نشر المجلس الأطلسي، وهو مؤسسة بحثية أمريكية غير حزبية تُعنى بالشؤون الدولية، مقالاً تحليلياً بعنوان: “ماذا وراء العلاقات المتنامية بين تركيا ودول الخليج؟” لسرحات تشوبوكشو أوغلو، وهو زميل أول في الدراسات الاستراتيجية في مركز تريندز للبحوث والاستشارات؛ وموزا المرزوقي، الباحثة في الدراسات الاقتصادية في مركز تريندز أيضاً، حيث يرى المقال أن تطور العلاقات بين تركيا ودول الخليج مؤخراً يؤكد رغبة الطرفين في الاستقلال الاستراتيجي عن الغرب، كما أن زيارة أردوغان الأخيرة إلى الخليج تؤكد مجدداً الرغبة في تعميق شراكتهما في المجال الاقتصادي، مع توقعات بتأثير ذلك إيجابياً على المجال الاستراتيجي في المدى الطويل.
وقد جاء المقال على النحو التالي:
عززت الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى المملكة العربية السعودية ودولة قطر والإمارات العربية المتحدة مؤخّراً حقبة جديدة من التعاون الاقتصادي مع منطقة الخليج لتحقيق استقلال استراتيجي عن الغرب.
وتبني هذه الزيارة على زيارة أردوغان السابقة للإمارات قبل أكثر من عام، والتي فتحت فصلاً جديداً لتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين قبل انتخابات تركيا في مايو 2023.
وبعد إعادة انتخابه رئيساً للبلاد، أعاد أردوغان محمد شيمشك إلى منصبه كوزير للمالية، حيث كلّف المصرفي الاستثماري السابق بالمسؤولية عن خزانة الدولة. وكان تعيين شيمشك بمثابة إشارة إلى العودة إلى المبادئ الاقتصادية التقليدية وإعطاء الأولوية لاستقرار السوق، الأمر الذي وفّر الثقة للمستثمرين الخليجيين بشأن مناخ الاستثمار في تركيا. وأدى ذلك إلى رفع الآمال بالنسبة للاقتصاد التركي، الذي يواجه تضخماً جامحاً، وعجزاً مزمناً في الحساب الجاري، وانخفاض قيمة الليرة، واستنزاف احتياطيات العملات الأجنبية التي تشتد الحاجة إليها.
كما أشار إعادة انتخاب أردوغان وتعيينه شيمشك إلى إيجاد زخم للتطبيع مع منطقة الخليج – ذلك الزخم الذي بدأ بزيارات رسمية متبادلة في عام 2021. وفي شهر يونيو، عقد شيمشك بالفعل اجتماعات رفيعة المستوى في السعودية وقطر والإمارات لإرساء الأساس لزيارات أردوغان الأخيرة والمساعدة في تعزيز الشراكات الاقتصادية الثنائية.
وتُظهر علاقات تركيا المتطورة مع هذه الدول الخليجية الثلاثة تقارب المصالح والاتفاق على العديد من القضايا. ويشمل ذلك الاتفاق على المزايا النسبية التكميلية لهم، وحرصهم الشديد على تنويع الشراكات التجارية، ورغبتهم في الاستقلال الاستراتيجي عن الغرب. وتعبيراً عن تعاونهم المتزايد، أعلنت تركيا أنها أبرمت اتفاقيات إطارية للاستثمار الثنائي مع الإمارات العربية المتحدة بلغت قيمتها أكثر من 50 مليار دولار – كما أعلنت عن اتفاقيات مع المملكة العربية السعودية و دولة قطر (ولكن لا تزال قِيَمها غير معلَنة). ويشير تعميق الشراكات في القطاعات الرئيسية مثل الدفاع والطاقة والنقل إلى اهتمام تركيا ودول الخليج بالاستفادة من رأس المال والمعرفة والمزايا الجغرافية للنمو الاقتصادي؛ كما أنه يشير إلى إعادة التموضع لتقاسم المخاطر السياسية في منطقة مضطربة وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة.
أساس متين
وتُعدّ الرغبة في جذب تدفقات رأس المال والحفاظ على إرث أردوغان كقائد حقق النمو الاقتصادي لبلاده على مدى العقدين الماضيين من الأسباب الرئيسية وراء اهتمام تركيا المتجدد بتعزيز العلاقات مع دول الخليج. بعد تباطؤ لفترة قصيرة خلال الاضطرابات السياسية بين عامي 2013 و 2020، حيث وصل حجم تجارة تركيا مع الخليج إلى 22 مليار دولار، وفقاً لبيانات الحكومة التركية. ولدى تركيا خطط طموحة لمضاعفة هذا الرقم ثلاث مرات تقريباً في السنوات الخمس المقبلة.
كما تحرص دول الخليج على توسيع وجودها الاستثماري في تركيا. حيث تمثّل استثمارات دول مجلس التعاون الخليجي 7.1% من الاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا منذ عام 2020، مع وصولها إلى 15.8 مليار دولار اعتباراً من عام 2022. وقدّمت قطر لتركيا أكبر استثمار أجنبي مباشر من دول مجلس التعاون الخليجي، باستثمار 9.9 مليار دولار. وتأتي الإمارات في المرتبة الثانية باستثمار 3.4 مليار دولار، والسعودية في المرتبة الثالثة باستثمار 500 مليون دولار. ومن المرجَّح أن يرتفع هذا المبلغ مرتين ليصل إلى 30 مليار دولار على مدى السنوات القليلة المقبلة من خلال الاستثمارات التي تعطي الأولوية لقطاعات الطاقة والدفاع والتمويل وتجارة التجزئة والنقل. وفي السابق، قدمت الإمارات وقطر لتركيا 20 مليار دولار في اتفاقيات لمقايضة العملات، و أودعت السعودية 5 مليارات دولار في البنك المركزي التركي لدعم السيولة بالدولار.
لكن الحزمة الجديدة من الاتفاقيات الموقَّعة خلال رحلة أردوغان الأخيرة تُركّز على الاستثمارات الرأسمالية في الأصول الإنتاجية مثل الأراضي والمصانع والبنية التحتية. وقد وقّع صندوق الثروة السيادية لأبو ظبي (إيه دي كيو) وحده مذكرة تفاهم لتمويل ما يصل إلى 8.5 مليار دولار من سندات الإغاثة لآثار الزلزال الذي وقع في تركيا وتقديم 3 مليارات دولار في شكل تسهيلات ائتمانية لدعم الصادرات التركية. وبشكل عام، يدل هذا على رؤية طويلة المدى لتنسيق أوثق بين دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا على المستوى الاستراتيجي.
ويجذب هذا التعاون الاقتصادي أيضاً الاستثمار التركي في دول الخليج، وبشكل أساسي نحو قطاعات البناء والخدمات مثل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتكنولوجيا الزراعة. وينطوي التصنيع المشترك المحتمل في صناعة الدفاع بين تركيا ودول الخليج، مثل تصنيع طائرات بدون طيار من طراز بايكار أكنجي و تي بي2، على إمكانية ترقية هذه العلاقة إلى ما وراء المجال الاقتصادي. وحتى بالنسبة للسعودية، التي لديها مصنع محلي لإنتاج طائرات بدون طيار من طراز فيستيل كاراييل التركية المخصّصة لمهام الاستطلاع في المقام الأول، يمكن لـ بايكار أكنجي ترقية عقيدة الحرب لهذه المُسيّرات إلى مستوى جديد.
المزايا المتبادلة
هذه الشراكة المتطورة هي حالة واضحة من الربح المتبادل للجانبين. وتربط جغرافية تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة ثلاث مناطق فرعية مُربحة – الخليج وشرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود – والتي يمكن أن تساعد تلك الدول في بناء علاقاتها وتعزيز ترابطها، بينما يكون ذلك مفيداً، في ظل عالم متقلب. وتمتلك السعودية وقطر والإمارات، التي تفتخر بتحقيق ناتج محلي إجمالي يبلغ 1.8 تريليون دولار أمريكي، موارد وفيرة ومزايا نسبية هائلة، ليس فقط في قطاع النفط والغاز ولكن أيضاً في الإطار القانوني المتين، والبنية التحتية عالمية المستوى، والسهولة النسبية في ممارسة الأعمال التجارية.
فالإمارات، على سبيل المثال، تنفذ إصلاحات اجتماعية وتجارية عديدة لجذب الاستثمار الأجنبي. كما أن لديهم أيضاً فئة سكانية شابة بارعة في مجال التكنولوجيا وموهوبة ومنفتحة على التعلم ومصمِّمة على إحداث تأثير في المجالات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات. وفي الوقت نفسه، تتمتع تركيا بمزايا نسبية في قطاعات الدفاع والضيافة والبناء. وكانت تركيا تقليدياً دولة تعاني من ندرة رأس المال وكثافة العمالة، وكانت تواجه انخفاضاً في معدلات التبادل التجاري، خاصة بعد انضمامها إلى الاتحاد الجمركي الأوروبي في عام 1995. ولكن تدريجياً، ومن خلال رفع المهارات في التكنولوجيا والاستثمار في القطاعات كثيفة رأس المال، أعادت تركيا تموضعها كدولة تُعتبر مركز صناعي بديل للأسواق الناشئة في الشرق الأوسط. وقد أصبح لديها اقتصاد متنوع ومتقدم تقنياً ومتطوراً كعضو في مجموعة العشرين.
وتركيا الآن أكثر حرصاً على توسيع اتفاقيات الشراكة الاقتصادية الشاملة الثنائية الخاصة بها لتصبح اتفاقية متعددة الأطراف مع دول مجلس التعاون الخليجي. وبالإضافة إلى ذلك، تشير التقديرات إلى أن الزلازل التي ضربت البلاد في فبراير 2023 كلفت تركيا 104 مليار دولار من الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والخسائر الاقتصادية – ما يعادل 12% من الناتج المحلي الإجمالي – لذلك تحتاج تركيا إلى تنويع وتعميق شراكاتها التجارية للتعافي بسرعة من آثار الزلازل.
الاستقلالية والترابط
يتمثل أحد العوامل الدافعة الرئيسية وراء هذا التعاون الاقتصادي المتزايد بين تركيا ودول الخليج في السعي لتحقيق استقلال ذاتي استراتيجي عن الغرب وتوزيع المخاطر من خلال التحوّط ضد التغييرات المحتملة في سياسة الولايات المتحدة تجاه تركيا ودول الخليج عقب الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة وما بعدها. وقد برزت تركيا ودول الخليج كقوى وسطى غير منحازة، تتكيف مع عالم متعدد الأقطاب حيث يتحول مركز ثقل الاقتصاد العالمي نحو منطقة المحيطين الهندي والهادي.
وقد عزّزت الحرب في أوكرانيا الأهمية الجيوسياسية لتركيا ومنحتها نفوذاً واضحاً في المفاوضات مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، كما شهدنا في قمة فيلنيوس الأخيرة. كما وجّه هجوم روسيا المستمر على أوكرانيا والعقوبات التي فرضها الغرب لاحقاً عليها أنظار دول العالم نحو دول الخليج بحثاً عن مورد بديل للهيدروكربونات. وعزّزت الأرباح المفاجئة من مبيعات النفط والغاز الخزائن الحربية لصناديق الثروة السيادية الخليجية التي تتطلع الآن إلى زيادة التجارة غير النفطية وتنويع محافظها إلى استثمارات مستدامة طويلة الأجل مثل الطاقة المتجددة والتكنولوجيا المتقدمة والرعاية الصحية والسياحة والترفيه.
وهناك عدد من الصفقات الكبرى التي تجسد جهود التنويع تلك. فقد اختتم مؤتمر الأعمال العربي الصيني – الذي عُقد في الرياض في شهر يونيو من هذا العام – أعماله بعقد صفقات استثمارية بقيمة 10 مليارات دولار بين الدول العربية والصين. ويقوم العراق بتطوير خط سكة حديد بتكلفة 17 مليار دولار، من المقرر أن يمر عبر تركيا إلى أوروبا، وهو مشروع أبدت دول مجلس التعاون الخليجي اهتماماً كبيراً به أيضاً. وأطلقت الصندوق السيادي لأبوظبي وصندوق الثروة التركي شراكة بقيمة 300 مليون دولار للاستثمار في شركات التكنولوجيا التركية الناشئة. كما أن الإمارات العربية المتحدة حريصة على الاستثمار في مترو إسطنبول وخط السكك الحديدية عالي السرعة الممتد إلى أنقرة. ويهدف البلدان إلى زيادة حجم التجارة بينهما من 18 مليار دولار إلى 40 مليار دولار في السنوات الخمس المقبلة.
وفي النهاية، تُظهر هذه الفورة من الاستثمارات الجديدة أن كلاً من دول الخليج وتركيا يرون أنهم شركاء يجنون المكاسب والمنافع المتبادلة بينهم. وتؤكد زيارة أردوغان الأخيرة إلى الخليج مجدّداً على الرغبة في تعميق شراكتهما في المجال الاقتصادي – مع توقعات بتأثير ذلك إيجابياً على المجال الاستراتيجي في المدى الطويل.
.
رابط المصدر: