اعداد : د. عبدالعظيم حنفي – المركز الديمقراطي العربي
الملخص
تطرق هذه الدراسة، مسألة تعيين القضاة بالمحاكم العليا، وكذلك الاحكام القضائية الصادرة عنها في السنوات الأخيرة وما يرتبط بذلك من إشكاليات دستورية، وما تفضي إليه من واقع سياسي مأزوم، بل هناك من يرى ان هاتين المسألتين (تعيين القضاة بالمحاكم العليا، والاحكام القضائية) قادت المحكمة العليا الى أزمة شرعية. وعادة لا يكتسب تعيين هؤلاء القضاة والاحكام الصادرة عنهم اهتماماً كبيراً إلا في الأنظمة السياسية التي تتكافأ فيها موازين القوى بين مؤسساتها المختلفة في ظل نوع من الرقابة المتبادلة، بحيث لا يكون لسلطة واحدة اليد الطولي في رسم وإقرار السياسات. ولكن في ظل استقطاب سياسي حاد ومتفاقم جعل عملية التعيين لقضاة المحكمة العليا والاحكام الصادرة عنهم، تخضع للاعتبارات السياسية بشكل متزايد. ومن ثم تُعد المحكمة العليا الأمريكية أبرز نموذج يُمكن من خلاله إيضاح كيف تلعب السياسة دوراً وازِناً في النشاط القضائي.
المقدمة
ان المحكمة العليا الأميركية، هي قمة هرم القضاء الفيدرالي، وهي المحكمة الوحيدة التي أنشأها الدستور الأميركي، في حين عهد للكونجرس بإنشاء كل المحاكم الفيدرالية الأدنى. وبحكم انها أعلى هيئة قضائية في البلاد فهي تفصل خصوصا في المسائل الاساسية التي ينقسم حولها المجتمع الأمريكي. وتمثل المحكمة العليا الفرع الثالث من فروع الحكومة الأميركية الثلاثة ولها ثقل ومكانة متساويتان مع الفرع التنفيذي المتمثل بالرئيس والفرع التشريعي المتمثل بالكونجرس. ويشكل كل فرع من الفروع الثلاثة ضابطا ورقيبا على الفرعين الآخرين. وتحظى هذه المؤسسة بأهمية خاصة في البلاد، وتعد من أقوى المؤسسات فيها. وتكون عادة محل تجاذبات بين الديمقراطيين والجمهوريين.
وقد اثارت مسألة تعيين القضاة بالمحكمة العليا الامريكية العليا، والاحكام القضائية الصادرة عنها عددا من الإشكاليات الدستورية، والتداعيات السياسية والمجتمعية في ظل استقطاب سياسي حاد ومتفاقم قاد الى واقع سياسي مأزوم.
وقد زاد الصخب الدائر بالولايات المتحدة حول تلك المحكمة منذ اعلان حكم المحكمة العليا في 24 يونيو , 2022 , إلغاء حق المرأة في الإجهاض، باعتبار ان هذا الحكم المتعلق بالإجهاض هو بمثابة حكم تاريخي لأنه سيغير الحياة في أمريكا. كما يعنى ذلك الحكم إلغاء قضية “رو مقابل وايد” التاريخية، عام 1973 والتي نتجت عن حكم المحكمة العليا بأغلبية 7 أصوات مقابل 2، ويرقى حكم المحكمة، إلى تراجع شامل عن السابقة القانونية للمحكمة العليا.
وما سبقه من حكم المحكمة العليا في 23 يونيو 2022 بأن للمواطنين الحق في حمل مسدس في الأماكن العامة. وما لحقه من حكم المحكمة العليا في 30 يونيو 2022 يقيد من قدرات الإدارة الأميركية لمكافحة التغيرات المناخية عبر الحد من سلطات وكالة حماية البيئة لتنظيم انبعاثات الكربون من المصانع.
وفجرت تلك الاحكام الصادرة من المحكمة العليا التي يسيطر عليها المحافظون بنسبة ستة الى ثلاثة. تخوفا من تداعياته بعيدة المدى في المجتمع الامريكي. فالصراع السياسي الحالي، جوهره خشية جمهور واسع على مكتسباته، ورغبة قطاع آخر في إعادة صياغة الحياة الأميركية، ليس فقط فيما يتعلق بحقوق الأقليات والمرأة والعمال، وإنما على نحو يؤدي لاستعادة دور الدين في السياسة، بعد أن كانت المحكمة العليا ذاتها قد أسهمت في فصله عنها في جوانب عدة. وان تلك الاحكام بمثابة بداية فتح الباب لحدوث تحولات راديكالية ستؤدي، على الأرجح في نظر المعارضين ومعظمهم من الحزب الديمقراطي، للتراجع عن الكثير من المكتسبات التي حققتها الأقليات والمرأة والعمال منذ الستينيات.
مشكلة الدراسة:
تُعد الولايات المتحدة الأمريكية مثالاً نموذجياً لتحرير فترة خدمة القضاة بالمحاكم العليا من أي قيد زمني؛ إذ أجدب الدستور الأمريكي عن ثمة نص يضع حداً أقصى من السنوات لخدمة قضاة المحكمة العليا[1] . وقد أدى عدم وضع سقف زمني لخدمة قضاة المحكمة العليا أن تسللت الاعتبارات السياسية إلى عملية ترشيح الرئيس الأمريكي لأي قاضٍ للالتحاق بالمحكمة، وكذا تصديق مجلس الشيوخ على هذا الترشيح. فأهمية العضوية بالمحكمة العليا وخطورة الدور السياسي الذي قُدر للمحكمة أن تلعبه في الواقع الأمريكي جعلت من تعيين أحد القضاة بها مغنماً سياسياً كبيراً [2] ومما لا شك فيه أن استمرار عضوية القاضي بالمحكمة مدى حياته يعني عملاً تزايد احتمالات سيطرة أغلبية معينة داخل المحكمة لفترات طويلة، قد تمتد لعقود. ونتيجة كهذه تضمن لتيار سياسي معين الغلبة داخل المحكمة ومن ثم الاحكام القضائية الصادرة عنها ، حتى وإن ترك الرئيس الأمريكي منصبه أو تغيرت الأغلبية بالكونجرس مع كل انتخابات رئاسية أو تشريعية، وهو أمر قد تكون له آثار كبيرة على علاقة المحكمة بأحدهما أو كليهما.مما يجعل شرعية تلك المحكمة على المحك .
ومن ثم فإن إشكالية الدراسة يمكن صياغتها عبر التساؤل التالي:
كيف تلعب السياسة دوراً وازِناً في اختيار قضاة المحكمة العليا وفي احكامها؟ وما تداعيات ذلك, على شرعيتها والتداعيات بعيدة المدى في المجتمع الامريكي؟
أهداف الدراسة:
تسعى هذه الدراسة لبحث وتحليل مسألة تعيين القضاة بالمحاكم العليا واحكامها، وما يرتبط بذلك من إشكاليات دستورية، وما تفضي إليه هذه الإشكاليات من واقع سياسي مأزوم.
أهمية الدراسة
تكتسب تلك الدراسة أهميتها نظرا لأن المحكمة العليا الأميركية، هي قمة هرم القضاء الفيدرالي، وهي المحكمة الوحيدة التي أنشأها الدستور الأميركي، في حين عهد للكونجرس بإنشاء كل المحاكم الفيدرالية الأدنى. وكذلك نظرا الى الدور الخطير الذي تلعبه المحكمة العليا في ترتيب مجمل الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة الامريكية.
تساؤلات الدراسة
تسعى هذه الدراسة للإجابة على التساؤلات التالية
- ما مدى أهمية المحكمة العليا في الدستور الأمريكي وخطورة انخفاض سقف شرعيتها السياسية ؟
2 – ما هي العلاقة بين الاستقطاب السياسي المتفاقم في الولايات المتحدة الامريكية ، وتسييس عملية اختيار القضاة ؟
3 – ما هي الطرق المقترحة للقيام بإصلاح المحكمة العليا ؟ وما أسباب اخفاق تلك المحاولات ؟
اقتراب الدراسة :
إن قيمة وأهمية أي اقتراب تكمن فى مدى ارتباطه بالظاهرة موضع البحث .
يرى “ديفيد إيستون” – وهو الذى قدم اقتراب النظم – إن أى نظام سياسى يتعرض إلى مجموعة من العوامل أولها : المدخلات والتى تتمثل أساساً فى التأييد الذى يلقاه النظام والمطالب المقدمة إليه ، ثانيها : المخرجات والتى تعبر عن مدى استجابة النظام للمطالب المقدمة إليه، وهذه المخرجات قد تكون إيجابية أو سلبية ، ثالثها : التغذية العكسية وتشير إلى تدفق المعلومات من البيئة الى النظام السياسي عن نتائج أفعاله والآثار التى أحدثتها قراراته وسياساته وهى التى تربط المدخلات بالمخرجات فى عملية مستمرة وفى كثير من الاحيان لا يكون هناك توازن بين مدخلات النظام ومخرجاته الامر الذى يؤدى الى مشكلات فى شرعيته ، وهذا الاقتراب يتعرض للنظام السياسي وما قد يعتريه من تغييرات بفعل عمليات تتولد داخل النظام ذاته أو بفعل الاستجابة لتعديل فى الظروف البيئية وتعتبر شرعية المحكمة العليا كأحد اهم المخرجات الناتجة عن إشكاليات تعيين القضاة واحكام المحكمة العليا الامريكية و كذلك التداعيات بعيدة المدى في المجتمع الامريكي
أولا شرعية النظام السياسي الأمريكي
ان الشرعية مفهوم سياسي مركزي مستمد من كلمة “شرع” (قانون أو عرف معتمد وراسخ. ديني أو مدنى ) يرمز الى العلاقة القائمة بين الحاكم والمحكوم المتضمنة توافق العمل أو النهج السياسي للحكم مع المصالح والقيم الاجتماعية للمواطنين بما يؤدى إلى القبول الطوعي من قبل الشعب بقوانين وتشريعات النظام السياسي .وهكذا الشرعية علاقة تبادلية بين الحاكم والمحكومين (ماكس فيبر) ذلك أنه مقابل طاعة المحكومين للأوامر الصادرة عن السلطة، يقوم الحاكم بتقديم الدليل على قدرته على خدمة شعبة عامة وفى الأوقات الحرجة خاصة .[3]
ليبست ” يعرف الشرعية بأنها قدرة النظام على توليد الاعتقاد بأن المؤسسات السياسية القائمة هي الأكثر ملاءمة للمجتمع. في حين يرى “جوان لينز” أن الشرعية هي ” الاعتقاد بأنه رغم الإخفاقات والآثار الجانبية فإن المؤسسات السياسية القائمة أفضل من غيرها ومن ثم فهي تتطلب الطاعة أما عند “الموند” و”باول” فإن الشرعية. تعنى “شيوع الاعتقاد بأن السلطة القائمة تملك وحدها الحق في استخدام القوة المادية أو الإكراه [4].وقد ذهب ماكيفر إلى القول إن ” الشرعية تتحقق حينما تكون إدراكات النخبة الحاكمة لنفسها وتقدير غالبية المجتمع لها متطابقين وفى توافق عام مع القيم والمصالح الأساسية للمجتمع وبما يحفظ للمجتمع تماسكه. [5] أما ماكس فيبر” فيقول : يكون النظام الحاكم شرعيا عند الحد الذي يشعر مواطنوه أن ذلك النظام صالح ويستحق التأييد والطاعة[6]
وأكثر أنواع التأييد استقرارا هو ذلك النوع المستمد من إيمان الأفراد بأن من واجبهم قبول وطاعة الحاكم والالتزام بأهداف النظام السياسي كما لو كانت مطابقة لمبادئهم وقيمهم ولما هو صحيح ومحق في المجال السياسي [7] . فالنظام السياسي في محاولته امتلاك زمام الأمور والقدرة على مواجهة تحديات الحكم، تختلف قدرته وكفاءته اختلافا كبيرا بين حالة يكون فيها الناس معه وحالة يكون فيها الناس ضده بالاعتراض والرفض والمقاومة , أو بالسلبية والإهمال وعدم التفاعل معه [8].وبحسب اجتهادنا ان الشرعية لا يقررها التأييد أو المعارضة فحسب , فقد يجد المحكومون أن من المقبول لديهم والمناسب لهم أن يطيعوا إرادة النظام السياسي القائم لكونها تتسق مع قيمهم ومبادئهم وأخلاقياتهم وأمانيهم , ولكن ليس لمنفعة شخصية مباشرة أو لمصالح ذاتية فردية , بل بمعنى المنفعة العامة وعلى المدى الطويل , والشرعية بهذا المعنى أوسع من التأييد أو المعارضة , إذ قد يكون هناك من يعارض السلطة , وقد يتذمر الناس من بعض قراراتها وسياساتها , ولكن هذه أمور طبيعية , بل وحتمية لا تنفي الشرعية طالما شعر المواطنون أن السلطة في توجهها العام سلطة وطنية منسجمة مع التاريخ الوطني للبلد , ومخلصة بوجه أعم لإرادة الشعب وللقيم العامة التي تربط أبناء الوطن الواحد بعضهم ببعض[9]
ويستند النظام السياسي الأمريكي في شرعيته السياسية على حكم المؤسسات او الشرعية البنيوية عبر تحديد واضح ومفصل للحقوق والواجبات يجعل مبادرات الحكم قابلة للتوقع لأنها مشروطة فى اصولها وفى نتائجها بشبكة من القوانين المعروفة والمتفق عليها . ان عملية اضفاء الطابع المؤسسي هى عملية بنى عليها كثير من المفكرين مثل صامويل هنتنجتون ” جل تفكيره بالسياسة وقد حددها بأنها العملية التى يكتسب مسار المؤسسات والمعاملات القانونية من خلالها استقرارا وقيمة لذاتها.[10]. ويسمي غالبية المحللين مصدر الشرعية هذا بالحكم الصالح وأساسه العناصر الآتية: أولاً: مؤسسات مجتمعية قوية. ثانياً: التوازن بين المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية. ثالثاً: يتم التوازن من خلال شبكة متينة من علاقات الضبط (الرقابـــــــة)Regulation والمساءلة Accountability. رابعاً: تضمن فعالية الضبط شفافية الحكم الأمر الذي ييسر المساءلة بما يضمـــن احترام المصلحة العامة. والحكم الصالح وفقا لهذا لا موضع فيه لعدم الموالاة بما يكفل تحقيق الرضاء العام من غالبية المواطنين وهذه المؤسسات تتفاعل في محيط خارجي إقليمي وعالمي تتأثر به حسب ظروف كل مجتمع.
ثانيا الدستور الأمريكي في جوهره نظاما من المراجعات والتوازنات
ان الدستور الأمريكي في جوهره نظاما من المراجعات والتوازنات، فقد بدا جليا ضرورة وجود سلطة تنفيذية فعالة من اجل توفير الامن والحماية بجانب أشياء أخرى . ولكن الأمريكيين لم يرغبوا في حاكم ذي سطوة يسيطر على النظام التشريعي ويضع المحاكم في قبضته .واستمر الشعور بعدم الثقة طاغيا لدرجة ان القائمين على السلطة التنفيذية باتوا محاطين بسياج من المعوقات . كان هذا هو جوهر مبدأ فصل السلطات, والذي اشترط ان تكون صلاحيات السلطة التنفيذية والسلطة القضائية والسلطة التشريعية في الحكومة مستقلة عن بعضها البعض ومتكافئة في آن واحد . فقد عمل الإباء المؤسسون على إقامة جهاز حكومي قويعبر ثلاث أنواع مختلفة من السلطات في الحكومة, كل منها مساو للآخر ومتسق معه وهي السلطة التشريعية , والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية, تعمل معا في نظام وترابط يتحقق بهما تآلفها, وفي توازن يحول دون طغيان احداها على الأخرى , وكان هذا الراي الذي طلع به علينا القرن الثامن عشر في توازن القوى, مستفيد من تجارب المستعمرات ومدعم بما انطوت عليه كتابات لوك ومونتسكيو. ورأوا بالنسبة للمحكمة العليا ان يوكل تعيين قضاتها الى الرئيس بمشورة مجلس الشيوخ وموافقته، ويظل تعيينهم قائما مدى الحياة . .” وهكذا انشأوا اعقد نوع من الحكومات فكل فرع من الفروع الثلاثة مستقل عن الاخر , متسق معه, وان كان يخضع لرقابة الفرعين الآخرين, فقرارات الكونجرس لا تصبح قانونا نافذا ما لم يقرها الرئيس, كذلك على الرئيس ان يتقدم بمعظم ما يصدره الرئيس من قرارات وكافة ما يعقد من معاهدات الى مجلس الشيوخ. وللكونجرس الاعتراض عليها او رفضها. ويحق للسلطة القضائية وعلى رأسها المحكمة العليا النظر في جميع المسائل الواقعة تحت طائلة القانون والدستور. ومن ثم فلها حق تفسير القانون العام والقوانين التي تصدرها المجالس التشريعية. ويتولى الرئيس تعيين رجال القضاء بقرارات يصدق عليها كمجلس الشيوخ ولكن تعيينهم قد يعترض عليه الكونجرس.
ثالثا مؤسسة المحكمة العليا الامريكية قمة هرم القضاء الفيدرالي
وفق الدستور الأمريكي، فإن المحكمة العليا الأميركية، هي قمة هرم القضاء الفيدرالي، وهي المحكمة الوحيدة التي أنشأها الدستور الأميركي، في حين عهد للكونجرس بإنشاء كل المحاكم الفيدرالية الأدنى. وهي تمثل الفرع الثالث من فروع الحكومة الأميركية الثلاثة ولها ثقل ومكانة متساويتان مع الفرع التنفيذي المتمثل بالرئيس والفرع التشريعي المتمثل بالكونجرس. ويشكل كل فرع من الفروع الثلاثة ضابطا ورقيبا على الفرعين الآخرين. وتعمل المحكمة العليا ضمن مفهومها الواسع على البت في قضيتين هما: المسائل المتعلقة بدستور الولايات المتحدة ولذا فهي تعتبر حارسة الدستور، وفي أحيان نادرة بالقضايا المتعلقة بالحدود القانونية بين ولايات البلاد الخمسين – وهو انعكاس لما كانت عليه البلاد عندما بدأت بثلاث عشرة مستعمرة في القسم الشرقي من الولايات المتحدة. وتنظر المحكمة العليا في حالات نادرة في قضايا تتعلق بخلافات بين الولايات المتحدة ودول أخرى. كما تعمل المحكمة العليا كصانع للسياسة. وهذا ناجم عن كونها تفسّر القانون. فقضايا السياسة العامة تُعرض على المحكمة على شكل نزاعات قانونية يجب حلّها. كتب قاضي المحكمة العليا تشارلز إيفانز هيوز.”أن هذه المحكمة “أميركية بامتياز من حيث فكرتها ووظيفتها، وهي لا تدين بكثير للمؤسسات القضائية السابقة”. لأجل فهم ما الذي قصده واضعو الدستور بالنسبة للمحكمة، يجب أخذ مفهوم أميركي آخر بعين الاعتبار: الشكل الفدرالي للحكومة. لقد استشرف المؤسسون في آن واحد قيام حكومة قومية وحكومات للولايات؛ وكان على محاكم الولايات التقيد بالقوانين الفدرالية. غير أن التفسير النهائي (الفاصل) للقوانين الفدرالية لم يمكن تركه لمحاكم الولايات ولا، وحتماً، لمحاكم عدة ولايات قد تأتي أحكامها غير متوافقة. وهكذا، أصبح على المحكمة العليا أن تفسر التشريعات الفدرالية. تمثلت إحدى النوايا الأخرى للمؤسسين بأن تتمكن المحكمة العليا من الحكم مباشرة بشأن المواطنين الأفراد كما وبخصوص أي ولاية من الولايات. وقد كتب رئيس القضاة روبرتس يقول: “إن الذين من بيننا قد حظوا بالامتياز العالي للخدمة في أروقة المحكمة العليا يدركون أن المحكمة كسبت احترام مواطني البلاد من خلال الالتزام بالمبادئ التي كانت الدافع وراء صدور إعلان استقلال الولايات المتحدة، والتي يجسّدها دستورها الذي لا يزال مستمراً في توحيد الشعب الأميركي”. ويتابع قائلاً: “يحدوني الأمل بأن تكون تلك المبادئ الثورية، التي تشكل الأساس للديمقراطية الراسخة للولايات المتحدة، هي مصدر إلهام للدول الأخرى في سائر انحاء العالم.”[11]
ومنذ سنة 1789، جلس 113 رجال 5 سيدات على منصة أعلى محكمة قضائية في أميركا.
مؤهلات القضاة الفدراليين
على الرغم من غياب المؤهلات الرسمية لوظيفة القضاة الفدراليين، هناك متطلبات غير رسمية محددة جيداّ.
المؤهلات الرسمية
لا وجود لمؤهلات دستورية أو قانونية منصوص عنها للخدمة في المحكمة العليا أو في المحاكم الفدرالية الأدنى. يشير الدستور فقط إلى أن “السلطة القضائية للولايات المتحدة يجب أن تُسند إلى محكمة عليا واحدة”، كما وإلى أي من المحاكم الفدرالية الدنيا التي قد يؤسسها الكونجرس [12]؛ والى أن الرئيس “بواسطة ومع مشورة وموافقة مجلس الشيوخ، يجب أن يُعيّن… قضاة المحكمة العليا” [13] . طبق الكونجرس إجراءات التعيين نفسها على محاكم الاستئناف ومحاكم الموضوع. ليس هناك شرط بإجراء امتحان، أو شروط سن دنيا، أو بنود تقضي بوجوب أن يكون القضاة مواطنين من مواليد البلاد أو مقيمين قانونيين، ولا شروط حتى لأن يكون القضاة من حملة شهادة في الحقوق.
الشروط غير الرسمية
تُحدد على الأقل أربعة عوامل حيوية، ولو غير رسمية، من سيجلس على مِنصّة المحاكم الفدرالية في أميركا: الكفاءة المهنية، والمؤهلات السياسية، والاختيار الذاتي، وعنصر الحظ.
رابعا اشكالات تعيين القضاة بالمحكمة العليا في ظل الاستقطاب السياسي الحاد رئيس الولايات المتحدة وترشيح قضاة المحكمة العليا
تقنياً، يُسمي الرئيس جميع المرشحين القضائيين[14]، لكن الرئيس التنفيذي كان، تاريخياً، يهتم أكثر بتعيينات المحكمة العليا من التعيينات في المحاكم الدنيا، ولهذا سببان رئيسيان.
ينظر الرئيس – وعامة الناس – إلى التعيينات في المحكمة العليا، بوجه عام، على أنها أكثر أهمية وأكثر مغزى، سياسياً، من مقاعد المحاكم الأدنى. يستخدم الرؤساء أحياناً كثيرة فرصهم القليلة للتعيينات في المحكمة العليا لإظهار موقفهم السياسي أو لتحديد نهج إدارة الرئيس. مثلاً، خلال فترة الضيق القومية قبيل دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، رفع الرئيس الديمقراطي فرانكلن د. روزفلت الجمهوري هارلان فيسك ستون إلى رتبة رئيس المحكمة العليا كإشارة إلى الوحدة الوطنية. سنة 1969، استخدم الرئيس ريتشارد نيكسون تعيينه للقاضي المحافظ وارن بيرغر للإيفاء بتعهدّه خلال حملته في إعادة فرض “القانون والنظام”. وأمل الرئيس رونالد ريجان، سنة 1981، في تبديد سمعته بأنه غير متعاطف مع الحركة النسائية، إذ كان أول من عيّن امرأة في المحكمة العليا.
السبب الثاني لتكريس الرؤساء مزيداً من الاهتمام لتعيينات المحكمة العليا واهتماماً أقل بالمحاكم الأدنى هو أن التقاليد سمحت لأعضاء مجلس الشيوخ ولقادة الحزب المحليين بالتأثير، وأحياناً كثيرة بالسيطرة، على تعيينات المحاكم الدنيا. هذه الممارسة، المعروفة بمجاملة مجلس الشيوخ، هي جزء من عملية تعيين قضاة المقاطعات. بموجب مبدأ المجاملة هذا، يتم سؤال أعضاء مجلس الشيوخ المنتمين إلى حزب الرئيس، والذين هم من ولاية المرشح للمنصب القضائي، عن رأيهم بالمرشح من جانب اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ. في إدلائهم بوجهات نظرهم حول مرشح مُعيّن، يكون هؤلاء الشيوخ في وضع يتيح لهم عملياً نقض التعيين. مجاملة مجلس الشيوخ لا تنسحب على التعيينات في محاكم الاستئناف علماً أنه من الدارج بالنسبة للرئيس الامتثال لشيوخ حزبه من الولايات التي تتشكل منها محكمة الاستئناف الدورية.
يستخدم الرؤساء أحياناً كثيرة فرصهم القليلة للتعيينات في المحكمة العليا لإظهار موقفهم السياسي أو لتحديد نهج إدارة الرئيس. مثلاً، خلال فترة الضيق القومية قبيل دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، رفع الرئيس الديمقراطي فرانكلن د. روزفلت الجمهوري هارلان فيسك ستون إلى رتبة رئيس المحكمة العليا كإشارة إلى الوحدة الوطنية. سنة 1969، استخدم الرئيس ريتشارد نيكسون تعيينه للقاضي المحافظ وارن بيرغر للإيفاء بتعهدّه خلال حملته في إعادة فرض “القانون والنظام”. وأمل الرئيس رونالد ريجان، سنة 1981، في تبديد سمعته بأنه غير متعاطف مع الحركة النسائية، إذ كان أول من عيّن إمراة في المحكمة العليا ساندرا داي أوكونور. وقيام ترامب بتعيين ثلاثة قضاة محافظين. ونلاحظ أنه عادة ما يميل مجلس الشيوخ إلى مجادلة الرئيس، إذا نشأ خلاف حول أهلية مرشح ما للمحكمة العليا. منذ سنة 1789، أرسل الرؤساء أسماء 144 مرشحاً للمحكمة العليا إلى مجلس الشيوخ لأخذ مشورته وموافقته. من ضمن هذا العدد، كان هناك 30 مرشحاً “رُفضوا” أو “تأجّل البحث بشأنهم إلى ما لا نهاية” على يد مجلس الشيوخ، أو تم سحب أسمائهم من جانب الرئيس. وهكذا يكون الرؤساء قد نجحوا في حوالي 79 بالمئة من الأوقات، كما يبدو أن مُعدّل نجاحهم على تحسن، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن قرابة ثلث المرشحين كان قد تم رفضهم من جانب مجلس الشيوخ في القرن التاسع عشر. تُظهر السجلات أن الرؤساء حققوا أفضل النجاحات في تثبيت تعييناتهم في المحكمة العليا عندما جاء المرشحون من خلفيات غير قابلة للجدل، وعندما كانت ميولهم السياسية وسطية، وعندما كان حزب الرئيس مسيطراً أيضاً على مجلس الشيوخ .
وزارة العدل
الذين يساعدون الرئيس وموظفي البيت الأبيض في عملية الاختيار القضائي هما مسؤولان يعينهما الرئيس في وزارة العدل، وهما وزير العدل في الولايات المتحدة، ونائب وزير العدل. تكون وظيفتهما الأولية السعي للعثور على مرشحين للمناصب القضائية الفدرالية يتناسبون مع المعايير العامة التي وضعها الرئيس.
مجموعات المصالح
كثيراً ما يحاول عدد من مجموعات الضغط في الولايات المتحدة، من كامل الطيف السياسي اليساري واليميني، الدفاع عن أو معارضة التعيينات القضائية. قلّما يتردّد قادة تلك المجموعات، مثل مجموعات الحريات المدنية، والأعمال، والاتحادات العمالية والحقوق المدنية في حثّ الرئيس على سحب اسم مرشح تختلف قيمه السياسية والاجتماعية عن قيمهم، أو في الضغط على مجلس الشيوخ لتأييد تعيين مرشح يعتبرونه مناصراً لهم. تضغط مجموعات المصالح لصالح أو ضد المرشحين على جميع مستويات القضاء الفدرالي..
جمعية المحامين الأميركيين (ABA)
لعبت لجنة القضاء الفدرالي التابعة لجمعية المحامين الأميركيين، طيلة أكثر من خمسة عقود، دوراً أساسياً في تقييم الصفات المهنية للمرشحين المحتملين لمناصب المحاكم الفدرالية.
لجنة مجلس الشيوخ القضائية
تفرض قواعد مجلس الشيوخ على لجنته القضائية دراسة جميع التعيينات إلى المحاكم الفدرالية، وتقديم توصيات إلى مجلس الشيوخ بمجمله. وهكذا تتحدد وظيفة اللجنة في غربلة الأفراد الذين تم ترشيحهم لا في أن تقترح أسماء مرشحين محملين.
مجلس الشيوخ
الخطوة الأخيرة في عملية التعيينات القضائية بالنسبة للقضاة الفدراليين هي التصويت على التعيين بالأكثرية لدى مجلس الشيوخ. تاريخياً، سادت وجهتا نظر عامتان حول الدور المعهود إلى مجلس الشيوخ. اتخذ الرؤساء منذ أيام جورج واشنطن وعدد قليل من الباحثين موقفا يتمثل في أن مجلس الشيوخ عليه أن يتماشى بسلاسة مع خيارات الرئيس، إلا إذا كانت هناك أسباب قوية فعلاً تدعو لغير ذلك. الباحثون الآخرون، ومعظم أعضاء مجلس الشيوخ، تمسكوا بالرأي القائل إن لمجلس الشيوخ حقا وواجبا في اتخاذ قراره الخاص المتعلق بالتعيينات. في الممارسة، تَباين دور مجلس الشيوخ في عملية تثبيت القضاة طبقاً لمستوى المنصب القضائي الفدرالي المعني.
ومجلس الشيوخ عادة ما يميل إلى مجادلة الرئيس، إذا نشأ خلاف حول أهلية مرشح ما للمحكمة العليا. منذ سنة 1789، أرسل الرؤساء أسماء 144 مرشحاً للمحكمة العليا إلى مجلس الشيوخ لأخذ مشورته وموافقته. من ضمن هذا العدد، كان هناك 30 مرشحاً “رُفضوا” أو “تأجّل البحث بشأنهم إلى ما لا نهاية” على يد مجلس الشيوخ، أو تم سحب أسمائهم من جانب الرئيس. وهكذا يكون الرؤساء قد نجحوا في حوالي 79 بالمئة من الأوقات، كما يبدو أن مُعدّل نجاحهم على تحسّن، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن قرابة ثلث المرشحين كان قد تم رفضهم من جانب مجلس الشيوخ في القرن التاسع عشر. تُظهر السجلات أن الرؤساء حققوا أفضل النجاحات في تثبيت تعييناتهم في المحكمة العليا عندما جاء المرشحون من خلفيات غير قابلة للجدل، وعندما كانت ميولهم السياسية وسطية، وعندما كان حزب الرئيس مسيطراً أيضاً على مجلس الشيوخ، أو، على الأقل، عندما كانت أكثرية تشاطر الرئيس مواقفه وقيمه الأساسية.
وقد أرسى جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة، تقليدين هامين عندما عيّن أول قضاة للمحكمة العليا. فكان أول من بدأ الممارسة المتبعة في تعيين قضاة المحكمة من بين الذين كان على توافق سياسي معهم. قام واشنطن، الرئيس الوحيد الذي حاز على فرصة تعيين كامل هيئة القضاة الفدراليين، بإملاء جميع المناصب القضائية الفدرالية، دون استثناء، من أعضاء أوفياء في الحزب الفدرالي. ومن ناحية ثانية، شكّل القضاة الذين عينهم واشنطن، تقريباً، تمثيلاً متساوياً للمناطق الجغرافية في المحاكم الفدرالية. فالستة الأوائل الذين عيّنهم في المحكمة العليا ضموا ثلاثة شماليين وثلاثة جنوبيين
خامسا المحكمة العليا مؤسسة محل تجاذبات بين الديمقراطيين والجمهوريين
ربما كان لا بد من أن تثير المحكمة جدلاً كبيراً. قال تشارلز وارن، الباحث الطليعي في موضوع المحكمة العليا: “ما من شيء في تاريخ المحكمة مُلفت أكثر من أنه، في حين أدرك أصحاب الفكر والوطنيون وقعها الهام واللازم في شكل الحكومة الفدرالي إلا أنه، ما من فرع حكومي، وما من مؤسسة بموجب هذا الدستور، تعرضت لهجمات متواصلة أكثر، ولا استطاعت ان تبلغ منزلتها الحالية عقب معارضة لها أكثر ضراوة.”.[15]
ان الصخب والجدال الدائرين بالولايات المتحدة حول المحكمة ومستقبلها والمطالبات بإصلاحها ، مصدره الدور الخطير الذي تلعبه المحكمة في ترتيب مجمل الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وقد احتدم الجدل حول المحكمة العليا، بعد ترشيح الرئيس الجمهوري دونالد ترامب لثلاثة قضاة محافظين وتثبيتهم من قبل مجلس الشيوخ. مما أدى الى ان يكون للمحافظين ستة أعضاء مقابل ثلاثة أعضاء للديمقراطيين مما أخل بالتوازن الأيديولوجي في المحكمة العليا. وهو امر ستكون له تداعياته بعيدة المدى. فالصراع السياسي الحالي، جوهره خشية جمهور واسع على مكتسباته، ورغبة قطاع آخر في إعادة صياغة الحياة الأميركية، ليس فقط فيما يتعلق بحقوق الأقليات والمرأة والعمال، وإنما على نحو يؤدي لاستعادة دور الدين في السياسة، بعد أن كانت المحكمة العليا ذاتها قد أسهمت في فصله عنها في جوانب عدة.
قبل نحو القرنين تقريباً، كتب المفكر الفرنسي ألكسيس دي توكفيل، الدارس الشهير للحياة والعادات الأميركية يقول إنه “بالكاد توجد اي مسألة سياسية في الولايات المتحدة لا تتحول عاجلاً أو آجلاً إلى مسألة قضائية.” [16] ولا زال هذا القول صحيحاً حتى يومنا هذا، وطرح مأزقاً فريداً للمحاكم الأميركية. كيف يستطيع القضاة أن يحلوا مسائل هي بطبيعتها سياسية أكثر من كونها قانونية? من حيث الإطار القانوني، يحدد الدستور الاميركي دوراً مركزياً للمحكمة العليا في نظام حكم الولايات المتحدة. وقد أنشأ الدستور المحكمة كهيئة قضائية مستقلة تصدر أحكامها بمعزل عن تأثير الرأي الشعبي والفروع المتقابلة للحكومة. بدلاً من ذلك، تلتزم المحكمة بمبدأ الإخلاص للقانون بالذات. يفرض الدستور على المحكمة اتخاذ الحكم في النزاعات، بغض النظر عن هويات الفرقاء، استناداً إلى ما يفرضه الدستور والقوانين النافذة.
سادسا المحكمة العليا كصانع للسياسة
تعمل المحكمة العليا كصانع للسياسة. وهذا ناجم عن كونها تفسّر القانون. فقضايا السياسة العامة تُعرض على المحكمة على شكل نزاعات قانونية يجب حلّها. كتب قاضي المحكمة العليا تشارلز إيفانز هيوز.”أن هذه المحكمة “أميركية بامتياز من حيث فكرتها ووظيفتها، وهي لا تدين بكثير للمؤسسات القضائية السابقة”. لأجل فهم ما الذي قصده واضعو الدستور بالنسبة للمحكمة، يجب أخذ مفهوم أميركي آخر بعين الاعتبار: الشكل الفدرالي للحكومة. لقد استشرف المؤسسون في آن واحد قيام حكومة قومية وحكومات للولايات؛ وكان على محاكم الولايات التقيد بالقوانين الفدرالية. غير أن التفسير النهائي (الفاصل) للقوانين الفدرالية لم يمكن تركه لمحاكم الولايات ولا، وحتماً، لمحاكم عدة ولايات قد تأتي أحكامها غير متوافقة. وهكذا، أصبح على المحكمة العليا أن تفسر التشريعات الفدرالية. تمثلت إحدى النوايا الأخرى للمؤسسين بأن تتمكن المحكمة العليا من الحكم مباشرة بشأن المواطنين الأفراد كما وبخصوص أي ولاية من الولايات. وقد كتب رئيس القضاة روبرتس يقول: “إن الذين من بيننا قد حظوا بالامتياز العالي للخدمة في أروقة المحكمة العليا يدركون أن المحكمة كسبت احترام مواطني البلاد من خلال الالتزام بالمبادئ التي كانت الدافع وراء صدور إعلان استقلال الولايات المتحدة، والتي يجسّدها دستورها الذي لا يزال مستمراً في توحيد الشعب الأميركي”. ويتابع قائلاً: “يحدوني الأمل بأن تكون تلك المبادئ الثورية، التي تشكل الأساس للديمقراطية الراسخة للولايات المتحدة، هي مصدر إلهام للدول الأخرى في سائر انحاء العالم.” دور المحكمة العليا كصانع للسياسة ناجم عن كونها تفسّر القانون. فقضايا السياسة العامة تُعرض على المحكمة على شكل نزاعات قانونية يجب حلّها.
يمكن العثور على مثال ممتاز عن ذلك في مجال المساواة العرقية. في أواخر الثمانينات من القرن التاسع عشر، سنّت عدة ولايات قوانين تطالب بالتفرقة بين الأميركيين الإفريقيين وبين البيض في المرافق العامة. سنة 1890، مثلاً، سنّت ولاية لويزيانا قانوناً يطالب بمقاعد منفصلة ولكن متساوية في السكك الحديدية لكل من الأميركيين الإفريقيين والبيض. وبعد عامين ظهر التحدي. اعترض هومر بليسّي الذي كان أسود بنسبة الثِمْن، على قانون لويزيانا رافضاً الانتقال من العربة البيضاء في القطار المسافر من نيو أورليانز إلى كوفنغتون بولاية لويزيانا. بعد توقيفه وتوجيه التهمة إليه بانتهاك القانون، أعلن بليسّي أن القانون كان غير دستوري. أيدّت المحكمة العليا الأميركية، في قضية بليسّي ضد فرغوسون (1896) قانون لويزيانا. وهكذا، أرست المحكمة سياسة “منفصل ولكن متساوي” التي ظلت سائدة حوالي 60 عاماً. خلال تلك الفترة، طالبت عدة ولايات بأن تجلس الأعراق، المختلفة في أماكن مختلفة في الحافلات، والقطارات، وفي صفوف الانتظار، والمسارح؛ وأن تستخدم حمامات مختلفة؛ وأن تشرب من صنابير مياه مختلفة. كان الأميركيون الإفريقيون أحياناً يُستبعدون من المطاعم والمكتبات العامة. ولعل الأهم من ذلك، أنه كان على الطلاب الأميركيين الإفريقيين أن يلتحقوا بالمدارس الأدنى مستوى.
أتى الاعتراض على فصل الاعراق في المدارس الرسمية من خلال القضية الشهيرة براون ضد مجلس التعليم (1954). ادعى ذوو تلامذة مدارس أميركيين إفريقيين أن قوانين الولايات التي تطالب او تسمح بالتفرقة تحرمهم من الحماية المتساوية للقانون بموجب التعديل الرابع عشر للدستور. قررت المحكمة العليا أن المرافق التربوية المنفصلة هي غير متساوية أصلاً، وبالتالي، فإن التفرقة تشكل إنكاراً للحماية المتساوية. ففي قرار براون، دفنت المحكمة نهائياً مبدأ “منفصل لكن متساوي”، وأرست سياسة الاندماج العنصري في المدارس الرسمية.
كانت المحكمة تصدر أحكاماً خلال سنة واحدة عادية، ترافقها آراء قضائية موقعة، تعود لما بين 80 و90 قضية. وكانت هناك ألوف القضايا الأخرى التي كانت تبت بأمرها بأقل من معالجة كاملة. وهكذا، كانت المحكمة تحكم بالتفصيل في مجموعة مختارة جداً من القضايا السياسية، والتي تبدّلت خلال تاريخ المحكمة. في الأنظمة الديمقراطية، من المفترض أن يُترك أمر القضايا السياسية العريضة إلى ممثلي الشعب المنتخبين، وليس إلى مُعينين قضائيين لمدى الحياة. وهكذا، ومن حيث المبدأ، ليس من المفترض أن يُحدد القضاة السياسة. لكن، في الواقع، لم يكن بوسع القضاة سوى صوغ السياسة إلى حدّ ما.
غير أن المحكمة العليا تختلف عن كل من صنّاع السياسة التنفيذيين والتشريعيين. المهم بنوع خاص هنا، أنه ليس لدى المحكمة أي أداة للمبادرة. فعلى القضاة انتظار أن يؤتى إليهم بالقضايا؛ إذ لا تحصل صياغة قضائية للسياسة إذا لم تكن هناك دعاوى. لا توضع على رئيس الجمهورية وأعضاء الكونغرس قيود كهذه. أكثر من ذلك، أن المحكمة العليا مُقيدة إلى حدّ ما بأعمال صانعي السياسة الآخرين، مثل قضاة المحاكم الدنيا، والكونغرس، والرئيس. فالمحكمة العليا يتوقف عملها على الآخرين في تطبيق أو تنفيذ قراراتها.
سابعا الميول السياسية لقضاة المحكمة العليا
يؤكد بعض علماء السياسة والقانون ان الميول السياسية للقضاة تؤدي دوراً كبيراً، وتفرض بصورة أساسية قراراتهم في قضايا عديدة، ويشير هؤلاء إلى واقع كون القضاة الذين يعينون من رؤساء محافظين يميلون إلى التصويت في المحكمة بطريقة محافظة, وان القضاة الذين يعينون على يد رؤساء ليبراليين يصوتون في المحكمة بطريقة معاكسة. وتوحي، بالتأكيد عن معارك تثبيت القضاة المعينين واسوق مثالا عن معركة تعيين اخر قاضية عينها الرئيس باراك اوباما في المحكمة العليا و هي سونيا سوتومايور، وهي أول قاضية من أصل لاتيني والجدل الذي ثار حولها فخلال جلسة التثبيت الأخيرة لمجلس الشيوخ لتعيين سونيا سوتومايور , تركز الاهتمام بصورة طبيعية على ما ستكون عليه كقاضية في المحكمة العليا. فتأكيدها بأن شعارها كان “الإخلاص للقانون”, وأنها ترى عمل القاضي على انه تطبيق لوقائع القضية استناداً إلى القانون المختص، أرضى معظم أعضاء مجلس الشيوخ. وبعد المصادقة على تثبيتها بأكثرية 68 صوتاً مقابل 31, شغلت سوتومايور مقعدها في المحكمة العليا. إلا أن وصفها لعمل القاضي كنوع من الممارسة الميكانيكية ترك أسئلة كثيرة مثيرة مفتوحة، إذا كانت مهنة القضاء بهذا القدر من البساطة والوضوح فكيف يمكننا ان نبرر الحقيقة بأنه خلال احدى دورات الانعقاد للمحكمة العليا في عهد أوباما، أصدر القضاة أحكاماً في ثلث عدد القضايا المرفوعة إلى المحكمة (23 من أصل 74 قضية) بأغلبية خمسة أصوات مقابل اربعة? ومن المفترض ان يكون القضاة في كلا الجانبين من القرارات المتنازع حولها اعتقدوا بأنهم مخلصون للقانون. لكنهم للعديد من الأسباب المتنوعة، فسروا القانون بصورة مختلفة. ومن هنا يبرز لنا عامل السياسة الشخصية للقضاة كعامل مهم في عملية اتخاذ القرار القضائي. ولكن يجب علينا الا نسارع إلى الاستنتاج بأن قضاة المحكمة العليا, مثلهم مثل السياسيين, يحاولون فقط تثبيت ميولهم السياسية. فهناك عدد من العوامل تجعل من هذا التحليل أكثر تعقيداً. من اهمها، أنه من الصعب فك التشابك بين الميول السياسية للقاضي وفلسفته القضائية. ويعتقد بعض القضاة بوجوب تفسير الدستور استناداً إلى ما عناه عندما جرى تبنيه للمرة الأولى، وبوجوب تفسير القوانين بالنظر فقط إلى نصوصها. ويعتقد آخرون ان معنى الدستور يمكن ان يتغير مع الوقت او ان الأدلة الوثائقية محيطة بعملية سن القانون يمكن أن تكون مفيدة في تفسيره. ويتردد بعض القضاة كثيراً في إسقاط القوانين التي أقرتها المجالس التشريعية في الولايات أو المجالس التشريعية الفيدرالية (الكونجرس)، بينما يعتبر آخرون ان الإشراف الدقيق على أعمال المجالس التشريعية هو جزء أساسي من دورهم كحراس للدستور. فالقاضي الذي يعتقد بوجوب تفسير الدستور استناداً إلى معناه الأصلي، ويبدي تردداً في إلغاء القوانين، سوف يكون على الأرجح غير متعاطف مع الادعاءات التي تقول بوجود قوانين مختلفة تنتهك الحقوق الدستورية للأفراد. فإذا صادف وأن كان هذا القاضي محافظاً، من الوجهة السياسية، فإننا قد نعزو خطأً عدم التعاطف مع هذه الادعاءات إلى السياسة وليس إلى الفلسفة القضائية.
كما قد تؤثر التجارب الشخصية والخلفية للقاضي أيضاً في كيفية مقاربته للقضية، رغم ان ذلك لا يتم دائماً بطرق يمكن التنبؤ بها. فالقاضي الذي ترعرع فقيراً قد يشعر بالتعاطف مع الفقير، أو ربما قد يعتقد بدلاً من ذلك ان قدرته على التغلب على مشقات الفقر تظهر ان على الفقير ان يتحمل مسؤولية وضعه. والقاضي الذي يملك تجربة مباشرة مع شركات او مع هيئات عسكرية او حكومية (لاختيار بضعة أمثلة فقط) قد يكون لديه فهم أعمق لنقاط قوتها ونقاط ضعفها. ومع ذلك فان العديد من الفقهاء يرون انه إذا وضعنا الاختلافات جانباً، فإن جميع القضاة يتشاركون في الالتزام بالدستور. إخلاصهم لهذا الهدف يجعل الولايات المتحدة دولة يحكمها القانون, بدلاً من حكم الرجال. وعند تفسيرهم وتطبيقهم للدستور والقوانين، لا ينظر القضاة إلى أنفسهم كأوصياء مثاليين يسعون إلى حكم مجتمع غير مثالي, بل بدلاً من ذلك يعتبرون أنفسهم وكلاء
مخلصين للقانون نفسه. تستطيع المحكمة العليا أن تقرر, وهي تقرر بالفعل, بشأن مسائل سياسية, ولكنها لا تفعل ذلك باستعمال الأدوات القانونية نفسها التي تستعملها عند النظر في اي مسألة قانونية. فلو كان الأمر خلاف ذلك, لعرضت المحكمة شرعيتها بالذات للخطر: فقد لا ينظر الناس إليها كمؤسسة تستحق الاحترام الخاص. فهيكلية وعمل النظام القضائي تؤدي إلى تعديل ميول أي قاض فردي نحو فرض ميوله السياسية الشخصية. والعامل الأكثر أهمية هو ان على المحكمة أن تشرح وتعلل علناً الأحكام التي تصدرها: فكل قضية تترافق مع رأي واحد او اكثر خطي يقدم الحجج المنطقية الكامنة وراء قرار المحكمة، وتتوفر هذه الآراء لكل من يريد الاطلاع عليها. وهي تُناقش بصورة واسعة في الصحف (وعلى الإنترنت) وتتعرض في أحيان كثيرة إلى انتقادات دقيقة من المحامين، والقضاة، والباحثين. تؤمن هذه الشفافية عدم تحريف القضاة بتحريف القانون دون تمييز. فاستنساباتهم تكون محددة بضغوط كشفها أمام الرأي العام. وأي قاضٍ لا يريد ان ينظر إليه الناس على أنه أحمق أو وغد سوف يكون حذراً في صياغة آراء مقنعة تُظهر منطقية استنتاجاته.
ثامنا سياقات معارك التثبيت في للمحكمة العليا
لقد جلبت معارك التثبيت في للمحكمة العليا سيما الثلاث قضاة الذين رشحهم الرئيس ترامب وثبتهم مجلس الشيوخ وتوقيتاتها وما اسفرت عنها الانتخابات الرئاسية لعام 2020 انتباه الجمهور إلى مقترحات مختلفة لتغيير حجم المحكمة و / أو مدة عمل القضاة. في السياق التالي:
1-أثارت وفاة أنطونين سكاليا (79 سنة) الذي عيّنه في المحكمة العليا الرئيس الجمهوري الراحل رونالد ريجان عام 1986، ذعراً لدى اليمين الأميركي ، إذ إن المحكمة ، وهي أعلى سلطة قضائية في البلاد ، تنقسم في شكل متساوٍ بين المحافظين والليبراليين ، وغياب سكاليا ابرز اتباع فلسفة “الأصلنة”، وهي فلسفة قضائية محافظة تعتقد بأن للدستور الامريكي معان ثابتة لا تتغير بمرور الزمن. وكان طيلة حياته المهنية معارضا بارزا وقويا للاجهاض ولحقوق المثليين ، وكان داعما لمصالح الشركات الكبرى ومؤيدا قويا لعقوبة الاعدام , كان خسارة قوية لانصار اليمين . علاوة على أن وفاته ورئيس ديمقراطي في البيت الأبيض، يعني تلقائياً فرصة للجناح الليبرالي وأوباما لترجيح كفة اليسار فيها. ولذا سارع الرئيس أوباما الى الاعلان رسميًا في السادس عشر من مارس 2016 , الى ترشيح ميريك غارلاند لنيل مقعد الراحل سكاليا ، وبدا واضحا رفض الجمهوريين لهذا الترشيح متعللين ب”قاعدة ثورموند” التي تشير إلى “عدم الموافقة على تعيينات قضائية في مناصب مدى الحياة في الأشهر الستة الأخيرة أو نحو ذلك للرئيس الذي توشك ولايته على الانقضاء”. وكانت السيناتورة الديمقراطية ديان فاينشتاين قد أثارت القضية عام 2008 حين أعلنت أن مجلس الشيوخ يجب ألا يمضي قدماً بشأن مرشحين موضع خلاف لمناصب قضائية مدى الحياة بعد يونيو من العام الأخير للرئيس جورج بوش الابن. وجاء الرد من المتحدثة باسم البيت الأبيض في عهد بوش بأن “الشيء الوحيد الواضح بشأن ما يطلق عليه قاعدة ثورموند هو أنه لا توجد قاعد محددة مثل هذه “. فقد سبق وأن نال ترشيح الرئيس الجمهوري “رونالد ريجان” للقاضي المُحافظ “أنتوني كينيدي” دعماً من مجلس الشيوخ الذي كان يسيطر عليه الديمقراطيين في ذلك الوقت. صحيح أن ترشيح كينيدي كان في نوفمبر 1987، أي قبل العام الأخير من رئاسة ريجان الثانية، إلا أن تصديق مجلس الشيوخ على هذا الترشيح كان في فبراير 1988، أي في العام الأخير من رئاسة ريجان، والذي انتهت فترة رئاسته الثانية في يناير 1989. وبعد وفاة قاضي المحكمة العليا سكاليا، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أن القاعدة “تمتد أصولها إلى يونيو 1968 حين اعترض السناتور الجمهوري عن ولاية ساوث كارولاينا على تعيين الرئيس ليندون جونسون للقاضي آبي فورتاس كرئيس للمحكمة”. ويشتهر “ثورموند” بشكل أكبر باعتباره منشقا عن الحزب “الديمقراطي”. ووفقا لهذه القاعدة أعلن زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتشيل مكونيل أن مجلس الشيوخ لن يبحث ترشيحات أوباما لشغل المنصب الشاغر، قبل 11 شهراً من نهاية ولاية الرئيس. ومن ثم تم اجهاض مسعى الرئيس اوباما نظرا لسيطرة الجمهوريين على مجلس. الشيوخ. وقد فشل مسعى تشاك شومر زعيم الأقلية الديموقراطية في مجلس الشيوخ لمنع تعيين القاضي نيل غورسيتش عضوا بالمحكمة العليا. ولا يزال الديمقراطيون يشعرون بالضيق إزاء المعاملة التي تعرض لها مرشح اوباما غاريلاند، وشومر وصف القاضي غورستش بأن “له ميولا أيديولوجية تثير الشكوك حول استقلاليته”. وكان الديمقراطيون يعولون على استحالة حصول غورسيتش على 60 صوتا لتثبيت تعيينه. حيث كان يتوزع اعضاء مجلس الشيوخ بين 52 جمهوريًا 48 ديمقراطيًا، لم يستطع غورستش الحصول على موافقة ستين عضوًا في مجلس الشيوخ لتثبيت تعيينه، وفشلت محاولات الجمهوريين في التوصل الى اتفاق مع الديمقراطيين لتثبيته، ولذا لجأ زعيم الجمهوريين الى الخيار النووي (نصف اعضاء المجلس زائدًا واحدًا)، لتأكيد ترشيح غورستش. وهو ما حدث. وكان القاضي غورستش سبق ان رشحه الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن لمحكمة الاستئناف بولاية كولورادو عام 2006، وسبق أن حاز موافقة جميع الجمهوريين والديمقراطيين، بمن فيهم زعيم الديمقراطيين بمجلس الشيوخ تشاك شومر.
2-في 6 أكتوبر 2018 صادق مجلس الشيوخ الأميركي على تعيين القاضي المحافظ بريت كافانو عضوًا في المحكمة العليا، بعد تقاعد القاضي انتوني كيندي لتنتهي بذلك أسابيع من السجالات والمواجهات السياسيّة الشرسة التي تخلّلتها اتهامات للقاضي بارتكاب اعتداء جنسي عندما كان شابًا. وحصل كافانو الذي نفى هذه الاتهامات بشكل قاطع، على غالبيّة ضئيلة في مجلس الشيوخ (50-48).
3- وكان التعيين الثلاث الذي افاض كأس غضب الديمقراطيين ومرشحهم جو بايدن؛ فإثر وفاة قاضية المحكمة العليا الليبرالية “روث بادر جينسبرغ” بمرض السرطان في الثامن عشر من سبتمبر 2020 الليبرالية عن عمر 87 عاماً قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية (الثالث من نوفمبر 2020). وكانت جينسبرغ عضواً ليبرالياً قوياً في المحكمة، وكانت تحظى بشعبية واسعة بين الكثير من الديمقراطيين، وخاصة النساء اللاتي كن يعتبرنها رائدة حقوق النساء ونجمة حقيقية. وأثر وفاتها سارع الرئيس ترامب في 26 سبتمبر (2020) باختيار القاضية إيمي كوني باريت البالغة من العمر 48 عاماً، لخلافة القاضية التقدمية وطالب جو بايدن، بعدم البتّ في تعيين القاضية باريت في المحكمة العليا قبل الاستحقاق الرئاسي، وانه يجب على الناخبين اختيار الرئيس وعلى الرئيس اختيار قاضٍ لينظر مجلس الشيوخ في الأمر”. ولكن الرئيس ترامب والجمهوريون ثبتوا مرشحتهم القاضية إيمي كوني باريت. مما اثار حنق الديمقراطيين وبايدن، نتيجة ما أدى اليه من زيادة اختلال توازن المحكمة بما يصبّ في مصلحة المحافظين لفترة جيل على الأقل. ذلك أن قضاة المحكمة العليا يشغلون وظائفهم مدى الحياة، ولما كانت القاضية الجديدة اقل من الخمسين من عمرها، فإن ذلك عادة ما يعني ثلاثين عاما على الأقل في المحكمة.
وتسبب هذا الموقف في توجيه البعض اللوم إلى جينسبرغ، بدعوى أنه كان بمقدورها أن تمنع وقوع هذه الأزمة السياسية والدستورية لو أنها كانت قد تقاعدت في وقت مناسب من الفترة الثانية من ولاية الرئيس “أوباما”، ومنحته – من ثم – فرصة تعيين أحد القضاة الديمقراطيين ليحل محلها [17] وحاول البعض تبرير موقف جنسبرج بمقولة أنها لم تكن تتوقع هزيمة هيلاري كلينتون أمام ترامب عام 2016، فضلاً عن أنه لا يجب أن يُلقى فشل مؤسسات الدولة وخضوعها للاستقطاب السياسي على عاتق إمراة واحدة لم تقصر يوماً في عملها[18] .
ويمكن القول أنه تلك الأجواء التي تتسم بالتوتر وحالة الاستقطاب بين الحزبين، زادت بشكل كبير في أعقاب ترشيح القاضية إيمي كوني باريت للمحكمة العليا ، ولذا و عد المرشح الرئاسي آنذاك جو بايدن، في حالة انتخابه ، بتشكيل لجنة من الحزبين لدراسة مقترحات إصلاح المحكمة العليا. وكان هذا الإعلان بمثابة إيماءة للناخبين الديمقراطيين الغاضبين لإطاحة التوازن الأيديولوجي لصالح الحزب الجمهوري علاوة على استبدال الأيقونة الليبرالية القاضية روث بادر جينسبرغ قبل أيام من انتخابات نوفمبر بالقاضية إيمي كوني باريت التي لم تخف منهجها المُحافظ لدى حديثها أثناء جلسات الاستماع باللجنة القضائية بمجلس الشيوخ، إذ تحدثت عن حدود دور القضاء في المجتمع الأمريكي، وضرورة الالتزام بتفسير نصوص الدستور كما هي، دون القيام بتقديرات سياسية ليس من اختصاص القضاء القيام بها” [19] . وتحظى باريت بتأييد الأوساط المسيحية التقليدية التي تشاركها قيمها، بدءاً من معارضة معلنة للإجهاض والتمسك بمفهوم الزواج باعتباره ارتباطاً “بين رجل وامرأة”، وفقاً لرسالة وجهت إلى البابا في عام 2015. واشتدت المطالبات داخل الحزب الديمقراطي بإصلاح المحكمة العليا بعيد ترشيح القاضية المحافظة إيمي كوني باريت فيها الا انه – تراجع إلى حد كبير مع بدء الانتخابات. الرئاسية الا انه مع فوز بايدن بالبيت الأبيض، و بعد فوزين مفاجئين في انتخابات الإعادة لمجلس الشيوخ في ولاية جورجيا (التي تصوت عادة للجمهوريين) ، مما مكن الديمقراطيين ان يصبحوا متعادلين مع الجمهوريين في مجلس الشيوخ مع افضلية صوت رئيسة المجلس الديمقراطية نائبة الرئيس كامالا هاريس, وبذا صاروا يتمتعون بأغلبية تفضيلية في مجلس الشيوخ. مع اغلبية في مجلس النواب، مما شجع بعض التقدميين بالمطالبة باتخاذ إجراء سريع لإصلاح المحكمة العليا.
تاسعا مبررات الدعوة لإصلاح المحكمة العليا
وقّع الرئيس جو بايدن في التاسع من ابريل (2021 ) مرسوما ينشئ لجنة إجراء إصلاحات على المحكمة العليا، كجزء من التزام الإدارة بدراسة الإجراءات بعناية فائقة لتحسين العدالة الفيدرالية”. وقام في هذا السياق بتشكيل لجنة مشتركة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري لبحث إمكانية إجراء تغييرات بالمحكمة العليا تشمل زيادة عدد أعضائها فوق تسعة قضاة وهو هدف يأمل بعض الديمقراطيين في أن ينهي سيطرة المحافظين عليها أمام هذه اللجنة ستة أشهر لتقديم توصياتها.”[20] الخطوة اثارت حفيظة بعض الجمهوريين الذين يتهمونه بالرغبة في مهاجمة هذه المؤسسة القوية المسؤولة في الولايات المتحدة عن البت في أكثر المسائل المجتمعية حساسية
(ا ) هناك اراء ديمقراطية عبر عنها إريك هولدر ، المدعي العام في عهد الرئيس باراك أوباما ، عن أهمية اصلاح المحكمة العليا نظرا الى ما اسماه ” عدسة الانحراف الحزبي الجمهوري ” و ” أن “الديمقراطيين والتقدميين … غير مرتاحين لما آل اليه الامر في المحكمة العليا من سيطرة الجمهوريين عليها ( 6 مقابل 3 للديمقراطيين) ،
(ب) كما أشار هولدر إلى رفض زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ آنذاك ميتش ماكونيل النظر في ترشيح أوباما للقاضي جارلاند للمحكمة العليا في عام الانتخابات الرئاسية ، ودفعه اللاحق لتأكيد تثبيت القاضية المحافظة باريت في الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية. وبين ان هذه الإجراءات خلقت “أزمة شرعية” في المحكمة العليا. “مما يستوجب “الرد المحسوب” على السلوك الجمهوري.[21]
(ج) تحدثت آراء عن ان المحكمة العليا بهيكلها الحالي تهدد الديمقراطية الأمريكية.” [22]
وضربوا مثالا انه في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2012، اعيد انتخاب الرئيس أوباما بهامش مريح. ومع ذلك، فقد زملاؤه الديموقراطيون السيطرة على مجلس الشيوخ في انتخابات منتصف المدة لعام 2014، مما ادي الى منع تأكيد مرشح أوباما للمحكمة العليا، ميريك جارلاند في عام 2016 ورغم فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية عام 2016 بالمجمع الانتخابي، الا انه خسر التصويت الشعبي وتمسك الجمهوريون بمجلس الشيوخ أولا بتثبيت القاضي نيل غورسيتش عضوا بالمحكمة العليا وهو أول قاضٍ في المحكمة العليا في التاريخ الأمريكي يتم ترشيحه من قبل رئيس خسر التصويت الشعبي . بل ان ترامب رشح قاضيين آخرين وثبتهما مجلس الشيوخ الجمهوري هما بريت كافانو وإيمي كوني باريت.[23] ولذلك فإن المهمة الحقيقية للجنة بايدن لابد ان تكون “إعداد الطاولة بشكل مناسب” لإصلاح المحكمة العليا.
(د ) اصلاح المحكمة العليا امر حيوي للحزب الديمقراطي باعتبار المحكمة العليا مؤسسة قوية جدًا في الحياة السياسية الأمريكية. و تلعب دورًا محوريا في النظام السياسي الأمريكي. وانه لابد من معالجة بعض أوجه القصور فيها. فلم يحدث في عهدة الرئيس جيمي كارتر أي شواغر في المحكمة العليا و كان العدد الأقصى – على الأقل في المائة عام الماضية أو نحو ذلك – كانت فترة رئاسة فرانكلين روزفلت الثالثة حيث كان لديه سبع شواغر من القضاة، في حين ان ترامب وعهدته كانت واحدة حدثت في عهده ثلاث شواغر . [24]
عاشرا الاقتراحات المقدمة لإصلاح المحكمة العليا
تتعلق الاقتراحات بتغيير حجم المحكمة و / أو مدة عمل القضاة
تعبئة المحكمة المتعلق بتغيير حجم المحكمة عبر إضافة مقاعد إلى المحكمة العليا “(عددها الان 9 مقاعد)، المعروف باقتراح التعبئة في المحكمة،[25]
ومن ثم فان الحل في رفع القيد على عدد أعضاء المحكمة وزيادته بما يسمح للرئيس الحالي بتعيين عدد أخر من القضاة بالمحكمة ، بالأحرى تعبئة المحكمة packing Court، بعد ان فاز “بايدن” الديمقراطي بالانتخابات الرئاسية واستعاد الديمقراطيون مجلس الشيوخ من يد الجمهوريين.[26]
واستند الاقتراح الى حقيقة ان الدستور لا يحدد عدد القضاة في المحكمة العليا – كما لم يتم إجراء أي دراسة موضوعية توضح أن تسعة قضاة أكثر كفاءة من سبعة أو خمسة قضاة،
فتعبئة المحكمة هو الحل الذي يحقق مكاسب سياسية عاجلة.[27]
وهو” الحل الدستوري الوحيد لإصلاح محكمة عليا لم تعد تُعبر عن إرادة المواطنين، أخذاً في الاعتبار أن النص الدستوري ترك للكونجرس والرئيس تنظيم تشكيلها، فضلاً عن أن هذا الحل ليس جديداً على الواقع السياسي الأمريكي؛ إذ تغير عدد قضاة المحكمة العليا أكثر من مرة على مدار تاريخها”.[28]
وبهذا الصدد صعّد مشّرعون ديموقراطيون الضغط على الرئيس جو بايدن الخميس بتقديمهم مشروع قانون لزيادة عدد قضاة المحكمة العليا، وهو مقترح مثير للجدل من شأنه إضعاف القضاة المحافظين في المحكمة لكن فرص إقراره في الكونجرس شبه معدومة. وهو يحمل رسالة واضحة مفادها أن الجناح التقدميّ في الحزب لا يريد الانتظار ويسعى لإسماع صوته.[29]
عبر تويتر، قال النائب التقدميّ موندير جونز إن “ديموقراطيتنا تتعرض إلى هجوم، والمحكمة العليا هي التي ألحَقت بها أشد الضربات. لإعادة السلطة إلى الشعب يجب علينا زيادة عدد القضاة.”
واقترح جونز مشروع قانون (يحمل اسم “قانون القضاء لعام 2021”) ينصّ على إنشاء أربعة مقاعد جديدة، ليرتفع عددها من تسعة إلى 13.
ويدافع عن النصّ أيضا السيناتور إد ماركي والنائبان هانك جونسون وجيري نادلر الذي يرأس اللجنة القضائية في البرلمان.
و في ورقة بحثية قدماها عام 2019، اقترح أساتذة القانون دان إيبس وغانيش سيتارامان [30] زيادة عدد أعضاء المحكمة العليا الى 15 شخصًا تتألف من خمسة ديموقراطيين وخمسة جمهوريين وخمسة قضاة يختارهم العشرة الآخرون. الفكرة وراء هذا الاقتراح، والتي قدمها بيت بوتيجيج خلال محاولته الترشيح الديمقراطي للرئاسة (هو الان وزير الإسكان في حكومة بايدن)، هو أن ميزان القوى في المحكمة العليا سيحكمه قضاة معتدلون مقبولون لكلا الحزبين السياسيين. ولكن هناك عدد من المخاوف بشأن هذا الاقتراح. إحداها أنه من المحتمل أن يُعلن أنه غير دستوري. يمنح الدستور الرئيس سلطة ترشيح قضاة جدد ؛ وهي لا تمنح هذه السلطة لهيئة من 10 قضاة آخرين. [31]
الا انه رغم أن الديموقراطيين يحوزون الأغلبية في غرفتي الكونجرس علاوة على البيت الأبيض، إلاّ أن هامش تحركهم ضيّق لا سيما عندما يتعلق الأمر بمشروع قانون حسّاس كهذا يمسّ إحدى المؤسسات الأميركية الرئيسية، ومصيره الفشل بسبب معارضة الجمهوريين الشديدة له.
فقد قال زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل إن “اليسار المتطرف لم يستطع حتى انتظار (…) الدراسة الزائفة” للجنة.[32] وأضاف أن مشروع القانون “سيقوّض شرعية” المحكمة، وذكّر بأن القاضيين التقدميّين فيها، روث بادر غينسبورغ التي توفيت في أيلول/سبتمبر 2010 وستيفن براير، عارضا الفكرة سابقا. بدوره، اعتبر زعيم الجمهوريين في مجلس النواب كيفن ماكارثي في تويتر أن “الديموقراطيين يريدون تفكيك مؤسساتنا، بما فيها المحاكم، لتنفيذ برنامجهم الاشتراكي”.[33]
إضافة إلى ذلك، يعتبر الديموقراطيون المعتدلون أنه من الأفضل انتظار توصيات اللجنة التي أنشأها بايدن.
ويشار في هذا السياق بأنه في عام 1937، اقترح الرئيس فرانكلين روزفلت توسيع حجم المحكمة العليا، بزيادة عدد مقاعدها إلى 15 قاض – و هذا الاقتراح لم يحظى بشعبية كما انه “تسبب في ضرر سياسي دائم لرئاسته” [34] وذلك على الرغم من انتخاب روزفلت في عام 1936 بأغلبية ساحقة، مع سيطرة الحزب الديمقراطي على كل من مجلس النواب ومجلس الشيوخ . فنحن إزاء رئيس في أوج قوته السياسية حاول أن يفعل ذلك وفشل وكانت تلك هي المرة الوحيدة منذ عام 1869 التي يحاول فيها أي رئيس تعبئة المحكمة. وخلال حملته الرئاسية، قال جو بايدن إنه لا يساند فكرة زيادة عدد قضاة المحكمة العليا، كما اعتبر بداية الثمانينيات أن الفكرة “غبيّة”.[35] لكن يؤكد البيت الأبيض أنه منفتح على وجهات نظر أخرى تنبثق عن اللجنة. كما لم يبد زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ حماسا لهذا الاقتراح لأنه لا يلاقي قبولا شعبيا .
حادي عشر فشل محاولة اصلاح المحكمة العليا
وأصدرت اللجنة التي شكلها الرئيس بايدن توصياتها بالإقرار بأنها لم تقدم أي توصيات حول تغيير هيكل المحكمة وحجمها وذهب التقرير ، إلى أن التساؤل الأكثر صعوبة والذي أحدث انقساما بين المفوضون بشأنه، حول ما إذا كان توسيع المحكمة سيكون حكيما. بعد شهور من جلسات الاستماع والأبحاث العامة.مع العلم بان بايدن نجح في تعيين قاضية الاستئناف الاتحادية الليبرالية كيتانجي براون جاكسون لتصبح أول قاضية سوداء في المحكمة العليا خلفا للقاضي الليبرالي المتقاعد ستيفن براير وذلك للوفاء بوعد انتخابي قطعه قبل عامين بأن يقرر هذا التعيين التاريخي. ومن بين 115 قاضيا عملوا في المحكمة العليا على مدى تاريخها كان هناك 112 من البيض واثنان فقط من السود وهما رجلان.
ثاني عشر إشكاليات احكام المحكمة العليا
(1) في العام 2010 صدر حكم مثير للجدل من المحكمة العليا أدخل تغييرات كبيرة على قانون تمويل الحملات الانتخابية. فقبل صدور الحكم كان القانون يمنع الشركات والنقابات العمالية من الإنفاق مباشرة لتأييد أو معارضة المرشحين لمنصب الرئيس وعضوية الكونغرس. وكان يُسمح للمجموعات المكونة من أفراد بإنشاء صناديق منفصلة فيما يُسمى لجان النشاط السياسي للمساهمة بالتبرع لحملات الأحزاب السياسية أو المرشحين دون استخدام أموال من صناديق الشركة أو النقابة. لكن بعد صدور الحكم، أصبح بإمكان الشركات والنقابات أن تستخدم كميات غير محددة بشكل مباشر من الأموال في سبيل انتخاب أو استبعاد مرشح معين ما دامت لا تفعل ذلك بالتنسيق مع المنظمات أو الجمعيات التي تتولى الحملة الانتخابية لذلك المرشح.
وكان القانون الساري منذ عشرين عاما يمنع الشركات الخاصة من دفع المال مباشرة لتمويل إعلانات لصالح المرشحين أو ضدهم بمبادرة خاصة منها.
ولكن المحكمة العليا قلبت الوضع، اعتمادا على التعديل الأول للدستور الذي يضع منذ أكثر من 200 عام حرية التعبير في صدر سلم القيم الأمريكية.
واتخذت المحكمة قرارها بأغلبية خمسة أصوات مقابل معارضة أربعة، وقالت في حيثياتها: “نحن لا نجد أي أساس للقول بأن الحكومة يمكنها فرض قيود على البعض، فيما يتعلق بالسياسة”، معتبرة أنها توصلت إلى استنتاجها “على أساس التاريخ والمنطق”.
ودافعت المحكمة عن القرار الذي نفت القول بأنه يمكن أن يسهم في زيادة الفساد، لكنها لم تشر إلى مساهمات الشركات العملاقة مباشرة في حملات المرشحين.
وعقب الحكم حذر الرئيس الأمريكي (آنذاك) باراك أوباما من استيلاء الشركات على الديمقراطية
(ب) وهناك قانونان للمحكمة العليا الأمريكية يوم الأول من يوليو ( 2021 ) يفرض أحد هذين القانونين على الناخبين أن يدلوا بأصواتهم في الدوائر التي يعيشون فيها، بينما يحظر الآخر عملية تسمى “حصاد أوراق الاقتراع” ويجرّمها، ويقوم في إطارها طرف ثالث بجمع أصوات ناخبين غائبين ووضعها في صناديق الاقتراع.
ورفع الديمقراطيون دعوى ضد هذين القانونين بحجة أن المصادقة عليهما تمت بقصد التمييز بين الناخبين، ما يشكل انتهاكا للمادة 2 من قانون حقوق التصويت. و كانت محكمة استئناف فدرالية قضت العام (2020 ) بأن هذين القانونين يؤثران سلبا على الأميركيين السود والاميركيين من أصل أميركي لاتيني والسكان الاصليين الذين لا يملكون القدرة على السفر الى مراكز الاقتراع في دوائرهم لأسباب اجتماعية واقتصادية، لكن القضاة المحافظين الستة في المحكمة العليا الذين يشكلون الغالبية في مقابل ثلاثة قضاة ليبراليين اعتبروا أن هذه القوانين ضرورية لمنع التزوير.[36]
(ج) المحكمة العليا الأميركية تلغي الحق في الإجهاض
في 24 يونيو 2022، ألغت المحكمة العليا الأميركية حق الإجهاض، المعروف بـ”رو ضد وايد”، الذي أقرته المحكمة نفسها في عام 1973، وجاء في الحكم، “نعتقد أن الدستور لا يمنح الحق في الإجهاض، ويجب إعادة سلطة تنظيم الإجهاض إلى الشعب وممثليه المنتخبين”. وصوّت 6 قضاة محافظين من أصل 9 في المحكمة لإلغاء حق الإجهاض فيدرالياً، وهم قضاة معينون من رؤساء جمهوريين: كلارينس توماس ونيل غورساتش وبرت كفناه وإيمي كوني بارت، وكبير القضاة جون روبرتس، إضافة إلى القاضي صامويل أليتو الذي كتب في “رأي المحكمة” أن “الإجهاض مسألة أخلاقية عميقة. والدستور لا يمنع سكان كل ولاية من التحكم به أو منعه”.
يعني هذا القرار أن المحكمة العليا قضت بإلغاء حق الإجهاض كحق فيدرالي، لتترك لكل ولاية سلطة اتخاذ قرار متعلق بهذا الشأن على صعيد الولاية.
وأصدر القضاة الليبراليون الـ 3 في الحكمة بياناً شاجباً يقول: “نتيجة قرار اليوم أكيدة: تقليص حقوق النساء ووضعهن كمواطنين يتمتعون بالحرية والعدالة”. وتظهر نتيجة التصويت في المحكمة الانقسامات العميقة فيها، التي تعكس بدورها الانقسامات في الشارع الأميركي. فالقضاة الثلاثة من أصل 9 الذين عينوا من رؤساء ديمقراطيين، ستيفن باير وسونيا سوتومايور وألينا كايجن، يدعمون حق الإجهاض، في حين أن القضاة المحافظين صوتوا لصالح إلغائها.
انتقادات ديمقراطية وترحيب جمهوري
وهذا الحكم عمق الانقسام الأيديولوجي الأمريكي حيث ولد موجة من الانتقادات العنيفة من قبل الديمقراطيين، ووابلاً من الترحيب والتهليل من قبل الجمهوريين. فقالت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، إن “المحكمة العليا التي يسيطر عليها الجمهوريون حققت هدف الحزب القاتم والمتشدد بانتزاع حق المرأة باتخاذ قرارات متعلقة بصحتها التناسلية… بسبب دونالد ترمب وميتش مكونيل والحزب الجمهوري والأغلبية التي يتمتع بها في المحكمة، أصبحت النساء الأميركيات اليوم تتمتعن بحقوق أقل من أمهاتهن”.
كان الكونجرس سعى إلى إقرار قوانين للتصدي لقرار المحكمة العليا قبيل إصداره، بعد انتشار تسريبات هي الأولى من نوعها أظهرت أن القضاة سيصوتون لصالح الإلغاء، لكن جهود الديمقراطيين اصطدمت بحائط مسدود وفشل الكونجرس في إقرار أي قانون في هذا الملف. إلا أن هذا لن يمنع الحزب الديمقراطي من تسليط الضوء على القضية في الانتخابات التشريعية النصفية في شهر نوفمبر 2022 ، إذ سيسعى الديمقراطيون إلى استعمالها للدفع بالناخبين إلى صناديق الاقتراع. وهو ما ذكره الرئيس الأميركي جو بايدن، في كلمته للأميركيين في 24 يونيو ، حيث وصف قرار المحكمة بـ”خطأ مأسوي” نابع من “أيديولوجيا متطرفة”، وعدّه “يوماً حزيناً للمحكمة والبلد”، داعياً الأميركيين إلى الدفاع عن الحق في الإجهاض خلال انتخابات الخريف المقبل. وأضاف بايدن أن «صحة وحياة النساء في هذه الأمة في خطر الآن”، محذراً من أن حقوقاً أخرى قد تتعرض للتهديد مستقبلاً، مثل الزواج المثلي ووسائل منع الحمل.”[37]
على الرغم من أنه ليس من المفترض أن تكون المحكمة مؤسسة «شعبية»، فإن التصورات العامة لا تزال مهمة، لأنها تنطوي على سؤال- ولغز- عانى فلاسفة القانون في إيجاد جواب له منذ آلاف السنين وهو لماذا يطيع الناس القانون؟ أو بصياغة أخرى: ما الذي يعطي القانون- والمؤسسات القانونية– السلطة؟
لو نظرنا إلى تقليد القانون الطبيعي لتوماس اكيوناس لوجدنا أن القانون يمتزج مع الدين، وهكذا فإن القانون يستقي سلطته من المصدر نفسه للإملاءات الدينية، ولكن السؤال يصبح أكثر صعوبة ضمن السياق العلماني، فطبقا للوضعيين القانونيين (الطرح الأكثر قبولًا على نطاق واسع)، فإن التاريخ- أو الأصل المؤسسي- للقانون هو ما يمنحه القوة ويضعه فوق أي قاعدة أو معيار، لكن هذا الطرح يخلق مشكلة تشبه مشكلة أيهما أول الدجاجة أم البيضة، لأن السؤال لا يزال كيف تصبح مؤسسة ما ذات سلطة قانونية إن لم يكن من خلال قوة القانون.
يقر الوضعيون القانونيون أن تفسيرهم يتطلب القبول، وهذا يعني أنه بغض النظر عن النظرية القانونية التي يؤمن بها المرء، فإن هناك عنصرا نفسيا يعتبر ضرورياً من أجل عمل أي نظام قانوني، وبدون قبول عدد كاف من الأفراد، فإن المؤسسة لن تستطيع البقاء، وهكذا فإن ثقة العامة- أو الشعبية- تعتبر الجوهر الأساسي لحكم القانون.
(د) الحكم بالحق في حمل السلاح
قررت المحكمة العليا في 23 يونيو 2022 بأن للمواطنين الحقّ في حمل مسدس في الأماكن العامة، وهو قرار تاريخي له تداعيات بعيدة المدى على الولايات والمدن في أنحاء البلاد التي تشهد تصاعدا للعنف المسلح. وهذا الحكم يلغي قانونا في ولاية نيويورك سُنّ قبل أكثر من قرن ينصّ على إثبات وجود حاجة مشروعة أو “سبب مناسب” للحصول على تصريح لحمل مسدس في الأماكن العامة. وقد سنّت ولايات أخرى من بينها كاليفورنيا قوانين مماثلة، وسيحد قرار المحكمة من قدرتها على تقييد حمل الأسلحة.
وجاء حكم المحكمة بعد المذبحة التي شهدتها مدرسة ابتدائية في بلدة أوفالدي جنوب ولاية تكساس يوم 25 مايو (2022 ) حيث قُتل 19 تلميذاً صغيراً وبالغان اثنان عندما أطلق مراهق يبلغ 18 عاماً النار ، في مأساة تُغرق الولايات المتحدة مجدداً في كابوس لا تنفكّ تتوالى فصوله،
(ه) المحكمة الأميركية العليا توجه ضربة لأجندة بايدن المناخية
أصدرت المحكمة الأميركية العليا في 30 يونيو (2022 ) حكماً بأغلبية 6 أصوات مقابل 3 في المحكمة التي يهيمن على تشكيلها المحافظين، حكمت المحكمة لصالح ولاية ويست فيرجينيا في القضية المرفوعة ضد وكالة حماية البيئة، قائلة إن قانون الهواء النظيف، لا يمنح وكالة حماية البيئة سلطات واسعة لتنظيم انبعاثات الكربون من المصانع في الولايات المتحدة .وقال مدافعون عن البيئة إن القرار هو خطوة كبيرة في الاتجاه الخطأ، في وقت تتزايد فيه الأضرار البيئة التي يتسبب فيها الاحتباس الحراري .واعتبر الحكم بمثابة انتكاسة لجهود الرئيس الأميركي جو بايدن الذي وصل إلى الحكم بأجندة مناخية هي الأكثر طموحاً بين الرؤساء الأميركيين، إذ تعهد أمام العالم بأن الولايات المتحدة، وهي أكبر مسبب لانبعاثات الكربون في العالم ستقلص من انبعاثاتها بمقدار النصف بنهاية العقد الجاري.[38]. ووصف الرئيس الأميركي جو بايدن الحكم بأنه “قرار مدمر آخر يهدف إلى إعادة بلادنا إلى الوراء”.[39]
(و)
إلغاء المحكمة العليا خطة بايدن لشطب الديون الطلابية لملايين الأميركيين. [40]
ألغت المحكمة العليا في 30 يونيو ,برنامج بايدن لشطب القروض الطلابية لملايين الأميركيين،
ورأت المحكمة أنّ بايدن تجاوز صلاحياته بشطب ديون تفوق قيمتها الاجمالية 400 مليار دولار، في خطوة سعى عبرها إلى تخفيف الأعباء المالية التي تثقل كاهل الملايين حتى بعد انقضاء سنوات طويلة على إنهائهم تحصيلهم الجامعي. وبغالبية ستّة أصوات مقابل ثلاثة، صوّتت المحكمة التي يهيمن عليها المحافظون لصالح إلغاء برنامج بايدن، مشيرة إلى أنّه كان يتوجّب على الرئيس نيل موافقة الكونجرس قبلاً.ورأت المحكمة أنّ بايدن أخطأ في الارتكاز على قانون يعود إلى العام 2003، من أجل إلغاء الديون الطلابية، وهدف في حينه إلى مساعدة الطلاب السابقين الذين التحقوا بالجيش بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.
ومثل القرار انتكاسة لحملة بايدن، الطامح لولاية ثانية في البيت الأبيض، إذ يركز فريقه على استقطاب لناخبين الشباب الذين يلعبون دوراً حاسماً في نجاح الديمقراطيين في الانتخابات.
كان الجمهوريون قد هاجموا خطة بايدن للإعفاء من القروض باعتبارها منحة تسهم بالتضخم، في وقت تشكل فيه ضغوط الأسعار مصدر قلق اقتصادي وسياسي أساسي.
ثالث عشر احكام المحكمة العليا وشرعية المحكمة العليا الامريكية
ادت احكام المحكمة العليا مثل الغائها حق الإجهاض، المعروف بـ”رو ضد وايد”، الذي أقرته المحكمة نفسها في عام 1973، ويعني هذا القرار أن المحكمة العليا قضت بإلغاء حق الإجهاض كحق فيدرالي، لتترك لكل ولاية سلطة اتخاذ قرار متعلق بهذا الشأن على صعيد الولاية. المتعلق بالحد من حق الإجهاض او مساندة حمل السلاح . بالإضافة الى حكمها الذي يقيد من قدرات الإدارة الأميركية لمكافحة التغيرات المناخية عبر الحد من سلطات وكالة حماية البيئة لتنظيم انبعاثات الكربون من المصانع
وقد وصف الرئيس الأميركي جو بايدن، ، المحكمة العليا بـ”المتشددة والمتطرفة”، قائلاً إنها “تصر على العودة بالولايات المتحدة إلى الوراء”، وذلك خلال اجتماعه مع حكام الولايات الديمقراطيين لبحث خيارات حماية حق الإجهاض.[41]
اقتراح إلغاء التعديل الثاني في الدستور
وبعد تلك الاحكام من المحكمة العليا ,اقترح قاضي المحكمة العليا الأمريكية المتقاعد جون بول ستيفنز إلغاء التعديل الثاني من الدستور الأمريكي المتعلق بحق حمل الأسلحة .وفقا لستيفنز ، يتم ذلك عبر تعديل دستوري وراي محللون ان الولايات المتحدة طوال تاريخها ، ألغت تعديلًا واحدًا فقط – وهو التعديل الثامن عشر المتشدد وغير المجدي ، الذي يحظر الكحول. وتم إلغاء هذا التعديل من خلال التصديق على التعديل الحادي والعشرين.
وتشير الخبرة إلى أن الدستور يضعف إذا تمت الاستجابة لسابقة سيئة من المحكمة العليا بمحاولة تعديل الدستور. وأحدث الأمثلة ذات الدلالة، قضية (تكساس ضد جونسون). وفي هذا القرار الذي صدر عام 1989 وجد القضاة أن حق حرق العلم الأميركي في التعديل الأول يعتبر مسألة رمزية لحرية التعبير. ونتيجة لهذا ظهرت حركة قومية جادة لتعدل التعديل الأول لاستبعاد العلم من حماية حرية التعبير. ومن حيث المبدأ، كان للتعديل المقترح والمتعلق بحرق العلم وجاهة كبيرة. فالعلم يمثل جانباً رمزياً خاصاً من حياة الامريكيين العامة. والرجال والنساء في الجيش يقاتلون حقاً ويلقون حتفهم من أجله. كما أن التعديل المقترح لن يمثل تقليصاً كبيراً في حرية التعبير، بل يقتصر على علم البلاد وكفى. وكان من المسوغ إجازة التعديل. لكن التعديل الخاص بحرق العلم كان فكرة سيئة للغاية. ليس بسبب محتواه، بل بسبب ما قد يعنيه إجازته. والتعديل الأول مثل باقي وثيقة الحقوق موجود منذ عام 1791 دون تعديلات. وهذا القدم في حد ذاته يعزز حمايته وحماية باقي الحقوق. وفتح صندوق الشرور لتغيير حقوق الامريكيين الأساسية بسبب قرار من المحكمة العليا لا يروقهم يهدد بنية وثيقة الحقوق ذاتها.
وجيمس ماديسون – أبو الدستور الأميركي وأحد الآباء المؤسسين ورابع رئيس للولايات المتحدة فهم هذا جيداً. فقد كان يأمل أن يكتسب الدستور في نهاية المطاف “تبجيلا”. ورغم أنه أدرك أن الدستور يتعين أن يُسمح بتعديله، لكنه أراد أيضاً أن يتجنب الإسراع إلى التعديلات .
طبقا لمؤسسة غالوب فإن عدد الأميركيين غير الراضين عن المحكمة العليا يفوق حاليا عدد الأميركيين الراضين عن تلك المحكمة ومع انخفاض ثقة الناس في هذه المؤسسة من 62% في سنة 2000 إلى 40% في سنة 2021، كما كانت استطلاعات الرأي أظهرت أن أغلبية الأميركيين يعارضون إلغاء قرار المحكمة (رو ضد وايد)، إذ أشار استطلاع لشبكة “سي إن إن”، ، إلى أن 69 في المائة من الأميركيين يعارضون الإلغاء مقابل 30 في المائة من الداعمين فقط. . مما دعا الباحثون والمتخصصون في العلوم السياسية الى التحذير من وجود أزمة شرعية باعتبار إن المؤسسات تعتبر هشة في طبيعتها. و إن الهجوم الذي تعرض له مبنى الكابيتول الأمريكي في 6 يناير 2021 كان بمثابة تذكير واقعي بمدى سرعة تفكك المؤسسات والأعراف، وانه بالنسبة للمحكمة العليا، فقد تم تقويض مكانتها ليس فقط من خلال المسرحية السياسية التي ترتبط عادة بعملية تثبيت تعيين قضاة المحكمة العليا ولكن أيضا بسبب القرارات الرجعية والحزبية على نحو متزايد والتي أصدرتها المحكمة في السنوات الأخيرة
ومما يزيد من هذا الاحتمال الاستقطاب الحاد الذي تشهده الولايات المتحدة الامريكية
ثالث عشر في تفسير تصاعد ظاهرة الاستقطاب السياسي
تشهد الولايات المتحدة على الدوام فترات من الاستقطاب السياسي والاصطفافات الحزبية، حيث يتناظر الأميركيون باستمرار حول أفضل الطرق للتعامل مع الأحداث الدولية، والتغيير الديموغرافي، وتأثيرات الابتكارات التكنولوجية. ولم تُشكِّل العقود الأخيرة من القرن العشرين والعقدين من القرن الواحد والعشرين أي استثناء لذلك.
فقد احتجب ضوء النشاط الليبرالي الذي انتشر خلال الستينات والسبعينات من القرن العشرين بفعل بروز مفاهيم المحافظين الجدد في الثمانينات من القرن العشرين. دعا المحافظون إلى إقامة حكومة محدودة الصلاحيات، وقوة دفاعية قومية قوية، والى اتخاذ موقف صلب ضد الشيوعية، وتخفيض معدلات الضرائب لتنشيط نمو الاقتصاد، وإلى تنفيذ إجراءات صارمة ضد الجريمة، ومفهوم ديني متشدد في الحياة العامة، وإصدار قوانين اشد صرامة لتنظيم السلوك الاجتماعي. وقد فاز الممثل السابق والحاكم الجمهوري لولاية كاليفورنيا، رونالد ريجان، الذي مثل الاستقرار لدى العديد من الأميركيين، بدورتين لرئاسة الولايات المتحدة. يعزو مناصروه الفضل في تسريع انهيار الاتحاد السوفياتي إلى السياسات التي اتبعها.
انتقل الأميركيون إلى موضع أكثر وسطية في العام 1992، وانتخبوا حاكم ولاية أركنسو بيل كلينتون، الذي نظم حملته حول مواضيع الشباب والتغيير. كان بعض مقترحات كلينتون ليبراليا تماماً كخطته لإقامة نظام للرعاية الصحية تديره الحكومة، والذي لم يصوت عليه الكونغرس أبداً. ولكن تمت الموافقة على اقتراح آخر ينص على وقف الإعانات الحكومية إلى المستفيدين من نظام الرعاية الاجتماعية ومساعدتهم في الحصول على وظائف، وهو اقتراح تم الاستيلاء عليه من المحافظين، وثبت في نهاية المطاف انه ناجح تماماً.
تحولت الاختلافات الطبيعية في السياسة إلى شعور بالمرارة بوجه خاص بعد الانتخابات الرئاسية عام 2000. كان التصويت الشعبي وتصويت الهيئة الانتخابية متعادلين تقريباً وموزعين بين الديمقراطي آل غور والجمهوري جورج دبليو بوش. ولكن تم الاعتراض على صحة الآلاف من الأصوات في ولاية فلوريدا. وأمضى الأمريكيون أسابيع ينظرون إلى خرائط تظهر الولايات التي صوتت لمرشح الحزب الجمهوري ملونة باللون الأحمر وتلك التي صوتت لصالح المرشح الديمقراطي ملونة باللون الأزرق. ومنذ ذلك الحين أصبح تعريف الآراء السياسية بأنها “حمراء” (جمهورية) أو “زرقاء” (ديمقراطية) أمراً مألوفاً.
وبعد سلسلة من المواجهات أمام المحاكم حول القوانين والإجراءات التي تضبط عمليات إعادة العدّ، أصدرت المحكمة العليا الأميركية قراراً بأغلبية ضئيلة لصالح انتخاب بوش.
توقع بوش ان يركز اهتمامه على مسائل محلية كالتعليم، والاقتصاد، والضمان الاجتماعي، ولكن تبدلت رئاسته بصورة لا رجوع عنها اثر أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001. في ذلك اليوم اختطف إرهابيون أجانب أربع طائرات مدنية صدموا بها برجي مركز التجارة العالمي في مدينة نيويورك، ومبنى وزارة الدفاع (البنتاغون) بالقرب من واشنطن العاصمة، ومنطقة ريفية في بنسلفانيا. أعلن بوش الحرب على الإرهاب العالمي. توحدت صفوف الأميركيين بوجه عام في المراحل الأولى، ولكن نما لدى العديدين منهم شعور بعدم الارتياح مع توسع عملية محاربة الإرهاب العالمي. وانتخابات 2000 كانت مفصلية ؛ فعلى امتداد النصف الأول من القرن العشرين درج الحزبان “الديمقراطي” و”الجمهوري” في الولايات المتحدة الأميركية على التنافس لاحتلال الوسط و التموقع بجواره دون تشدد أيديولوجي. ولم يكن الهدف من الحملات الانتخابية سوى السعي إلى استمالة الطبقة الوسطى المنتعشة اجتماعياً ذات النفوذ المتنامي على الصعيدين السياسي والاقتصادي. لكن يبدو أن السياسة الأميركية شهدت تحولاً مفصلياً خلال الثلاثين سنة الماضية تمثل في انتقال الأحزاب السياسية من الوسط إلى الأجنحة، مدشنة حقبة جديدة من الاستقطاب السياسي في الحياة الحزبية الأميركية مازالت فصولها مستمرة إلى وقتنا الحاضر. [42]
وفي ظل هذا التغير السياسي الذي أصبح ملحوظاً أكثر فأكثر سادت ثلاث نظريات، تحولت إلى شبه مسلّمات لا ريب فيها عند النظر إلى السياسة الأميركية المعاصرة. أولاها الزعم بعدم اهتمام الشارع الأميركي بالشؤون العامة، قياساً إلى بقية شعوب العالم الأخرى. وثانيتها أن الحوار السياسي العام أصبح من الحدة والمرارة إلى درجة نفّرت معظم الناخبين. وثالثتها الاعتقاد بأن المماحكة السياسية بين الحزبين المتنافسين، الجمهوري والديمقراطي، صرفت اهتمام الناخبين في الدوائر الجغرافية بانتخابات الكونجرس، ما يرجح احتمال بقاء الأعضاء في مقاعدهم دون مساس.[43]
لكن هناك من يرى خطأ تلك النظريات الثلاث [44] ويطرح ثلاث مقولات أساسية.
(1) هناك تزايد ملحوظ في عدد المواطنين الأميركيين الذين يسهمون في العملية السياسية الانتخابية ، و هناك تزايد آخر ملحوظ في حدة الاستقطاب السياسي بين اليمين واليسار الأميركيين، أي بين المحافظين والليبراليين. و هذا الاستقطاب ينعكس بدوره على الناخبين، جاذباً الكثيرين منهم إلى حلبته. ويسمي هؤلاء ظاهرة الاستقطاب هذه بالاستقطاب الحزبي الأيديولوجي. وبسبب اتساع نطاقه، فقد تقلص كثيراً عدد المستقلين والمعتدلين، مع ملاحظة أن هذه الفئة الأخيرة من السياسيين، أصبحت الأشد نفوراً وعزوفاً عن العملية السياسية كلها. تلك هي المقولة الأولى.
( 2 ) أنه خلافاً لهؤلاء الذين ينظرون إلى الواقع السياسي كما لو كان جزراً معزولة عن بعضها، يرى هذا الرأي إن حدة الاستقطاب السياسي في أوساط النخبة السياسية الحاكمة، ليست سوى انعكاس للاستقطاب الحادث في أوساط الشرائح الاجتماعية الناشطة سياسياً من المجتمع الأميركي. فليس صحيحاً إذاً القول إن ظاهرة الاستقطاب هذه بدأت من قمة الهرم السياسي لتتنزل إلى وسطه وأسفله. فإذا ما نظرنا إلى حركة “حفلات الشاي” المحافظة، نجد أنها حركة شعبية قاعدية في الأساس، علماً بدورها الكبير في توسيع حدة الاستقطاب السياسي بين المحافظين والليبراليين.
( 3 ) بذلك نصل إلى المقولة الثالثة والأخيرة؛ فخلافاً لمن يعتقد أنه كلما اتسع الاستقطاب وازدادت حدته، كلما ازداد انصراف أعداد أكبر من الناخبين عن العملية السياسية الانتخابية. وبذلك يؤكد هذا الرأي أن حدة الاستقطاب نفسها تجتذب إلى حلبتها أعداداً أكبر من عامة المواطنين، ما يعني زيادة انخراطهم في العملية السياسية، بدلاً من النفور منها.
ولا يتفق هذا الرأي مع الرأي الذي يصف شارعاً أميركياً غير مبال بالسياسة مطلقاً، أي أنه شارع محايد ولا صلة له بأي صراعات أو انقسامات أيديولوجية. ويرد اصحاب الراي المناوئ على هذا الاعتقاد بالقول إن الشارع الأميركي ليس كتلة واحدة متجانسة، وإنه يتعدد كثيراً فيما يتصل بعلاقته بالنشاط الانتخابي وبالعملية السياسية في مجملها. ولعل انضمام أقسام أكبر من الناخبين، لاسيما الناخبين الشباب الذين مارسوا حقهم الانتخابي للمرة الأولى في انتخابات عام 2008 الرئاسية والتشريعية، خير رد عملي على هذه المزاعم الخاطئة. فقد انخرطت في حملة الرئيس أوباما أعداد أكبر من الشباب، بقدر ما شاركت فئات أكبر من ناخبي اليمين في حملة الحزب الجمهوري. ليس ذلك فحسب، بل اعتمد هؤلاء في ردهم على رمي الناخبين الأميركيين باللامبالاة السياسية، على الدراسة التي أجريت لانتخابات عام 2004. فقد اتضح أن نسبة 85 في المئة من الناخبين انخرطت في نشاط من الأنشطة الانتخابية لذلك العام. وأشارت نتائج الدراسة نفسها إلى انخراط نحو 50 في المئة في فعاليتين انتخابيتين على الأقل، وانخراط 25 في المئة على الأقل في ثلاث أو أربع فعاليات انتخابية.[45].
لكن ما يغفله المعلقون والصحفيون، هو تلك الطبيعة المركبة للاستقطاب السياسي وعلاقته المتداخلة مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي في الولايات المتحدة. فمنذ البداية يضع بعض المحللين نموذجاً ثلاثي الأبعاد يتوزع بين السياسة والاقتصاد والديموغرافيا، حيث يلعب الأداء الاقتصادي غير المتكافئ للشرائح الاجتماعية المختلفة دوراً بارزاً في ظهور الاستقطاب السياسي بين “الجمهوريين” و”الديمقراطيين”. وبقدر ما اتسعت الهوة بين طرفي السياسة الأميركية بقدر ما تعمقت الفجوة الاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية،
حيث أصبحت الفجوة التي تفصل بين “الجمهوريين الريفيين” و”الديموقراطيين الحضريين” أكثر اتساعاً. وتزداد معركة الفوز بأصوات الناخبين من سكان الضواحي والأرياف ضراوة يوماً بعد يوم. ولم يقال إلا القليل حول الفرز وعدم التكافؤ الاقتصادي بين “الولايات الحمراء” المحافظة المحسوبة على الحزب الجمهوري، و”الولايات الزرقاء” المنفتحة المحسوبة على الحزب الديموقراطي، وهو الانقسام الذي لا يقل خطورة عن الاستقطاب السياسي.
وبشكل عام، تُعدّ الولايات الزرقاء، مثل كاليفورنيا ونيويورك وإيلينوي، والتي يعتمد اقتصادها على الصناعة المالية كالبنوك والبورصات، والتجارة، وتكنولوجيا المعلومات، أكثر غنىً من الولايات الحمراء. إلا أن الولايات الحمراء، مثل تكساس وجورجيا، سجلت نجاحاً لافتاً في مهمة الرفع من مستوى معيشة سكانها وخاصة فيما يتعلق بتخفيض أسعار وتكاليف السكن.
وعلى أن اقتصاد الولايات “الحمراء” الذي يعتمد على استخراج مصادر الطاقة والزراعة، يتصف بأجور العمل المنخفضة والمعدلات الأعلى من الفقراء والانخفاض في مستوى التحصيل الدراسي بالمقارنة مع الولايات الزرقاء. إلا أن سكانها يستفيدون من التكاليف المنخفضة للعيش. وبالنسبة لمواطن ينتمي إلى شريحة الطبقة الوسطى، يكون تحقيق الحلم الأميركي بامتلاك منزل رحب مع حديقة وزوج من السيارات، أكثر سهولة في ولاية حمراء مثل أريزونا مما هو في ولاية ملونة بالأزرق الداكن مثل ماساشوستس.
في كتاب “الانقسام: حالة أميركا البيضاء، 1960 -2010″، جمع عالم الاجتماع “تشارلز موري” [46]كمية كبيرة من المعطيات ليُظهر أن الولايات المتحدة طوَّرت نوعاً جديداً من النظام الطبقي، (وهو يركز على البيض لكي يوضح أن الأمر لا يتعلق فقط بمسألة تصيب السود واللاتين ومجموعات إثنية أو عرقية أخرى). فأعضاء الطبقة العليا المتعلمون تعليماً عالياً يقومون بعزل أنفسهم عن أميركيين آخرين ليس فقط من حيث مكان سكنهم، ولكن أيضاً من حيث الطريقة التي يربون بها أطفالهم ويمارسون جوانب أخرى من حيواتهم اليومية.[47] وبالطبع، فإن أعضاء الطبقة الأدنى لديهم قدر أقل من المال، ولكن اتجاهات مشؤومة تتكالب لتبقي عليهم في الحضيض، ويشمل ذلك انخفاض معدلات مشاركة الطبقة العاملة (حتى قبل الركود الكبير) وارتفاع معدلات الولادات خارج مؤسسة الزواج. غير أنه إذا كان “موري” محقاً، فإن الجيل المقبل من المهنيين المتعلمين سيتألف بشكل كلي تقريباً من أبناء وبنات مهنيين متعلمين آخرين؛ وذلك لأن أعضاء الطبقة العليا يرسلون أطفالهم إلى المدارس الجيدة، ويدربونهم على طرق النجاح، ويعرفون كيف يصطادون قبولهم من قبل الجامعات. ورغم أن بعض النقاد أشاروا إلى بعض العيوب في تفاصيل الحجج التي دفع بها موري، إلا أنه من الصعب دحض فكرته الرئيسية: أنه أمر سيء أن يكون لدينا مثل هذه الطبقات الاجتماعية المتباعدة بشكل حاد.ويأمل “موري” في حدوث صحوة مدنية كبيرة يخرج فيها أعضاء الطبقة العليا من قوقعتهم، بحيث يعلِّمون أطفالهم قيمة العمل الجسدي والخدمة العسكرية (وهي مجالات تقتصر عموماً على الأقل غنى)، وأن يصبحوا أكثر نشاطاً في التجمعات الدينية، ويشاركوا في الحياة الاجتماعية بجدية أكبر من حضور الفعاليات الخيرية. وفي هذا الإطار، كتب موري يقول: “إن ما على عدد كبير من الناس، ولاسيما في الطبقة العليا الجديدة، هو أن يعملوا بالأشياء التي يدعون إليها”. ويمكن القول إن اقتراحات “موري” مثالية وليست محددة جداً، إلا أنها يمكن أن تشكل نقطة البداية لنقاش مفيد ومهم في الحملة الانتخابية الرئاسية.
وتبين كتابات فوكوياما سيما كتابه “أصول النظام السياسي”،[48] انه طرح سؤال جوهري عن النظام السياسي في أميركا اليوم وهو: هل انتقلت أميركا من الديمقراطية إلى “الفيتوقراطية”، أي من نظام هدفه منع أي أحد داخله من التمتع بسلطة كبيرة، إلى نظام لا يستطيع أحد داخله التمتع بالسلطة الكافية لاتخاذ أي قرار مهم على الإطلاق؟
ويقول فوكوياما: “هناك أزمة سلطة، ونحن غير مستعدين للتفكير في ذلك من هذا المنظور. دائما ما يفكر الأميركيون في تقييد نطاق سلطة الحكومة، حين يفكرون في مشكلة الحكومة”. ويعود هذا إلى جذور الثقافة السياسية، فقد تم وضع سيادة القانون والتداول الديمقراطي المنتظم للسلطة وحماية حقوق الإنسان كعراقيل تحول دون تكوين حكومة مركزية تتمتع بسلطة مبالغ فيها. وأضاف فوكوياما: “لكننا ننسى أن الحكومة تشكَّل حتى تكون فاعلة وقادرة على اتخاذ القرارات”.
ويغيب هذا الأمر على المستوى الفيدرالي. ويفترض في النظام، الذي يتضمن قدرا كبيرا من الرقابة والتوازنات مثل النظام الامريكي، بل ويجدر به، أن يتضمن الحد الأدنى من التعاون بين الحزبين حول القضايا الكبرى رغم الاختلافات الفكرية بينهما. مع الأسف، اجتمعت عدة عوامل، منذ نهاية الحرب الباردة، التي كانت بمثابة قوة هائلة تفرض التوصل إلى حل وسط بين الأطراف، لإحداث شلل تام في نظامنا. وأضفنا المزيد من الرقابة والتوازنات بالنسبة إلى المبتدئين بحيث تزداد عملية صناعة القرار صعوبة مثل الاعتراض في مجلس الشيوخ الذي يستغل لمنع أي تعيينات من السلطة التنفيذية أو قاعدة المماطلة في مجلس الشيوخ التي تتطلب تصويتا بأغلبية 60 صوتا بدلا من 51 صوتا لتمرير أي تشريع مهم. باتت الأحقاد تسيطر على الخلافات السياسية الامريكية أكثر من أي وقت مضى.
تبدو الولايات المتحدة اليوم مثل مجتمع كتب عنه خبير العلوم السياسية مانكور أولسون في كتابه الصادر عام 1982 “صعود وانهيار الأمم”..[49] وحذر مانكور في كتابه من زيادة عدد جماعات الضغط التي تركز على مصالحها في الدولة، والتي تتمتع بميزة فطرية عن الأغلبية العظمى التي تركز على مصالح الدولة ككل، حيث تؤدي إلى امتصاص أنفاس الحياة من النظام السياسي مثل الأخطبوط إلا إذا احتشدت الأغلبية ضدها.
ويعبر فوكوياما عن هذا بطريقة أخرى حين يقول إن عدد الأقليات المنتظمة في جماعات تركز على مصالحها ومواردها وبازدياد، مثلما تزداد قدرتها على الحشد عن أي وقت مضى، في الوقت الذي تضعف فيه كل آليات تنفيذ إرادة الأغلبية عن أي وقت مضى. ويؤدي هذا إما إلى شلل تشريعي، أو عدم الوصول إلى المستوى المثالي ورقع من الموائمات .
ويشير إدوارد لوس، كاتب عمود في “فايننشيال تايمز” ومؤلف كتاب “أوان التفكير: أميركا في عصر الاضمحلال” Time to Start Thinking: America in the Age of Descent، “إلى أنه إذا كنت تصدق الوهم بأن نجاح أميركا الاقتصادي قائم على حكومة ليست لها صلاحيات كاملة، فالأزمات والنظام الفيتوقراطي يناسبك تماما، لكن إذا كنت تدرك تاريخ أميركا، فستعرف حتما أن الحكومة اضطلعت بدور محوري وحيوي في تحقيق النمو من خلال الحفاظ على سيادة القانون، ونشر القواعد التنظيمية التي تشجع المخاطرة وتحول دون التهور، وتعليم القوى العاملة، وتشييد بنية تحتية، وتمويل البحث العلمي، مما يجعل الفيتوقراطية نظاما خطيرا للغاية، حيث يقوض سر نجاحنا الذي يكمن في الشراكة المتوازنة بين القطاعين العام والخاص. ”
ويقول فوكوياما: “لسنا بحاجة إلى قيادة قوية للخلاص من حالة العجز الحالي، بل إلى تغيرات في القوانين المؤسسية”.
خلاصة القول:
كتب قاضي المحكمة العليا تشارلز إيفانز هيوز في كتابه، المحكمة العليا في الولايات المتحدة (1966)، أن هذه المحكمة “أميركية بامتياز من حيث فكرتها ووظيفتها، وهي لا تدين بكثير للمؤسسات القضائية السابقة”. لأجل فهم ما الذي قصده واضعو الدستور بالنسبة للمحكمة، يجب أخذ مفهوم أميركي آخر بعين الاعتبار: الشكل الفدرالي للحكومة. لقد استشرف المؤسسون في آن واحد قيام حكومة قومية وحكومات للولايات؛ وكان على محاكم الولايات التقيد بالقوانين الفدرالية. غير أن التفسير النهائي (الفاصل) للقوانين الفدرالية لم يمكن تركه لمحاكم الولايات ولا، وحتماً، لمحاكم عدة ولايات قد تأتي أحكامها غير متوافقة. وهكذا، أصبح على المحكمة العليا أن تفسر التشريعات الفدرالية. تمثلت إحدى النوايا الأخرى للمؤسسين بأن تتمكن المحكمة العليا من الحكم مباشرة بشأن المواطنين الأفراد كما وبخصوص أي ولاية من الولايات.
نظراً إلى أهمية المحكمة العليا بالنسبة لنظام الحكم الأميركي، ربما كان لا بد من أن تثير المحكمة جدلاً كبيراً. قال تشارلز وارن، الباحث الطليعي في موضوع المحكمة العليا، في كتابة، المحكمة العليا في تاريخ الولايات المتحدة: “ما من شيء في تاريخ المحكمة مُلفت أكثر من أنه، في حين أدرك أصحاب الفكر والوطنيون وقعها الهام واللازم في شكل الحكومة الفدرالي إلا أنه، ما من فرع حكومي، وما من مؤسسة بموجب هذا الدستور، تعرضت لهجمات متواصلة أكثر، ولا استطاعت ان تبلغ منزلتها الحالية عقب معارضة لها أكثر ضراوة.”
ان الصخب الدائر بالولايات المتحدة منذ اختلال التوازن في المحكمة لصالح اليمين الأمريكي
، مصدره الدور الخطير الذي تلعبه المحكمة في ترتيب مجمل الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وقد فتح التغيير في تشكيل المحكمة، الباب لحدوث تحولات راديكالية ستؤدي، على الأرجح، للتراجع عن الكثير من المكتسبات التي حققتها الأقليات والمرأة والعمال منذ الستينيات. فالمحكمة العليا الأميركية، هي قمة هرم القضاء الفيدرالي، وهي المحكمة الوحيدة التي أنشأها الدستور الأميركي، في حين عهد للكونغرس بإنشاء كل المحاكم الفيدرالية الأدنى.
والمحكمة العليا باتت مسيسة على نحو لا تخطئه العين. ففي حالة خلو أحد مقاعدها التسعة، بوفاة أحد القضاة أو تقاعده بإرادته الحرة، يكون للرئيس حق اختيار من يخلفه، وهو الاختيار الخاضع لموافقة مجلس الشيوخ.
والرئيس يختار للمحكمة من يتفق معه في التوجه السياسي والأيديولوجي. ومجلس الشيوخ، هو الآخر، يوافق على من اختاره الرئيس أو يرفضه بناء على المعيار نفسه. ولأن أحداً لا يستطيع إقالة قاضٍ في المحكمة العليا، فإن فرصة اختيار قضاة المحكمة لا تتوفر لكل الرؤساء الأميركيين.
والطابع المسيس للمحكمة، لا يقتصر على تشكيلها، لأنها في الحقيقة تصنع السياسة العامة. وقضاتها يفسرون الدستور وفق رؤاهم الأيديولوجية. والتاريخ الأميركي نفسه يشهد بذلك.
فالمحكمة، التي كانت في القرن التاسع عشر، قد اعتبرت الفصل العنصري “دستورياً”، هي نفسها، بعد التحول الذي طرأ على تشكيلها، التي قررت أن ذلك الفصل ليس فقط مناهضاً للدستور، وأنما “يترك جروحاً” يصعب التئامها، على حد تعبيرها، في حكمها التاريخي عام 1954، الذي أنهي الفصل العنصري في التعليم.
والمحكمة التي تميل اليوم نحو اليمين، بواقع ثلاثة اصوات، قد صارت أكثر ميلاً للتراجع عن الكثير من حقوق الأقليات، بدءاً بتفسيرها للحق في التصويت، ومروراً بمراعاة الأقليات التي اضطهدت تاريخياً في التوظيف والتعليم والسكن، ووصولاً لحقوق المرأة، بما في ذلك قضية الإجهاض، التي تتخذ موقعاً مركزياً في الاستقطاب السياسي الأميركي.
وفي عهد جو باين الرئيس الديمقراطي باتت المحكمة العليا اليمينية تمثل رياحًا معاكسة رئيسية. لكن الاقتراحات المقدمة لإصلاح المحكمة والحفاظ على شرعيتها عبر تعبئة المحكمة ، هو “تكتيك مفضل للطغاة” كما ان محاولة فرانكلين دي روزفلت لاستخدامه “تسببت في ضرر سياسي دائم لرئاسته”. ولهذا فشلت تلك المحاولات .
د. عبد العظيم محمود حنفي
أستاذ العلوم الاقتصادية والسياسية
دكتوراه كلية الاقتصاد والعلوم السياسية / جامعة القاهرة
[1] المادة الثالثة، القسم 1 من الدستور الأمريكي
[2] Lee Epstein, Jeffrey A. Segal & Chad Wester land, The Increasing Importance of Ideology in the Nomination and Confirmation of Supreme Court Justices, 56 Drake L. Rev. 609, 615 ,2008.
[3] Max Weber The Theory of Social and Economic Organization translated by AM. Henderson and Talcott parson Edited with an introduction by Talcott parsons (New York Oxford Univ Press 1947 pp 120-126.
[4] Almond and Powell, comparative politics A development approach, (Boston- Toronto: little brown and company 1996), p18.
[5] Robert M. Maclver, The web of Government, (New York Macmillan company 1947) p.4.
[6] Max Weber the Theory of Social and Economic Organization translated by AM. Henderson and Talcott parson Edited with an introduction by Talcott parson s(New York Oxford Univ. Press 1947 ) pp 124-126
[7] David Easton, A Systems Analysis of political Life( New York: Wiley,1965.p,278.
[8] عبدالعظيم حنفي ، تأثير التحولات في النظام الدولي على شرعية النظم السياسية العربية ، رسالة ماجستير القاهرة ، جامعة القاهرة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، 2002 ) ., ص 46 .
[9] المصدر نفسه , ص 47
[10] David Easton, A Systems Analysis of political Life( New York: Wiley,1965.p,278.
[11] منشورات وزارة الخارجية الامريكية: لمحكمة الأميركية العليا، حارسة الدستور20 تشرين الأول/أكتوبر 2014
http://iipdigital.usembassy.gov/st/arabic/pamphlet/2014/10/20141017309997.html#ixzz4YQgpeihy
[12] المادة الثالثة، القسم 1) من الدستور الأمريكي
[13] لمادة الثانية، القسم 2 من الدستور الأمريكي
[14] The President] shall nominate, and by and with the Advice and Consent of the Senate, shall appoint … Judges of the supreme Court …” Article II, Section 2, Clause 2 of the United States Constitution
[15] Charles Warren, the Supreme court in United States history, little, Brown, and Company, 1926. p 6
[16] Alexis de Tocqueville, Democracy in America, University of Chicago Press; 2002, p 23
[17] سيما وأنه قد سبق للقاضي وارن – صاحب الاتجاه التقدمي – أن تقدم بطلب التقاعد للرئيس الامريكي ليندون جونسون” مخافة أن يصل البيت الأبيض رئيس جمهوري، وتضطره الظروف إلى التقاعد، فيقوم الرئيس بشغل موقعه بقاض مُحافظ. وعلى أية حال فقد حدث ما تخوف منه “وارن”، فقد قام الرئيس الجمهوري نيكسون بتعيين القاضي المحافظ “برجر” ليحل محل “وارن”.
[18] Rebecca Traister, It Shouldn’t Have Come Down to Her. Some will try to blame Ruth Bader Ginsburg for not stepping down sooner. They are missing the point, 19 Sep 2020.
[19]” Courts have a vital responsibility to enforce the rule of law, which is critical to a free society. But courts are not designed to solve every problem or right every wrong in our public life. The policy decisions and value judgments of government must be made by the political branches elected by and accountable to the People. The public should not expect courts to do so, and courts should not try …”
[20] فرانس برس، بايدن يشكل لجنة لإصلاح المحكمة العليا, 9 ابريل , 2020 .
[21]Russell Wheeler, What should we expect from Biden’s commission on Supreme Court reform?, Brookings , February 25, 2021
[22] Kalvis golde ,With Democrats in control, Supreme Court reform proposals reclaim center stage
[23] Aaron Blake 4 ideas for Supreme Court reform Washington post April 15, 2021
[24] Janet Nguyen .What Supreme Court reforms are available to Democrats? Sep 29, 2020
[25] Quinta Juridic & Susan Hennessey, The Reckless Race to Confirm Amy Coney Barrett Justifies Court Packing, 4 Oct 2020.
[26] Michelangelo Signorile, Ginsburg’s death is earth-shattering, 19 Sep 2020
[27] Elie Mystal, There Is Only One Way Out of This Crisis: Expand the Court, 23 Sep 2020
[28] Elie Mystal, There Is Only One Way Out of This Crisis: Expand the Court, 23 Sep 2020.
[29] الجناح اليساري للحزب الديموقراطي يضغط على بايدن لإصلاح المحكمة العليا، وكالة الانباء الفرنسية , 15 ابريل , 2021
نشرت في: 15/04/2021
[30] Ganesh Sitaraman, Daniel Epps, How to Save the Supreme Court Vanderbilt University Law School,2019
[31] Janet Nguyen .What Supreme Court reforms are available to Democrats? Sep 29, 2020
[32] وكالة الانباء الفرنسية , 15 ابريل , 2021
[33] وكالة الانباء الفرنسية , 15 ابريل , 2021
[34] Interview with Eric Posner, project syndicate, Jun 1, 2021.
https://www.project-syndicate.org/say-more/an-interview-with-eric-posner-2021-06?barrier=accesspaylog
[35] وكالة الانباء الفرنسية , 15 ابريل , 2021
[36] ABC NEWS , Supreme Court upholds Arizona restrictions in major voting rights, racial discrimination case,01,07,2021
[37] بايدن يدعو الكونجرس لتقنين الإجهاض فيدرالياً.. ويحذر من مسار المحكمة العليا, موقع الشرق على الانترنت , 24 يونيو 2022
[38] نيويورك تايمز , عدد 1 يوليو , 2022
[39] موقع البيت الأبيض على الانترنت , 30 يونيو , 2022
[40] بلومبرج , الغاء المحكمة العليا خطة بايدن لشطب الديون الطلابية لملايين الأميركيين, 30 يونيو , 2023
[41] بايدن: المحكمة العليا “متطرفة” وتعود بالولايات المتحدة إلى الوراء, موقع الشرق , 1 يوليو 2022
[42] Nolan McCarthy, American Polarization: A Dance of Ideology and Variation in Richness “, the MIT Press, 2008, p 7
[43] Morris P. Fiorina culture War? The Myth of a Polarized America, Longman; 3rd edition ,2010
[44] ألان إي. أبراموفيتز، تلاشي الوسطية الأميركية, مطبعة جامعة يل, 2010 , صص 56-74
[45] ألان إي. أبراموفيتز، تلاشي الوسطية الأميركية، مطبعة جامعة يل, 2010 , صص132- 134
[46] Charles Murray, Coming Apart: The State of White America, 1960-2010, Crown Forum; Illustrated,2013
[47] جون غاي , أميركا وخطر الانقسام الطبقي ,كريستيان ساينس مونيتور, 16 يونيو 2012
[48] Francis Fukuyama, the Origins of Political Order: From Prehuman Times to the French Revolution, New York: Farrar, Straus, and Giroux, 2011
[49] Mancur Olson, the Rise and Decline of Nations: Economic Growth, Stagflation, and Social Rigidities, Yale University Press; 1982.
.
رابط المصدر: