د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
يتجدّد اهتمام الشعب الأميركي بحجم الميزانيات العسكرية السنوية، ويسيطر القلق على معظم قطاعاته من استمرار الصرف السخي على “المجمع الصناعي العسكري”، بينما تقتطع ميزانيات الرعاية الصحية والتعليم والمساعدات الاجتماعية سنة تلو الأخرى، دون أفق ملموس لتغيير المعادلة.
يدشّن الرئيس الأميركي عادة، بصرف النظر عن انتمائه السياسي، ولاية عهده بضمان أولوية ميزانيات الدفاع التي بلغت أرقاما هائلة وغير مسبوقة صعوداً، وسجلت 738 مليار دولار لنهاية العام الجاري ولا تشمل ميزانيات إضافية تقتضيها الظروف الميدانية. وتبلغ حصة سلاح الجو منها نحو 35%، وسلاح البحرية والمارينز نسبة 35% تقريباً، ونحو 28% للقوات البرية.
الميزانية المقترحة للعام 2021 توازي سابقتها وتتخطاها بشكل ضئيل نسبياً، وتتمثل بنحو 740 مليار دولار. وقد واكبها طلب وزير الدفاع (المُقال) مارك أسبر من الكونغرس احتساب زيادة 3% إلى 5% على المجموع العام، أي نحو 22 إلى 37 مليار دولار تباعاً. وبناء على ممارسات البنتاغون السابقة بالضغط على لجان الكونغرس المختصّة، تصعد الميزانية إلى 800 مليار دولار (“مركز التطور الأميركي”، 6 أيار/مايو 2020).
اللافت أن الميزانيات المخصصة للبنتاغون كانت تحسب بمليارات الدولارات “منذ عام 1948″، بحسب البيانات الرسمية، لكنها لا تتضمن “الزيادات والإضافات الموسمية” التي تطلبها وزارة الدفاع من الكونغرس باستمرار.
ويذكر المركز أنّ لجان الكونغرس طلبت من قادة الأسلحة الرئيسية تقديم “قائمة أولويات” لأسلحة لم تشملها الميزانية المقترحة، والتي بلغ مجموعها نحو 18 مليار دولار. وكشف عن تراجع حاجة القوات العسكرية إلى مستويات الميزانية السابقة “بناء على نية الولايات المتحدة خفض عدد قواتها في العراق وأفغانستان، وإقرار البنتاغون بأنّ نحو 16 مليار دولار (ضمن الميزانية المقترحة) مخصّص للإنفاق على أهداف خارج الاحتياجات العسكرية”.
وفي حين يستنزف البنتاغون الاقتصاد الأميركي ويضاعف من حجم مديونيّته العامة، فقد حصل على نحو 3 آلاف مليار (3 تريليون) دولار خلال ولاية الرئيس ترامب، في ظل تسابق الساسة الأميركيين على “ضرورة الإنفاق لإعادة بناء القوات المسلحة” وتأهيلها لتحديات المستقبل.
أمّا في عهد الرئيس السابق باراك اوباما، فقد بلغ الإنفاق على وزارة الدفاع نحو 3.3 تريليون دولار للسنوات الأربع الأولى، وفق بيانات وزارة الدفاع. ولجأ الكونغرس إلى معارضة توجهات إدارة اوباما التي أرادت وضع سقف للإنفاق العسكري ورفع القيود المقترحة عن ميزانية البنتاغون.
يشير المراقبون إلى تجسّد مخاوف الرئيس الأسبق دوايت آيزنهاور في تحذيره الشهير من بقاء مستقبل البلاد رهين مصالح “المجمع الصناعي العسكري”، الذي تتعاظم مطالبه للاستثمار المتواصل في أحدث التقنيات، بصرف النظر عن ديمومة فعاليتها، لتبرر انتاجها العالي الكلفة.
منذئذ، شهدنا نمواً في السياق العام للرؤساء الأميركيين لتخصيص الموارد المالية والتضحية ببرامج “دولة الرعاية والفرص والمساواة”. الرئيس ترامب، كما سلفه الرئيس اوباما، استثمر أيضاً في زيادة الاعتماد على التقنيات الحديثة وتطبيقاتها العملية، جسّدها إعلان سلاح مشاة البحرية، المارينز، تخليه عن سلاح المدرعات لديه، وإيلاء الأولوية للتقنية المتطورة والأسلحة الخفيفة التي لا تحتاج لكادر بشري كبير.
وفي هذا الصدد، ينبغي مراعاة مسألة تدوير الكفاءات التي تستفيد منها كبريات شركات التصنيع والأسلحة، بتشغيلها طواقم الرتب العسكرية العليا المحالة إلى التقاعد، وتوظيف طواقمها المتجددة في مسارات الضغط على أعضاء الكونغرس وأنصارهم السابقين، لتبني خطط التسليح المقترحة من تلك الشركات مقابل مكافآت مجزية.
خلال ولاية الرئيس أوباما، استقرّ الرأي على الاستثمار الأكبر في قطاع “القوات الخاصّة”، نظراً إلى ميزة سرّية مواقع انتشارها في الدرجة الأولى، ولتجنب عدم الوقوع في إحراج أمام الرأي العام على خلفية الإعلان عن عدد القتلى، مقابل ما تستدعيه إجراءات وزارة الدفاع المعتمدة في الكشف عن خسائرها البشرية، وكذلك لسرعة نقلها إلى ساحات قتالية خارج نطاق الإعلام والاهتمام الشعبي.
يشار إلى أن بيانات البنتاغون تشير إلى تواضع أعداد القوات الخاصة خلال الحرب الأميركية على فيتنام، إذ بلغت نحو 2000 عنصر، مقارنة مع نصف مليون عسكري ونيّف. فى الزمن الراهن، تضخمت أعداد “القوات الخاصة” لتصبح نحو 70،000 عنصر، ما اضطر القيادات العسكرية المعنية إلى تعديل برامج تدريبها، بخفض الشروط القاسية المطلوبة التي أدت إلى وقوع مزيد من الخسائر البشرية بينها.
وفي سياق مشابه، شهدت القوات العسكرية الأميركية، ولا سيما في سلاح البحرية، تدنياً في مستويات أدائها العملياتي وما نجم عنه من حوادث متتالية لسفن حربية صدمت سفناً تجارية في عرض البحر.
أمام هذه اللوحة من فرط الإنفاق على المعدات والتقنية العالية وتراجع مستويات جهوزية القوات العسكرية الأميركية، يبرز سؤال ملح حول حقيقة الجدل باستعداد إدارة ترامب في أيامها الأخيرة لشن عدوان عسكري، ولو محدود، على إيران، من دون تلقي رداً يقوّض قواعدها العسكرية المنتشرة في الإقليم (كما روجت له يومية “نيويورك تايمز”، 16 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري). ومن ناحية أخرى، تصعيد منسوب التوتر مع إيران، للحيلولة دون نجاح فرضية توجه الرئيس المقبل جو بايدن إلى طاولة المفاوضات معها.
في الشقّ الأول أعلاه، تدرك القيادات العسكرية الأميركية حدود فعالية دفاعاتها الجوية في حماية قواعدها وجنودها في العراق، الذي يعتقد أنه الساحة الأقرب إلى تصعيد التوتر مع إيران، وخصوصاً في تكرار عجز المنظومات الدفاعية المتطورة في اعتراض صواريخ قديمة ومتدنية التقنية تشن بوتيرة أعلى على بعض المواقع الأميركية في العراق.
من بين الخيارات الأكثر ترجيحاً أمام إدارة ترامب في أيامها الأخيرة، شن هجمات الكترونية محدودة تستهدف منشآت عسكرية وحيوية داخل إيران بمشاركة “اسرائيلية”، أو توفير الدعم للأخيرة لشن هجماتها، بيد أن الطرفين لا يملكان ضمانات يقينية بعدم رد إيران، وخصوصاً في ظل تعهد قادتها العسكريين بأن الرد سيكون مزلزلاً. البنتاغون استوعب حقيقة الرد الايراني، وقرّر إخراج بعض حاملات طائراته العملاقة خارج مضيق هرمز والمرابطة في بحر العرب.
قرار “إسرائيل” الدخول على الخطّ في تصعيد التوتر مع إيران لن يلقى تأييداً من قبل الإدارة المقبلة، أقلّه في الظرف الزمني القصير. لذا، فإنها تسعى بشدّة لكسب تأييد الرئيس ترامب “توجيه ضربة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية” قبل مغادرته البيت الأبيض.
وفي هذا الصدد، ارتفعت أصوات معارضة معتبَرة داخل دوائر صنع القرار الأميركي، للتحذير من الانزلاق إلى حرب جديدة غير واضحة المعالم، لخصتها صحيفة “نيويورك تايمز” قائلة: “إنهم (إدارة ترامب) يصعّدون منسوب التوتر مع إيران، والذي قد يقودنا إلى اشتباك مباشر”. وأضافت محذرة نقلاً عن مصادرها: “الأوضاع الاقتصادية تنهار، ولم يهبّوا لفعل أي شيء يخصّ مخصصات العاطلين من العمل” (21 تشرين الثاني/نوفمبر 2020).
الإجراءات الاستثنائية المتسارعة التي تتخذها إدارة ترامب على الصعيد الداخلي تحديدا، تأتي بهدف وضع عراقيل وقيود على الإدارة المقبلة، للحيلولة دون إلغاء واستبدال سياسات الرئيس ترامب، وخصوصاً في مسألة الرعاية الصحية الشاملة ومعالجة فايروس كورونا.
الاستثمار والإنفاق العسكري هو المسألة الوحيدة ربما التي تحظى بموافقة الحزبين. ومن غير المرجّح أن تقدم الإدارة المقبلة على خفض أي من برامج البنتاغون. في هذا الشأن، استبقت “مؤسسة هاريتاج”، الذراع الفكرية للمحافظين الجدد في الحزبين، أي تطورات مفاجئة، ونشرت تقييمها المفصّل “لقدرات القوات العسكرية الأميركية للعام 2019″، للإجابة على سؤال وحيد: “هل تملك القوات العسكرية الأميركية موارد كافية تحتاجها لحماية مصالحنا في الداخل وعبر العالم؟”.
استعرض التقرير المفصّل معظم التدخلات العسكرية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية صعوداً، والمفاهيم والعقائد العسكرية الملازمة لكل المراحل، وكذلك الأسلحة وتعدد الأعداء والتحديات والمراحل الزمنية، في ضوء فرضية أن الولايات المتحدة قوة عالمية، ولديها مصالح في أركان العالم كافة ينبغي صونها.
حمّلت الدراسة صنّاع القرار مسؤولية “تردي” المعدات العسكرية، وسببها عدم توفر الموارد المالية اللازمة في عقد التسعينيات من القرن الماضي، والذي أزاحت هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 الغطاء عنه، بحسب معدّي التقرير.
سعت المؤسّسة إلى توفير الأرضية الفكرية والعملية لزيادة الإنفاق العسكري، بتذكير صناع القرار بحجم القوات العسكرية خلال الحرب الباردة، والتي كانت نحو 780،000 عنصر، مقارنة مع ما نحن عليه اليوم “480،000″، وامتلاك نحو 550 سفينة حربية آنذاك مقارنة مع تقلص عددها إلى 285 في الوقت الراهن. واستطردت أن التحديات أمام الولايات المتحدة راهناً تصاعدت، ودخلت قوى جديدة لم تكن في الحسبان آنذاك، مثل “كوريا الشمالية والصين وإيران”.
وحول تقييم الأداء العسكري مقارنة بالإمكانيات المتوفرة حالياً، اعتبرت المؤسسة أنه “متوسط، في المرتبة الثالثة من مجمل خمسة”، محذّرة من أن الأهداف المرسومة حالياً لن يتم تحقيقها إلا بحلول العام 2050، خصوصاً في سلاح البحرية.
يشكّل تقرير المؤسسة الواسعة النفوذ والتأثير بين صناع القرار خريطة طريق للإدارة المقبلة في رسم أولوياتها، وكذلك لمجلسي الكونغرس، بالإقلاع عن آليات الموازنة المعتمدة راهناً، والنظر إلى التحديات بعين “30 سنة في المستقبل”، لتتكيف قرارته مع طبيعة التحدّيات.
وعليه، فإنّنا أمام مشهد أميركي لن يشذّ عن النموذج الراهن بالاعتماد على قسوة القوة العسكرية لبسط النفوذ الأميركي في عموم العالم، وتفعيل سياسة الانقلابات وتغيير الأنظمة، “دون الالتفات إلى أيّ قوة أخرى قد تظهر في الساحة الدولية”.
رابط المصدر: