البداية جاءت مصاحبة لـ«قضية تجسس»؛ انفجرت ما بين عامى 1894 و1895، اتهم فيها الضابط الفرنسى اليهودى «ألفريد دريفوس» بالتجسس لصالح ألمانيا. وسجن مدى الحياة، تسببت هذه المحاكمة فى اندلاع موجة واسعة من معاداة السامية فى فرنسا، وبتأثير تلك الأجواء، أقدم الصحفى اليهودى «ثيودور هرتزل» الذى كان يعمل حينها، مراسلا فى باريس لصحيفة يومية نمساوية على تأليف كتاب بعنوان رئيسى «دولة اليهود»، وعنوانا فرعيا هو «محاولة لإيجاد حل حديث للمسألة اليهودية». وقد صدر الكتاب باللغة الألمانية فى فبراير 1896، قبل أن يترجم لاحقا إلى لغات عدة.
على خلفية حالة الاحتقان العرقى ضد اليهود التى ارتفعت وتيرتها فى فرنسا، وغيرها من البلدان الأوروبية المجاورة، اعتبر «ثيودور هرتزل» أن الحياة فى أوروبا أصبحت لا تحتمل بالنسبة إلى اليهود، بعد أن تبين له أن عوالم غير اليهود لن تسمح باندماجهم فى المجتمعات الأوروبية. ليصل إلى نتيجة؛ أن الحل الوحيد لـ «المسألة اليهودية» لا يمكن بالتالى، إلا أن يكون «قوميا». باعتبار أن اليهود يشكلون «شعبا» عليه أن يقيم دولة خاصة به، مقترحا فى هذا الوقت المبكر موقعين جغرافيين لهذه الدولة هما: فلسطين أو الأرجنتين. وعندما تحدث هرتزل عن فلسطين، لم يخف طموحه إلى أن تكون الدولة اليهودية المنشودة جزءا من المشروع الاستعمارى الأوروبى فى الشرق، إذ كان أهم ما كتبه وهو يستحث الأوروبيين فى هذا السياق «وبالنسبة لأوروبا، فإننا سنشكل هناك حاجزا يفصلها عن آسيا، وموقعا أماميا للحضارة ضد البربرية».
كانت هناك رغبة فى عقد المؤتمر الصهيونى الأول فى ميونخ بألمانيا، لكنه قوبل بمعارضة شديدة من قبل التجمع اليهودى وتدخلت الحاخامية لتحول دون ذلك. لكن ثيودور هرتزل نجح بعد جهود حثيثة، فى عقد المؤتمر الصهيونى العالمى الأول بمدينة «بال» السويسرية وافتتح أعماله فى 29 أغسطس 1897، بمشاركة أكثر من 200 مندوب قدموا من 24 دولة.
أكد فيه هرتزل، بعد إعلانه قيام ما سمى بـ«المنظمة الصهيونية العالمية»، أن الصهيونية تتطلع إلى إقامة وطن قومى للشعب اليهودى فى فلسطين، يضمنه القانون العام. وقد حدد فى خطاب الافتتاح؛ أن هدف المؤتمر هو وضع حجر الأساس لهذا المشروع، مع التأكيد أن «المسألة اليهودية» لا يمكن حلها من خلال «التوطن البطىء» أو التسلل بدون مفاوضات سياسية، أو ضمانات دولية، أو اعتراف قانونى بـ«المشروع الاستيطانى» من قبل الدول الكبرى.
وقد حدد المؤتمر ثلاثة مسارات مترابطة لتحقيق الهدف الصهيونى، وهى تنمية استيطان فلسطين بالعمال الزراعيين، وتقوية وتنمية الوعى القومى اليهودى والثقافة اليهودية، وأخيرا السعى لاتخاذ إجراءات الحصول على الموافقة الدولية على تنفيذ المشروع الصهيونى. ثم وبناء على توصية من هرتزل نفسه، تجنب المؤتمر الصهيونى الأول أن يستخدم فى مقرراته تعبير «دولة يهودية»، واكتفى بتبنى صيغة «وطن»، كى لا يستثير مزيدا من مشاعر العداء لليهود فى أوروبا وداخل الإمبراطورية العثمانية. وهى الصيغة نفسها التى وردت لاحقا فى الثانى من نوفمبر 1917 فى تصريح اللورد بلفور.
بنى هرتزل تشخيصه للمعضلة اليهودية، وبلورة الفكر الصهيونى باعتباره حلا لتلك المعضلة، على حصاد مجموعة من مفكرى اليهود الذين سبقوه فى هذا المضمار، أهمهم الحاخام كاليشر، وموزيس هس، والحاخام موهيلفر، وبنسكروغينزبرغ. وجميعهم عاشوا ما بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وسار كل منهم فى دروب لاهوتية وعرقية شتى، لكنهم تلاقوا فى المحصلة إلى نظرة موغلة فى التشاؤم بالنسبة لأوضاع اليهود المستقبلية فى البلاد الأوروبية. كما وصلوا إلى نتيجة مفادها وجوب المحافظة على الهوية اليهودية التراثية وتثبيتها، كما أن الحيز المفضل لذلك إنما هو «فلسطين» عن طريق هجرة استيطانية جماعية إليها.
ثم جاء ثيودور هرتزل؛ ليشكل الجديد فى طرحه المنهجى الهادئ، المصحوب بثقته فى أن مفهوم «الدولة» هو الحل الأكيد لما يعانيه اليهود فى المجتمعات الغربية، واطمئنانه إلى إمكان تحقيق هذا الحلم عبر تحويلها إلى قضية سياسية دولية كحل لها. استنادا وأسوة بشعوب اليونان ورومانيا والصرب والبلقان، التى كانت قد حققت حلمها فى غضون تلك السنوات التى شهدت ميلاد «الحلم اليهودى»، وكون اليهود لديهم حافز اضافى هو اللاسامية التى كانت عنوانا للمرحلة التى جرت فيه تلك الأحداث.
لذلك ووفق منطقه العملى التكتيكي؛ دعا هرتزل إلى قيام كيانين مهمين هما «جمعية اليهود»، لتكون الأداة السياسية التى تتمتع بسلطة التخطيط وإصدار القرارات التنظيمية وتقوم بكل الأعمال السياسية المطلوبة. والتى وضع على جدول أعمالها، اختيار البلد الذى سيهاجر اليهود إليه وإجراء المفاوضات مع الدول العظمى للحصول على صك «براءة» المقترح، ومن ثم تنظيم الهجرة الجماعية اللازمة خلال الاعتراف بالسيادة اليهودية على البلد المختار.
والأخرى «الشركة اليهودية» التى تتولى جمع التمويل اللازم، وتنظيم أعمال التجارة والصناعة فى البلد المختار. كما عهد إلى الشركة القيام بأعمال تصفية ممتلكات اليهود المهاجرين فى أوروبا، قبل مساعدتهم بشراء الأراضى ومد المهاجرين بالمنازل والأدوات وقروض الإنتاج. وقد تأسست الشركة اليهودية بنظام «شركة مساهمة محدودة»؛ برأس مال 200 مليون دولار وسجلت فى لندن تحت حماية السلطات البريطانية، وجمع المال المطلوب من كبار الممولين اليهود ومن بعض البنوك الأوروبية الصغيرة التى لدى الشخصيات اليهودية قدر من النفوذ عليها، ونظمت أيضا عملية اكتتاب شعبى واسع من الجاليات اليهودية فى الولايات المتحدة ومن الشخصيات التى صار لها وزن مالى معتبر فى البلدان التى كانوا يعيشون فيها قبل بزوغ هذا الحلم، وتمكنوا على خلاف ما روجت الحركة الصهيونية من تحقيق ثروات هائلة وآمنة.
المصدر: