدى أربعة قرون متواصلة، إلى أن جاء وقت عبورها إلى مرحلة الدفاع عن استقلالها بعيداً عن أهواء السلاطين كلياً. الامبراطورية العثمانية التي لم تترك أثراً جيداً أينما كانت وحلت، فقط عرفت السلب والنهب والاضطهاد، وخرجت من الأوطان التي احتلتها وقد أعادتها إلى العصور الحجرية.
وحين بدأت تلفظ أنفاسها الأخيرة، وعادة يستمر الأمر في الامبراطوريات زمناً، سميت (الرجل المريض) ليس عبثاً التسمية، مرض الفعل والنهب، ومرض النهايات التي بدت محتومة، ومع المتغيرات التي مر عليها قرن ونيف من الزمن، ثمة حمقى يراهنون على أنهم قادرون على إعادة الزمن إلى ما كان قبل خمسة قرون، لا يقرؤون ما كان وما حدث، ثمة بريق من الوهم يزين لهم أطماعاً لا يمكن أن تتحقق مهما كان جبروت من يحلم بها.
إن فكرة إعادة النظر بكل مالهُ علاقة بـ”الإرث العثماني” باتت حاجة ملحة، رغم أنها في بعض تفاصيلها تستفز من ما زالوا يعتقدون بأن السلطنة العثمانية كانت آخر “دولة إسلامية” حقيقية، هؤلاء ببساطة عليهم الاقتناع بأن التخلص من تبعات المحتل أهم بكثير من التحرر ذات نفسه، ولنتذكر بأن صناعة القطيع في عالمنا المعاصر تتخذ اتجاهين، الأول يستند لتحويل المواطن إلى آلةٍ خالية من المشاعر تستند لمبدأ دعك من السياسة ما دمت أؤمن لك كل وسائل الراحة والأمان وحقك باختيار من يحكمك، أما الثاني فيستند إلى مثل هكذا خطابات تشوّه التاريخ، لكنه يحتاج عملياً لمتلقٍّ غبي ومعبأ بالعنصرية والحقد، هي ليست بضع كلماتٍ يرميها الأحمق، هي قواعد يُبني عليها من شبه ما جرى معهُ ليلةَ الانقلاب بما جرى مع الرسول عليهِ الصلاة والسلام وهو في غارِ حراء!
لا شك في أن تقييم المرحلة العثمانية يمكن أن يثير بعض الاختلافات، ولاسيما أن الحديث يدور عن سلطنة كانت مكوّنة من إثنيات وطوائف ومذاهب متعددة، وأن القومية التركية الحديثة هي ذاتها التي اختارت أن تنقلب على السلطنة، كما اختارت الهيمنة على غيرها من القوميات داخلها وتتريكها، لكن أهمية قراءة الماضي هنا، والتوصّل إلى حقيقته مهما كانت ماهيتها، لا يغيّر شيئاً من واقع أن الدولة التركية الحديثة وريثة السلطنة العثمانية، منخرطة اليوم في المشروع المعادي للعرب والرامي إلى إعادة تقسيم دولهم وفق الاحتياجات الدولية والإقليمية الاستعمارية.
وعندما نقرأ أن “الهدف من تقديم سردية واقعية للتراث العثماني هو تصحيح التاريخ أو استعادته، بل منعه من أن يقيّدك ويكبّلك… أليس الأتراك هم الذين يحاربوننا بلا هوادة؟ وهل مطلب الدولة القومية العربية الموحدة إلا لحماية العرب من المطامع الاستعمارية والصهيونية والتركية، وهي مطامع ليست أضغاث أحلام، بل واقع حي متجسّد فيما تتعرض له بلداننا العربية، والشواهد كثيرة من فلسطين إلى سورية إلى ليبيا… إلى العراق… إلى اليمن… إلى أفريقيا…
خلاصة الكلام: لا بأس من قراءة الماضي قراءة موضوعية وواقعية إذا أمكن ذلك. لكن هذه القراءة يصعب أن تتم في ظل تجاهل الحاضر. والحاضر يقول إن تركيا اليوم عدو لدود للعرب، ولا يمكن لنا قراءة ماضيها العثماني الذي تستغلّه إيديولوجياً لغزو بلداننا، قراءة أكاديمية صِرفاً وباردةً تُغمض عينيها تماماً عمّا يرتكبه الأتراك بحقنا من جرائم لا تُعد ولا تحصى.
رابط المصدر: