هاشم علي حامد
تمهيد
القارة الأفريقية هي ثاني أكبر قارات العالم من حيث المساحة وعدد السكان، تأتي في المرتبة الثانية بعد آسيا. تبلغ مساحتها 30,2 مليون كيلومتر مربع (11,7 مليون ميل مربع، وتتضمن هذه المساحة الجزر المجاورة، وهي تغطي 6% من إجمالي مساحة سطح الأرض، وتشغل 20,4% من إجمالي مساحة اليابسة. يبلغ عدد سكان أفريقيا 1,2 مليار نسمة (وفقاً لتقديرات 2016) يعيشون في 61 إقليماً، وتبلغ نسبتهم حوالي 14,8% من سكان العالم.
يحد القارة من الشمال البحر المتوسط، وتَحدُها قناة السويس والبحر الأحمر من جهة الشمال الشرقي، بينما يحدها المحيط الهندي من الجنوب الشرقي والشرق، والمحيط الأطلسي من الغرب. (بخلاف المنطقة المتنازع عليها من الصحراء الغربية تضم القارة 54 دولة، بما في ذلك جزيرة مدغشقر ومجموعات من الجزر منها دولة جزر القمر.
يُنظر إلى أفريقيا، وخاصة وسط شرق أفريقيا، مِن قِبَل الباحثين في المجتمع العلمي على نطاق واسع باعتبارها أصل الوجود البشري[1]
منذ القرن الخامس عشر بدأ الاحتكاك الأوروبي بأفريقيا عن طريق المستكشفين والتجار والبعثات التبشيرية، حيث أبحرت السفن البرتغالية إلى سواحل غرب أفريقيا عام (1418م)، وصولا إلى منطقة الغابات المطيرة، وقد أنشأ البرتغاليون عدداً من الحصون الساحلية، مارسوا من خلالها تجارة مربحة في الذهب والعاج، وكذلك العبيد وخصوصاً خلال القرن السابع عشر.
إزدهرت تجارة العبيد التي اشترك فيها التجار الهولنديون والبريطانيون والفرنسيون إلى جانب البرتغاليين، وقد أُطلق على هذه الحركة التجارية اسم «مثلث الأطلنطي للتجارة»؛ كانت تشمل نطاقاً ثلاثياً للتبادل:
أولاً: كان التجار الأوروبيون (وبخاصه البريطانيون) يستبدلون السلع التي هي في الغالب الأسلحة الرديئة والملابس بالعبيد الأفارقة، الذين يقدّمهم لهم الشيوخ المحليون من البلدان المحيطة بخليج غينيا في غرب أفريقيا بصورة رئيسة.
ثانياً: يتمّ نقل العبيد حمولةً في السفن عبر المحيط الأطلسي، لكي يباعوا عبيداً للزراعة في جزر البحر الكاريبي والأراضي الأمريكية.
وأخيراً: يملأ التجار سفنهم بالمحـاصيل الزراعية، ويبيعونها لدى عودتهم إلى أوروبا.
وطبقاً لبعض المصادر؛ فإنّ عدد الأفارقة الذين نُقلوا عبر الأطلسي في الفترة من (1650م) وحتى (1850م) يقدّر بحوالي تسعة ملايين نسمة، تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والخامسة والثلاثين، ونتيجةً لسوء المعاملة وقسوة الرحلة فُقد نحو مليونين منهم في الطريق.
(1) سـياسـات التنـافـس الـدولي فـي أفريقيـا د. حمدي عبد الرحمن[2]:
هذه الخلفية التاريخية تأتي دلالة لنظرة العالم الأوروبي للقارة الأفريقية التي تظل في أذهانهم مرتع الغنائم وتحقيق فرص الثراء والازدهار لبلادهم فيما وراء المحيطات، اعتمادا على هذه القارة سواء في استغلال إنسانها أو استغلال ثرواتها التي لا تزال مصدر أطماع لهذه القوى الدولية.
المتغيرات السياسية وأساليب القوى الدولية
شهد العالم تحولاً سياسياً هاماً بعد ظهور الدولة في إطارها القومي عقب معاهدة وستفاليا بين القوى الأوروبية المتصارعة سنة 1648م والتي أنهت النظام الإمبراطوري المسيحي وأقرت مبدأ المساواة بين الدول بمعزل عن نظمها الداخلية، ومن ثم أدت إلى قيام الدولة المدنية عقب الدولة الدينية، وظهرت فكرة سيادة الدولة القومية ليمتد تأثير ذلك حتى مطلع الحرب العالمية الأولى كما ذكرنا سابقا. وكان أن واكب نشأة الدولة القومية حركة الكشوف الجغرافية، وانطلاق الدول الأوروبية وتكالبها على القارة الأفريقية على العهد الاستعماري الذي أظهر طموح السيادة وغزو واستغلال المجتمعات الضعيفة ونهب ثرواتها وتسخيرها في سبيل السيطرة بدوافع تحقيق المصالح والهيمنة من قبل المجتمعات الأوروبية المتنافسة .
شهدت أوروبا تحولاً اقتصادياً كبيراً في نهاية القرن التاسع عشر إذ تقدمت دول أوروبا الشرقية في مجال الزراعة بينما حققت دول أوروبا الغربية طفرة صناعية كبري خاصة بريطانيا، فرنسا، بلجيكا وألمانيا وقد كانت نتيجة هذه المنافسة الاقتصادية فائض الإنتاج الضخم، الشيء الذي جعل الدول الأوروبية تبحث عن الأسواق لهذا الإنتاج وتأمين المواد الخام لمواصلة المنافسة الاقتصادية، ثم انتقلت المنافسة الي المستعمرات الأوروبية في أفريقيا، وبدأت هذه الدول في تقوية نفوذها في تلك المستعمرات عن طريق تقوية جيوشها وأساطيلها البحرية.
ينبع الصراع بين الدول أساسا من خلاف حول موقف معين يراه الطرفان بصورة مختلفة. فحياة الدول عبارة عن صراع متصل من أجل الحفاظ على بقائها والدفاع عن مصالحها القومية وهي تسخر جميع إمكانياتها وقدراتها بهدف الخروج من المواقف الصعبة، ولذلك فإن الهدف الأساسي للدولة هو تعظيم قوتها ومكانتها باستمرار[3].
من جهة ثانية وعلى الرغم من انسحاب النصرانية من الحياة العامة إلى حد كبير وذهاب سطوتها القاهرة المرتبطة بالدولة إلا أن كل ذلك لم يعد كافيا، ولم تعد المسألة مسألة تمرد وثورة وإنما الاحتياج إلى رؤية جديدة شاملة للكون[4].
وضمن هذه الرؤية ونسبة لافتقادها كما سيتبين لنا لاحقا كانت الحروب والنزاعات التي مصدرها أنانية الإنسان وحب الذات وانعكاس ذلك على الدول ضمن صراعات العالم. أكدت هذه المرحلة هيمنة أوروبا على شئون العالم وتجلى في دولها الحرص على المصالح وترسيخ المكانة، وشكّلت التوازن الدولي في العلاقات الدولية لبدايات القرن العشرين حيث كانت السياسية العالمية تُدار عبر أوروبا نسبة لتفوق دولها الغربية والوسطي في ميادين العلم والتكنلوجيا ولامتلاكها الرساميل الضخمة التي جمعتها من بلاد العالم عن طريق الاستعمار، وكانت العلاقات الدولية هي علاقات الدول الأوروبية بعضها ببعض والسلام الأوروبي هو السلام العالمي[5].
مع حلول عام 1914 كانت التحالفات في أوروبا، فقد تقاربت فرنسا التي كان هدفها الأول استعادة الالزاس واللورين التي سلبتها منها ألمانيا في العام 1871 مع روسيا. واتجهت بريطانيا التي أقلقتها الزيادة الهائلة في القوة العسكرية الألمانية إلى تصفية حساباتها مع فرنسا[6].
رسمت الدول الأوروبية السياسة الدولية ومثلت التوازن خلال تلك الفترة، هذا التوازن الذي أُطلق عليه مصطلح توازن القوى التقليدي (Balance of power) [7]. كان التنافس الأوروبي وكان بدافع زيادة الثروة والقوي من أجل المزيد من التحكم والتأثير على الساحة الدولية. ومن هنا بدأ صراع المصالح الذي أدي في النهاية إلى نشوب الحرب العالمية الأولي التي كانت نتيجتها خلق تركيبة عالمية جديدة في توازن القوى. بعد نهاية الحرب العالمية الأولى تم بناء عالم جديد على أساس فكرة جديدة هي (التنظيم الدولي) فلأول مرة يتوصل قادة العالم (بعد تجربة حرب مريرة) إلى ضرورة إعادة بنائه على أسس أكثر عقلانية، وبما أن العالم قد وصل إلى مرحلة من التقدم والتحضر فإنه ليس هناك أفضل من التنظيم للبناء، وهكذا توصل العالم في باريس إلى اتفاقية فرساي، وظهرت عصبة الأمم منظمة وليدة غايتها تنظيم المجتمع الدولي والقفز به من مرحلة الصراع إلى مرحلة التعاون[8].
إن ما يشهده العالم اليوم في شكل الصراع والتنافس هو أثار ماضي ذلك الصراع الأوروبي الذي أدى في مرحلة أخرى إلى نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1938م والتي أعقبها تنظيم جديد للعالم يحمل في واجهته شعار السلام والوئام بينما تحمل حقيقته رعاية وضمان مصالح القوى الكبرى واستمرارية نفوذها على حساب الدول والشعوب الاخرى.
كان القرن التاسع عشر الميلادي يوصف بأنه قرن بريطاني بلا منازع (1801 – 1900) أهم ما يميزه أن البعض يعتبره قرناً لاستكمال السيطرة البريطانية متحكمة في أكثر من ربع سكان الأرض، في حين بدأت كل من الإمبراطورية الإسبانية والإمبراطورية البرتغالية والدولة العثمانية بالاضمحلال في الوقت الذي قضت الإمبراطورية الرومانية المقدسة والإمبراطورية المغولية[9].
جاءت الحرب العالمية الأولى في مطلع القرن العشرين لتعزز تلك المكانة، بينما كانت الحرب العالمية الثانية بمثابة إعلان عن بداية الآفوال للامبراطورية البريطانية وبزوغ قوى دولية أخرى تمثلت في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي قادت كُل منها أحد معسكرين، هما المعسكر الراسمالي والمعسكر الاشتراكي، اللذان قادا تفاعلات البيئة الدولية لنحو نصف قرن من الزمان[10].
إن تتبع التطورات الدولية وما يشهده العالم من متغيرات يقود إلى الربط بين ثلاثة مراحل في تطور العالم المعاصر وما أفضت له هذه المراحل من عالم اليوم في نهجه وأساليبه ومستجداته.
أولى هذه المراحل نشوب الحرب العالمية الأولى بعد رسوخ السيادات القومية في أوروبا وتزايد التنافس بينها، ثم أعقبها الحرب العالمية الثانية ونشأة هيئة الأمم المتحدة كإفراز سياسي، وأداة دولية لتحقيق السلام العالمي والحيلولة دون أي فعل يؤدي لتكرار الحروب وفق اتفاقات وترتيبات دولية فرضتها الإرادة الدولية للدول المنتصرة في الحرب، ومن ثم انتظمت المسيرة الدولية بهيمنة بعض الدول على القرار العالمي.
تكوّنت الأمم المتحدة في عام 1945 م وجاء ميثاق الأمم المتحدة تعبيرًا عن توازنات القوي العالمية عقب الحرب، وعكس على نحو مباشر محصلة تفاعل رؤي الدول المنتصرة في الحرب، يظهر ذلك الأمر بصورة واضحة في تكوين مجلس الأمن والدول دائمة العضوية.
حتى نهاية الحرب العالمية الأولى كانت الولايات المتحدة الأمريكية تنتهج سياسة خارجية توصف اما بالعزلة أو شبه العزلة ولكن بعد ذلك التاريخ أنتهجت سياسة الانفتاح والمشاركة في السياسية الدولية بفاعلية، وقد مر مسرح السياسة الدولية منذ ذلك التاريخ بأربع مراحل: مرحلة الحرب الباردة القديمة، ومرحلة الانفراج في العلاقات الدولية، ومرحلة الحرب الباردة الجديدة، وأخيرا مرحلة النظام العالمي الجديد الذي فيه إنهار الاتحاد السوفيتي[11].
سيطرت الولايات المتحد الأمريكية على المشهد الدولي خلال تسعينات القرن الماضي عقب تداعيات انهيار الاتحاد السوفيتي وتداعى الدول المرتبطة به منفردة بموقع الدولة العظمى.
حيث تسنى لها قيادة العالم وأصبح لها يد طولى للتدخل في الكثير من الصراعات موجهة أحداث العالم إلى مصالحها.
وأمريكا في أهدافها الزعامية للعالم طرحت رؤاها لتسيير شؤون العالم عبر الدعوة إلى ما أطلقت عليه توظيف النظام الدولي الجديد إبان رئاسة جورج بوش (1989-1993)، ثم توظيف العولمة إبان رئاسة بيل كلنتون(1993-2001) وصولاً إلى القرن الحادي والعشرين الذي يصر الاميركيون بأن يكون اميركياً عبر تصورات استراتجية وشعارات لمحاربة الارهاب, والعمل على منع بروز اي قوى اخرى جديدة[12].
إن التفوق الأمريكي لا يتعلق فقط بالقوة العسكرية الضخمة وباتساع السيطرة الجغرافية،ولكن ايضا بالسيطرة المطلقة عل الشبكات الاقتصادية وتدفق الأموال والتجديد التكنولوجي والمبادلات التجارية والتوسع،أو الإشعاع المادي عل كل صعيد وهو ما يٌسميه انياسيو رامونية تنميط الثقافة الاستهلاكية[13].
يشهد عالم اليوم تحولاً سياسياً ضمن ما يطرأ من ظروف جديدة على المستوى الدولي، تغير على المستوى السياسي للدول الكبرى أبرزها ضعف الاتحاد الأوروبي الذي مثل بديلاً أوروبيا قويا للاتحاد السوفيتي بعد نهاية الحرب الباردة، حيث ظلت الدول الأوروبية عبر الاتحاد الأوروبي خلال هذه الفترة تُمثل إرادة سياسية إلى جانب هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على المسار العالمي. لم يستمر هذا الدور نتيجة لما عانته أوروبا نفسها من ظروف اقتصادية وسياسية وفقد لامتيازات ضمن المنافسة العالمية التي أبرزت اقتصاديات جديدة في دول آسيوية ودول أوروبية خارج الاتحاد الأوروبي، فضلا عن خروج بريطانيا من السوق الأوروبية المشتركة وما يترتب جراء ذلك من ضعف على المسار الأوروبي. إلى جانب ضعف الإرادة الأوروبية هناك مؤشرات جديدة لقوى دولية صاعدة اظهرتها تفاعلات ثورات الربيع العربي بالشرق الأوسط في سوريا وليبيا واليمن وفي مصر، ثمة ما يحدث الان من تطورات متسارعة تجاه السلام العالمي في ظل قوى دولية مؤثرة كإيران وكوريا الشمالية وقوى دولية ناهضة كتركيا وروسيا والصين وما تدلّل عليه التحديات الدولية والإقليمية في محاربة ما أصطُلح على تسميته بالارهاب. كل ذلك إلى جانب التطورات المتوقعة على السياسة الأمريكية خلال عهد الرئيس الأمريكي الجمهوري الجديد المثير للجدل دونالد ترامب.
من خلال هذه الإشارات لتطور الحالة الدولية نخلص إلى عدد من الحقائق :-
أولا: أن ما يشهده العالم اليوم في شكل الصراع والتنافس هو ضمن مفضيات ماضي ذلك الصراع الأوروبي الذي أدى إلى نشوب حربين عالميتين الفارق بينهما أقل من ربع قرن من الزمان، أعقبها تنظيم جديد للعالم يحمل في واجهته شعار السلام بينما تحمل حقيقته رعاية وضمان مصالح القوى الكبرى واستمرارية نفوذها على حساب الدول والشعوب الاخرى،اي ان عالم اليوم هو تطور لعالم الامس في أهدافه ووسائله.
ثانيا: إن ما يشهده العالم اليوم من تدافع بين قوى دولية قديمة وحديثة متبلورة يتخذ أساليب جديدة تحمل في ظاهرها شعارات السلام والتعاون ولكنها في حقيقتها تهدف لحماية مصالح وبحث عن مصالح جديدة ضمن توازنات دولية تتوافق مع هذه الأهداف.
ثالثا- هناك ثوابت وهناك متغيرات على المسار العالمي هذه الثوابت تُشيّر اليها مصالح وأطماع القوى الدولية بينما تتمثل المتغيرات في تذبذب قوى قديمة وصعود قوى اخرى جديدة وتحقيق توازن دولي تحرص المصالح على حمايته.
رابعا – تحرص القوى الدولية المهيمنة وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية للحفاظ على مكاسبها بالسير بالعالم وفق سياساتها المصلحية حفاظا على ميزان قوى راجح إلى كفتها والعمل للحيلولة دون ظهور ما يؤثر على شكل التوازن القائم سواء على النطاق الدولي او الإقليمي خاصة في القارة الأفريقية ومنطقة القرن الأفريقي على وجه الخصوص.
خامسا – تعمل الولايات المتحدة وحليفاتها على دعم قوى أفريقية ممثلة في صداقات قائمة ومستحدثة لتظل هي الراعي المهيمن والمتنفذ في بؤر الصراع بمنطقة القرن الأفريقي ومناطق البحيرات العظمى .
القارة الأفريقية ضمن أهداف القوى الدولية
ظلت القارة الأفريقية هدفاً للقوى الدولية بحيثيات التاريخ والجغرافيا كوّنها حديثة التكويّن في دولها،التي كانت هدفاً للإستعمار لعشرات السنين مما تسبب في نهب الثروات وتخلف المجتمعات، وأدى وجود الاستعمار إلى خلق التنافس القبلي وتغذّية التناقضات وإشعال الحروب. فالأسلوب السائد للقوى الدولية هو التعامل المبني على المصالح ومن ثم فإن مايُسيًر السياسة الدولية تجاه القارة الأفريقية ويرسم أبعادها هو ذات النهج القديم الذي ظلت تعتمده الدول الكبرى.
يعتبر الخامس عشر من نوفمبر1884م تاريخاً مهما للقارة الأفريقية التي تضم اليوم فوق الخمسين دولة مستقلة، حيث اجتمعت أربعة عشر دولة هي النمسا والمجر وبلجيكا والدنمارك وإيطاليا وهولندا والبرتغال وروسيا، وإسبانيا والسويد والنرويج وتركيا، والولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا لوضع أسس تقسيم القارة الأفريقية. وأعطى مؤتمر برلين 1884م الضوء الأخضر للدول الاستعمارية لتقسم أفريقيا، وبنهاية القرن التاسع عشر سيطرت الدول الأوروبية على أصقاع أفريقيا وتقسيمها فيما بينها[14].
لم تحضر دولة أفريقية واحدة هذا المؤتمر الذي استمر منعقدا حتي السادس والعشرين من فبراير عام1885م، حمل المؤتمر شعار الاتفاق على قواعد تتعلق بالتجارة والنقل البحري في غرب أفريقيا والكنغو والمناطق المحيطة بها، وكان الهدف الرئيسي لهذا المؤتمر هو تأكيد الاحتلال لدول القارة الأفريقية, وجاءت المادة الرابعة والثلاثون لتتويج جهود الدول المجتمعة الموقعة على مرسوم المؤتمر لإثبات صحة هذه الادعاءات.[15] المؤتمر سواء في مناقشاته او النتائج التي توصل إليها يعطي صورة حية للصراعات المختلفة بين القوي الأوروبية الكبري والاستغلال الممنهج للقارة الأفريقية حيث:
1/ وضع أسس التقسيمات الاقتصادية المتعلقة بالمناطق الداخلية في القارة, كما عمل على تنظيم العلاقات بين القوي الاستعمارية على أسس قانونية، فضلا عن أنه دفع عجلة التكالب الاستعماري على القارة الأفريقية إلى الأمام.
2/ رغم أنه انعقد اساساً لتحقيق حرية التجارة والملاحة في احواض النيجر والكونغو، إلا أنه أسفر عن إحتكار الدول الكبري للتجارة في المناطق التي خضعت للسيطرة الاستعمارية. حيث مثلت القارة الأفريقية موقعاً رئيسياً لتسابق الدول الأوروبية التي انطلقت في حملاتها الاستعمارية للسيطرة على الثروات الأفريقية وفرض الهيمنة على شعوب القارة وبسط النفوذ.
3/ عمل على القضاء على الكثير من الثقافات المحلية الأفريقية ضمن السياسات الاستعمارية المتّبعة، وفرض نظم استعمارية ما بين الإدارة والحكم المباشر وغير المباشر، لتسهيل السيطرة وبسط النفوذ دون مراعاة للقيم الأفريقية وتقاليد شعوب القارة.
4/ أعطى اعترافاً دولياً لموقف كان موجوداً بالفعل،حيث عمل على وضع إطار معين ينظم العلاقات الدولية فيما يتعلق بالقارة الأفريقية كثمرة من ثمار الدبلوماسية الأوروبية في تكالبها على أفريقيا.
يعتبر مؤتمر برلين من المؤتمرات الهامة في تاريخ أفريقيا, كونه نقطة بارزة في الصراع الاستعماري على القارة الأفريقية. قبل هذا المؤتمر لم يكن تحت السيطرة الاستعمارية أكثر من 10% من مساحة القارة,، لكن بعد المؤتمر وحتي الحرب العالمية الأولي لم يعد مستقلا سوى حوالي8% من المساحة الكلية للقارة الأفريقية أي بعبارة أخرى قلب هذا المؤتمر الموازين وحول أفريقيا الي مجال خصب للنهب الاستعماري والتوسع والسيطرة والتكالب، وفرض حدوداً فلكية هندسية دون اي اعتبار للاجناس والقبائل التي تقطن مناطق القارة المختلفة.
كما أنه كان بداية الوصاية الدولية على أفريقيا ثم تطورت هذه الوصاية وفقا لظروق ومستجدات المصالح الغربية).[16]
اذا كان الاستعمار قد حمل إلى كل من أستراليا وأمريكا الجنوبية هجرات وافدة بالملايين أرسلتها أوروبا التي تمتاز وحدها بين القارات. فإن أفريقيا تكاد تنفرد بين قارات العالم بأنها وحدها التي عرفت كلا النوعين من الهجرة الخارجة والداخلة، لم تعرفها إلا قهرا وقسرا فقد انتزع الاستعمار الديموغرافي من القارة عشرات الملايين إلى العالم الجديد بينما فرض الاستعمار السكني عليها بضعة ملايين من الدخلاء. وليس صحيحا أن هذا كان تبادلا سكانيا أو عملية نقل دم بل كان اقتلاعا وإحلالا ونزيفا رهيبا أصاب حيوية القارة بفقر دم بشري كما لم تصب قارة اخرى. فأفريقيا هي الوحيدة بين القارات التي خبرت أعلى ثورة ديموغرافية[17].
المسيحية تعترف بأن الناس أحرار لكنه إعتراف يختلف عن الحقيقة التالية أن الحرية هي العنصر المكون لمفهوم الإنسان، أن الوعي بهذه الحقيقة قد عمل عبر التاريخ كغريزة مدة قرون وقرون وحققت تلك الغريزة تغيرات عظيمة[18].
رغم المفهوم المقدس للحرية تمثل المشاكل التي تعاني منها العديد من الدول الأفريقية بقايا صنائع استعمارية كنتاج للأنانية وأساليب الاستعباد الذي مارسه الغرب لينعكس ذلك سواء في إشكاليات الحدود بين الدول، أو التنافس القبلي على السلطة بين القوميات، كما يحدث في العديد من الدول الأفريقية، او فرض توجهات سياسية واقتصادية على الكثير من البلدان الأفريقية إيغالا في فرض التبعية للنظام الدولي وتحقيق مرامي لا تخدم الصالح الأفريقي بقدر ما تعمل على تكبيله ضمن أطماع النظام الدولي السائد.
خلال السنوات الماضية، استمرت الصراعات المحلية في بعض الأماكن مما جعل أفريقيا منطقة محفوفة بالحروب والاضطرابات، وكان أن تغلبت النظرة المتشائمة على النظرة المتفائلة لفترة طويلة من الزمن، لكن من خلال الجهود الشاقة للدول الأفريقية، فإن الوضع العام فى المنطقة أخذ يتحرك نحو الأفضل، استطاعت الدول الأفريقية عبر ألية الاتحاد الأفريقي أن تُحدث نوعاً من النجاح في وحدة الرؤى الأفريقية تجاه بعض القضايا، كما نجحت في محاصرة بعض المشاكل وخلق التفاف معالج لبعض الحروب الأهلية كما يحدث في مناطق البحيرات العظمى والصومال وجنوب السودان، وتفعيل أليات تعاون، ووضع خطط أفريقية للتنمية المشتركة بفتح الحدود ورصف طرق قارية وصياغة قوانين ومعاهدات مشتركة فيما بينها.
(الموقف السياسي فى أفريقيا عموماً يتجه إلى الاسترخاء وإدراك أهمية الوحدة لتجديد قواها وتسوية الصراعات الإقليمية بالاعتماد على القوة الجماعية التى من الواضح أنها دعمت وقويت وقد بذلت جهوداً كبرى للوصول لهذا الهدف، ويتجه إلى الاستقرار وهو أكثر استقراراً فى أطراف القارة الشمالية والجنوبية عنه فى غرب ووسط وشرق أفريقيا. استطاعت أفريقيا أن تتخلص من ظلال الاضطرابات، لقد أدركت جميع بلدان أفريقيا ومن تجاربها المريرة أنه عندما لا توجد بيئة مستقرة سياسياً واجتماعياً فإن إحداث التنمية فى القارة يكون مجرد أحلام. ولذلك، فان الكفاح للحصول على السلام وتحقيق التنمية قد أصبح الإدراك العام لمعظم الدول الأفريقية حيث بذلت البلدان الأفريقية جهوداً حثيثة فى السنوات القليلة الماضية لاستقرار الوضع، وقد أعطت اهتماماً خاصاً لاستخدام القوة المشتركة وإعداد آلية إقليمية بمساعدة المنظمات الإقليمية. سعت إلى حل الصراعات الداخلية حيث نجحت في تخفيف التوترات الداخلية كما أُخمدت بعض النقاط الساخنة، أو تم التحكم فيها. ومن خلال جهود الوساطة لمنظمة الوحدة الأفريقية سابقا والمنظمات الإقليمية والمجتمع الدولي، وقعت اتفاقيات سلام شمّلت بعض البلدان الأفريقية في الكونغو كينشاسا، سيراليون، والكونغو برازافيل[19].
رغم الإيجابيات التي أوجدتها منظمة الوحدة الأفريقية سابقا (الاتحاد الأفريقي) حاليا الإ أن التحدي لا يزال قائما في أهداف ورهانات القوى الدولية المبنية في جوانب هامة من حساباتها على القارة الأفريقية كهدف في دولها فيما تحفل به من ثروات متنوعة، وموقع حيوي وبعد إستراتيجي، فهي تُدير صراعها فيما بينها مسخرة مصالحها في القارة الأفريقية، وتعمل على فرض ظروف مدروسة تجاه بعض الأماكن لتظل متوترة، وبقاع أخرى تطفيء حرائقها، إضافة لرسم واقع أفريقي من خلال استغلال الأمم المتحدة وحتى الأليات الأفريقية ممثلة في الاتحاد الأفريقي والمنظمات شبه الإقليمية كالهيئة الحكومية للتنمية (الإيقاد)، وغيرها فضلا عن مساعدة أنظمة موالية لها لتكون رقيبة وفاعلة بترجيح كفة القوى إلى صالحها، كل ذلك لخلق ظروف أفريقية مواتية من أجل الإبقاء على واقع دولي يُضاعف المصالح ويُكرس المزيد من الهيّمنة.
جاءت بداية الألفية الجديدة على القارة الأفريقية لترسخ قاعدة التبعيّة الدولية في سبيل المصالح الغربية، وذلك أن ما تخطوه الكثير من الدول من خطوات يظل رهينا للمناخ العالمي، كما أن ما يواجه بلدان القارة الأفريقية من تحدّيات يظل مرتبطاً بالقوى الخارجية التي ظلت تُؤثر حتى في علاقات الدول الأفريقية بعضها ببعض، تأثيراً مباشراً ويساعد في ذلك مناخ أفريقي في حيثيات:-
أ- تنامي الانتماءات والولاءات التحتية (الدونية) على الانتماءات والولاءات الوطنية، وهو الأمر الذي يُساعد القوى صاحبة الأهداف والمصالح على إحداث الاختراقات المناسبة، ومن ثم التدخل المباشر وغير المباشر في تلك الدول الأفريقية.
ب- تباين المستويات الثقافية والحضارية والاقتصادية بين دول المنطقة وارتباط العديد منها بالدول التي كانت مستعمرة، سواء كانت ذات طابع أنجلونكفوني أو فرنكفوني، وهو الأمر الذي يُسهم في دوام العلاقات مع تلك الدول ومن ثم تواصل تدخلها في شؤون دول المنطقة، ومواصلة بذل جهودها من أجل تحقيق أهدافها ومصالحها ، وفقاً لسياسات وآليات وممارسات جديدة.
ج- افتقاد الشرعية السياسية الحقيقية (للأنظمة) في الدول الأفريقية مع تعاظم المشكلات الداخلية وتنوعها، ومن ثم اعتماد أنظمتها الحاكمة في بقائها في السلطة على الظهير الأجنبي، مقابل تقديم التسهيلات والمشاركة في تيسيّر التدخل، ليس هذا فحسب وإنما في تثبيته وتوطيّنه داخل تلك الدول.
على الجانب الآخر، هناك توجه لخلق روابط أمنية إقليمية مباشرة كالجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا(الإيكوس) تماثلها الهيئة الحكومية للتنمية (الإيقاد) ذات الصبغة الاقتصادية التنموية والسياسية في شرق أفريقيا، حيث تحاول تلك المنظمة تطوير اهتماماتها لتشمل موضوعات أخرى أمنية بخلاف التنمية كالعمل على تسوية النزاعات بين أعضائها، وأيضا عمليات إحلال السلام فيما بينها, غير أنها لا تملك آليات عسكرية للقيام بهذه الأدوار التي اقتصرت على الجهود السياسية في المشكلتين السودانية والصومالية، وعلى الرغم من سعي قمم الايقاد المختلفة لزيادة تعاونها الإستراتيجي والأمني وتطويره لمواجهة المخاطر المحيطة بالإقليم واتفاقها على تشكيل عناصر أمنية وعسكرية ومن أمثلة ذلك آلية الانذار المبكر، وفرقة الانتشار السريع في شرق أفريقيا لكن يبقى ارتباط منظمة الإيقاد بما يسمى بمنتدى شركاء الايقاد الذي يضم في عضويته دولاً أوروبية وأمريكية يمثل ذريعة ووسيلة للتدخل في شئون منطقة القرن الأفريقي أكثر من كونه يسعى لتحقيق أهداف إستراتيجية ومصالح أمنية لدولها، ومثال لها انفصال جنوب السودان كنتيجة لاتفاقية السلام الشامل.
كما أنه من اللأفت للنظر أن ميثاق الاتحاد الأفريقي في إطار تناوله لمسألة التدخل في شئون الدول الأفريقية استحدث على غير المعهود في ظل المنظمة القارية السابقة (الاتحاد الأفريقي) إمكانية التدخل كالاتي:-
1-حق الدول الأعضاء في طلب التدخل من الاتحاد لإعادة السلام والأمن ورفض التغيّرات غير الدستورية للحكومات.
2- التدخل بدون طلب في الحروب التي تشمل جرائم ضد الإنسانية او جرائم حرب وإبادة جماعية كما أن اعتماد السياسة الفاعلة للاتحاد لموضوعات تخص المجتمع المدني مثل حقوق الإنسان ودور المرآة وتمكينها وذلك تماشيا مع الأيديلوجية المعاصرة للنظام العالمي الجديد يساعد مساعدة غير مباشرة في استغلالها وتوظيفها للتدخل في الشئون الداخلية لدول القارة الأفريقية[20].
إنعكاسات التنافس الدولي على منطقة القرن الأفريقي
منطقة القرن الأفريقي ( HORN OF AFRICA) هي المنطقة الواقعة على مضيق باب المندب من الساحل الأفريقي، وهي التي يحدها المحيط الهندي جنوبا، والبحر الأحمر شمالا، وتقوم عليه حاليا إريتريا، إثيوبيا، جيبوتي، الصومال، ويدخل فيها بعض الجغرافيين السودان وكينيا.
القرن الأفريقي منطقة إستراتيجية بالنسبة لآسيا وأفريقيا، فهو يحد باب المندب، المضيق الخارج من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي[21].
تبلغ المساحة الكلية لهذه المنطقة حوالي ستمائة وثلاثين الف ميل مربع أو ما يزيد عن المليون ونصف كيلومتر مربع[22].
منطقة القرن الأفريقي تُعتبر من المناطق الأفريقية الهامة نسبة لما تجمعه من دول متعددة وتحتله من منطقة إستراتيجية وتُشكله من بورة صراع ظلت متوترة على مدى طويل خلال القرن الماضي جراء الحرب الأهلية الصومالية والحرب الإريترية-الإثيوبية. وتشهد حاليا واقعا جديدا في ظروف الحرب اليمنية التي تلقي بتأثيراتها على المنطقة الأفريقية وتؤثر تأثيرا مباشرا على إستقرارها، مضيفة توسعا جديدا لها في السعودية والخليج مما يشكل استقطابا جديدا للقوى الدولية يتطور في تعامله عبر تكتيك جديد تتخذه هذه القوى ضمن الحيثيات والظروف الجديدة التي تشهدها المنطقة وتلقي بتأثيراتها على منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة.
رغم ما تمثله منطقة القرن الأفريقي من أهمية إستراتيجية في حسابات القوى الدولية، إلا أنها لفتت انتباه العالم بشدة خلال الحرب الأهلية الصومالية بداية الألفية الثانية حينما تأثر العالم مباشرة بأعمال القراصنة الصوماليين الذين أخذوا يهددون الملاحة العالمية في المحيط الهندي، واستطاعوا فرض شروطهم على الكثير من الدول في دفع ملايين الدولارات كفديات للسفن التي يسيطروا عليها.
فالقرن الأفريقي يكتسب أهمية حيوية من الناحية الجغرافية؛ نظراً لأن دوله تطل على المحيط الهندي من ناحية، وتتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر حيث مضيق باب المندب من ناحية ثانية. ومن ثم فإن دوله تتحكم في طريق التجارة العالمي، خاصة تجارة النفط القادمة من دول الخليج والمتوجهة إلى أوروبا والولايات المتحدة. كما أنه يُعد ممرا مهما لأي تحركات عسكرية قادمة من أوروبا أو الولايات المتحدة في إتجاه منطقة الخليج العربي[23].
يمتد نطاق القرن الأفريقي ليضم السودان وكينيا وأوغند ولعل هذا المعنى الأخير هو الذي يدخل في إطار سياسة الولايات المتحدة التي تُروج في الآونة الأخيرة لإقامة منطقة القرن الأفريقي الكبير، وثيقة بريطانية وردت في وثائق الأرشيف السوداني بدار المحفوظات البريطانية، وهي عبارة عن خطاب موجه من المفوض البريطاني في أديس أبابا “ويلغرد تسيجر” إلى حاكم عام السودان في ظل الحكم الثنائي المصري البريطاني للسودان مؤرخ بتأريخ: 11/10/1917. وقد عرضت الوثيقة تصوراً شاملاً لمنطقة القرن الأفريقي والسودان وكينيا[24].
استناداً على هذه الوثيقة كان من رأي بعض علماء السياسة الدولية أن القرن الأفريقي هو ذلك البروز مثلث الشكل، الواقع بين الشرق الأفريقي الذي يشرف على المحيط الهندي، خليج عدن، ويمتد شمالاً على ساحل البحر الأحمر لمسافة 600 ميل، ويمتد إلى داخل القارة الأفريقية ليشمل كلاً من الصومال، جيبوتي، إريتريا، إثيوبيا، كينيا والسودان، وبالنسبة للأخيرتين فقد تم إدخالها ضمن دول القرن الأفريقي بسبب التداخل العرقي واللغوي بينهما وبين دول القرن الأفريقي.
يعتبر الدكتور محمد رضا فودة أن القرن الأفريقي يضم كلا من الصومال، إثيوبيا، إريتريا وجيبوتي، وأضاف لهذه الدول كل من كينيا والسودان؛ لاعتبارات جيو إستراتيجية ولتداخل الحدود والأقليات.
وطرحت سوزان رايس Susan Rais مستشارة الأمن القومي الأمريكي أثناء خدمتها في مجلس الأمن القومي الأمريكي بداية عام 1998 فكرة مشروع القرن الأفريقي الكبير في الفكر الإستراتيجي الأمريكي والذي يتألف من القرن الأفريقي بمعناه الجغرافي زائداً السودان امتداداً إلى منطقة البحيرات العظمى. في حين ذكر عبد الله أنس الإرياني أن القرن الأفريقي سُّمي بهذا الاسم بسبب شكله كقرن على المحيط الهندي وخليج عدن، ومن رأيه أن القرن الأفريقي يتكون من الصومال، إثيوبيا، جيبوتي، إريتريا إضافة لكل من السودان وكينيا؛ بسبب التداخل الحدودي والقبلي بل ويعتبر اليمن دولة من دول القرن الأفريقي؛ بحكم التقارب الجغرافي والتواصل السكاني والتأثير والتأثر فهي في رأيه مرتبطة ارتباطاً جذرياً بالقرن الأفريقي.
يرى آخرون أن تعبير “القرن الأفريقي” لمنطقة شاسعة من شرق أفريقيا له مدلول غير واضح المعالم جغرافياً، سياسياً، اقتصادياً، وتاريخياً نظراً لانعدام الملامح الضرورية لوضع المنطقة في إطار مفهوم جغرافي وعرقي متناسق، ولذلك أن هذه التسمية تعتبر فرضية جيو بوليتكية، يمتد مفهومها الجغرافي عبر مسيرة التفاعلات الدولية المتسارعة وانطلاقاً من ذلك أن منظمة القرن الأفريقي تضم كلاً من إثيوبيا، إريتريا، جيبوتي، الصومال وكينيا والسودان والتي تغطي مساحة قدرها 2362000 كلم2[25].
يشكل القرن الأفريقي أهميته ضمن ما يجمعه من دول متباينة الثقافات وموقع جيو إستراتيجي في البحر الأحمر ومضيق باب المندب. تُعد منطقة دول القرن الأفريقي واحدة من أهم المناطق الإستراتيجية في العالم، وتستند هذه الأهمية إلى عدة اعتبارات أهمها:
(أنها تشرف على خليج عدن ومضيق باب المندب والبحر الأحمر، وهي ممرات مائية لها أهميتها التجارية والعسكرية خاصة بعد افتتاح قناة السويس عام 1869.
– باكتشاف النفط والغاز في منطقة شبه الجزيرة العربية والخليج؛ أصبحت هذه الأخيرة منطقة مصالح حيوية بالنسبة للدول الصناعية، وبالتالي ازدادت قيمة الممرات المائية السالفة الذكر؛ حيث أنّ منطقة منابع النفط لا تقل أهمية عن ممرات نقله، وبالتالي ازدادت قيمة منطقة القرن الأفريقي كمنطقة تطل وتتحكم بهذه الممرات ومقابلة لمنطقة مصالح حيوية عالمياً.
وفي هذا الإطار يقول الرئيس الأمريكي الأسبق “ريتشارد نيكسون” “يجب أن نتعامل مع المصالح الثانوية أحياناً وكأنها مصالح حيوية”، وعليه، إذا كانت دول القرن الأفريقي لا ترقى إلى مرتبة المصالح الحيوية للولايات المتحدة، فهي تأتي دون شك في المرتبة الثانية، أي ضمن المصالح الثانوية، وبالتالي يتم التعامل معها أحياناً من قبل الولايات المتحدة في إطار المصالح الحيوية لها.
وضمن هذه الحيثية تظل منطقة القرن الأفريقي منطقة حيوية لا يتأثر وضعها في السياسة الدولية مهما إنتابها من متغيرات يقول د.صلاح الدين الدومة في كتابه أمن القرن الأفريقي رغم التطور التكنولوجي الهائل الذي طرأ على التسليح ووسائل إدارة الصراع العسكري إلا أن المناطق الإستراتيجية من وجهة نظر الجغرافيا العسكرية لايمكن ان تفقد اهميتها الحيوية بسهولة، والقرن الأفريقي من المناطق الإستراتيجية[26].
لذا ظلت منطقة القرن الأفريقي محل اهتمام دائم ومستمر من القوى الغربية وميداناً لتصارعها وتنافسها منذُ بدء الحملات الاستكشافية البرتغالية في القرن السادس عشر، وما أن حل القرن التاسع عشر حتى كان لأغلب القوى الاستعمارية مناطق نفوذ ومستعمرات في المنطقة.
وخلال سبعينيات القرن الماضي وأثناء الحرب الباردة شهدت المنطقة تنافساً شديداً وتبادلاً للمواقع وحروباً بالوكالة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، ومع تراجع الاتحاد السوفيتي عن مكانته كقطب منافس ثم انهياره بعد ذلك أصبح التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.
– أنها اكتسبت أهمية إستراتيجية من خلال موانئ وجزر دول القرن الأفريقي بالنسبة للسياسة الإسرائيلية حيث اعتبرتها جزءاً من نطاق الأمن الحيوي الجنوبي لإسرائيل، وكان لهذا الأثر البالغ على تهديد الأمن القومي العربي.
-أن القرن الأفريقي سواء بحدوده الضيقة أو الواسعة، يعتبر منبعاً لنهر النيل؛ حيث تحصل مصر على 85% من حصتها السنوية من هضبة الحبشة، و15% من البحيرات العظمى.
– ضمن التخطيط الإستراتيجي في القرن الماضي تمركزت قوات أمريكية تتألف من 800 جندي من قوات العمليات الخاصة ومشاة البحرية في جيبوتي لمواجهة عناصر القاعدة في المنطقة ولمواجهة ما أصطلح على تسميته بالارهاب. ولا يقتصر التخطيط الإستراتيجي الأمريكي على الجانب العسكري فقط، فعلى الجانب الآخر افتتحت الولايات المتحدة الأمريكية مركزاً للدراسات الإستراتيجية في أديس أبابا.
بجانب الوجود الأمريكي، هناك قاعدة فرنسية قوامها 20 الف جندي حيث تواجه الولايات المتحدة الأمريكية النفوذ الفرنسي في 20 دولة (فرانكفونية) [27].
يشهد القرن الأفريقي ظروفا جديدة للصراع ترسم واقعا لبعض دوله، فهو يشكل هدفاً إستراتيجياً للمرحلة القادمة بحيثيات:-
أولاً :على الجانب الداخلي :-
أ- عدم قدرة دول القرن الأفريقي على إحداث التكامل السياسي الحقيقي سواء الراسي منه أو الأفقي، لأسباب كثيرة ذات طابع سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وتاريخي وغير ذلك، ومن ثم فإن شيوع الصراعات والحروب الأهلية، يمثل سمة من السمات الرئيسية لدوله، وهو الأمر الذي يُؤدي إلى حالة من عدم الإستقرار السياسي والأمني، ويُعطي الذرائع والمسوغات للدول الأجنبية للتدخل السافر بوجهيه المباشر وغير المباشر في صميم الشؤون الداخلية لدول المنطقة.
ب- سوء الأوضاع الاقتصادية التي تعاني منها دول القرن وحاجتها الملحة للدعم الأجنبي من أجل التنمية وتوفير الحاجات الضرورية لشعوبها، الأمر الذي يُؤدي إلى حالة من التبعيّة للدول المانحة للتدخل في الشؤون الداخلية.
ج- خلافات الحدود بين دوله وعدم التوصل إلى الرسم المتراضي لهذه الحدود مما يشكل نوبات مترددة من الأزمات بين الحين والآخر.
ثانياً: على الجانب الإقليمي:-
1- إنعكاسات ظروف التحولات السياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط سوريا، العراق ، ليبيا، مصر، اليمن، وما تُؤدي له من آثار على واقع القرن الأفريقي بحكم موقعه الحيوي.
2- الحرب اليمنية – السعودية وتأثيراتها على المنطقة وفق أسلوب الاستقطاب الذي تعمل دول المواجهة فيه لكسب دول الجوار وخاصة الساحلية كما يحدث بالنسبة إلى إريتريا، جيبوتي والسودان.
3- ما ترمز له دول القرن الأفريقي ذات الانتماء الإسلامي العربي كقوة اقتصادية ووجود أيديولوجي إسلامي، وهو ما يُشكل تحدياً لقوى دولية تعمل مجتهدة لرسم توجهات المنطقة لمصالحها، ويضاعف الهاجس خطر الجماعات الاسلامية المتشددة وتأثيرها على المسار العالمي والتي تتخذ من بعض دول القرن الأفريقي في الصومال وغيره من الأماكن ملاذا لانشطتها.
4-استغلال القوى الكبرى خاصة الولايات المتحدة موضوع (الحملة الدولية ضد الإرهاب) مسوغا لفرض بعض السياسات على دوله دعماً وتقريباً كما حدث مع إثيوبيا إبان الحرب الأهلية الصومالية (عندما استولت جماعة المحاكم الاسلامية على السلطة عام 2006)، وعزلا وعقوبات كما يحدث مع السودان (العقوبات الأمريكية المفروضة منذ عام 1998). ما تبذله الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية تجاه دول المنطقة يعطي دلالة اهتمام لا يقتصر على بعدها الاقتصادي فحسب بل إلى ما تُشكله من أبعاد أخرى في المفهوم الإستراتيجي لتلك القوى كما اشرنا له من قبل.
5- إلى جانب الدول الغربية هناك تنافس لاطراف دولية جديدة على الساحة الأفريقية استطاعت الدخول للقارة الأفريقية بقوة فيما حملته من مبادئ واعتمدته من أهداف لتنمية دول القارة الأفريقية في مقدمتها الصين وتركيا.
ان ما يشهده العالم من صراع لاتحده حدود معينة، كما تلقي تلك الصراعات بتأثيراتها على مناطق مختلفة من العالم بحكم الصفة العالمية لوحدة العالم ولدوله في التأثير والتأثر. وفي سنوات التسعينات أشار عالم السياسة الأمريكي الشهير صامويل هنتيغتون إلى أن الصراع القادم بعد انتهاء الحرب الباردة سوف يكون صراعا بين الحضارات، ودلّل على ذلك بأن المناطق التي تقع على خطوط التقسيم بين الحضارات المختلفة تعاني دوما من صراعات واضطرابات، وأشار كذلك إلى أن الصراعات المعاصرة في فترة التسعينات حملت أبعاداً دينية وحضارية واضحة مثل صراعات البلقان في أعقاب انهيار يوغوسلافيا[28].
الان بدأ واضحا ما تقود إليه الحرب بين جماعة الحوثيين اليمنية ذات الانتماء العقدي الشيعي في مواجهة ما يطلق عليه بالحكومة الشرعية المدعومة من السعودية وبعض دول الخليج العربي،حيث أخذت الحرب تمددا لم يخطئ سواحل القرن الأفريقي التي تعيش دولها استقطابا من قبل القوى المتصارعة بما فيها قوى دولية ذات وزن كدولة إيران الداعمة لجماعة الحوثيين. دواعي هذه الحرب أصبحت تستقطب جهات عديدة وتشكل تحالفات لا تنحصر على اليمن أو منطقة القرن الأفريقي فحسب، لتتسع رقعتها ضامة منطقة الخليج وإيران والشرق الأوسط. تفاعلات القرن الأفريقي انطلاقا من اليمن تؤكد تنبؤ هنتيغتون في حرب الأيديولوجيات التي تخوضها القوى الإقليمية ولا تكون على مسافة بعيدة منها مخططات القوى الدولية.
الهامش
[1]https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7
[2]www.qiraatafrican.com/home/new/
[3] د.خليل حسين /قضايا دولية معاصرة –دراسة موضوعات في النظام العالمي الجديد/دار المنهل اللبناني ص53
[4] بروفسير صلاح الدين عبد الرحمن الدومة من نهاية التاريخ الى نهاية الجغرافيا الطبعة الثانية الخرطوم 2016 ص36
[5] (القرن التاسع عشر)
[6] د. خليل حسين قضايا دولية معاصرة /دراسة موضوعات في النظام العالمي الجديد/ دار المنهل اللبناني ص 31
[7] 3 ) توازن القوى التقليدي Balance of power) – هي نظرية تقوم على أن وجود الدول والتحالفات في حالة تكاد تتعادل فيها قوتها العسكرية- امر من شأنه أن يحول دون نشوب النزاع المسلح. وعليه فإن بعضا من الدول تسعى الى الحفاظ على التوازن العسكري فيما بينها.
[8] أ. د. صلاح الدين عبد الرحمن الدومة – العلاقات السودانية الأمريكية- سلسلة إصدارات الوعد الحق إصدار رقم (14) المركز القومي للإنتاج الإعلامي – دار الفكر بيروت- 2005 ص16
[9] القرن التاسع عشر)
[10] المصدر السابق
[11] د.صلاح الدين عبد الرحمن الدومة مصدر سابق ص15.
[12] د.سعد متولي امريكا ديمقراطية الاستبداد- دراسة في علم الاجتماع السياسي- دار العربية للعلوم الطبعة الاولى 2009-ص 62.
[13] د.سعد متولي امريكا ديمقراطية الاستبداد- دراسة في علم الاجتماع السياسي- مصدر سابق-ص 62.
[14] د. الامين عبد الرازق ادم / التدخلات الخارجية وأثرها على الاستقرار في الصومال1991-2002/ شركة سطور للاعلان –الخرطوم 2006- ص7
[15] د. عبد الله عبدالرازق إبراهيم بداية تقسيم إفريقيا (قضايا وأراء)- 5 نوفمبر2003 http://www.ahram.org.eg/archive/2003/11/18/OPIN8.HTM
[16]المصدر السابق
[117] د.جمال حمدان افريقيا الجديدة .دراسات في الجغرافية السياسية /مكتبة مدبولي 1996م القاهرة /ص16
[18] عبدالله العروى مفهوم الحرية/ المركز الثقافي العربي (ص80)
[19] (أفريقيا وتحديات الألفية الثالثة) http://www.siironline.org/alabwab/derasat(01)/319.htm
[20] المصدر السابق
[21] قرن افريقي-موسوعة المعرفة
http://www.marefa.org/%D9%82%D8%B1%D9%86_%D8
[22] د.حسن مكي محمد احمد- السياسات الثقافية في الصومال الكبير(1887-1986) المركز الاسلامي الافريقي الخرطوم-ص 18
[23] http://www.marefa.org/%D9%82– قرن افريقي
[24] تحديد وأهمية منطقة القرن الافريقي تغيير- نتhttp://www.al-tagheer.com/art30564.html
[25] المصدر السابق
[26] بروفسير صلاح الدين عبد الرحمن الدومة، أمن القرن الافريقي، الطبعة الثانية، الدار السودانية للكتب الخرطوم 2007م ص 80
[27] الصراع في القرن الافريقي-مقاتل من الصحراء – المبحث الثالث عشر
http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Siasia2/karn- Afric/sec19.doc_cvt.htm
[28] د.خليل حسين قضايا دولية معاصرة /دراسة موضوعات في النظام العالمي الجديد/دار المنهل ص63
.
رابط المصدر: