اعداد : د. علي المؤمن – المركز الديمقراطي العربي
مدخل
يمكن القول إنّ المدرستين الأبرز اللتين تتقاسمان مساحة النفوذ الديني والتقليد منذ حوالي أربعة عقود وحتى الآن، هما: مدرسة المرجعين الكبيرين السيد روح الله الموسوي الخميني، ومدرسة السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي. وهما الزعيمان اللذان اقتسما المرجعية العليا للشيعة حتى وفاة الإمام الخميني في العام 1989، ولا يزالان يقتسمانها في تلاميذهما وامتداداتهما.
وتعود جذور مدرسة السيد الخوئي إلى مدرسة زعيم الطائفة السيد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني في النجف، والتي أنجبت جميع مرجعيات النجف العليا بعد رحيله، كالسيد محسن الحكيم والسيد محمود الشاهرودي والسيد الخوئي، بينما ينتمي الإمام الخميني إلى مدرسة الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية المعاصرة في قم، والتي أنجبت مرجعيات قم العليا بعد رحيله، كالسيد محمد رضا الكلبايكاني والسيد محمد كاظم الشريعتمداري والإمام الخميني. وبالتالي؛ فإنّ أغلب المرجعيات العليا ومراجع الصفين الأول والثاني هم تلاميذ الزعيمين الخوئي والخميني، وينتمون إلى مدرستيهما، وفي مقدّمهم: السيد علي الحسيني السيستاني والسيد علي الحسيني الخامنئي، اللذان تقاسما الزعامة الدينية للطائفة الشيعية في العالم منذ أواخر تسعينات القرن الميلادي الماضي. والحديث هنا عن الزعامة الدينية ومساحات التقليد وليس القيادة:
1ـ السيد علي ابن السيد محمد باقر بن علي الحسيني السيستاني: المرجع الديني الأعلى على مستوى شيعة العراق وكثير من المسلمين الشيعة في مختلف دول العالم، وهو إيراني من مدينة مشهد في محافظة خراسان، والتي ولد فيها في العام 1930م. وتعود أُصوله إلى أُسرة مهاجرة من العراق، ويقيم في النجف الأشرف منذ العام 1951م، وهو وريث مدرسة الإمام الخوئي وحوزة النجف، وقد تفرّد بالمرجعية النجفية العليا في أواخر عقد التسعينات من القرن الماضي، وتحديداً بعد رحيل مراجع النجف الكبار: السيد الخوئي، والسيد عبد الأعلى السبزواري، والشيخ علي الغروي، والشيخ مرتضى البروجردي، والسيد محمد الصدر، والسيد حسن بحر العلوم.
2ـ السيد علي ابن السيد جواد بن حسين الحسيني الخامنئي: المرجع الديني الأعلى على مستوى إيران وكثير من المسلمين الشيعة في مختلف دول العالم، وهو إيراني مولود في مشهد في العام 1939م ، ويقيم في طهران منذ العام 1978م، وتعود جذوره إلى مدينة خامنه في محافظة آذربيجان الشرقية الإيرانية، وهو وريث مدرسة الإمام الخميني وحوزة قم. وقد تبلورت مرجعيته في أواخر عقد التسعينات من القرن الماضي، ولا سيما بعد رحيل مراجع قم الكبار: السيد محمد رضا الكلبايكاني، والشيخ محمد علي الأراكي، والشيخ محمد الفاضل اللنكراني، والشيخ جواد التبريزي، والشيخ محمد تقي بهجت.
ويمكن القول إنّ 80% من شيعة العراق وإيران وبلدان الخليج ولبنان وسورية والهند وباكستان وأفغانستان وآذربيجان وروسيا وبلدان شرق آسيا ونيجيريا ومصر وباقي بلدان إفريقية وأُوربا والأمريكتين، يقلدون السيد السيستاني والسيد الخامنئي. أما الـ 20% الباقين من الشيعة المقلدين؛ فإنّهم يرجعون بالتقليد إلى المراجع الآخرين، سواء مراجع الصف الأول أو الثاني. ولعل أغلب المسلمين والمتشيعين الجدد، ولا سيما في شرق آسيا وإفريقية وأُوربا، يرجعون بالتقليد أيضاً إلى السيد علي الخامنئي والسيد علي السيستاني، وهما المرجعان الأنشط تبليغياً خارج المساحات التقليدية للشيعة.
والأرقام المذكورة المتعلقة بنسب التقليد ليست عشوائية؛ بل هي نتيجة متابعة واستقراء مستمرين للمجتمعات الشيعية منذ عشرين سنة، فضلاً عن الاستعانة بالمؤسسات البحثية والتبليغية ذات العلاقة.
مراجع الصف الأول في النجف وقم
يعتمد تصنيف المرجعيات الدينية الشيعية على أنّها مرجعية عليا أو مرجعية صف أول أو صف ثاني، على عدد من المعايير الواقعية، أبرزها: ما استقر عليه الرأي الحوزوي العام الذي تصنعه جماعات أهل الخبرة والضغط، وحجم المرجعية ومساحة نفوذها الديني، وتأثيرها ونسبة مقلديها في العالم، وليس في العراق وإيران وحسب. وبالتالي؛ فإنّ تصنيف مرجعيات الصف الأول أو الثاني، لا علاقة له بالاشتراطات الإصلاحية الطموحة ذات المداليل الواسعة جداً، والنسبية في تطبيقاتها، والتي يستحيل إحرازها، كالأعلمية، فلا هي مقولة فقهية أو علمية، ولا رتبة وظيفية؛ بل هي مقولة إجرائية واقعية عرفية، تدل على المراجع الذين لهم مقلّدون ونفوذ ديني يلي نفوذ المرجعين الأعليين وعدد مقلديهم.
ويبلغ عدد مراجع الصف الأول في قم والنجف حالياً ثمانية مراجع، هم:
- 1ـ السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، عراقي يقيم في النجف، يمثل امتداداً لمدرسة السيد محسن الحكيم وحوزة النجف.
- 2ـ الشيخ محمد إسحاق الفياض، أفغانستاني يقيم في النجف، وهو امتداد مدرسة الإمام الخوئي وحوزة النجف.
- 3ـ الشيخ بشير حسين النجفي، باكستاني يقيم في النجف، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخوئي وحوزة النجف.
- 4ـ الشيخ حسين الوحيد الخراساني، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخوئي وحوزة النجف.
- 5ـ الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة السيد حسين البروجردي وحوزة قم.
- 6ـ السيد كاظم الحسيني الحائري، عراقي من أصل إيراني يقيم في قم، وهو امتداد مدرسة السيد محمد باقر الصدر وحوزة النجف.
- 7ـ السيد موسى الشبيري الزنجاني، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة السيد حسين البروجردي وحوزة قم.
- 8ـ الشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة السيد حسين البروجردي وحوزة قم.
- مراجع الصف الثاني
- مراجع الصف الثاني في النجف وقم في الحال الحاضر هم الذين يلي نفوذهم الديني وعدد مقلديهم مراجع الصف الأول، وأبرزهم:
- 1ـ السيد محمد صادق الحسيني الروحاني، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخوئي وحوزة النجف.
- 2ـ الشيخ حسين النوري الهمداني، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخميني وحوزة قم.
- 3ـ السيد صادق الحسيني الشيرازي، عراقي من أصل إيراني، يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة شقيقه السيد محمد الشيرازي وحوزة كربلاء.
- 4ـ الشيخ جعفر السبحاني التبريزي، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخميني وحوزة قم.
- 5ـ الشيخ عبد الله الجوادي الآملي، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخميني وحوزة قم.
- 6ـ السيد علاء الدين الموسوي الغريفي، عراقي يقيم في النجف، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخوئي وحوزة النجف.
- 7ـ الشيخ محمد اليعقوبي، عراقي يقيم في النجف، يمثل امتداداً لمدرسة السيد محمد الصدر وحوزة النجف.
وفضلاً عن رجوع الشيعة إلى مراجع الدين الأحياء السبعة عشر، (المرجعين الأعليين السيد علي السيستاني والسيد علي الخامنئي ومراجع الصف الأول الثمانية ومراجع الصف الثاني السبعة)؛ فإنّ هناك من الشيعة من لا يزال ـ بناءً على فتوی أحد المراجع الأحياء المذكورين ـ باقياً على تقليد المراجع المتوفين، وخاصة الإمام الخميني والإمام الخوئي والسيد عبد الأعلى السبزواري والسيد محمد الصدر والسيد محمد رضا الكلبايكاني والسيد محمد الشيرازي والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد تقي بهجت والسيد محمد باقر الصدر. والأخير هو أقدم مرجع ديني متوفى لا يزال لديه مقلدون.
وأؤكد هنا مرة أُخرى على أن منهجي البحثي يتلخص في توصيف المشهد الشيعي والحوزوي كما هو دون تدخل، ووفق فهمي الموضوعي لسياقات الحوزة العلمية، وتوجهات الرأي العام الحوزوي في النجف وقم، ولست صاحب قرار أو من أهل الخبرة الفقهية، لكي أحدد مستويات الاجتهاد والفقاهة والعدالة والكفاءة. أي أنّ عدم تصنيفي لأسماء علماء دين معروفين، إيرانيين وعراقيين وأفغانستانيين وباكستانيين وبحرانيين، ضمن مرجعيات الصفين الأول والثاني، ليس تجاهلاً مني لهذا الفقيه وذاك المرجع؛ بل إنّ سياقات الحوزتين النجفية والقمية وتوجهات الرأي العام الحوزوي؛ تجعلهم خارج معايير التصنيف. ويضاف إليه أنّ الشارع الشيعي المتدين هو ـ غالباً ـ تقليدي في نظرته إلى الحوزة والمرجعية، ويميل إلى الالتزام بالرأي العام الحوزوي التقليدي.
المرجعية النجفية بعد السيستاني
تبدو الخيارات في النجف الأشرف بعد رحيل مرجعه الأعلى السيد علي السيستاني(مواليد 4 آب / أغسطس 1930 م = 91 عاماً)، سهلة ومحددة في ظاهرها؛ لأنّها منحصرة تقريباً في مرجعيات الصف الأول الثلاث المتعارفة حوزوياً: السيد محمد سعيد الحكيم، والشيخ بشير حسين النجفي، والشيخ محمد إسحاق الفياض؛ بل إنّ الخيار الواقعي شبه المتحقق هو السيد محمد سعيد الحكيم. ولكن السيد الحكيم هو الآخر كبير في السن (مواليد العام 1934= 87 عاماً)، ويعاني من بعض أمراض الشيخوخة المعتادة، وينطبق الأمر أيضاً على الشيخين الفياض (مواليد العام 1930 = 91 عاماً)، وبشير النجفي (مواليد العام 1942 = 79 عاماً). وفضلاً عن أنّ المرجعين الأخيرين طاعنان في السن؛ فإنّ أسباباً أُخر تستبعدهما عن موقع المرجعية العليا؛ حتى في حال رحيل السيدين السيستاني والحكيم؛ أحدها أنهما ليسا من السادة (أحفاد رسول الله)، والحال أنّ العقل الباطن للشيعي العراقي؛ بل غير العراقي أيضاً، بات يألف العمامة السوداء التي تذكِّره بأبناء رسول الله والإمام علي والسيدة الزهراء. وبرغم أنّ قضية العمامة السوداء تفتقد إلى الأصل التشريعي والتاريخي؛ لكنها باتت عرفاً منذ أكثر من قرن وحتى الآن، أي منذ مرجعية السيد أبو الحسن الإصفهاني في العام 1920 وحتى الآن؛ إذ لم يتبوّأ موقع المرجعية العليا منذ ذلك الحين وحتى الآن أي فقيه من غير السادة.
ولذلك ينبغي الحديث عن مرحلة ما بعد السيد السيستاني والسيد الحكيم، وليس السيستاني وحسب، وهي مرحلة صعبة ومعقدة؛ بل أصعب من المراحل التاريخية التي تشظّت فيها الخيارات، كمرحلة ما بعد وفاة شيخ الشريعة الإصفهاني في العام 1920، والذي خلفه أربعة مراجع كبار: الشيخ الميرزا محمد حسين النائيني، والشيخ ضياء الدين العراقي، والشيخ عبد الكريم الحائري، والسيد أبو الحسن الإصفهاني، ولم يتفرد الإصفهاني بالمرجعية العليا نهائياً إلّا بعد وفاة العراقي والنائيني والحائري، أو مرحلة ما بعد رحيل السيد أبوالحسن الإصفهاني في العام 1946، والذي خلفه السيد حسين البروجردي والسيد عبد الهادي الشيرازي والسيد محسن الحكيم، ولم تستقر المرجعية العليا نهائياً للسيد الحكيم إلّا بعد وفاة البروجردي في العام 1961 والسيد عبد الهادي الشيرازي في العام 1961 أيضاً، أو مرحلة ما بعد رحيل الإمام الخميني في العام 1989؛ إذ كان هناك السيد الخوئي والسيد محمد رضا الكلبايكاني والشيخ محمد علي الأراكي، أو مرحلة ما بعد وفاة السيد الخوئي في العام 1992؛ فقد كان المرجع الأبرز هو السيد محمد رضا الكلبايكاني، ولكن برز أيضاً مراجع كبار كالشيخ محمد علي الأراكي والسيد عبد الأعلى السبزواري والشيخ علي الغروي والشيخ مرتضى البروجردي والسيد حسين بحر العلوم والسيد علي السيستاني والسيد محمد الصدر والسيد محمد سعيد الحكيم، وهي الأسماء نفسها التي ظلت الأبرز بعد رحيل السيد الكلبايكاني والشيخ الأراكي والسيد السبزواري.
لذلك؛ فإنّ مرحلة ما بعد السيستاني والحكيم ستكون هي الأصعب في النجف، منذ رحيل السيد الخوئي، وذلك للأسباب الثلاثة الرئيسة التالية:
- شحة الخيارات: وتحديداً الخيارات التي تستطيع استيعاب الشارع الشيعي العراقي المتحرك، وتمارس الرعاية العامة للنظام الاجتماعي وحركة الدولة؛ بالنظر لما بات يترتب على مرجع النجف من واجبات تجاه النظام العام بعد العام 2003؛ إذ إنّ عراق ما قبل العام 2003 يختلف عن عراق ما بعد العام 2003، وهو اختلاف ينعكس على واجبات المرجعية وأدائها، ويفعِّل تلقائياً ولايتها على الحسبة العامة والنظام المجتمعي العام بشكل واسع. وبالتالي؛ فإنّ المعضلة ليست في موضوعة المرجع الأعلم؛ بل في المرجع الأكفأ في إدارة الشأن العام، والذي يحظى بالمقبولية العامة.
- بروز الخطوط الخاصة داخل الحوزة: هذه الخطوط لا تستطيع الآن تحدّي مرجعيتي السيد السيستاني والسيد الحكيم في حياتهما؛ لكنها تنتظر رحيلهما؛ ليكون لها حضورها القوي والفاعل في الشأن العام. وهذا يعني ظهور محاور جادة من الخلافات والتعارضات على المستويين الخاص والعام. وهنا تتضاعف خطورة شحة الخيارات في الخط المرجعي العام، وخاصة إذا أصبحت هذه المحاور محط تجاذب الأجندات السياسية وأجندات الخصوم المذهبيين.
- تزامن المرحلتين الصعبتين النجفية والقمية: لعل مرحلة ما بعد السيستاني والحكيم ومراجع الصف الأول في النجف، ستتزامن مع مرحلة ما بعد الخامنئي ومكارم الشيرازي ومراجع الصف الأول في قم، وجميعم تزيد أعمارهم على الثمانين عاماً، وهو ما يزيد صعوبة الموقف الشيعي العام، والموقف المرجعي النجفي بشكل خاص؛ إذ إنّ وجود المرجعيات الكبيرة النافذة على المستوى الشيعي العالمي في النجف وإيران، يلعب دوراً في الدعم المتبادل والتعاون؛ لكن غياب مرجعيات قم المؤثرة معنوياً، سيعمق المشكلة في النجف؛ بل في أغلب بلدان الحضور الشيعي.
والذي لا شك فيه أنّ مرجع النجف الأعلى بعد السيستاني والحكيم سيكون من داخل النجف؛ لأسباب كثيرة، بعضها يتعلق بالمسار التاريخي لمنظومة المرجعية الشيعية، ومركزية النجف التقليدية في هذه المنظومة، والآخر يتعلق بالواقع الاجتماعي والسياسي الشيعي العراقي، والثالث يتعلق بوجود خيارات مرجعية ربما تكون مقبولة داخل النجف، وإن كانت شحيحة وصعبة. ولذلك؛ فإنّ احتمال رجوع حوزة النجف إلى مرجعية من خارجها أمرٌ مستبعد، بصرف النظر عن مدخلية شرط الأعلمية وتوافر الشرائط الموضوعية الأُخر. ولا أتحدث هنا عن موضوع التقليد وحسب؛ بل عن المرجع الأعلى المتصدّي للشأن العام؛ إذ إنّ التقليد ليس معضلة بالأساس؛ فهناك كثير من العراقيين في داخل العراق وخارجه يقلدون مراجع عراقيين وإيرانيين يقيمون في إيران.
وثمة أربعة مشاهد نجفية مفترضة لمرحلة ما بعد السيستاني، وهي مشاهد تدخل في دائرة الاحتمالات، ونطرحها هنا بصرف النظر عن نسبة تحققها:
1ـ مشهد تسنم السيد محمد سعيد الحكيم موقع المرجعية العليا في النجف، بعد إلغاء احتمال صعود أحد الشيخين النجفي والفياض؛ لأسباب موضوعية كثيرة، سبق ذكرها. هذا المشهد هو الأكثر واقعية كما يبدو في ظاهره، لكنه يصطدم أيضاً بعقبة تقدم السيد الحكيم في العمر وإصابته بأمراض الشيخوخة. وبالتالي؛ يصعب المراهنة على هذا المشهد؛ لاحتمال رحيل السيد الحكيم قبل السيد السيستاني، وفق الموازين الطبيعية المنظورة، أو بعده بوقت قصير.
2ـ مشهد تسنم أحد مراجع الصف الثاني في النجف موقع المرجعية العليا، وهو مشهد لا يحظى بنسبة يعتد بها من القبول؛ لا سيما أنّ عدد هؤلاء أقل من أصابع اليد الواحدة، وتواجههم مشكلة قبول الرأي العام الحوزوي بمرجعياتهم، كالسيد علاء الدين الغريفي والشيخ محمد اليعقوبي. ولذلك ينبغي إلغاء مشهد مراجع الصف الثاني أيضاً، بعد أن تم إلغاء مشهد مراجع الصف الأول.
3ـ مشهد قبول النجف بأحد المراجع النجفيين المقيمين في قم، أي الذين تخرجوا في حوزة النجف، ولا يزالون يحتفظون بمنهجيتها وبارتباطهم النفسي بها، أمثال الشيخ حسين الوحيد الخراساني والسيد كاظم الحائري والسيد محمد صادق الروحاني. وهذا المشهد لا حظوظ له أيضاً؛ لأنّ المراجع النجفيين في قم طاعنين في السن ومرضى، ومعدل أعمارهم (90) سنة، ولن يستطيع أيّاً منهم العودة إلى النجف. ويدخل في هذا المشهد أيضاً بعض علماء الدين العراقيين والإيرانيين في قم، كالسيد كمال الحيدري، وهؤلاء لا يحظون بمقبولية الرأي العام الحوزوي النجفي. وبالتالي؛ يلغى هذا المشهد أيضاً.
4ـ مشهد بروز أحد الفقهاء من أساتذة البحث الخارج المرموقين في النجف، وهم كثر؛ كالشيخ محمد هادي آل راضي والشيخ محمد باقر الإيرواني والشيخ حسن الجواهري والسيد علي السبزواري والشيخ محمد السند والسيد محمد رضا السيستاني والسيد علي أكبر الحائري وغيرهم:
– الشيخ محمد هادي آل راضي، من أحفاد الشيخ راضي النجفي، جد الأُسرة العلمية الدينية النجفية المعروفة بآل راضي، وهي فرع من بني مالك. ولد في العام 1949 في النجف الأشرف، درس في مدارس منتدى النشر التي كان يشرف عليها الفقيه المجدد الشيخ محمدرضا المظفر، إلى جانب انخراطه في سلك العلم الديني، وتدرج في مراحل الدراسة حتى بلغ مرحلة البحث الخارج، فتتلمذ عند السيد الشهيد محمدباقر الصدر، والسيد أبو القاسم الخوئي وآخرين. ثم هاجر إلى إيران في العام ١٩٨٠ بعد إعدام أُستاذه السيد محمد باقر الصدر وملاحقة تلامذته. وبعد أكثر من عشر سنوات على تدريس مرحلة السطوع العالية في الحوزة العلمية في قم، بدأ بتدريس البحث الخارج في العام 1992. وبعد سقوط النظام البعثي، عاد إلى النجف الأشرف وواصل التدريس وأداء واجباته الدينية والعلمية.
– الشيخ محمد باقر الإيرواني، من أُسرة علمية دينية نجفية تعود بنسبها إلى الشيخ الفاضل الإيرواني، النازح من منطقة آذربيجان. ولد في النجف الأشرف في العام ١٩٤٩، ودرس في مدارس منتدى النشر التي كان يشرف عليها الشيخ محمدرضا المظفر. وخلال مرحلة الدراسة الثانوية انضم إلى الدراسات الدينية في الحوزة العلمية، حتى بلغ مرحلة البحث الخارج، فحضر دروس السيد محمد باقر الصدر والسيد أبو القاسم الخوئي والسيد علي السيستاني والسيد محمد سعيد الحكيم . وبدأ بتدريس مرحلة السطوح العالية، حتى هجرته إلى إيران، حيث استمر بتدريس السطوح العالية ثم البحث الخارج بدءاً من العام 1991. ثم عاد إلى النجف الأشرف بعد سقوط النظام البعثي، واستأنف دروس البحث الخارج، ويُعدّ درسه أكبر درس في النجف حالياً.
– الشيخ حسن الجواهري، من أُسرة علمية دينية نجفية شهيرة، تعود إلى مؤسسها مرجع الشيعة في زمانه الشيخ محمد حسن النجفي المعروف بـكتابه الفقهي «جواهر الكلام». ولد في العام ١٩٤٩في مدينة النجف الأشرف، وجمع بين الدراستين الأكاديمية والدينية، فتخرج في كلية الفقه في العام ١٩٧١. كما بلغ مرحلة البحث الخارج، وحضر خلالها دروس والده الشيخ محمد تقي الجواهري، إضافة إلى السيد أبو القاسم الخوئي والسيد الشهيد محمد باقر الصدر. واعتقل في العام 1979 بتهمة النشاط السياسي الإسلامي، ثم أُبعد إلى إيران، وحينها استأنف الدراسة والتدريس والعمل العلمي والفكري والواجبات الدينية في الحوزة العلمية في قم، وحضر دروس الميرزا الشيخ جواد التبريزي والشيخ حسين الوحيد الخراساني. وبدأ بتدريس البحث الخارج في العام 1988، وكان عضواً في مجمع الفقه الإسلامي في جدة، وعضواً في المجمع العالمي لأهل البيت، قبل أن يعود إلى النجف بعد سقوط النظام البعثي في العام 2003، ويستأنف في الحوزة العلمية مهامه العلمية والدينية.
– السيد علي الموسوي السبزواري، نجل المرجع الديني السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري، ولد في النجف الأشرف في العام 1950 درس البحث الخارج على والده والسيد أبو القاسم الخوئي. ويذكر مطلعون أنّ والده أوصاه ـ قبل وفاته ـ بعدم التصدّي للمرجعية، والاهتمام بالشأن العلمي وقضاء حوائح الناس، ولذلك يستبعد هؤلاء إعلان السيد علي السبزواري نفسه مرجعاً للتقليد، فضلاً عن معاناته من مشاكل صحية مزمنة.
– الشيخ محمد السند، ولد في العام 1961 في العاصمة البحرينية المنامة. جمع في بلده البحرين بين الدراستين الأكاديمية والدينية، ثم واصل دراستة الجامعية في لندن، كما استأنف الدراسة في الحوزة العلمية في قم في العام 1980، حتى مرحلة البحث الخارج، فحضر بعد العام 1984 دروس مراجع قم الكبار، كالسيد محمد الروحاني والميرزا الشيخ هاشم الآملي والسيد محمدرضا الكلبايكاني والميرزا الشيخ جواد التبريزي، إلى جانب تدريسه مرحلة السطوح، وبعد عشر سنوات بدأ بتدريس البحث الخارج. ثم انتقل في العام 2010 إلى النجف الأشرف، وواصل التدريس في حوزتها العلمية .
– السيد محمدرضا الحسيني السيستاني، الابن الأكبر لمرجع النجف الأعلى السيد علي السيستاني. ولد في النجف الأشرف في العام 1962، ودرس في حوزتها العلمية، حتى بلغ مرحلة الخارج، فحضر دروس والده والسيد أبوالقاسم الخوئي والسيد علي البهشتي. برز دوره العام بعد سقوط نظام البعث، من خلال إدارة شؤون والده ومكاتب المرجعية العليا، وشكّل حلقة التواصل بين والده والدولة العراقية والكتل السياسية والمؤسسات الاجتماعية.
– السيد علي أكبر الحسيني الحائري، شقيق المرجع السيد كاظم الحائري، ومن أُسرة دينية علمية تعود جذورها إلى مدينة شيراز الإيرانية. ولد في مدينة النجف الأشرف في العام 1948، ودرس في حوزتها العلمية حتى حضر دروس البحث الخارج عند السيد محمدباقر الصدر وغيره من فقهاء النجف. كان من المجاهدين والمعارضين لنظام البعث منذ بدايات شبابه، من خلال قربه من السيد محمدباقر الصدر وانتمائه إلى الحركة الإسلامية العراقية، ولعب دوراً أساسياً في انتفاضة رجب في العام 1979، والتي أدت إلى إطلاق سراح السيد محمدباقر الصدر. وبعد اعتقاله؛ حكم بالسجن المؤبد، ثم تم إبعاده إلى إيران في العام 1980، فواصل عمله الجهادي والعلمي انطلاقاً من مدينة قم، واستأنف حضور دروس البحث الخارج عند شقيقه السيد كاظم الحائري وغيره من مراجع قم، إلى جانب تدريس مرحلة السطوح. ثم شرع بتدريس البحث الخارج في قم، واستأنفه بعد عودته إلى النجف الأشرف في أعقاب سقوط النظام البعثي.
وكل واحد من هؤلاء تواجهه جملة من العقبات الخاصة والعامة. وفضلاً عن العقبات الخاصة، فإنّ هناك مشكلة مشتركة عامة تكمن في كيفية وصولهم إلى موقع المرجعية العليا مباشرة، دون المرور بمرحلتي مرجعية الصف الثاني ومرجعية الصف الأول، وهو ما أسميناه في دراستنا بـ «السياقات التقليدية للتدرج المرجعي»، والتي يتجاوزها بعض علماء الدين وهو يتعجل بلوغ مستوى المرجعية؛ ما يؤدي إلى توقف تقدمه نحو موقع المرجعية العليا، وإن أصبح ـ فيما بعد ـ أعلم المراجع الأحياء وأكفأهم. بيد أنّ القدر المتيقن هو أنّ أغلب هؤلاء الفقهاء المعترف باجتهادهم وفقاهتهم وفضلهم من الرأي العام الحوزوي، سيبادر إلى طباعة رسالته العملية وطرح نفسه مرجعاً للتقليد بعد مرحلة السيستاني والحكيم، وسيرجع إليه جزءٌ مهم من الشيعة.
وبرغم العقبات المحتملة التي تقف أمام المشهد الرابع؛ لكنه يبقى المشهد الوحيد الأقرب إلى التحقق، خاصة إذا كان الفقيه المرشح يعتمر العمامة السوداء ويحظى بدعم صنّاع الرأي العام الحوزوي. ولكن هذا المشهد لن يوحد المرجعية النجفية، ولن يفرز مرجعاً أعلى بديلاً للسيد السيستاني؛ بل إنّه يفرز تشتتاً تلقائياً لفترة من الزمن، ربما لا تقل عن عشر سنوات تعقب رحيل السيستاني والحكيم؛ لأنّ أياً من الفقهاء المذكورين في المشهد الرابع لا يمكنه أن يحظى بالإجماع النسبي من الرأي العام الحوزوي؛ لأسباب موضوعية وشخصية كثيرة.
وستكون الجهة الأهم التي تلعب دوراً أساسياً في حسم المشهد؛ هي مرجعية السيد السيستاني نفسها، والتي يستمع إلى رأيها أغلب أساتذة البحث الخارج والسطوح العالية في النجف، والذين يشكلون شبكة حقيقية لأهل الخبرة. وبما أنّ بيت السيد السيستاني في النجف ومكتبه في قم؛ ركنان أساسيان في مرجعيته؛ فإنّ إشارة المرجع الأعلى السيد السيستاني ودعم بيته ومكتبه؛ ستكون مفصلية في تحديد مرجع النجف لمرحلة ما بعد السيد السيستاني والسيد الحكيم. صحيح أنّ مرجعية السيد السيستاني لن تتجاوز مرجعية السيد محمدسعيد الحكيم من بعدها، ولا يمكن لحوزة النجف ذلك أيضاً؛ إلّا أنّ الجميع يدرك أنّ السيد الحكيم ـ كما ذكرنا سابقاً ـ طاعن في السن أيضاً، ولذلك؛ فإنّ التحضير يتركز على مرحلة ما بعد السيستاني والحكيم ومراجع الصفين الأول والثاني معاً.
وتبعاً للأعراف والسياقات الحوزوية، وأساليب صناعة الرأي العام الحوزوي؛ فإنّ أغلب أصحاب الرسائل العملية الحاليين في النجف وكربلاء وقم، ممن يطرحون أنفسهم مراجع تقليد خارج السياقات غالباً، سواء كانوا عراقيين أو إيرانيين؛ هم خارج المنافسة على موقع المرجعية العليا أو مرجعيات الصف الأول والثاني.
المرجعية القمية بعد الخامنئي
ربما تكون مرحلة ما بعد السيد علي الخامنئي مؤجلة على المستوى القريب، وفق المعايير الطبيعية، كونه يتمتع بصحة جيدة، ولا يعاني من أمراض الشيخوخة، فضلاً عن ثبات وضع الدولة الإيرانية واستقرار مجتمعها ونظامها السياسي. وقد تطول مرحلة بقاء السيد الخامنئي في موقع المرجعية الدينية والقيادة الرسمية لفترة لا تقل عن خمس سنوات، ولعله ـ من خلال طبيعي الاستقراء ـ سيرث خلال هذه الفترة أغلب مقلدي مراجع النجف وقم.
وعموماً، فإنّ مرحلة ما بعد السيد الخامنئي، وإن كانت مؤجلة مؤقتاً، ستكون صعبة على إيران وعموم الواقع الشيعي العالمي؛ بل لعلها على مستوى موقع القيادة الرسمي ستكون أكثر صعوبة وتعقيداً من مرحلة ما بعد السيد السيستاني النجفية؛ لأنّ السيد الخامنئي يمثل المرجعية الدينية من جهة وقيادة الدولة من جهة أُخرى، وقد ظل الوهج المعنوي لمرجعيته الدينية ومساحة مقلديه، يضفي قوة إضافية على موقع القيادة الرسمي، ونفوذاَ معنوياً خارج حدود إيران، وهو ما سيفقده القائد القادم فيما لو لم يكن مرجع تقليد فعلي.
ويبدو صعباً، عند تشوّف المشهد الإيراني، إيجاد شخصية واحدة تسد الفراغين الذين سيتركهما السيد الخامنئي على المدى المنظور؛ بالنظر لصعوبة الشروط التي ينبغي توافرها في المجتهد الذي يجمع الموقعين: الديني المتمثل بالمرجعية العليا، والرسمي المتمثل بولاية الفقيه العامة الحاكمة. ومن هذه الشروط، أن يكون المجتهد الذي ينبغي أن يشغل موقع القيادة الحاكمة، أن يكون هو شخصياً معتقداً بولاية الفقيه المطلقة نظرياً وعملياً، وأن يكون على دراية بشؤون الدولة وعملها، وكفوءاً في مجال إدارة النظام العام وتدبيره، وواعياً بتعقيدات السياسة، وخاصة السياسة الدولية، وهو ما يلخّصه الفقهاء بشرط «الكفاءة»، الذي يضاف إلى الشرطين الأساسيين الآخرين (الفقاهة والعدالة). وهذه الشروط يصعب إيجادها في فقيه بعيد عن الدولة والنظام، ولم يسبق له أن شغل موقعاً رأسياً فيها. فالسيد علي الخامنئي ـ مثلاً ـ شغل موقع رئاسة الجمهورية لدورتين كاملتين، قبل أن يتسلم موقع الولي الفقيه الحاكم، كما كان عضواً في مجلس خبراء الدستور ومجلس خبراء القيادة، أي أنّه كان يعي وعياً ميدانياً دقيقاً بعمل الدولة ومتطلباتها التفصيلية.
وربما يوجد عدد غير قليل من مراجع الحوزة القمية ممن يُعدّ قريباً من الدولة وشغل مواقع رسمية فيها؛ كالشيخ ناصر مكارم الشيرازي والسيد موسى الشبيري الزنجاني والشيخ جعفر السبحاني والشيخ حسين النوري الهمداني والشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني والشيخ عبدالله الجوادي الآملي، وهم يمثلون اليوم أبرز مراجع الصفين الأول والثاني، وأغلبهم من تلاميذ الإمام الخميني. إلّا أنّ هؤلاء وغيرهم أكبر سناً من السيد الخامنئي، ومعدل أعمارهم (90) عاماً تقريباً، ويعاني أغلبهم من أمراض الشيخوخة الطبيعية.
لذلك؛ ينبغي هنا الحديث عن فقيهين يملآن الفراغ الذي سيتركه السيد الخامنئي، وليس فقيهاً واحداً، أحدهما للقيادة والآخر للمرجعية؛ ما يعني فصل الموقعين لأول مرة منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية في العام 1979، أما فصلاً مؤقتاً، كما حدث في حالة السيد الخامنئي في أول خمس سنوات من قيادته، أو فصلاً دائماً. وهذا يعني أن البحث سيتجه نحو فقهاء من خارج مواقع مرجعيات التقليد الحالية، ومن خارج الأسماء المعروفة المذكورة أعلاه؛ لأنّ موقع القيادة في دستور الجمهورية الإسلامية وفي الفقه لا يشترط أن يكون الولي الفقيه مرجعاً للتقليد؛ بل يكفي أن يكون مجتهداً.
ولا شك أنّ توافر الآليات المتعارفة والمقننة في إيران، على الصعيدين المرجعي والقيادي، سيسهل عملية الحسم، ويوصلها إلى النتيجة المطلوبة، وأهمها وجود جماعة مدرسي الحوزة التي ترشح مراجع التقليد، ومجلس خبراء القيادة الذي ينتخب الولي الفقيه الحاكم (قائد الدولة)؛ وإن لم تكن هذه الآليات مقبولة عند جميع المهتمين بالشأن المرجعي، وبينهم أصحاب الخطوط المرجعية الخاصة من خصوم الجمهورية الإسلامية.
1ـ بديل السيد الخامنئي في الموقع الديني المرجعي:
على مستوى المرجعية الدينية البديلة، هناك ثلاث مؤسسات حوزوية رأسية في قم سيكون لها دور في ترشيح المرجعية الجديدة في مرحلة ما بعد السيد الخامنئي، ومرجعيات الصفين الأول والثاني الطاعنة في السن، هي: جماعة مدرسي الحوزة العلمية، ومجلس الشورى العليا للحوزة العلمية، ومجلس الشورى العليا للحوزات العلمية في إيران. إلّا أنّ الدور المركزي سيبقى لجماعة مدرسي الحوزة العلمية في قم، والتي تتألف من (56) مجتهداً، أغلبهم من كبار أساتذة البحث الخارج، وهي المؤسسة الشيعية الدينية الأكثر نفوداً، والتي تمثل ما يعرف حوزوياً بـ «أهل الخبرة»، أي أنّها بمثابة مجلس شورى حوزوي ينظم عمل أهل الخبرة وجماعات الضغط الداخلي. ومما يزيد من نفوذ هذه الجماعة أنّ أغلب أعضائها هم في الوقت نفسه أعضاء في مجلس إدارة حوزة قم ومجلس الحوزات العلمية في عموم إيران من جهة، ومجلس الخبراء ومجلس صيانة الدستور التابعين للدولة من جهة أُخرى؛ أي أنّهم يجمعون بين قيادة الرأي العام الحوزوي وقيادة الرأي الديني السياسي الرسمي. وهو يساهم مساهمة أساسية ومباشرة في تنظيم عملية حسم موقع المرجعية في قم ويسهلها؛ بل حسم موقع ولاية الفقيه في مرحلة ما بعد السيد الخامنئي أيضاً.
وأول ما يتبادر إلى الذهن في هذا المجال هو أن يتم طرح أسماء مرجعيات الصفين الأول والثاني في حوزة قم؛ لتخلف مرجعية السيد الخامنئي، كما هو الحال مع النجف، وأبرزهم: الشيخ حسين الوحيد الخراساني (مواليد 1921= 100 عاماً)، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي (مواليد 1927 = 94 عاماً)، والشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني ( مواليد 1928 = ۹3 عاماً) والسيد موسى الشبيري الزنجاني (مواليد 1928 = 92 عاماً) والشيخ جعفر السبحاني ( مواليد 1929 = 91 عاماً)، وهم المعوّل عليهم في تزعم المرجعية العليا في إيران؛ لكن العامل الأساس الذي يلغي هذا المشهد برمته، هو أن جميع هؤلاء المراجع طاعنون في السن ويعانون من أمراض الشيخوخة أيضاً، ويكبرون السيد الخامنئي في العمر. ولا يختلف الأمر عن المرجعيات الرديفة، كالشيخ حسين النوري الهمداني (مواليد 1925 = 96 عاماً)، والسيد كاظم الحائري (مواليد 1938 = 83 عاماً)، والشيخ عبد الله الجوادي الآملي (مواليد 1934 = 87 عاماً)، والشيخ محمد علي كرامي القمي (مواليد 1938 = 83 عاماً)، والسيد محمدصادق الروحاني ( مواليد 1927 = 94 عاماً) والسيد محمدعلي العلوي الكركاني (مواليد 1939 = 82 عاماً).
أمّا الخطوط المرجعية الخاصة، كالمرجعية الشيرازية، أو الشخصيات التي طرحت مرجعياتها خارج السياقات المتعارفة، وبينهم علماء دين إيرانيين وعراقيين وأفغانستانيين وباكستانيين معروفين؛ فليس لها أية حظوظ في بلوغ المرجعية العليا أو مرجعيات الصف الأول في قم؛ لأنّ أعراف الحوزة القمية وسياقاتها لا تختلف كثيراً عن المعايير والسياقات النجفية. فهؤلاء هم خارج السرب وإن کانوا طيوراً.
ومن خلال التوقف عند أعمار مراجع الصفين الأول والثاني، يتبين أنّ السيد علي الخامنئي (مواليد 1939= 82 عاماً) هو أصغرهم سناً، وأنه يتمتع بصحة جيدة ولا يعاني من أمراض الشيخوخة، وأنه ربما يرث أغلب مقلدي هؤلاء مراجع إيران، وكثير من مقلدي مراجع النجف في بلدان العالم. لذلك؛ فإنّ الواقعية تستدعي هنا الحديث عن مرحلة ما بعد السيد الخامنئي ومرجعيات الصف الأول والصف الثاني، وليس مرحلة ما بعد السيد الخامنئي وحسب.
ويبدو أنّ الاحتمال الأقرب إلى التحقق في إيران، في مرحلة ما بعد السيد الخامنئي ومراجع الصفين الأول والثاني الطاعنين في السن؛ هو الاحتمال المرجح نفسه في النجف في مرحلة ما بعد السيستاني ومراجع الصف الأول؛ أي بروز فقهاء من أساتذة البحث الخارج المرموقين، ممن لم يطرحوا أنفسهم مراجع تقليد حتى الآن، ومن المؤكد أنّ أغلبهم سينشر رسالته الفقهية العملية بعد رحيل مراجع الصفين الأول والثاني في قم، ومن هؤلاء: السيد علي المحقق الداماد، والشيخ علي كريمي الجهرمي، والسيد محمدجواد العلوي البروجردي، والسيد علي أصغر الميلاني، والسيد أحمد المددي، والشيخ صادق الآملي اللاريجاني، والشيخ مهدي شب زنده دار الجهرمي، وأغلبهم لم يبلغ السبعين من عمره:
– السيد علي الحسيني المحقق الداماد، جده لأُمّه المرجع الشيخ عبد الكريم الحائري الذي أعاد تأسيس الحوزة العلمية في قم، ووالده الفقيه المعروف السيد محمد المحقق الداماد. ولد في مدينة قم في العام 1941. درس العلوم الدينية في حوزتي قم والنجف، وبعد بلوغه مرحلة البحث الخارج درس عند كبار فقهاء قم، كأبيه السيد محمد المحقق الداماد، والسيد محمد رضا الكلبايكاني، والميرزا الشيخ هاشم الآملي، وفي النجف الأشرف درس على السيد أبو القاسم الخوئي والشيخ حسين الحلي. شغل بين العامين 1981 و1991 عضوية مجلس إدارة الحوزة العلمية في قم، كما صب اهتمامه في الفترة نفسها على أسلمة وتدوين قوانين السلطة القضائية. وهو حالياً رئيس هيئة أمناء جامعة المفيد (أكبر جامعة دينية أكاديمية في قم).
– الشيخ علي كريمي الجهرمي، وهو صهر المرجع الديني الشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني، أي أنّ زوجته حفيدة مرجع قم الأعلى السيد محمد رضا الكلبايكاني. ولد في مدينة جهرم (من توابع شيراز) في العام ١٩٤٠. بدأ دراسته الدينية في مدينتي جهرم وشيراز، ثم انتقل إلى قم ليدرس في حوزتها العلمية مرحلة السطوح ثم البحث الخارج، فحضر عند مراجع قم الكبار، كالميرزا الشيخ هاشم الآملي والإمام الخميني والشيخ محمد علي الآراكي والسيد محمد رضا الگلپايگاني. وبعد عشرين عاماً من تدريس مرحلة السطوح العالية، بدأ في العام 1992بتدريس البحث الخارج.
– السيد محمد جواد العلوي الطباطبائي البروجردي، جده لأُمّه مرجع قم الأعلى السيد حسين البروجردي، وأبوه الفقيه السید محمدحسین العلوي البروجردي. ولد في مدينة قم في العام 1952. تدرج في الدراسة الدينية في حوزة قم حتى وصل إلى مرحلة البحث الخارج، فحضر عند الشيخ الوحید الخراساني والسید محمد الروحاني والشيخ عبد الله الجوادي الآملي. ثم بدأ البحث الخارج منذ العام 1991، وأعلن مرجعيته في العام 2018، رغم تحفظ جماعة مدرسي الحوزة العلمية في قم على ذلك.
– السيد علي أصغر الحسيني الميلاني، من أُسرة دينية علمية إيرانية وعراقية عريقة، فجده المرجع الديني السيد محمد هادي الميلاني ووالده السيد نور الدين الميلاني من كبار علماء كربلاء. ولد في النجف الأشرف في العام 1947. درس مرحلتي المقدمات والسطوح في الحوزة العلمية في كربلاء، ثم انتقل إلى النجف الأشرف لإكمال دراسته في البحث الخارج، إلّا أنّ موجات التهجير التي شنها نظام البعث، ضد من أسماهم التبعية الإيرانية، طالته في العام 1970، فانتقل إلى مدينة مشهد وحضر دروس البحث الخارح عند جده السيد محمد هادي الميلاني. ثم هاجر إلى مدينة قم، ومارس تدريس مرحلة السطوح إلى جانب حضوره دروس كبار فقهائها، كالسيد محمد رضا الگلپايگاني والشيخ حسين الوحيد الخراساني والسيد محمد الحسيني الروحاني والشيخ مرتضى الحائري. ثم بدأ بتدريس البحث الخارج في العام 1992.
– السيد أحمد الموسوي المددي، جده لأُمّه مرجع النجف الأعلى السيد أبوالحسن الموسوي الإصفهاني، وأبوه الفقيه السيد محمد المددي. ولد في النجف الأشرف في العام 1953. أكمل دراسة السطوح العالية في النجف، ثم حضر بحوث الخارج عند السيد أبوالقاسم الخوئي بدءاً من العام 1969. وحين أراد العودة إلى العراق بعد أدائه فريضة الحج في العام 1980، منعته سلطات البعث، فاضطر إلى الذهاب إلى إيران، واستقر في مدينة قم، وحضر لفترة وجيزة دورس السيد محمد رضا الگلپايگاني والشيخ مرتضى الحائري والشيخ حسين الوحيد الخراساني والميرزا الشيخ جواد التبريزي، وما لبث أن بدأ بإعطاء دروس البحث الخارج.
– الشيخ صادق الآملي اللاريجاني، من أُسرة علمية دينية عريقة، فأبوه الشيخ المیرزا الشيخ هاشم الآملی، أحد كبار مراجع النجف وقم، وهو صهر الشيخ حسين الوحید الخراساني، أحد كبار مراجع قم. ولد في النجف الأشرف في العام 1960م. وبدأ دراسته الدينية في العام 1977 بعد تخرجه في الثانوية. وخلال سنوات قليلة أتم مرحلتي المقدمات والسطوح، وبدأ بحضور الدراسات العليا (البحث الخارج) على يد كبار فقهاء قم، أمثال: والده، والشيخ حسين الوحيد الخراساني. ثم بدأ بعد العام 1989 بتدريس البحث الخارج في الفقه وأُصوله. انتخب عضواً في مجلس خبراء القيادة لدورتين الثالثة والرابعة، وعضواً في مجلس صيانة الدستور، ثم رئيساً للسلطة القضائية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الفترة من 2009 إلى 2019، ثم رئيساً لمجمع تشخيص مصلحة النظام.
– الشيخ مهدي شب زنده دار الجهرمي، من عائلة علمية دينية، أبوه الفقيه المعروف الشيخ حسين شب زنده دار. ولد في محافظة شيراز جنوب إيران في العام 1953، وانتقل مع والده إلى قم، وفيها بدأ دراسته في حوزتها العلمية، وتدرج في المراحل العلمية حتى بلغ مرحلة البحث الخارج، فحضر دروس الشيخ مرتضى الحائري والشيخ حسين الوحيد الخراساني والميرزا الشيخ جواد التبريزي. ثم أخذ يقدم دروس البحث الخارج منذ العام 1985. وبعد بضع سنوات أصبح عضواً في مجلس إدارة الحوزة العلمية في قم، إضافة إلى عضوية مجلس صيانة الدستور منذ العام 2013.
2ـ البديل القيادي الرسمي للسيد الخامنئي:
من بين الفقهاء البارزين متوسطي العمر الذين شغلوا مواقع رأسية في الدولة، هو الشيخ صادق الآملي اللاريجاني، رئيس السلطة القضائية السابق ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام الحالي. وهو من الفقهاء الإيرانيين النشيطين فكرياً وبحثياً، فضلاً عن تميزه العلمي والفقهي. وإذا قُدّر للشيخ اللاريجاني أن يُنتخب ولياً للفقيه بعد السيد الخامنئي؛ فإنّه الوحيد القادر على الجمع بين المرجعية الدينية وقيادة الدولة، كما هو الحال مع السيد الخامنئي. لكن الذي يضعف حظوظه بعض الانتقادات لقدراته القيادية، حين كان رئيساً للسلطة القضائية، فضلاً عن عمامته البيضاء؛ لأنّ المجتمع الإيراني، ككل المجتمعات الشيعية، يميل بوضوح إلى العمامة السوداء، كعلامة فارقة للقيادة الدينية التي تذكّره بسلالة رسول الله وعلي وفاطمة.
ولذلك؛ فإنّ الأنظار تتجه إلى فقهاء آخرين من متوسطي العمر، ممن شغلوا مواقع رأسية في الدولة، ولعل أبرزهم هو السيد إبراهيم رئيسي، الرئيس السابق للسلطة القضائية ورئيس الجمهورية المنتخب الجديد وعضو مجلس الخبراء.
والسيد إبراهيم الحسيني الرئيسي، من عائلة دينية، فوالده وجده كانا من علماء مشهد المعروفين. ولد في مدينة مشهد الإيرانية في العام 1960. دخل السلك القضائي في العام 1980 وتدرج فيه حتى أصبح رئيس السلطة القضائية بعد العام 2019. وكان يشغل منصب نائب رئيس السلطة القضائية في الفترة من 2004 حتى 2014، وانتخب عضواً في مجلس خبراء القيادة لدورتين، كما شغل موقع سادن حرم الإمام الرضا. وفي العام 2017 خاض الانتخابات الرئاسية منافساً الرئيس حسن روحاني، وحصل على ما يقرب من 40% من الأصوات، رغم أنّه لم يكن يُعرف حينها كشخصية سياسية، بل قاض وشخصية دينية، ثم أصبح رئيساً للسلطة القضائية. وفي الانتخابات الرئاسية التي جرت في حزيران 2021، انتخب رئيساً للجمهورية الإسلامية.
بدأ السيد ابراهيم رئيسي دراسته الدينية في مسقط رأسه، ثم التحق بالحوزة العلمية في قم في العام 1975، ودرس على فقهائها كالشيخ علي المشكيني والشيخ محمد الفاضل اللنكراني والشيخ الخزعلي. وفي مرحلة البحث الخارج درس على الشيخ مجتبى الطهراني والسيد علي الخامنئي والسيد محمد حسين المرعشي الشوشتري والسيد محمود الهاشمي الشاهرودي. وإلى جانب نيله درجة الاجتهاد، فإنّه حصل على الدكتوراه في القانون الخاص. ولا يزال يقدم الدروس الدينية والأكاديمية في جامعات طهران وحوزتها العلمية.
وخلافاً لموقع المرجعية الذي يتم اختيار من يشغله وفق السياقات التقليدية المتعارفة؛ فإنّ الولي الفقيه في الجمهورية الإسلامية يختاره مجلسٌ رسمي من الفقهاء من أهل الخبرة، يُنتخب أعضاؤه انتخاباً شعبياً مباشراً كل ثمان سنوات، اسمه «مجلس خبراء القيادة»، وهي سلطة خبروية فقهية مستقلة، تتألف من (88) مجتهداً، وتختص بانتخاب الولي الفقيه (قائد الدولة) ومراقبته وعزله.
.
رابط المصدر: