أصدرت المحكمة الخاصة بلبنان، في 18 أغسطس/آب الماضي (2020)، حكمها بإدانة سليم جميل عياش، المتهم الرئيس في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، على أن تُعلن العقوبة بحقه في 21 سبتمبر/أيلول المقبل (2020). ووقع الحكم في 2600 صفحة لم تشمل إدانة لـ”حزب الله” أو النظام السوري، بل اقتصرت على الاتهام الفردي. كما لم تجد المحكمة العناصر الثلاثة لـ”حزب الله”، وهم: أسد صبرا، وحسين عنيسي، وحسن حبيب مرعي، مذنبين، وأسقطت ملاحقة القائد العسكري والأمني، مصطفى بدر الدين، بعد مقتله في ظروف غامضة في سوريا. وجميع هؤلاء كانوا متهمين ومحلًّا للتحقيق بسبب إجرائهم اتصالات كان يعتقد أن لها صلة بعملية الاغتيال -قبل اغتيال الحريري وبعده- وفي ملاحقة موكبه على مدى أسابيع سابقة على العملية.
تتناول هذه الورقة تداعيات حكم المحكمة وانعكاساته على الوضع الداخلي اللبناني، واحتمالات توظيفه إقليميًّا في ظل تبدل الأولويات الدولية والاصطفافات في المنطقة، وذلك بعد الإضاءة على ظروف الاغتيال قبل أكثر من 15 عامًا، وكذلك مراجعة ظروف تأسيس المحكمة.
الخلفية السياسية لتأسيس المحكمة
غداة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، في 14 فبراير/شباط 2005، تعالت الأصوات المطالِبة بتحقيق دولي في الجريمة التي راح ضحيتها 21 شخصًا آخرين، بعضهم قضى متأثرًا بجروحه؛ ذاك أن لبنان كان ما زال تحت “وصاية سوريَّة”، وتتحكم شخصيات موالية لدمشق بالأجهزة الأمنية الرئيسة(1)، في حين ارتبط وزير الداخلية حينها، سليمان فرنجية، بعلاقات وثيقة بالنظام السوري ورئيسه، بشار الأسد. وبما أن علاقة الرئيس الحريري مع النظام السوري اتسمت بالتوتر والمواجهة، اتجهت أصابع الاتهام السياسية والعائلية والشعبية إلى دمشق وأركانها الأمنيين في لبنان(2). لذا، ونتيجة الاتهام السياسي للنظام الأمني السوري اللبناني حينها، تشكلت حالة سياسية جديدة قوامها سعد الحريري، نجل ضحية الاغتيال، أي رئيس الحكومة السابق، والزعيم الدرزي، وليد جنبلاط، وقوى مسيحية أبرزها “القوات اللبنانية”، وهي التي سُمِّيت بقوى تحالف “14 آذار” تيمنًا بتاريخ المظاهرة الكبرى التي أطلقوها في ذكرى مضي شهر على اغتيال الحريري الأب من عام 2005. على الجانب الآخر، يقود الأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصر الله، الحلف الموالي للنظام السوري، والذي عُرف حينها بتحالف “8 آذار” (مارس)، تيمنًا بمظاهرة شاركت فيها هذه القوى في ذاك التاريخ من عام 2005، تحت عنوان “الوفاء لسوريا”. هذا، وقد عرَّف هذا الاغتيال والانقسام السياسي الناجم عنه، السياسة اللبنانية وتقلباتها لسنوات. والجدير بالذكر أنه كان بين مطالب قوى “14 آذار” تحقيق العدالة، وانسحاب القوات السورية الذي تحقق في 26 أبريل/نيسان 2005 نتيجة تواصل الاحتجاجات وتراكم الضغوطات الدولية.
بيد أن الانقسام السياسي بعد الاغتيال، عَكَسَ انقسامًا إقليميًّا ودوليًّا؛ حيث النظام السوري وإيران مع حزب الله وحلفائه في جهة، وبالمقابل في جهة أخرى، كانت المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة تدعمان الحريري وجنبلاط وحلفاءهما. ولأن الاتهام باغتيال الحريري كان في قلب السجال السياسي وأساسًا له، مثَّل التحقيق الدولي، ولاحقًا المحكمة، مسارًا مهمًّا في ذلك الحين لوقف مسلسل الاغتيالات و”دحض ادعاءات” الجانب الآخر بأن إسرائيل أو الولايات المتحدة ارتكبت الجريمة.
إلا أن لبنان كان محكومًا بحكومات توافقية، وبالتالي تحتاج أية خطوة من قبيل إقرار المحكمة، إلى موافقة “حزب الله” وحلفائه. لهذا السبب، كان الأمين العام للحزب جزءًا من المفاوضات حول النظام الأساس للمحكمة، كما تبين أخيرًا بحسب تصريحات وزير العدل حينها، شارل رزق، الذي كشف في مقابلة تليفزيونية: أن النظام الأساس، وتحديدًا اقتصار صلاحيتها على الأفراد، وُلد نتيجة توافق مع نصر الله، وتحديدًا بعد حصر صلاحيات المحكمة بالأفراد لا الأحزاب ولا الدول(3). وكانت نشأت المحكمة الخاصة بلبنان وفقًا لنظام أساس، حدَّد أسس عملها واختصاصها وهيكلها بموجب القرار رقم 1757 الصادر عن مجلس الأمن في 30 مايو/أيار 2007. ولكن النظام الأساس وضع قيدين على المحكمة، الأول على ارتباط بتاريخ وقوع الجرائم، والثاني بالصلاحيات. في البند الأول، ورد أن للمحكمة الخاصة اختصاصًا “على الأشخاص المسؤولين عن الهجوم الذي وقع في 14 فبراير/شباط 2005 وأدى إلى مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، وإلى مقتل أو إصابة أشخاص آخرين”. لكن وفقًا للنظام الأساس، فللمحكمة اختصاص في النظر في “هجمات أخرى وقعت في لبنان في الفترة بين 1 أكتوبر/تشرين الأول 2004 و12 ديسمبر/كانون الأول 2005، أو في أي تاريخ لاحق آخر يقرره الطرفان ويوافق عليه مجلس الأمن”، سيما لو رأى أن هذه “هجمات متلازمة وفقًا لمبادئ العدالة الجنائية وأن طبيعتها وخطورتها مماثلتان لطبيعة وخطورة الهجوم الذي وقع في 14 فبراير/شباط 2005، فإن المحكمة يكون لها اختصاص على الأشخاص المسؤولين عن تلك الهجمات” (المادة الأولى من النظام الأساس)(4).
عمليًّا، أفسحت هذه المادة المجال أمام إضافة الجرائم الأخرى الواقعة في هذا السياق السياسي لاغتيال الحريري، وتضم محاولتي اغتيال بحق مروان حمادة، النائب السابق في كتلة اللقاء الديمقراطي كتلة الحزب التقدمي الاشتراكي (1 أكتوبر/تشرين الأول عام 2004)، والوزير السابق، إلياس المرِّ، (12 يوليو/تموز 2005)، علاوة على اغتيال الأمين العام السابق لـ”الحزب الشيوعي اللبناني”، جورج حاوي، (21 يونيو/حزيران 2005). المحكمة ربطت هذه القضايا الثلاثة باغتيال الحريري، وقد وجهت اتهامًا إلى سليم عياش المدان في الجريمة الأخيرة، وهو بحسب المحكمة من أنصار “حزب الله”(5).
والمادة الثالثة في النظام الأساس تُحدِّد المسؤولية الفردية. ذكرت هذه المادة أن الشخص يتحمل مسؤولية فردية عن الجرائم الداخلة ضمن اختصاص المحكمة الخاصة إذا كان ذلك الشخص ضالعًا في أية جريمة منصوص عليها في قانون العقوبات، وهو ما مهَّد لإدانة عياش وحده دون “حزب الله”، التنظيم الذي ينتمي اليه(6). ورغم حصر صلاحيات المحكمة بهذه الحدود، بذل “حزب الله” منذ البداية جهدًا لتقويض عمل المحكمة، واعتبرها مؤامرة أميركية-إسرائيلية تهدف إلى إثارة فتنة داخلية. ذلك أن “حزب الله” يعتمد داخليًّا على الائتلافات والتفاهمات السياسية من أجل ضمان شرعية لسلاحه، في ظل المعارضة الإقليمية والمحلية له. ومن شأن أية دانة للتنظيم، مباشرةً أو من خلال عناصره، أن تنعكس سلبًا على وضعه محليًّا، وقد يصبح التحالف أو الائتلاف معه عبئًا على أي طرف، وتحديدًا لو كان من الطائفة السنِّية. ولمثل هذه العزلة الداخلية، انعكاسات على قدرة التنظيم على “الهيمنة” في ائتلافات حكومية مستقبلًا.
لهذا، ركَّز نصر الله منذ بداية هجومه على المحكمة، على الانعكاسات الداخلية لأي أحكام وتحقيقات صادرة عنها. جاء الموقف الأبرز والأكثر تصعيدًا لـ”حزب الله” حيال المحكمة عام 2010؛ إذ اعتبر حينها نصر الله أن “التحقيق والمحكمة أميركية-إسرائيلية نرفضها ونرفض كل ما يصدر عنها من اتهامات باطلة ونعتبرها عدوانًا علينا ولن نسمح لها بالنَّيْل من كرامتنا وأن تجر لبنان إلى فتنة أهلية”. وقال: إن “التحقيق والمحكمة أنشئا لخدمة هدف سياسي محدد وواضح وهما يسيران بخدمة الهدف المحدد لهما مسبقًا، كما أن قوانينها ورئيسها تم اختيارهم بما يتيح خدمة نفس الهدف، والقرار الاتهامي يأتي في هذا المسار أيضًا… هم يريدوننا أن ننجرَّ إلى صراع شارع ومواجهة داخلية ونحن يجب أن نصبر على أي استفزاز”(7).
تحدث الأمين العام لـ”حزب الله” حينها على وقع تسريبات عن التحقيق، وتحديدًا إماطة اللثام عن أدلة ومعلومات عن شبكة هواتف كانت ترصد الحريري، وواصلت اتصالاتها منذ زيارة أجراها إلى منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت وحتى بعيد اغتياله. الشبكة تعود إلى خمسة أشخاص يضمون، إضافة إلى عياش، القائد العسكري والأمني في “حزب الله”، مصطفى بدر الدين، وأسد صبرا، وحسين عنيسي، وحسن حبيب مرعي.
صدور الحكم
لكن الحكم الذي جاء في 2600 صفحة لم يكن على مستوى التوقعات لجهة إدانة هؤلاء المتهمين باستثناء بدر الدين الذي قُتل في ظروف غامضة في سوريا عام 2016؛ ذلك أن الإدانة اقتصرت على عياش، دون بقية المتهمين في القضية، والأهم، دون ربطه بتنظيم “حزب الله”.
القاضي، ديفيد ري، حدد في تلاوته الحكم بأن “غرفة الدرجة الأولى تُعلن عياشًا مذنبًا بما لا يرقى إليه الشك، بوصفه مشاركًا في تنفيذ القتل المتعمد لرفيق الحريري”، لافتًا إلى تورطه في المؤامرة يوم التنفيذ وفي الفترة السابقة له. ري أشار إلى عدم وجود “إثباتات بشأن من وجَّه عياشًا والآخرين” لتنفيذ عملية الاغتيال، لكنه قال بعد الجلسة: إن الجريمة عملية “إرهابية” نُفِّذت لأهداف سياسية.
في الحكم الطويل، معلومات عديدة عن سياق الاغتيال يُظهر بوضوح مصلحة للنظام السوري و”حزب الله” في اغتيال الحريري، على خلفية دعمه القرار 1557 الذي يُطالب بانسحاب القوات السورية وسحب السلاح خارج الدولة، ويُظهر تذمرًا في أوساط المسؤولين السوريين وحلفائهم حيال خياراته السياسية؛ ذاك أن السياق يكشف تهديدات واضحة للحريري نتيجة خلافه مع النظام السوري والقوى المتحالفة معه.
لكن سياق الحكم واقتصاره على إدانة شخص واحد، ترافق أيضًا مع اتهام مباشر لقيادة الحزب في تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” نقلت عن مصادر استخباراتية سابقة وحالية في الولايات المتحدة و3 دول أوروبية وشرق أوسطية، دون أن تُسمي أحدًا منهم(8). وفقًا للتقرير آنف الذكر، ينشط عياش في فرقة اغتيال متخصصة تُعرف باسم “الوحدة 121” وتعمل بإمرة الأمين العام لـ”حزب الله”، ونفَّذت أربعة اغتيالات على الأقل في لبنان. كان عياش ركنًا أساسًا في هذه الوحدة، وتسلَّم قيادتها، وفقًا للمصدر ذاته.
هذا الاتهام الذي جاء من الواشنطن بوست يعكس رأيًا إقليميًّا ودوليًّا له صدى وجذور في الداخل اللبناني.
انعكاسات الحكم داخليًّا
إدانة عياش في اغتيال الحريري، لم تقترن بنشاط خارجي منسَّق في مواجهة التنظيم ودوره في لبنان، لكن الحكم مثَّل ورقة ضغط داخلية على الحزب، لجهة القبول بخروجه من الحكومة، نظرًا لما يُشكِّله وجوده فيها من إحراج لسعد الحريري وتياره السياسي. لكن الحريري لم يُعلن موقفًا حيال التنظيم، وتحديدًا لم يُقاطع المسؤولين فيه مثل حسين الخليل، المعاون السياسي للأمين العام للحزب، حتى إن الأمين العام لتيار “المستقبل”، أحمد الحريري، تحدث بصراحة عن احتمال لقاء مسؤولين في “حزب الله” والجلوس معهم على طاولة واحدة، بعد صدور الحكم. اقتصر إعلان الحريري على مطالبة “حزب الله” بتسليم عياش إلى العدالة لينال عقابه.
ومن الانعكاسات الواضحة للحكم في قضية الحريري، أن هناك احتقانًا متزايدًا وسط الطائفة السنِّية، حيال “حزب الله”؛ ما رفع مخاوف في أوساط حزب الله من وقوع فتنة سنية-شيعية، كما حصل في اشتباكات خلدة في 28 أغسطس/آب 2020، التي أوقعت قتيلين بعد أسبوع على قرار المحكمة. ذاك أن من شأن وقوع هذه المواجهات أن تستهلك قدرات التنظيم، وتُضعفه داخليًّا، لهذا من الأرجح قبول الحزب بشروط جديدة للخروج من المأزق، بالتعاون مع سعد الحريري(9). لكن دخول الحريري اليوم في حكومة يدعمها “حزب الله”، وتُعطي في بيانها الوزاري شرعية لسلاحه، ينطوي على مخاطر كثيرة، منها مثلًا: صعود بهاء الحريري في عالم السياسة، بصفته وليَّ دم، والأقدر على المواجهة.
ذاك أن بهاء قدَّم نفسه خلال الشهور الماضية، كبديل في العائلة عن شقيقه، حاملًا شعار عدم المهادنة مع “حزب الله” في الداخل اللبناني. يرى بهاء أن حكم المحكمة الخاصة بلبنان، وانفجار المرفأ في الرابع من أغسطس/آب 2020، بدَّل الخريطة السياسية في لبنان بشكل جذري نتيجة انقلاب في الرأي العام، ويقول: إن “غالبية المجتمع المسيحي ضد حزب الله، والمجتمع السنِّي ضده، وكذلك المجتمع المدني وجميع المعتدلين من جميع الأديان الأخرى ضده أيضًا. لذلك، لم نعد أقلية، بل نحن الأغلبية اليوم”(10).
بناء على إدانة المحكمة، يضع بهاء خطًّا فاصلًا في العمل السياسي الداخلي، لا يُحيِّد فيه شقيقه: “كل من عمل مع حزب الله على مدى 15 عامًا منذ استشهاد والدي يجب أن يكونوا خارج السلطة، كلن يعني كلن”(11). قد لا يُمثِّل بهاء الحريري بديلًا لزعامة شقيقه، لكنه قادر على تقويض شعبيته من خلال المزيد من الإحراج بما يتعلق بالائتلاف مع “حزب الله” ومهادنته خلال الفترة المقبلة.
الانعكاسات الإقليمية
القوتان الرئيستان الداعمتان للتحقيق والمحكمة الدوليين، وهما: الولايات المتحدة والسعودية، تواصلان ممارسة الضغط من خلال المحكمة الدولية لفرض تنازلات على “حزب الله”. وهذا كان بيِّنًا في التعليق السعودي الواضح على حكم المحكمة، وربطه بضرورة مواجهة “حزب الله”. ذكرت السعودية أنها وبدعوتها “لتحقيق العدالة ومعاقبة حزب الله وعناصره الإرهابية، تؤكد ضرورة حماية لبنان والمنطقة والعالم من الممارسات الإرهابية لهذا الحزب الذي يعتبر أداة للنظام الإيراني وثبت ضلوعه في أعمال تخريبية وإرهابية في بلدان عديدة، وكانت جريمة اغتيال رفيق الحريري أحدها وأكثرها تأثيرًا على أمن واستقرار لبنان”(12). فالموقف السعودي هنا تجاوز المحكمة الخاصة بلبنان التي اكتفت بإدانة عياش وتحديد مسؤوليته الفردية فحسب، لكن الرياض اعتبرت التنظيم بأسره مسؤولًا عن الاغتيال، بما يؤشر إلى احتمال المزيد من التصعيد خلال الفترة المقبلة. وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، أدلى بتصريح في المنحى ذاته؛ إذ اعتبر أن “إدانة عياش تسهم في تأكيد ما بات العالم يدركه أكثر فأكثر وهو أنَّ حزب الله وأعضاءه لا يدافعون عن لبنان كما يدَّعون، بل يشكِّلون منظمة إرهابية هدفها تنفيذ الأجندة الطائفية الخبيثة لإيران”(13).
لكن الموقف الفرنسي ذهب في اتجاه آخر؛ حيث حصل حزب الله وفقًا لمصادر وتقارير متقاطعة على تطمينات فرنسية حيال عدم استتباع الحكم الذي صدر بضغوطات دولية وقرارات تطبيقية تحت الفصل السابع لمجلس الأمن(14)، لكن من الصعب على الحزب تجنب تبعات الإدانة على مستوى علاقاته الدولية، وتحديدًا في حسم قرار دول كثيرة في العالم باتجاه اعتباره “إرهابيًّا” بكل أجنحته، السياسية والعسكرية والأمنية والخارجية أيضًا.
عمومًا، إن مواقف جميع القوى مرشحة للتغير خلال الفترة المقبلة، سيما أن المحكمة الخاصة بلبنان مستمرة وهناك العديد من الفرص أمام تغير في مسار استثمارها إقليميًّا ودوليًّا بدءًا من تاريخ إعلان العقوبة بحق المدان في 21 سبتمبر/أيلول 2020، وانتهاء بالأحكام الأخرى المرتقبة خلال الشهور المقبلة.
خاتمة
يبقى أن المحكمة الخاصة بلبنان لم تنته بعد، وستُعلن أحكامها في القضايا الأخرى التي تنظر فيها، ومن شأن ذلك إثارة المزيد من الاحتقان السياسي والتوتر المذهبي ضد “حزب الله”، لأن هناك من يراه “مسؤولًا عن سلسلة الاغتيالات السياسية” التي عصفت بالبلاد على مدى السنوات الماضية، وهزَّت استقرارها، على رغم أن حكم المحكمة حتى اللحظة اقتصر على إدانة عياش، أحد أنصاره، ولم يتهم الحزب ككيان.
تشمل قائمة ضحايا الاغتيالات، لبنانيين من مختلف الطوائف، وبعضهم ذو وزن سياسي، ما يرفع من احتمالات تأثير فترة المحاكمة وقرارات المحكمة في تقويض حظوظ بعض حلفاء الحزب بأية انتخابات مقبلة. يُساعد عامل الزمن وتجزئة الأحكام، رغم أن المتهم واحد ومشترك، على تأجيل الاستثمار السياسي المحتمل للأحكام، محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، وإبقاء الضغط قائمًا على التنظيم للحصول على تنازلات سياسية.
وأية إدانة مجددًا لعياش في القضايا المتبقية، قد ترفع منسوب التوتر الأمني أيضًا، كما حصل في 27 أغسطس/آب الجاري (2020)، حين اندلعت مواجهات عسكرية بين مناصري “حزب الله” من جهة، وبين عشائر عرب خلدة، على خلفية تعليق صورة لعياش في المنطقة.
ما زالت الساحة السياسية مفتوحة على التغيرات، سيما لو وافقت السلطة السياسية على إجراء انتخابات مبكرة، وهي من شأنها أن تُطيح بالغالبية التي جاءت بها عملية الاقتراع عام 2018، واعتُبرت أساسًا في اتهام “حزب الله” بالهيمنة على البلاد. كما أن دخول المجموعات والائتلافات المحسوبة على الثورة إلى البرلمان، سيرفع من الضغط السياسي على التنظيم، ويدفعه لتقديم تنازلات إلى شركائه التقليديين في السلطة.
يبقى أن المحكمة الخاصة بلبنان ستترك أثرًا على اللغة السياسية المستخدمة في توصيف “حزب الله” ودوره المفترض في الاغتيالات السياسية التي عصفت بالبلاد وأعادت تعريف السياسة فيها، بيد أن سلاح التنظيم كان خرج من التداول السياسي على مدى السنوات الماضية، نتيجة التوافقات السياسية، لكنه بات الآن في قلب النقاش الداخلي، لأسباب محلية وإقليمية.
- في صيف عام 2005، طلب رئيس لجنة التحقيق الدولية، القاضي الألماني ديتليف ميليس، اعتقال المدير العام السابق للأمن العام، اللواء جميل السيد، والمدير العام لقوى الأمن الداخلي السابق، اللواء علي الحاج، ومدير المخابرات السابق في الجيش، العميد ريمون عازار، وقائد الحرس الجمهوري حينها، العميد مصطفى حمدان. أمضى هؤلاء أقل من 4 سنوات في السجن، لكن أحدهم وهو جميل السيد، بقي ناشطًا إعلاميًّا وسياسيًّا؛ إذ انتُخب نائبًا عن البقاع، وبات أحد أبرز المتحدثين القريبين من “حزب الله”، في شأن المحكمة الخاصة بلبنان.
- جوني عبدو: المخابرات السورية واللبنانيَّة اغتالت الحريري، موقع يا بيروت نقلًا عن جريدة السياسة الكويتية، 28 أبريل/نيسان 2005، (تاريخ الدخول: 28 اغسطس/آب 2020): https://tinyurl.com/y4hee99d
- عبد الحميد الأحدب، اغتيال رفيق الحريري مرة ثانية في 18 آب، جريدة اللواء، 22 أغسطس/آب 2020، (تاريخ الدخول: 28 اغسطس/آب 2020): https://bit.ly/3gHHA2n
- النظام الأساسي، موقع المحكمة الخاصة بلبنان، (تاريخ الدخول: 26 أغسطس/آب 2020): https://bit.ly/2Ge3DkN
- وصف الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، عياشًا وبقية المتهمين في اغتيال الحريري بأنهم “أخوة” في حزب الله؛ ما يؤكد انتماءهم إلى التنظيم، (كشف وثائق جديدة عن المحكمة نصر الله: لن تكون فتنة في لبنان، موقع “الأخبار” اللبنانية، 4 يوليو/تموز 2011، (تاريخ الدخول: 29 أغسطس/آب 2020): https://al-akhbar.com/Politics/7977
- تنص المادة الثالثة على ما يأتي: 1- يتحمل الشخص مسؤولية فردية عن الجرائم الداخلة ضمن اختصاص المحكمة الخاصة إذا كان ذلك الشخص ضالعًا في أحد الأفعال التالية:
(أ) ارتكاب الجريمة المنصوص عليها في المادة ٢ من هذا النظام الأساسي أو المساهمة فيها كشريك أو تنظيمها أو توجيه الآخرين لارتكابها؛ أو
(ب) المساهمة بأي طريقة أخرى في ارتكاب الجريمة المنصوص عليها في المادة ٢ من هذا النظام الأساسي ضمن مجموعة من الأشخاص يعملون على تحقيق هدف مشترك، عندما تكون هذه المساهمة مقصودة أو يكون هدفها تصعيد النشاط الإجرامي العام للمجموعة، أو تحقيق هدف المجموعة أو معرفة المجموعة لارتكاب الجريمة.
2 – وفيما يتصل بالعلاقة بين الرئيس والمرؤوس، يتحمل الرئيس المسؤولية الجنائية عن أي من الجرائم المنصوص عليها في المادة ٢ من هذا النظام الأساسي، والتي يرتكبها مرؤوسون يخضعون لسلطته وسيطرته الفعليتين، نتيجة لعدم سيطرته سيطرة سليمة على هؤلاء المرؤوسين؛ حيث:
(أ) يكون الرئيس قد عرف أو تجاهل عن عمد أية معلومات تبين بوضوح أن مرؤوسيه يرتكبون أو هم على وشك أن يرتكبوا تلك الجرائم؛
(ب) تتعلق الجرائم بأنشطة تندرج في إطار المسؤولية والسيطرة الفعليتين للرئيس؛
(ج) لم يتخذ الرئيس جميع التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطته لمنع أو قمع ارتكاب مرؤوسيه لتلك الجرائم أو لعرض المسألة على السلطات المختصة للتحقيق والملاحقة القضائية.
3 – لا يُعفى مرتكب الجريمة من المسؤولية الجنائية لكونه تصرف بأمر من رئيسه، إلا أنه يجوز للمحكمة الخاصة أن تنظر في تخفيف العقوبة إذا رأت في ذلك استيفاء لمقتضيات العدالة. - الأمين العام لحزب الله يفند بالأدلة الموثقة والمصورة المسار والأهداف السياسية للجنة التحقيق والمحكمة الدولية منذ نشأتها، موقع المقاومة، 2 يوليو/تموز 2011، (تاريخ الدخول: 27 أغسطس/آب 2020): https://bit.ly/32F0mCG
- Man convicted in 2005 assassination of former Lebanese prime minister was part of a Hezbollah hit squad, officials say”, August 25, 2020, last visited: August 27, 2020, https://tinyurl.com/y2j9fmrz
- تردَّد على سبيل المثال في وسائل الإعلام اللبنانية أن الثنائي الشيعي، أي حركة أمل وحزب الله، قدما للحريري إغراءات منها تشكيل حكومة لا تمثيل لحزب الله فيها، انظر مثلًا هنا: موقع قناة إم تي في اللبناني، إغراءات للحريري… فهل يقبل؟، 28 أغسطس/آب 2020، (تاريخ الدخول: 28 أغسطس/آب 2020): https://bit.ly/31NDTEl
- بهاء الحريري لـ” The Globe and Mail”: نعمل لإيجاد رئيس حكومة قادر على مواجهة التحديات، موقع صوت بيروت إنترناشونال، 28 أغسطس/آب 2020، (تاريخ الدخول: 28 أغسطس/آب 2020): https://bit.ly/31GlglA
- “كلن يعني كلن” هو الشعار الأساس والأكثر شهرة في انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
- السعودية تشيد بالحكم وتدعو لمعاقبة حزب الله، موقع سكاي نيوز عربية، 18 أغسطس/آب 2020، (تاريخ الدخول: 29 أغسطس/آب 2020): https://bit.ly/3lBRUMS
- الولايات المتحدة ترحِّب بإدانة عضو في حزب الله بجريمة اغتيال الحريري، موقع يورونيوز، 19 أغسطس/آب 2020، (تاريخ الدخول: 29 أغسطس/آب 2020): https://bit.ly/34Pd6Jm
- مصادر دبلوماسية للجمهورية: تطمينات فرنسية لحزب الله بشأن الحكم في قضية الحريري، موقع النشرة الإلكتروني، 3 أغسطس/آب 2020، (تاريخ الدخول: 25 أغسطس/آب 2020): https://bit.ly/2QLm02h
رابط المصدر: