إهود يعاري
بقدر تمكُّن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وخصومه في حكومة إسرائيل الائتلافية الهشة من إيجاد وقتٍ مقتطع من معركتهم الشاقة ضد جائحة فيروس كورونا، فإنهم يحاولون رسم مسار للبناء على زخم اتفاقهم الأخير مع الإمارات العربية المتحدة. فالاتفاق – المقرر توقيعه في احتفال بالبيت الأبيض في 15 أيلول/سبتمبر – ينبئ باحتمال انهيار الرفض العربي الرسمي للاعتراف بإسرائيل طالما بقيت المشكلة الفلسطينية دون حل. كما أنه يحمل وعداً ببناء علاقات دافئة ونشطة بسرعة مع أكثر الدول ديناميكية في الخليج العربي، على عكس السلام المُقيّد والبارد الذي تتمتع به إسرائيل مع مصر والأردن.
ويدرك الإسرائيليون أن العامل الرئيسي الذي دفع الزعيم الإماراتي الأمير محمد بن زايد إلى الانشقاق عن الصف وفكّ أغلال “مبادرة السلام العربية” لعام 2002 هو سعيه لتأمين صِفة الأفضلية مع الولايات المتحدة قبل الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر وتطوير القوات المسلحة الإماراتية. ومع ذلك، فهو ينوي أيضاً الوصول إلى التقنيات والدراية الإسرائيلية في المجالات الاقتصادية والعسكرية والأمنية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما هو الدور الذي ستلعبه الدول العربية الأخرى في تسهيل هذا التقدم والقيام بخطوات تطبيع خاصة بها.
نتنياهو وعقيدة التلافي
على الرغم من عدم قيام نتنياهو بشرح استراتيجيته بشكل كامل في كتاباته أو خطاباته، إلا أنه عمل خلال العقد الماضي على صقلها بشأن القضية الفلسطينية لتتحول إلى صيغة سياسية واقعية بسيطة. وتتلخص في ما يلي: بما أنه يتعذّر حالياً تحقيق تسوية قائمة على “إنهاء النزاع وإنهاء المطالبات” مع الفلسطينيين وفق شروطه الخاصة، فعليه بالتالي انتزاع حق النقض الفلسطيني القائم منذ مدة طويلة على العلاقات الإسرائيلية مع بقية بلدان العالم، وخاصة الدول العربية. ووفقاً لهذه العقيدة، كلما نجحت إسرائيل في إقامة نُظم صحية للتعاون مع قوى إقليمية ودولية رائدة، كلما زاد الضغط على القادة الفلسطينيين لمراجعة سياساتهم الحالية.
وبالفعل، وفّرت استراتيجية تجاوز الفلسطينيين مكاسب كبيرة لإسرائيل. فقد أقيمت علاقات وثيقة مع عدد لا يحصى من الدول التي اتّبعت في السابق سياسات سلبية أو حتى معادية تجاه إسرائيل.
والأهم من ذلك أن التعاون الرسمي آخذ في التوسع مع قوى آسيوية مثل الهند واليابان وفيتنام، بينما تنمو العلاقات غير الرسمية مع إندونيسيا. وإلى حد ما، أنجزت إسرائيل “محورها غير المعلن تجاه آسيا” في المجالات الاقتصادية والأمنية.
وفي أوروبا، نشأ تحالف فعلي مع قبرص واليونان (أكبر منتقدي الاتحاد الأوروبي لإسرائيل سابقاً). ويسري نظام تعاون أوسع نطاقاً بشأن حقول الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط مع إيطاليا وشركاء آخرين، بينما تمت إقامة علاقات دبلوماسية ودية مع معظم دول شرق ووسط أوروبا.
وفيما يتعلق بدول أخرى، غالباً ما تأخذ السياسة الروسية الحالية في المنطقة المصالح الإسرائيلية في الاعتبار، وتُظهر موسكو عموماً نهجاً ودياً تجاه الدولة اليهودية. كما تم إحياء التعاون الوثيق مع تكتل من دول شرق أفريقيا، والجهود جارية لبناء إطار عمل مماثل مع الدول الإسلامية في منطقة الساحل. وبالمثل، سعت العديد من عواصم أمريكا اللاتينية إلى تحسين علاقاتها مع إسرائيل.
وفي ضوء هذا التقدم، كان الكثيرون في إسرائيل يحبسون أنفاسهم من قيام دول عربية أخرى بالإعلان بسرعة عن اتفاقيات على غرار دولة الإمارات. ومع ذلك سيصابون بخيبة أمل – فبالنسبة للعديد من هذه البلدان، تتطلب المصالحة مع إسرائيل حسابات أكثر تعقيداً. وعلى الرغم من أن عدداً قليلاً من الحكومات في المنطقة قد أعربت عن دعمها للاتفاق الإماراتي، إلا أنها تُفضل جميعاً تقييم تداعيات هذا الحدث المثير قبل اتخاذ المزيد من الخطوات.
احتمالات التطبيع السعودي
انتهجت المملكة العربية السعودية، الجهة الفاعلة الرئيسية في التطبيع في المنطقة، مقاربة مدروسة بدلاً من الاندفاع قدماً كما يحث الرئيس ترامب، والتسرّع في اتخاذ أي خطوة بهذا الشأن. وأحد أسباب ذلك هو إدراك الرياض أن الإمارات ليست مهتمة الآن في أن تكون جزءً من مجموعة [معيّنة من الدول]، بل تريد الاستمتاع بفوائد الانفراد بممارسة فن إدارة الدولة خلال حفل التوقيع على المعاهدة في البيت الأبيض الأسبوع المقبل. وفي الواقع، لم تُبلغ أبو ظبي السعوديين بشأن الاتفاق حتى اللحظة الأخيرة تقريباً. ولهذا السبب ولأسباب أخرى، أشارت الرياض إلى البحرين بضرورة تأجيل خطط التطبيع الخاصة بها مع إسرائيل، والتي كانت موضوع نقاش في المنامة على مدار العامين الماضيين.
وفي الوقت نفسه، اتخذ السعوديون خطوات لدعم الاتفاق الإماراتي حتى في الوقت الذي أعادوا فيه تأكيد التزامهم بمبادئ “مبادرة السلام العربية”. فسرعان ما وافقوا على استخدام مجالهم الجوي للرحلات بين أبو ظبي ودبي وتل أبيب، واختصروا وقت السفر بساعات. كما ضغطوا على السلطة الفلسطينية للتوقف عن إهانة الاتفاق علناً، ولمنع المتظاهرين من إشعال الأعلام الإماراتية.
وفي غضون ذلك، نددت وسائل الإعلام السعودية بالقيادة الفلسطينية وروّجت لفوائد السلام مع إسرائيل. ووصفت إحدى المقالات النموذجية، التي نُشرت في 2 أيلول/سبتمبر في صحيفة “عكاظ”، الرئيس محمود عباس ورفاقه بأنهم “لصوص”. ثم جادل المؤلف بأن مصالح الناس الذين يعيشون في غزة والضفة الغربية تجبر “الحكماء العرب” على النأي بأنفسهم عن “عصابات الانتهازية السياسية” والتفاوض مع إسرائيل لضمان سلام شامل في المنطقة. وعلى الصعيد الديني، أشاد الشيخ عبد الرحمن السديس، الرئيس العام لشوؤن المسجد الحرام والمسجد النبوي في مكة المكرمة، بالعلاقات الطيبة للنبي محمد مع اليهود خلال خطبة الجمعة في 4 أيلول/سبتمبر.
والأهم من ذلك، أن الاتصالات السرية مع الرياض جعلت القدس واثقة تماماً من أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عازم على تطبيع العلاقات في وقت ما في المستقبل، على الرغم من اعتراضات البعض في الديوان الملكي وإحجام والده عن التخلي عن مبادرة السلام. وفي أبو ظبي، برّر ولي العهد محمد بن زايد اتفاقه مع إسرائيل بالإشارة إلى أنه يمنع ضم بعض المناطق في الضفة الغربية إلى الدولة اليهودية. ويسعى نظيره السعودي إلى تحقيق إنجاز فلسطيني خاص به لتبرير الابتعاد عن السياسة السعودية التقليدية. وعليه، فقد دعمت الرياض جهود مصر والأردن لإقناع الرئيس عباس بضرورة استئناف المفاوضات مع إسرائيل تحت رعاية صيغة “اللجنة الرباعية [الأمين العام للأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وروسيا] زائد الشركاء العرب”. ورفض عباس الفكرة رفضاً قاطعاً، وفتح بدلاً من ذلك تنسيقاً محدوداً مع «حماس» و «الجهاد الإسلامي الفلسطيني» من أجل “عزل” الاتفاق الإماراتي – الإسرائيلي وردع الدول العربية الأخرى عن إبرام اتفاقيات خاصة بها.
الحسابات في الدول العربية الأخرى
يشكّل التردد السعودي في التحرك دون إحراز بعض التقدم على الجبهة الإسرائيلية – الفلسطينية عاملاً يؤثر على المرشحين الآخرين لعملية التطبيع. وفي منطقة الخليج، كثّف العاهل البحريني الملك حمد محادثاته مع إسرائيل ويسعى للحصول على توضيحات بشأن زيادة المساعدة الأمريكية.
وفي السودان يواصل الفريق أول عبد الفتاح البرهان والفريق أول محمد حمدان دقلو التأكيد لإسرائيل على أنهما يعتزمان تطبيع علاقة بلادهما معها، ولكنهما يلفتان إلى ضرورة الأخذ في الحسبان مقاومة الحكومة المدنية اليسارية. كما أن الطلب الإسرائيلي باستخدام الأجواء السودانية لتسيير الرحلات بين تل أبيب وأمريكا اللاتينية قيد المناقشة حالياً هناك ويسير في اتجاهٍ إيجابي.
وفي سلطنة عُمان، يُعيد السلطان هيثم تغيير التركيبة الحكومية التي كانت قائمة في عهد سلفه. لذلك فإن هذه العملية الانتقالية وعلاقات بلاده الدقيقة مع إيران تجعله أكثر ميلاً إلى البقاء في الصفوف الخلفية. وفي المغرب، توتّرت علاقات الملك محمد السادس مع الإمارات، وعلى الرغم من حفاظ بلاده على علاقات مثمرة مع إسرائيل لعقود، إلا أنه لا يشعر أن الوقت قد حان لتحقيق قفزة جريئة. أما موريتانيا، التي تم [سابقا] تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، فهي منشغلة حالياً بالانقلاب العسكري الأخير الذي رفع مستوى الضباط ذوي الخبرة القليلة على الساحة الدولية. وقد نأت دول عربية أخرى بنفسها عن نموذج التطبيع الإماراتي – وعلى الأخص تونس، التي تبادلت في الماضي “مكتب لرعاية المصالح” مع إسرائيل.
الخاتمة
يبدو أن إقامة ترتيبات تطبيع تدريجية مع العديد من الدول العربية هو المسار الأكثر ترجيحاً للتطور القريب المدى لعملية السلام بين العرب وإسرائيل، بدلاً من سلسلة وشيكة من الاتفاقات التاريخية على غرار الاتفاق الذي وقّعت عليه الإمارات. وتستطيع الولايات المتحدة أن تساعد في تسريع وتيرة هذا التحوّل التدريجي من خلال الوساطة أو الرعاية أو المشاركة في مبادرات محددة. والخطوة الأكثر أهمية هي ضمان النجاح السريع لاتفاق التطبيع الإماراتي ليكون نموذجاً للشركاء المحتملين الآخرين، وتشجيعهم على إحاطة الفلسطينيين بـ”حزام سلام” عربي-إسرائيلي يقنع رام الله في نهاية المطاف بالسعي إلى التوصل إلى اتفاق.
رابط المصدر:
https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/the-road-beyond-uae-israel-normalization