نقد ومناقشة: جهاد سعد
كتاب «المستشرقون الجدد» تمثّلات الإسلام فيما بعد الحداثة من فوكو إلى بودريار لمؤلّفه إيان ألموند، أستاذ في قسم التّاريخ، فرع جامعة جورج تاون في قطر، هو مقاربةٌ جديدةٌ من العنوان إلى المضمون إلى النتائج. لدينا من الكتاب نسخته الإلكترونيّة التي تحتوي على 124 صفحة مزدوجة. نسخته المطبوعة الصادرة سنة 2007 م عن دار توريس تحتوي على 238 صفحة من القطع المتوسّط.
في المضمون ليس المقصود من كلمة مستشرقون جُدد ما ألِفناه من إضافة كلمة «جدد» على أيّ فئةٍ، فعندما نقول «المحافظون الجُدُد» فإنّنا نقصد أولئك الذين يمثّلون التيّار المحافظ بتشدّدٍ حتى أكثر من أسلافهم، ولكن باستخدام أساليب العصر الجديدة، وكذلك عندما نقول «العثمانيون الجدد»، فإنّنا نقصد نزعةً متشدّدةً تُهيمن على فئةٍ أو حزبٍ حاكم يريد أن يستعيد أمجاد الدّولة العثمانيّة بخطابٍ معاصرٍ، يوظّف التّعصّب القومي والمذهبي حسب ما تقتضيه أهداف المشروع من خطاب. ولكن ألموند لا يعني ذلك على الإطلاق، بل يتّضح من مقدّمته أنّه يقصد نماذجَ من الفلاسفة والكتّاب الذين لجؤوا إلى الإسلام؛ لتوظيفه في مشروعهم النّقدي للغرب والمسيحيّة في مرحلة ما بعد الحداثة.
والقراءة المتأنّية للأسماء التي اختارها الدكتور ألموند تظهر إخفاقاتٍ عدّة في تحقيق هدفه؛ حيث لا ينطبق مصطلح مستشرق على أحد منهم بالمعنى الأكاديمي للكلمة، بمعنى أن يكون الشّرق محور اهتمام الفيلسوف أو الأديب أو المفكّر أو الباحث. بل إنّ بعضهم متغربٌ تمامًا كالأديب التركي باموق، وصاحب الكتاب الملعون «آيات شيطانيّة» سلمان رشدي، مما يطرح علامات استفهامٍ على إقحام هذه الأسماء ضمن فلاسفة وكتّاب غربيين من غرب الغرب (نيتشه، فوكو)، أو من شرق الغرب (كريستيفا، جيجك)، ومعهم الأديب الأرجنتيني الأصل خورخي بورخيس.
الكاتب بريطاني، والدولة التي يعلم فيها إسلاميّة (قطر)، ولا علاقة لرشدي وباموق بأصل الموضوع، إنّها نماذج ملحدة متمرّدة على الإسلام والشّرق، ومتغرّبة حتى النّخاع، يريد الكاتب أن يقحمها «بوقاحة» في عنوان «استشراق جديد» أمام تلامذته المسلمين، بالمقابل وحتى لا تنطلي علينا الحيلة لن نمنح هذين الكاتبين شرف الاهتمام لأسبابٍ علميّةٍ؛ لأنّهما ليسا مستشرقين، بل متغرّبان بأيّ معنًى قصدناه، ولأسبابٍ تتعلّق بهويّة هذه المجلّة وأهدافها، التي تُجاهر بأنّها تُدافع عن الشّرق والإسلام ضدّ كلّ ما تضمّنته نتاجات المؤسّسة الاستشراقيّة من صناعةٍ وإنشاءٍ وافتعالٍ.
يبقى أن نناقش إلى أيّ مدى بقي الكاتب مخلصًا لوعوده فيما قدّمه لنا في مستهلّ كتابه مع كلّ شخصيّةٍ على حدة.
المقدمة
يفتتح الكاتب مقدّمته بهذا الاقتباس عن الأديب الإنكليزي بايرون: «لقد رأيت البشريّة في بلدانٍ مختلفةٍ ووجدتها على قدم المساواة في الحقارة، وإذا كان هناك أيّ شيءٍ في الميزان فهو لصالح الأتراك.« (بايرون، «مذكرات»، ٢٢ مايو ١٨١١).
مقولة بايرون هي مفتاح فكرة الكتاب، التي ستنجح مع نيتشه وفوكو إلى حدٍّ ما، وتفشل مع آخرين. ما كان موفّقًا اختيارُ عنوان «المستشرقون الجدد»؛ لأنّ الهاجس الأساس الذي يحكم الكتّاب الغربيين المذكورين في هذا الكتاب هو إصلاح الغرب ونقد الحداثة. والإسلام لم يحضر إلا بمقدار ما يخدم هذا المشروع عند الفيلسوف أو الأديب، وبالتأكيد لا يمكن أخذ النّصوص التي تعبّر عن الإعجاب بالإسلام هكذا منسلخة عن الإطار الفكري الذي سخّرها لنقد مقولات الغرب ونقضها عن الإسلام، أو غيره من القضايا التي واجهت عمليات الانتقال إلى مرحلة ما بعد الحداثة، يقول الكاتب: «لا شيء يغيّر علاقتنا بالآخر غير المألوف أكثر من نشاط النّقد الذّاتي». أيّ محاولةٍ لإعادة تقييم المألوف ينطوي حتمًا على إعادة تقييمٍ للأجنبي. إزدراء بايرون للمجتمع الإنجليزي والنّفاق والمعايير المزدوجة دفعه إلى مدح النّقيض التّركي، المتربّص خارج أبواب فينا، المتعطّش للدّماء، والمستعدّ لاقتحام أوروبا المتحضّرة، واستعباد العالم المسيحي كلّه. يأتي مدح بايرون للأتراك وإعجابه بصفاتهم ومعمارهم، وحتى ادّعاؤه بأنّه كاد أن يتحوّل للإسلام في اسطنبول، في إطار نقد ثقافته التي قرّر تركها، وكان الإسلام والأتراك الأكثر استفزازًا للعقل الغربي. (ص6)
يدّعي الكاتب أنّ هذا المنهج بالتعريض بالغرب عبر مدح الإسلام «العدو المتعطّش للدماء» يشمل الشخصيّات التّسعة التي اختارها، ولكن، كما أشرنا، لا ينطبق هذا الأمر أبدًا على المتغرّبَيْن الذين استثنيناهما، كما سنرى أنّه لا ينطبق تمامًا على حالتي بورخيس وكريستيفا، بل لا يظهر جليًّا بلا حاجةٍ إلى تأويلٍ إلّا في حالة نيتشه، الذي سيظهر أنّه أنشأ صورته عن الإسلام عبر نتاج المستشرقين التقليدي.
وهكذا فإنّ النّصّ التالي يُشير إلى رابطةٍ مفتعلةٍ يريدها الكاتب ناظمًا للكتاب: البدء بدراسةٍ حول تقديم الإسلام في نصوص ما بعد الحداثة بكلماتٍ لشاعرٍ رومانسيٍّ – بريطانيٍّ من القرن التاسع عشر، ليس مجرّد تاريخ… فسنرى أنّ روح مبادرة بايرون نبعت من نظرةٍ نقديّةٍ انتقائيّةٍ في زمنٍ أوروبيٍّ ليس فيه تعاطفٌ مع الإسلام كآخر، وسنجدها خصوصًا في الكتّاب التّسعة الذين نقدّمهم في هذا الكتاب. سواء عند نيتشه الذي أخبر أخته -وهو في الواحد والعشرين من العمر- عن المحمّديين المباركين أكثر من المسيحيين، أو الباريسي فوكو الذي أعلن خلوّ التوانسة من السّطحيّة المسيطرة على أقرانهم الفرنسيين…اللّجوء إلى الإسلام والثّقافة الإسلاميّة سيصبح طريقةً مألوفةً للحصول على مسافةٍ نقديّةٍ من المجتمع الغربي، يتمّ التعبير عنها بطرقٍ مختلفةٍ.
ما يربط بين الأسماء التّسعة في هذا الكتاب، ليس فقط «ما بعد الحداثة»، ولا تلك السّلسلة من المواصفات القياسيّة التي تُنسب إلى مفكّريها -كالتّخلّي التّدريجي عن الإشارة إلى أيّ نوعٍ من المركز، والوعي الإيجابي المتزايد لأهميّة اللّامركزّية في موضوع الإنسان والتشكيل المركّب لكلّ التّواريخ التي آمن بها حتى الآن-… بل هو توظيف الإسلامي والمشرقي بكلّ أشكاله ورموزه ومفارقاته التّاريخيّة وحتى تهديداته؛ من أجل الحفاظ على محاولة نقدٍ وإعادة موقعة الحداثة الغربيّة. كما يشترك المفكّرون التّسعة في هذه الدّراسة باستدعاء ما هو إسلاميًّا وعربيًّا في عمليّة إعادة تقييم الكثير من مبادىء الحداثة المركزيّة. وتختصّ هذه الدّراسة بفحص آثار هذا الاستخدام للإسلام، ليس فقط على الفرد ومشروعات الكتّاب المعنيين، ولكن أيضًا على الإسلام نفسه. (ص 6_7)
1. من يسميهم الكاتب مفكرين مسلمين
إذا كان هناك من أحدٍ ينطبق عليه تعبير «مستشرق جديد»، فهو الكاتب نفسه، إيان ألموند. فهذه الفئة من المستشرقين تتجرّأ على الدّخول في قضايا الشّرق الشّائكة من دون العدّة الكافية. فمن الواضح أنّ الرّجل ضليعٌ باللّغات الأوروبيّة (الألمانيّة، والإيطاليّة، والتركيّة) بشكلٍ أساسيٍّ، بحكم أماكن عمله وتعليمه، ولكن سيرته الذاتيّة لا تُشير إلّا إلى معرفةٍ متوسّطةٍ إلى ضعيفةٍ باللّغة العربيّة[1]، وكانت معرفة العربيّة شرطًا لازمًا لأيّ مستشرقٍ على مدى قرون، بل كان بعضهم مختصًّا بالفيلولوجيا كمقاربةٍ أساسيّةٍ للتّراث العربي. ولكن هذا الجيل الذي أنتجته عقود التغلّب على المسلمين والعرب لا يشعر بأنّ المعرفة العميقة باللّغة العربيّة شرطٌ أساسيٌّ للاستشراق، فليست مهمّته في الحقيقة إلّا استغلال الفوقيّة الغربيّة لإملاء ما يراه مناسبًا من صورٍ عن الإسلام والشّرق. وعندما يستلزم البحث اللّجوء إلى آراء «مسلمين»، فإنّه يستعين بالأنتلجنسيا التي عاشت في الجامعات والبلاد الغربيّة، وأنتجت مادّةً فكريّةً باللّغات الأجنبيّة. وهنا يغيب عن الطّالب الجديد في الجامعة الفارق بين مفكّر «مسلم الهوية « ومفكّر أو مثقّف «إسلامي» بالمعنى العقائدي. وبجرأةٍ يتحدّث ألموند عن «مفكّرين مسلمين» لا يُعبّرون في الحقيقة عن كلّ الطّيف الفكري في العالم الإسلامي، وتجدر الإشارة أيضًا في هذا السياق إلى مفكّرين مسلمين اعتنقوا الإسلام من الغربيين، قد تكون آراؤهم معبّرةً عن الإسلام أكثر من جماعةٍ من المتغربين أو من أساتذة الجامعات الغربيّة ممن لهم أصل أو ولادة في بلدٍ مسلمٍ.
وهكذا تتشوّش صورة الموقف الإسلامي مما بعد الحداثة، ونكون أمام «حصر غير حاصر» في استعراض موقف المفكّرين المسلمين؛ ببساطة لأنّ هناك من الكتب العربية ما لم يمر على عين الكاتب أو لم تتوفّر له ترجمة إلى اللّغات الأوروبية. يقول ألموند: «منذ سنواتٍ عدّة، يحاول المفكّرون المسلمون تقييم ما إذا كانت إيماءات «ما بعد الحداثة» وبالأخص نزع الطابع العالمي عن «السرديات الأوروبية الكبرى»، ولا مركزيّة الموضوع، وإعادة التّساؤل الجذري عن الأصول / الغايات / الهويات -… تتوافق مع المتطلّبات الإسلاميّة الكبرى. على الرغم من التّنوّع الكبير في الأساليب النّقديّة، تضمّنت ردود فعل المُفكّرين المسلمين على ما بعد الحداثة، في بعض الأحيان اعترافًا على مضضٍ، بأنّ الفكر ما بعد الحداثي في تشجيعه على التّعدّديّة وتحدّيه للهيمنة الأوروبيّة (وخاصّة في تفكيكه لـلقوميات العلمانيّة) قد يساعد الإسلام، مع اختلافٍ في تحديد الثّمن الذي سيدفعه المسلمون مقابل مساعدة ما بعد الحداثة في نزع الصّفة المركزيّة عن الغرب.
أكبر صلاح الدين أحمد[2] هو على الأرجح الأكثر تفاؤلاً في هذا الصدد؛ حيث يرى في ما بعد الحداثة «روح التعدّديّة»، و»فقدان الإيمان بمشروع الحداثة»، ونظريّة المعرفة التي تبحث عن «الثراء» في المعنى بدلاً من «وضوح المعنى». حتى ضياء الدين سردار[3] الأكثر عدائيّةً، الذي يعترف بمعارضة ما بعد حداثيّة؛ «لإضفاء الطّابع الكلّي على العقل والأفكار الغربيّة، وضدّ المفهوم الأوروبي العنصري للثّقافة والحضارة»، فإنّه يرى في ما بعد الحداثة مجرّد لعبة لغةٍ وتشدّقٍ لفظيٍّ لواجهةٍ غربيّةٍ: «تقنع الآخر بالتّخلّي عن سعيه للأصالة الثّقافيّة وتبنّي الأذواق والعادات والسّمات الثّقافيّة للحضارة الغربيّة». من جهةٍ أخرى، يخشى منتقدون مسلمون مثل عزيز العظمة[4] وهايدة مغيسي[5]، ليس فقط فقدان «الجوهر الإسلامي» للتغريب، ولكن الرّفض الكامل للحداثة الذي سيسمح بظهور المزيد من النّسخ الأصوليّة للإسلاميّة للحلول مكانها: وبدل اختيار العلمانيّة سيكون عندنا مزيج مما قبل «غاليله» وما بعد الحداثة، وهذا قد يكون رائعًا بالنّسبة للغربيين، ولكن ليس جيّدًا بما يكفي بالنّسبة لنا.
مغيسي، في سياق دراسات المرأة، تعتبر أيضًا» أنّ اعتماد مبادئ ما بعد الحداثة المناهضة للعالميّة أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر، بعبارةٍ أخرى، تعدّديّة الغرب، مع نقد احتكار الحقيقة وتعريفها للإنسانيّة، مهما كان مرغوبًا فيه قد يسمح للنّسخ الإسلاميّة المحافظة من الإقطاع والتحيّز الجنسي، باستعادة الصّلاحيّة الثّقافيّة النّسبيّة الخاصّة بها في جوٍّ من القبول.
من بين كلّ الكُتّاب المسلمين الذين تعاملوا مع ما يُسمّى بمفكّري «ما بعد الحداثة»، أمثال دريدا ونيتشه وفوكو، ربّما أظهر بوبي س. سيد[6] أكثر التطبيقات المعرفيّة لتلك الأفكار إثارةً للإعجاب في إطارٍ إسلاميٍّ. يُعرّف سيد الإسلاميين بأنّهم «أولئك الذين يستخدمون الاستعارات الإسلاميّة لخدمة مشاريعهم السياسيّة»، ويذهب أبعد بكثير من أيّ من أقرانه في التأسيس لإطارٍ دلاليٍّ لفهمٍ أفضل للإسلام «كنقطةٍ عقديةٍ» (ص8).
كما أشرنا في تقديمنا لهذا الاقتباس أقرب المفكّرين للموقف الإسلامي، وهو ضياء الدين سردار، تمّ نعته ب»العدائيّة»؛ لأنّه يعتبر خطاب ما بعد الحداثة «تشدّقًا لفظيًّا، وخداعًا لغويًّا» يفضي إلى تخلي المسلم عن أصالته وثقافته تحت عنوان قبول التّعدّديّة ورفض المركزيّة الغربيّة…أما المغيسي وغيرها من المتغربين فيتمسّكون بصنم الحداثة؛ لأنّها تنسف الانتماء إلى الإسلام، وتُدخل العالم الإسلامي في منظومة الغرب نهائيًّا بدون تشكيكٍ بما يعتري «الحداثة» الغربية من نقصٍ وتناقضٍ، حتى مع نفسها.
والواقع أنّ رموز التيّار الما بعد حداثي يعترفون بأنّ «الوضع ما بعد الحداثة» هو من داخل الحداثة، لا من خارجها، كما يشير جان فرنسوا ليوتار[7] في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه، يقول ليوتار: «إنّ عملاً ما لا يمكنه أن يكون حداثيًا إلّا إذا كان ما بعد حداثي أوّلاً، هكذا لن تكون النّزعة الما بعد حداثيّة هي الحداثة في نهايتها، لكن نكون أمام حالة ولادةٍ دائمةٍ»[8].
يعني بالفعل كلّ من يلتقط إشارة بأنّ الوضع ما بعد الحداثي هو بمثابة ثورة على كلّ ثوابت الحداثة، فهو على أقلّ تقديرٍ مشوّشٌ، ومن يقرأ بتمعّنٍ، يرى أنّ التّيّار الما بعد حداثي من نيتشه إلى بودريار يُقارب التّجربة الغربيّة ويُحاسبها باعتبارها خانت المبادىء التي انطلقت منها، ولم تفِ بوعودها للإنسان الغربي، وبالتالي هم يحملون دعوةً إلى تحرير معنى الحداثة من عبء التجربة الغربيّة، ويقدّمون فهمًا جديدًا يجعلهم أكثر حداثةً لا ما بعد حداثويين.
الجامع في تقديري هو «خداع الألفاظ» وألعاب اللّغة بين الحداثة وما بعدها، فنقد السّرديات المبرّرة لبسط السّلطة وتحويل المعرفة إلى حقلٍ من حقولها، بقي عاجزًا عن تحرير المعرفة، خصوصًا بعد الثّورة التكنولوجيّة وموجة تدفّق المعلومات المُسيطر عليها من قبل سلطة الشّركات والدّول، التي تمّ التّسويق لها كفضاءٍ مفتوحٍ، فيما تبيّن أنّ التكنولوجيا قدّمت خدمتين متوازييتين: القدرة على ضخّ المعلومات بكثافةٍ، مع القدرة على التّحكّم بنوع المعلومات ومستواها وحظّها من الحقيقة أو الوهم. ربّما لذلك يصرّ يورغن هابرماس على أنّ الحلّ لمشاكل الحداثة هو المزيد منها، فأيّ عقلٍ يتصوّر تخلّي العقل الأداتي الغربي عن هذا المستوى المتوحّش من السّيطرة، وهو يستمتع يوميًّا بثمارها، نعم تنفع خطابات ما بعد الحداثة في إعطاء مسحةٍ إنسانيّةٍ لمنظومة الماكينات المسيطرة، ولكنّها في عالم الفعل تبقى ظاهرةً لغويّةً صوتيّةً، أو أفكار لا سبيل لها إلى عقول أصحاب القرار وخططهم.
2. سلام نيتشه[9] مع الإسلام
محوريّة «القوّة» في فلسفة نيتشه مسألةٌ متوافقٌ عليها، ولو دخلنا إلى فهم الفيلسوف من هذا المدخل، فإنّ بعض التّعاطف الذي أبداه مع الإسلام كما عرفه من خلال المستشرقين يصبح مبرّرًا أو مفهومًا.
يُعرّف الأسترالي روي جاكسون فلسفة نيتشه بالقول: «لا ينظر نيتشه إلى المجتمع الإغريقي القديم إلّا من خلال إرادة القوّة، والمجتمع الإغريقي هو أعلى المجتمعات الإنسانيّة بالنّسبة إليه. إنّ إرادة القوّة هي الدّافع الرئيس الذي أدّى إلى تطوّر الثّقافة الإغريقيّة، ذلك أنّهم فضّلوا القوّة على أيّ شيءٍ آخر، أكثر من السّمعة الجيّدة على سبيل المثال. الشّيء الوحيد الحقيقيّ هو إرادة القوّة، وحتى عمليات وعينا وقدراتنا العقلانيّة ليست سوى مجرّد تعبيرٍ عن هذه القوّة الأساسيّة. ولذلك فإنّ كلّ مشاكلنا هي مشاكلٌ سيكولوجيّةٌ وليست ميتافيزيقيّةً. وفي الواقع، إنّ الفلسفة والأخلاق والدين والسياسة والعلم والثقافة والحضارة، يمكن تفسيرها من خلال إرادة القوّة، من هنا فإنّ إرادة القوّة هي المبدأ الموحّد. وقد تمّ إدراك هذا في الطبيعة والتاريخ، في صعود وسقوط الحضارات العظيمة والأديان، في الدّافع وراء النّشاط الثّقافي والفنّي. إنّ إرادة القوّة هي وراء كلّ الجهود الفلسفيّة للعالم، والدّافع وراء كلّ اكتساب أنواع المعرفة».[10].
بناء على ذلك فإنّ من الطبيعي أن يُقارب نيتشه التعاليم الدينيّة والمسيحيّة بالذّات من هذا المنظار، فيجد أنّها لا تلبّي طموحاته إلى إخراج عناصر قوّة الإنسان الأعلى إلى الوجود.
ملاحظة أخرى لا بدّ من الإشارة إليها قبل أن ندخل في معالجة الكاتب ألموند للموضوع، وهي أنّ حياة نيتشه التي كانت حافلةً بالمرض والألم والعزلة وانتهت بالجنون والموت المبكر، تجعلنا نكتشف أنّ المبالغة في تمجيد القوّة هي أيضًا نوعٌ من التعويض السيكولوجي لما عاناه نيتشه من ضعف جسديّ في مقابل عقلٍ جبّارٍ.
هذه مقدّمات شعرنا أنّها ناقصةٌ؛ لأنّها تُساعد بالفعل على فهم الإطار الذي جعل نيتشه يفضّل الإسلام في محطاتٍ معيّنةٍ على المسيحيّة الأوروبيّة.
أ_ استخدام الإسلام
يقول ألموند:لا يزال هناك سؤال أخير: إذا كنّا قد آمنّا منذ شبابنا أنّ الخلاص قد صدر عن شخصٍ آخر غير يسوع، محمد على سبيل المثال، فليس من المؤكّد أنّنا سنختبر البركات والنعم نفسها؟ (رسالة إلى إليزابيث نيتشه، 11 يونيو 1865). نيتشه يبلغ من العمر واحدًا وعشرين عامًا، في هذه الرسالة إلى أخته الأكثر إيمانًا بالعقيدة اللوثريّة منه، فهو يدافع عن نفسه ويبرّر أسباب ترك دراسة اللّاهوت في بون. الرسالة، مثل معظم أعمال نيتشه، ليس لها علاقةٌ مباشرةٌ بالإسلام. ومع ذلك فإنّه يستحضر اسم محمد كاستعارةٍ بديلةٍ؛ لتبرير مقاطعته للمسيحيّة. إنّها لفتةٌ لا يمكن إلّا أن تكون قد استفزّت إليزابيث البالغة من العمر تسعة عشر عامًا: الإيحاء بأنّ حياتهم لن تكون كذلك، بل كانت مختلفةً جذريًّا لو كانوا محمّديين، كان لها على الأقل وقع الصّدمة المقصودة. وهذا الاستخدام للإسلام كأداةٍ لإعادة تقييم مرض الحداثة اليهوديّة – المسيحية عند الأوروبيين، سيتكرّر عند نيتشه بوتيرةٍ مفاجئةٍ في أعماله. (ص10)
«استخدام الإسلام كأداةٍ لإعادة تقييم المسيحيّة والحداثة»، هذه هي الجملة المفتاح في أيّ ذكرٍ للإسلام عند البعض في هذا الكتاب، لذلك يحسن أن نضع الكتاب خارج إطار الاستشراق الأصيل، بل إذا جاز التعبير الاستشراق المُستعار لهدفٍ غربيٍّ في الأساس، هو تجديد الحداثة والتعبير عن هذا التجديد بما بعد الحداثة…. وهذا ما يؤكّده الكاتب.
فاهتمام نيتشه بالإسلام والثّقافات الإسلاميّة، وإقباله اللّافت على نتاج المستشرقين، كان مدفوعًا بالتأكيد بالعزم على استخدام مثل هذه الثّقافات كمقياسٍ للاختلاف. كانت بمثابة مخزنٍ جاهزٍ في متناول اليد للعادات والقيم البديلة؛ لتقويض الادّعاءات الكونيّة لكلٍّ من المسيحيّة الأوروبيّة والحداثة. بهذا التّوق للحصول على ما أسماه نيتشه، «عين عابرة للأوروبيّة»، من شأنها أن تنقذه من «قصر نظر الشيخوخة» لدى معظم الأوروبيين – نجده في رسالةٍ مكتوبةٍ إلى الصديق «Kِselitz» في عام 1881: «اسأل لي رفيقي القديم غيرسدورف ما إذا كان يودّ الذّهاب معي إلى تونس لمدّة عام أو عامين… أريد أن أعيش بعض الوقت بين المسلمين، في الأماكن التي يكون فيها إيمانهم في أوجّ تقديسه؛ هذه طريقةٌ لشحذ عيني وحكمي على كلّ الأشياء الأوروبيّة». (ص11).
البحث عن تجربةٍ أخرى لإغناء القدرة على الحكم في الفضاء الأوروبي، الذي هو محور التأثير الذي يريد الفيلسوف أن يحدث فيه إنجازه الفكري، وبالفعل هزّ نيتشه أركان الثّوابت المسيحيّة والحداثويّة وأسّس لجيلٍ من المتأثّرين به، فيما بقي تعاطفه مع الإسلام على هامش مشروعه الأساسي.
يُشير الكاتب إلى أنّ نيتشه لم يزر الشّرق مطلقًا ويعتمد بصورةٍ أساسيّةٍ على كتابات المستشرقين التي كانت تصوّر المشرق الإسلامي كمجتمعٍ ذكوريٍّ محبٍّ للحرب عدوّ للديمقراطيّة، ولكن رغم ذلك بقي الفيلسوف على موقفه مما يطرح معضلة، وهي هل أراد من تلك النّظرة الإيجابيّة للإسلام أن يدين الاستعمار من خلال إدانة الصّورة النّمطيّة للمؤسّسة الاستشراقيّة؟ (ص12)
هؤلاء الذين لم يتمكّنو من زيارة الشّرق باتوا أسرى المركزيّة الغربيّة ولو بغير إرادتهم، فالاستشراق المتمحور حول المركزيّة الأوروبيّة كان المصدر الوحيد لمعلوماتهم، ونيتشه لم يكن استثناءً، وحتى إنّه لم يشكّك بصوابيّة بعض الأحكام، بل بنى عليها موقفًا معارضًا للنّظرة الأوروبيّة السّائدة، ففيما يعتبر اتّهام الإسلام بالذّكوريّة شائبة يذهب نيتشه إلى النقيض ويمجّد «ذكوريّة» الإسلام، باعتبار «أنّ الرّجل العميق يمكن أن يفكّر بالنّساء فقط بطريقةٍ مشرقيّةٍ». في مقابل «نسويّة» منافقةٍ تبديها المسيحيّة. وفي مقابل إظهار الإسلام كدينٍ حربيٍّ من قبل المستشرقين يعتبر نيتشه أنّ الحرب أعلى تأكيد للحياة. حتى إنّ الأمر يصل به إلى التعبير عن احترامه للجهاد والدّفاع عن الإيمان بالسّيف والأخوّة الإيمانيّة بين المسلمين: وترد هنا ترجمةٌ غير دقيقةٍ للحديث النّبوي: «من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو مسلم»، وتأتي في سياق سهولة الانضمام إلى الأخوّة الإسلاميّة التي لم يكتفِ نيتشه عن ترداد إعجابه بها حتى في طابعها الجهادي العسكري. (ص12). أقول: وهذا ينسجم مع تمجيده للقوّة وفكرة الإنسان الأعلى.
ولا بدّ من التوقّف عند ملاحظات الكاتب وإشاراته إلى أنّ نيتشه لم يستمد معرفته بالموقف الإسلامي من المرأة من القرآن الكريم، ولا توجد آيةٌ واحدةٌ في كلامه عن الإسلام. وكأنّها تعريض بالموقف القرآني من المرأة من منظورٍ غربيٍّ معروفٍ، ولو عرفه نيتشه من مصدره ربّما كان له موقفٌ آخر… وهذا يفتح النّقاش حول مكانة المرأة بين الإسلام والغرب، سواء في ظلّ المسيحيّة أو العلمانيّة. فنقول باختصار: إنّ الدّراسات المعاصرة عن العنف ضدّ المرأة كشفت عن تعرّضها لأبشع أشكال العنف المنزلي والمعنوي واللفظي والجنسي في الدول الغربيّة، وبما يفوق ما يحصل في الشّرق بأضعافٍ، على الرّغم من أنّ مكانتها في الشّرق الحالي محدّدةٌ عبر خليطٍ من الأعراف والتقاليد، وليس فقط من خلال التعبّد بالنّص الإسلامي الذي يضمن لها بشكلٍ مؤكّدٍ إطارًا من الحماية لم توفره الحضارة الغربية المعاصرة، التي لا همّ لها إلّا إخراج المرأة إلى سوق العمل لتأخذ لحساب الاقتصاد حصّة من الأسرة والرّوابط القيميّة والاجتماعيّة.
نعود إلى مواقف نيتشه من ذلك الاقتران بين «القتال والقداسة»، فيقول الكاتب: لا عجب أنّ ظاهرة الحشّاشين الإسماعيليين الذين قاتلوا ضدّ الحروب الصليبيّة وضدّ العبّاسيين في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، بقيادة حسن الصباح، قد لفتت انتباه نيتشه حتى اعتبر تلك النّخبة: نموذج من الأرواح الحرّة بامتياز، التي قاومت القتلة الصليبيين، ووصلت إلى مرتبةٍ لم يصل إلى أدناها الرهبان». (ص12_13).
نزعة الشّهادة والقتال من أجل التحرّر تمّ تمجيدها في سياق الصّورة التي رسمتها دوائر الاستشراق عن «الحشّاشين» الذين تم تضخيم الاهتمام بهم، لا بوصفهم حركة تحرّرٍ، بل للقول إنّ هناك جذورًا للإرهاب في تاريخ الإسلام، مما جعل البعض من الكتّاب المحدثين، مثل روي جاكسون، يفتعلون صلةً بين نيتشه و»الإرهاب» الإسلامي، مع ما قيل عن تأثر النازيين به. في ظلّ هذا المستوى الهابط من المعالجة يتمّ توظيف تمرّد نيتشه في حروب اليوم والجامع بين الكلّ هو أنّ الأحكام والتّعاطف والعداء كلّها مواقف تبنى على صورٍ مصنّعةٍ ومصطنعةٍ أريد لها أن تكون كلّ المعرفة.
3. أي إسلام وأيّ أديان؟
يتحوّل الإسلام في نصوص نيتشه إلى عالمٍ بديلٍ لا مسيحي ولا غربي، ولكن أيضًا من دون معالم واضحةٍ، كلّ ما يتمتّع به من ميزةٍ هو أنّه خارجُ الغرب، آخر ما يمكن استعارته لغاياتٍ نقديّةٍ، بدون أيّ هالةٍ من القداسة، ولذلك فإنّ استعارة مواقف إسلاميّة لا تغيّر من موقف نيتشه من الأديان السماويّة عمومًا.
يظهر من حماسة نيتشه لصالح الإسلام ضدّ روما والمسيحيّة وحماسته لزيارة الشّرق، ذلك الموقف العدائي للمسيحيّة، الذي لا يقول ما هو الإسلام بقدر ما يقول ما ليس عليه الإسلام. (ص15)
في حكمه على مؤسّسي الأديان تبدو آراء نيتشه بعيدةً عن الحكمة والتمحيص، فهو يعتبر «العبادات اليوميّة طريقةً ذكيّةً للمحافظة على انتباه البسطاء»، ويتّهم المسيحيّة بالتّسبّب بنوعٍ من «الفساد الميتافيزيقي في الإسلام»، وهي عقيدة الدينونة والحساب «لإدارة القطيع»…ويصل به الأمر إلى نسبة هذا الإفساد اللّاهوتي لبول،س فيما يترك الإسلام أسمى من المسيحيّة واليهوديّة. ولكن تبقى كلّ المفاهيم الدينيّة عنده حتى «الله» واليوم الآخر عمليّة للسّيطرة على الضّمائر والسّيطرة على النّاس. كما تتضمّن نصوصه ربطًا تعسّفيًّا بين أفلاطون والنّبي محمد؛ حيث لم يثبت أنّ الرسول استفاد من الفيلسوف. (ص18)
هو عالمٌ قائمٌ بذاته، خلقه خيال الفيلسوف، يحقّق فيه نبيّ الإسلام ما عجز عنه أفلاطون، فكر النّبي وسلوكه يصبح من سنخ فكر الفيلسوف، والكلّ يحرّكه «الدّافع السياسي»، فلا وحي ولا ملائكة، بل أدوات سيطرة على العقول. وهنا يفشل الكلام عن أيّ تعاطفٍ مع الإسلام، تمّ التأسيس عليه في السابق وتتّضح نظرة نيتشه التي كانت تبحث في الأصل عن تأسيس دينٍ أرضيٍّ بديلٍ يكون هو نفسه فيلسوفه ونبيّه.
«ما هو عجيب أنّ [أفلاطون] -كما قال هو نفسه، كان لديه «دافع سياسي»- حاول ثلاث مرات القيام بانقلاب؛ حيث ظهرت للتو دولة يونانيّة متوسّطيّة جماعيّة تشكّل نفسها بمساعدته، فكر أفلاطون في القيام بذلك لجميع اليونانيين، وهذا ما فعله محمد لعربه: أي للسيطرة على الحياة اليوميّة والتّقاليد، الكبيرة والصغيرة، للجميع…» (ص19)
يفسّر الكاتب أسباب الرّبط النّيتشويّ المستغرب بين النّبي والفيلسوف بالقول إنّه لثلاثة أسباب: الأوّل فرادة الشخصيّة التي يمكنها الاستفادة من الصّور الأدبيّة لرسم العالم، والثاني الاهتمام المشترك بالحقيقة كسلطةٍ للسّيطرة على من هم أقلّ مرتبة، ثالثًا وأخيرًا ما تحقّق على يد النبي وكان حلمًا بالنسبة لأفلاطون، وهو دولة متوسّطيّة عربيّة كان أفلاطون يطمح لها في صقليّة.
وتضطرب صورة الإسلام عند نيتشه من هذه الزّاوية، فمن جهةٍ يقف الإسلام في مقابل المسيحيّة كدينٍ سامٍ يؤكّد على قيم الحياة، ومن جهةٍ أخرى يصبح نبيّ الإسلام مستخدمًا للمفاهيم الأخروّية للتلاعب بالضّعفاء من النّاس والسّيطرة عليهم. (ص20)
يبقى السّؤال: أيّ إسلامٍ هو إسلام نيتشه؟ هل هو نتاج شخصيّة مضطربة، أو هو مثال الحرب والرجولة؟ هل هو نسخة عن اليهوديّة والمسيحيّة أم «كذب إيجابي» يؤكّد الإيمان بالحياة؟ هل هو قائم على السّيطرة والخضوع أم على الفرح والاحتفال بالوجود؟ يغيب أيّ مضمونٍ حقيقيٍّ لدين نيتشه. وأيّ فهمٍ صحيح للإسلام يجعل هذه الأسئلة غير ضروريّةٍ. في النّهاية يختلف نيتشه عن أسلافه من المستشرقين في استخدام صورٍ من التّعاطف المبالغ فيه مع الإسلام، وبعباراتٍ فريدةٍ تخدم في النهاية مشروعه الذّاتي. (ص21)
4. إيران فوكو والجنون في الإسلام [11]
يفتتح الكاتب كلامه عن فوكو بهذا الاستشراف لمستقبل الفلسفة: في الواقع، إذا كان مقدّرًا أن توجد فلسفة في المستقبل، فلا بدّ من أنّها ستولد إما خارج أوروبا أو من اللّقاء والاحتكاكات بين أوروبا وغيرها. (فوكو في مقابلة سنة 1978).
لا يختلف ميشال فوكو كثيرًا عن نيتشه في تلك العلاقة الجدليّة مع الغرب والغيريّة والعالميّة، إنّ فلسفتهما في واقعها دعوةٌ لإغناء التجربة الغربيّة بالآخر، ولكن في نهاية المطاف تأسيس عالم يكون «الغرب المنفتح» محوره. ولذلك من البداية نقول إنّ أيّ كلامٍ عن تعاطف مع الإسلام كما هو الإسلام في الحقيقة فيه الكثير من البُعد عن الواقع، إن لم يكن من الخداع. إنّه قالبٌ اختار الدكتور ألموند أن يقدّم في إطاره هؤلاء الكتّاب والفلاسفة تحت عنوانٍ برّاقٍ، هو التّعاطف مع الإسلام، ولكن محتواه الأساسي هو التعرّف على هذه الوجوه التي كانت تعبّر في فكرها وسلوكها عن رغبةٍ في بناء غربٍ آخر، هو غرب ما بعد الحداثة.
في استعراض نصف دزينةٍ من المقالات التي نشرها فوكو عن الثورة الإيرانيّة، من المثير للاهتمام أن نرى هامش مقطع «الرأس الأسطوري للثورة الإيرانيّة»: «العنوان الذي اقترحه السيد فوكو كان «جنون إيران» (La Folie de l’Iran). لا يوجد تفسير لماذا تمّ رفض العنوان، ولا توجد طريقة لمعرفة ما إذا كان دراماتيكيًّا أيضًا أو متناقضًا أو مضلّلاً ببساطة. ولو أنّ أحدًا آخر غير فوكو كتبه لكان مثارًا للسّخرية. أيّ نوعٍ من تاريخ الإسلام كتبه مؤلّف كتاب «تاريخ الجنون»؟ لكي تتّضح لنا إشكاليّة علاقة فوكو بالإسلام.
تمامًا كنيتشه سيكون فوكو واعيًا للمقاربة الغربية المتعصّبة، التي أعطت الإسلام مكانة الآخر الخارجي على مدى الألف سنة التي مرّت في تاريخ العلاقة المعقّدة. تزداد أهميّة التحليل الصارم لفوكو عندما نأخذ بعين الاعتبار تأثير فكره وتحليله للخطاب على جيلٍ كاملٍ من المثقّفين المعنيين بدراسة الإسلام، من دون أن ننسى تبنّي إدوارد سعيد لمفهوم فوكو للخطاب في تحليله للاستشراق البريطاني والفرنسي. سيكون من المثير للاهتمام أن نرى صورة الإسلام في كتابات مفكّر ربّما يكون مسؤولًا أكثر من غيره عن الفهم التّاريخي للغيريّة.
يجب أن نلاحظ بدايةً أنّ نظرة فوكو للشّرق تشمل الصين واليابان كما تونس وإيران، وأنّ تكراره لكلمة الغرب بأشكالٍ مختلفةٍ تجعله حريصًا على ألّا يبتعد عن «قبيلته»، حتى وهو يتعمّق في تحليل طبقات الوعي التاريخي الغربي، سواء في حفريات المعرفة أو في الكلمات والأشياء. (ص23)
المفارقة أنّ النّقد الجريء للأفكار الغربيّة فيما هو متحرّر من المركزيّة الأوروبيّة، يبقى يرسم حدود الغرب ونطاقه حتى في سرد المآسي الفرديّة أو القمع أو الزيف، من دون أن يتخلّى عن صداه المؤثّر في نواحي الشّرق. (ص24)
شرق وجنوب آسيا نطاق جغرافي وثقافي وحضاري أوسع من الإسلام التاريخي، ولا يقلّ الإعجاب بالتّجربة الصينيّة في نصوص فوكو أهميّةً عمّا كتبه عن تونس وإيران: ويستمرّ التّقابل بين الغرب والشّرق في نصوص فوكو؛ بغية نقد الفوقيّة الغربيّة، ويتمّ إظهار نقاط «التّفوّق الشّرقي على الغرب حتى في المجال الفلسفي، ويخبرنا النّص التالي عن حالة الصين واليابان: «على عكس ما حدث في الشّرق بالذات في الصين واليابان، لم يكن هناك من قبل في الغرب (على الأقل لفترةٍ طويلةٍ جدًا) فلسفةٌ كانت قادرةً على جمع السياسة العمليّة مع الأخلاق العمليّة للمجتمع ككل. لم يعرف الغرب ما يعادل الكونفوشيوسيّة، وهذا يعني شكلاً من أشكال التفكير الذي يعكس ترتيب العالم أو يساهم في إنشائه، في الوقت نفسه، يصف هيكل الدولة، وشكل العلاقات الاجتماعيّة، ويحدّد معايير السلوك الفردي… ولم يلعب أرسطو أبدًا دورًا مشابهًا للدّور الذي لعبه كونفوشيوس، وبالتالي لم تكن هناك دولة قائمة على فلسفة في الغرب». (ص26)
الملم بالأدبيات السياسيّة الغربيّة خصوصًا النيو ليبرالي منها، يعرف مقدار الاستفزاز الذي يعبّر عنه هذا النّصّ، الذي يرفع من شأن كونفوشيوس في مقابل أرسطو باعتباره فيلسوفًا شاملًا تمكّن من الجمع بين السياسة والأخلاق المجتمعيّة. هل هذه فعلًا صيغة الحكم التي يريدها فوكو للغرب بالتأكيد لا…. وهو الذي شهدت حياته تجارب سادية ومازوشية خارج كلّ ما هو معروف من ضوابط أخلاقيّة. يعني يجب أن نفهم هذا الإعجاب بالصين في نطاقٍ محدودٍ هو المسّ بالأنا الغربيّة وزعزعة مركزيّتها.
في مقابل فردانيّة الغرب يأتي انسجام الفلسفة والدولة الذي يشعر به فوكو ممثّلًا للصين الحديثة، المتميّزة بروحٍ مجتمعيّةٍ تتدخّل في كلّ جانبٍ خاصٍّ من جوانب الحياة، وهذا ما لم يعد موجودًا في الغرب، منذ أمد طويل… وبطريقةٍ غير تقليديّةٍ تمامًا يصبح شرق فوكو جنّة شبيهة بعالم نيتشه البريء للغاية؛ حيث لا يزال ينظر إلى سلطة الدولة في التّدخّل وتشكيل رعاياها على أنّه طبيعيٌّ وغير إشكاليٍّ. (ص27)
تتصاعد إدانة التفكير الغربي في مشهدٍ آخر عندما تصبح لغة فوكو صوفيّةً شرقيّةً تتحدّث عن انفتاح الإنسان على الله في الشّرق، وانشغال الغرب في اختباره المستمر لـحدود اللغة، برغبته المتأصّلة في التفكير في اللّا مفكّر فيه، هذه العمليّة التي تجعل الغرب يخلق آلهته وذاتيّته فقط لتدميرها، خصوصًا عندما يكتب: «الفكر الحديث يتقدّم نحو تلك المنطقة؛ حيث يجب أن يصبح أيّ آخر هو الذات نفسها». (ص28)
لا شكّ أنّ فوكو ترك منهجًا في نقد المعرفة كحقلٍ من حقول السّلطة، استفاد منه إدوارد سعيد وغيره في نقد الاستشراق، ولا غنى لأيّ باحثٍ في مسائل السّيطرة الفكريّة والاستعماريّة عن الاستفادة من حفرياته. ولكنّه في أقصى مداه يبقى غربيًّا أراد من غربه أن يكون أفضل.
5. إسلام دريدا وكتاب الشعوب[12]
يقف الإسلام على هامش فكر دريدا. بالنسبة لكاتبٍ قضى سنوات تكوينه في بلدٍ مسلمٍ (الجزائر)، لا نجد تركيزًا لافتًا أو اهتمامًا بالإسلام في أعماله. بالكاد ستة نصوص تذكر شيئًا عابرًا في مكتبته الشاسعة. يبدو الإسلام عاملاً بطريقةٍ غريبةٍ خلف الكواليس، كمجرّد «أصوليّةٍ» ذهبت ضحيّة العولمة، وأحيانًا أخرى شريكًا لليهوديّة والمسيحيّة، خصوصًا للتوحيد التوراتي، ثم يصبح شيئًا مختلفًا تمامًا في أحيانٍ أخرى، حين يتحوّل إلى الآخر العربي المتعصّب والعنيف والمعادي للديمقراطيّة. في كلّ هذه الحالات يظهر الإسلام كإطارٍ دلاليٍّ يتقاسم الإخفاقات مع اللّاهوت المسيحي واليهودي مع مفرداته الغريبة. يتمحور البحث في الفصل هنا حول: (هديّة الموت) [1992] وآخر له «الإيمان والمعرفة» [1996]؛ حيث تتأرجح مكانة الإسلام بين الأخ والآخر.
ثم يستعرض الكاتب أسباب امتناع دريدا عن نقد التّصوّف الإسلامي فيما هو تصدّى لنقد التّصوّف السّلبي في المسيحيّة، ولكنّه لا يصل إلى نتيجةٍ يمكن الركون إليها. في «هبة الموت» «والإيمان والمعرفة» تُستدعى فكرة تعدّديّة الإسلام الراديكالي لحاجاتٍ دلاليّةٍ، وتتمّ الإشارة في الهوامش إلى «العنف الإسلاموي». (ص45). مما يكشف بصورةٍ أوضح أنّ اهتمام دريدا بالإسلام ما كان بمستوى أسلافه.
أما ذلك المقطع اللّافت الذي يقتبسه الكاتب من ندوة كابري، فهو لا يعدو كونه دفاعًا عن الموضوعيّة لا عن الإسلام، يقول دريدا: «ألفت انتباهكم إلى أنّه ليس بيننا مسلم واحد للأسف حتى في هذا النقاش الأوّلي…التحدّث نيابة عن هؤلاء الشّهود إليكم دون التحدّث معهم له الكثير من العواقب» (ص46). يحاول الكاتب أن يجعل هذا النّصّ دفاعًا عن «الآخر القريب المنسي»، ولكنّه في العمق دفاعٌ عن موضوعيّة الأحكام والعواقب، سواء كان الموضوع هو الإسلام أو غيره.
وفي مداخلته المؤلّفة من ثمانية وسبعين صفحة التي تتناول موضوع الدين حصرًا، يشير دريدا إلى الإسلام كدينٍ مستقلٍّ عن اليهوديّة والمسيحيّة 3 مرات فقط: مرّة في حاشية، ومرتين فيما يتعلّق بالإرهاب. متأسّفًا بصدق عن الطبيعة المركزيّة الأوروبيّة للندوة. (ص47)
6. المسلم كأخ الإسلام توحيد سامي
الإسلام، مع ذلك، لا يُستشهد به ببساطة باعتباره كلّ الآخر الشّرقي، ولكن غالبًا ما يكتسب هويّة مألوفةً أكثر إما كشريك سامي لليهوديّة، أو باعتباره الجزء الثالث من التوحيد الإبراهيمي. أحيانًا، كما في حالة التّصوّف اليهودي والإسلامي، يجمع دريدا بين اليهوديّة والإسلام معًا على أنّهما يختلفان بشكلٍ إيجابيٍّ عن المسيحيّة برفض مقولة الصّلب والتثليث والإصرار على توحيد الإله. (ص48)
فيما تبقى من تركيز على جوانب الالتقاء والافتراق بين الإسلام واليهوديّة من جهةٍ والمسيحيّة من جهةٍ أخرى، يفشل الكاتب في إثبات المقولة التي ركّز عليها في بداية كتابه؛ حيث لا يظهر دريدا مستخدمًا الإسلام لنقد الغرب، بل كدينٍ توحيديٍّ لا يوافق على العقائد المسيحيّة…
7. خورخي لويس بورخيس [13]
تُظهر معالجة بورخيس نوعًا من الرّابطة الأدبيّة الخياليّة بالثّقافة الإسلاميّة والمشرقيّة عمومًا وليس بالإسلام كدين خصوصًا، باعتبار أنّ حياة الأديب كانت بين بلده الأرجنتين وأوروبا، وباكرًا تقيّدت حركته بعد أن أصيب بالعمى سنة 1955م، بفعل مرضٍ وراثيٍّ. الجذور الإسبانيّة للثّقافة الأرجنتينيّة وشراكة اللّغة وتاريخ الاستعمار كلّها تضع الأديب في طيف الثقافة الأندلسيّة. ولكنّها في حالة بورخيس كانت قصص ألف ليلة وليلة وغيرها من أخبار الشّرق مادّة أدبيّة خصبة استخدمها ببراعةٍ ليغني صوره وتمثّلاته.
عشرات القصص عن الإسلام التي كتبها بورخيس بين عام 1933 و 1956 تظهر وعيًا متزايدًا بالتعقيدات التي تنطوي عليها الكتابة عن مجموعة من الاستعارات مثل «الإسلام». في بداية «لغز إدوارد فيتزجيرالد»، تمكّن بورخيس من ذكر أكثر من عشرين اسمًا من أصلٍ إسلاميٍّ أو عربيٍّ في فقرة الافتتاح: عمر بن ابراهيم، نظام الملك، إخوان الصفا، الفارابي، ابن سينا، حسن الصباح… الإشارات تنهمر على القارئ بكثافةٍ دقيقةٍ. بالنسبة لأيّ شخصٍ لم يألف موضوع الفلسفة الإسلاميّة يمكن تفسير ذلك على أنّه استعراضٌ لعضلاته الاستشراقيّة… ولكن الواقع أنّ بورخيس يسعد بصياغة عوالم جديدة للقارئ، وهذه طريقته في دفع القارىء للمرور على «شرق بورخيس». تتكرّر الاستعارات من الإسلام، ولكن لصناعة ذلك الشّرق الذي تحدّث عنه إدوارد سعيد، شرقٌ مستمدٌّ من الفضاء الغربي، وليس من الشرق الحقيقي.
(ص 66 _67)
نلاحظ هنا عدم دقّة استخدام الكاتب لكلمة استعارة الإسلام، بل هو الشّرق بأساطيره القديمة وما بثقافته من إسلام يحضر بكلّه كمادّة خيالٍ أدبيٍّ لا كموقفٍ ضدّ صورة الإسلام في الغرب، ولذلك نرى أنّ بورخيس لا يشغل حيّزًا مهمًّا في قضيّة الكتاب «استخدام الإسلام لنقد الغرب»، إنّما هو أديب وليس بعالم أو فيلسوف كما هو الحال عند نيتشه وفوكو، وإذا أخذ من الإسلام أو الشّرق رواية أو قصّة أو رمز أو بطل وحاول أن يضفي على عمله حياة الحقيقة، يبقى التوظيف الأدبي هو الأساس والحلم أقوى من الواقع: في «مرآة الحبر» وحكاية الحالمين يستلهم بورخيس من كتاب ألف ليلة وليلة من ترجمة إدوارد ويليام لين، صورة الإسلام الذي في هذه القصص ليست سلبيّةً ولا معقّدةً، ومثل الكثير من نصوص بورخيس عن الإسلام تتعلّق بالكبرياء والتّعدّي على الحدود البشريّة. مثل هذه القصص تتوقّف على جهل الإنسان بالله وعلمه وحماقة المتغطرسين الذين يعاقبون في النهاية. إنّ إسلام بورخيس في هذه القصص «آمن» ومتشدّد وملفتٌ للنّظر، خالٍ من الباطنيّة، عوالم «حكاية الحالمين» و»مرآة الحبر» هي في الأساس أخلاقيّة، فلا يمرّ ظلم الظالم بلا عقاب، ولا يعاني الأبرياء لفترةٍ طويلةٍ. أسلوبيّة بورخيس التي تركّز على صفات الله الذي هو وحده العليم والقدير والرحيم، وتثأر في النهاية للمظلومين، تخالف الجوّ الأوروبي السّائد عن القدريّة في الإسلام. (ص 68_69)
ثم يسجّل الكاتب أقوى مظاهر الاقتراب من العرب بالقول: إحدى السّمات المهمّة التي تربط بين جميع أفراد بورخيس «العربي»، أن قصص تلك الفترة كانت حقيقيّةً ومرويّةً على لسان مسلمين، وإذا كان إدوارد سعيد قد أطلق على كاليوسترو لقب «أوّل مقلّدٍ أوروبيٍّ عظيمٍ للشّرق». فإنّ بورخيس قد حذا حذوه باختياره للرّواة العرب، من بداية قصّةٍ واحدةٍ يمكننا أن نستنتج أدلّة على أنّ الكاتب عن اسبانيا كان مسلمًا، ربّما في حنينٍ واضح إلى الجذور والانبهار بالثقافة الأندلسية الإسبانيّة. فلغة الرواة الذين يختارهم كانت رصينةً تتضمّن «السلام عليكم»، و»بسم الله الرحمن الرحيم»، مما يعكس نوعًا من الأصالة الاستشراقيّة. طلب هذه الأصالة قاد بورخيس فيما بعد إلى الاستشهاد بالمراجع الببليوغرافيّة في بدايات قصصه، وربط مصادره العربية مباشرة بعبد الرحمن المصمودي أو الإسحاقي بضمير المتكلم، يعيد بورخيس صياغة ما أعيدت صياغته بالفعل، بإعادة ترتيبه وتزيينه، مما أدّى إلى تحويل شيءٍ من المحتمل جدًا أنّه حقيقة إلى خيال.. بعبارة أخرى، حكايات بورخيس ترجمات عن ترجمات حافلة بصور: الأمراء، والوزراء، والصحاري، والعمامات، والجمال. لكنّها تبقى فيما فيها من أخطاء أقرب إلى ما كان الأوروبيون يكتبونه عن الإسلام وثقافات الشعوب الشرقية. (ص71_72)
حتى ما يمكن أن يكون روايةً عربيّةً صحيحةً يتّجه أسلوب الكاتب إلى جعلها خيالاً، مع احتمال أن تكون أصل الشّخصيّة العربيّة مخترعةً، ولكن آخر النّصّ يُخبرنا عن فشل الاقتراب الحقيقي من الشّرق؛ حيث يُؤكّد الكاتب أنّ بورخيس بقي ضمن حدود ما كتبه الأوروبيون عن الإسلام والشّرق.
لا بل يؤكّد النّص التالي أنّ بورخيس لم يلتزم باحترام المسلمين ومقدّساتهم أصلًا عندما: تبنّى نصًّا متعصّبًا ضدّ رسول الإسلام للسويدي إيمانويل سويدنبورغ، من القرن الثامن عشر، مع ما يتضّمنه من صورٍ سخيفةٍ وبشعة وسطحيّة، لا تعطي اعتبارًا لإيجابيات المسلمين من وجهة نظرٍ مسيحيّةٍ كاحترامهم للسيّد المسيح… (ص73_74)
نفهم من هذا التّنوّع كيف يستخدم بورخيس كغيره من الفنّانين الغربيين الإسلام؛ لإضفاء طابعٍ عالميٍّ موسوعيٍّ على أعمالهم وتزيين الصورة، خصوصًا عندما ينسب كلامه إلى مصدرٍ حقيقيٍّ أو وهميٍّ مصطنعٍ. يأتي ذلك مع لمحاتٍ نقديّةٍ للإسلام الأصولي للقول إنّه هناك إسلاماتٌ عدّة، وهي قابلةٌ للنّقد على أساس مدرسة ما بعد الحداثة، وهنا يبرز التيّار الصّوفيّ كإسلامٍ متسامحٍ أقلّ تشدّدًا وفريد الدين العطار ومنطق الطير … ويتصدّى بورخيس لشرح أسباب الصّوم عند المسلمين. (ص75_77)
ينتهي الفصل الخاص بالأديب الأرجنتيني دون أن يصيب الكاتب هدفه، فليس في كتابات بورخيس الغزيرة موقفٌ لصالح الإسلام ضدّ الغرب يمكن إبرازه والركون إليه. إنّما هو أديبٌ يحاول أن يوسّع خياله وإطاره ومصادره إلى أبعد مدى.
8. جوليا كريستيفا[14]
من سيرتها الذاتيّة وحملاتها لدعم النّسويّة الغربيّة، جوليا كريستيفا تنتمي إلى ذلك الصّنف من الأدباء، الذين انتقلوا من أوروبا الشّرقيّة (بلغاريا) إلى أوروبا الغربيّة (فرنسا)، وكان لديها صلاة أمنية مع الحزب الشيوعي البلغاري. لديها دوافع لإقناع فرنسا العلمانيّة بها، ولها جذور شيوعيّة ملحدة، فمن الطبيعي أن تكون في طليعة المحرّضين على الإسلام، ولذلك اقتنعت عندما وصل إليها بأنّ المحتوى في هذا الكتاب لديه أهدافٌ أخرى غير ما قال إنّه يلتزم به في البداية.
تبدو كريستيفا من مستهلّ الفصل المتعلّق بها داعيةً لتطهير أوروبا من «فضاءات القمع التي يمثّلها الإسلام وفتاواه»، متحمّسة لتيّار النّسويّة وحريّة الشّذوذ، هذه الحريّة التي تمثّلها الحضارة «اليونانيّة اليهوديّة المسيحيّة». (ص131_ 133)
إذا عدنا إلى سيرتها الذّاتيّة[15] فإنّ محور اهتماماتها هو الأدب والتناصّ والسيميائيّة وعلم النّفس والنّسويّة. وفي كلّ هذه الإنتاجات يمثّل الإسلام تلك الحدود التي ترفضها كريستيفا وبحماسٍ أقوى من الفرنسيين أنفسهم؛ لتأكيد ولائها للعلمانيّة الفرنسيّة المتطرّفة، وكأنّها في كلّ كلمةٍ ورأيٍ تكفّر عن أصلها الشيوعي البلغاري، وتطلب الاعتراف بها بين صفوف الأنتلجنسيا الأوروبيّة الغربيّة، وبالفعل نجحت جهودها وحصلت على الجوائز، بل أسّست جائزةً باسم سيمون دو بوفوار رفيقة درب الفيلسوف الفرنسي الوجودي جون بول سارتر.
ربّما لذلك يلجأ الكاتب إلى التخفيف من حدّة مواقف كريستيفا بنقدها الذي يُبيّن فيه أنّها تعاملت مع الإسلام «كدوغما»، وتجاهلت مقدار التّنوّع في آراء المسلمين واتّجاهاتهم، يقول ألموند: كاتبات أمثال رجاء النّمر وهالة أفشار، تحدّثن عن اعتراف القرآن المبكر بحقوق المرأة، وحتى عن أهميّة المرأة في الحكم الإسلامي. وتؤكّد أفشار أنّ عددًا كبيرًا من النّساء المسلمات يعتبر النّسويّة الغربيّة إحدى أدوات الاستعمار، التي تريد تعميم رؤية الطبقة الوسطى البيضاء في الغرب على العالم… مما يمنع رؤية المسألة من زوايا حاجات ومتطلّبات وأولويّات النّساء في فضاءات وعقائد مختلفتين. لم يعد من السّهل تجاهل مواقف المرأة المسلمة، وتناول مسألة المرأة فقط من منظورٍ أوروبيٍّ أميركيٍّ يتمحور حول الشادور وتعدّد الزوجات وجرائم الشّرف. ومن هنا ينبع نقدنا لكريستيفا التي تتجاهل ظهور نسوياتٍ إسلاميّات في ماليزيا وإيران، ولا تُعالج قضايا المرأة في سياق الثقافة الإسلاميّة. (ص133_134)
في تناولها لموضوع إمكان استخدام المرأة كشيءٍ في الإسلام تفشل كريستيفا بالإتيان بشواهد من القرآن وتظهر عدم كفاءةٍ في الحكم، ولا تلتقي مع فوكو ونيتشه في الحكم على الغرب بالنّفاق، بل تُحيل الإسلام إلى زمن ما قبل الحداثة، وتنحاز للغرب المنفتح المتعدّد المستويات … (ص138_140).
يتمحور نقد الكاتب لكريستيفا حول الإسلام بثلاثة نقاط: الأولى: ضرورة مراجعة العلاقة الإشكاليّة بين الإسلام ومعتنقيه والفكر النسوي الغربي، بما في ذلك الجدل المتقدّم والمتعدّد الأوجه داخل الإسلام حول إمكانيّة وجود فضاءٍ نسويٍّ مسلمٍ؛ والثانية: إنّها لا تأخذ بعين الاعتبار ردّ فعل المنظور غير الأوروبي، ما يسلّط الضّوء على مجموعةٍ متنوّعةٍ من الأحكام المسبقة والتعميمات والافتراضات الثّقافيّة في خطابها؛ والثالثة: التركيز بشكلٍ خاصٍّ على مسألة الزّمنيّة، وأنّ (الإسلام يبقى قبل الحداثة) واختزال الإسلام بالفضاء القمعي باعتباره قضيّةً خاسرةً من حيث الجندر وحقوق الإنسان، وإقحامه في «زمن أوروبيٍّ ورمزيٍّ للغاية» تظهر فيه الحداثة والتطوّر بشكلٍ غير متوقّع. تكمن المشكلة في قلّة الاهتمام الذي توليه كريستيفا للإسلام والتمسّك بالتّعميمات وإضفاء طابع التّخلّف عليه والحكم على الظاهر، وعدم رغبتها في الاعتراف بأيّ تعقيدٍ أو تنوّعٍ داخل عقيدة الإسلام أو ثقافته. نجد ذلك في تبسيط كريستيفا لقضيّة الحجاب بالمقارنة مع عالم اجتماع آخر مثل جول، أو الغياب التّام لأيّ اعترافٍ بتاريخ التّعدّديّة والتّسامح في الإسلام على عكس مفكّرٍ مثل جيجك.
يظهر الآخر الإسلامي في نصوص كريستيفا – غرباء عن أنفسنا (1987)، أمم بلا قوميّة (1993)، وأزمة أوروبا (2000)– وكأنّه في عيادة التحليل النّفسي التي لا ترى في الآخر إلّا أنّه نرجسيٌّ، ذاتيٌّ، خطرٌ، لا يكون صحيحًا إلّا إذا دمج نفسه بالثّقافة الأوروبيّة. ويصل الأمر إلى اختزالٍ عرقيٍّ أحاديٍّ بشدّةٍ. ربّما بسبب رغبة كريستينا في التعبير عن ولائها لقيم الجمهوريّة الفرنسيّة وإحساسها المتجدّد بالتّفاني في مشروع أوروبا، جنبًا إلى جنبٍ ضدّ شواطئ شمال إفريقيا التي تنطوي على مشاكلَ وتهديداتٍ. (ض140_142)
حسنًا، ما دام الأمر كذلك، ماذا تفعل كريستيفا هنا (في هذا الكتاب)!؟ ولماذا لم تكن أنا مارى شيمل (7 أفريل 1922 – 26 يناير 2003) مثلاً، وهي واحدةٌ من أشهر المستشرقين الألمان، بل الغربيين على المستوى الدّول،. وهي التي كان اهتمامها بفكرة الحبّ الإلهيّ في الإسلام ردًّا واضحًا على الاتّهامات الغربيّة-المسيحيّة، كما كان اهتمامها بالتّصوّف الإسلامي تعريضًا بدنيويّة الحداثة، وأنهت حياتها بوصيّةٍ أن يُكتب على قبرها كلمةٌ للإمام علي عليه السلام: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». هذا والكاتب يتقن الألمانية ويترجم عنها، وبدون شكّ يعرف من هي ماري شيمل.
9. جان بودريار[16]
على عكس دريدا الذي تحميه خلفيّته اليّهوديّة الجزائريّة من تهمة الجهل بالثّقافة الإسلاميّة، أو فوكو الذي بذل جهدًا على الأقلّ في قراءة هنري كوربان قبل رحلته إلى إيران، يبدو أنّ بودريار غير مثقلٍ نسبيًّا بأعباء المعرفة العميقة للإسلام أو تاريخه الاجتماعي والسياسي. سطحيّة معرفة بودريارد للإسلام، بعيدًا عن أيّ نوع من الإعاقة، تصبح وسيلةً للحصول على منظورٍ خياليٍّ أوضح غير مشوّشٍ بأوهام العمق الكاذبة حول القضيّة التي نحن بصددها. (ص 159)
سياق الحديث عن مقارنة بودريار للشرقيين بالغربيين كما يقدّمه إيان ألموند، هو أقرب إلى الذّمّ منه إلى المديح، ولكنّه على كلّ الأحوال شيءٌ مختلفٌ: عندما يقارن بودريار المسرح الصيني وإتقان الأدوار فيه، والرّوح الجماعيّة للممثلين، ويستنتج من ذلك تحرّر الصينيين من عقد الفردانيّة الغربيّة أو ما يُسمّيه أسطورة الحريّة والاختيار. وفي مكان آخر يلاحظ أنّ الغربيّ يبحث عن فضاءٍ له في محطّات المترو والشوارع (فردانية)، بينما يحسن الشرقيون العيش في الازدحام؛ بسبب تغلّب الجماعيّة على الفرديّة في ثقافتهم. (ص160_161).
أيضًا، هنا يختلط الشّرق الآسيوي بالإسلام، فبودريار المتمرّد على الواقع الغربي يلتقط مشاهدَ مشرقيّةً سواء كانت صينيّة أو عربيّة؛ ليسلّط الأضواء على درجة التّصنّع والاصطناع في محتوى التّواصل الغربي الحديث. هذه رسالته الفلسفيّة التي شغلت معظم نتاجه، ما فعله الغرب في العراق مثلًا مجرّد مشهدٍ يخدم القضيّة الأساسيّة. أمّا تمجيد حضارات ما قبل الحداثة وما قبل الإسلام فيأتي في السياق نفسه.
يتحوّل تعاطف بودريار مع الشّرق إلى تمجيدٍ لحضارات ما قبل الحداثة، التي كانت تؤمن بالجبريّة والقدريّة، حتى إنّه يقدّم حرب الخليج كحدثٍ مصطنعٍ تمّ إعلان النّصر فيه قبل بدايته: «لم تحدث حربٌ، هي مجرّد كتلةٍ من المعلومات»، وهو يتحدّث عن حرب تحرير الكويت سنة 1991. السّخرية مما سمّي آنذاك بالحرب النّظيفة -حيث يختفي الضحايا ويظهر الصاروخ- ناتجٌ عن غرق العلمانيّة بالرّمزيّة والأيقونة: «الأيّام الأولى لهجمة البرق، سيطرت عليها التقنيّة الغامضة، ستبقى واحدة من أفضل الخدع، واحدة من أروع صور السّراب الجماعي في التاريخ المعاصر .. كلّنا متواطئون في هذه الأوهام، يجب أن يقال، كما نحن في أيّ حملةٍ دعائيّةٍ». (ص163 _165)
تبقى سلبيّة الجماهير مسؤولةً عمّا حدث من استئثار المستبدّ بمصيرها، ولكن اللّافت أنّ بودريار لا يعفي حتى الجماهير الغربيّة من السّلبيّة: «الجماهير الغربيّة، تدرك تمامًا أنّه لا يتعيّن عليها اتّخاذ قرارٍ بشأن نفسها والعالم».(ص 215)؛ بعباراتٍ أخرى، سلبيّتها أصيلة، اختيارٌ واعٍ، قرار عدم اتّخاذ قرارات. وهذا ما يسمّيه بودريار «الطرد الاستراتيجي للمسؤول واجب الوجود»، وهو الحالة الموجودة في «الجماهير العربية». (ص166_167)
رسالة بودريار في كشف تحكّم الشّركات والدّول وشبكات الإعلام في صناعة الرأي العام وتكوين الأحداث، وتقديمها لكتلٍ بشريّةٍ هامدةٍ كأنّها اتّخذت قرارًا بعدم التّدخّل حتى في مصيرها، هي في العمق محاولة انتصارٍ للإرادة البشريّة الحرّة بالمطلق، سواء في دول الغرب أو الشرق، وإلماحاته العميقة تكشف حكم الغرب للشّرق بواسطة هذه القدرة الهائلة على تزوير الأحداث وضخّ المعلومات وفبركتها وتزييفها. هذا المشروع مع ضعف معرفة بودريار بالإسلام، هو مشروعٌ نقديٌّ للغرب من داخله، سواء كان فعله في إطاره الإقليمي «حداثة» أو في خارجه «عدوان».
وفي هذا الإطار، نفهم مقارنة الأصوليّة الغربيّة بالأصوليّة الإسلاميّة، ويكشف بودريار بعمقٍ ووضوحٍ عن أنّ الصّراع هو في الواقع بين أصوليتين لا بين حداثةٍ ورجعيّةٍ، وأنّ الأصوليّة الغربيّة مهيّأةٌ أكثر من عدوّتها لاستخدام العنف: «يمضي بودريار مفنّدًا أساطير الغرب التقليدي، فيرى أنّه أكثر استعدادًا لارتكاب أعمال عنفٍ من نظيره الإسلامي: «إنّه دائمًا أصوليّ التنوير من يضطهد الآخر ويدمّره، ولا يستطيع أن يتحدّاه إلّا بشكلٍ رمزيٍّ». فإصرار الغرب على تجسيد الواقع من حوله – في فرض العلامات والصّور على كلّ ما يقابله- يؤدّي إلى أن يفقد الاتّصال بالواقع؛ بسبب جنون العظمة، ممّا يُؤدّي إلى تضخيمٍ أدنى مستوى من الإيماءات الرّمزيّة (مثل فتوى رشدي)، والدخول في تهديداتٍ وهميّةٍ، للحفاظ على إرهابٍ غير متناسبٍ وناتجٍ عن سوء فهمٍ كاملٍ لـلفرق بين التّحدّي الرّمزي والعدوان الفنّي». وعلى الرّغم من أنّ الغرب ماديًّا (عسكريًا واقتصاديًا) أقوى من الشّرق، فإنّ خوفه يجعله أضعف. وانعدام الشّعور بالأمن، بالنسبة لبودريار، يجعل الأصوليّة الغربيّة مقلقةً أكثر بكثير من نظيرتها الشّرقيّة. (ص170 _171)
نصٌّ رائعُ في الحقيقة، كيف يضخّم الغرب عدوّه باستخدام لعبة الرموز، ثمّ يخاف ممّا صنع، فيصبح مهيّئًا للعدوان عليه، وممارسة العنف ضدّه؛ لأنّه الطرف الأقلّ طمأنينةً والأكثر قلقًا، وبالتالي الأكثر خطرًا. اللّعبة نفسها مورست مع الاتّحاد السوفيتي أيّام الحرب الباردة والتنظيمات الإرهابيّة والعراق، وأيّ عدوّ تقترحه استراتيجات الهيمنة الغربيّة. مصطلح «أصولي» كما كان مصطلح «فاشستي» من عدة الشّغل أو ما يُسمّيه بودريار فرض العلامات والرموز.
إنّ ما يُسمّى اليوم «بالإسلامويّة» بمعنى استخدام الإسلام لغاياتٍ سياسيّةٍ «غير إسلاميّة»، هو في التحليل الأخير إنتاجٌ غربيٌّ لا ينسجم مع قيم الإسلام وأهدافه، ونشاطٌ سياسيٌّ مجرّد من منظومة القيم والعقائد الإسلاميّة، تمّ تأسيسه على يد المستبدّين في الغرب والشّرق، ولكنّه لقي دعمًا قويًّا وتطويرًا خطيرًا، عندما منح التّطوّر التكنولوجي للغرب آلياتٍ متقدّمةً في تصنيع الرّموز والأيقونات وتسليع القيم وحجب العلم بالمعلومة، والمعرفة بالصورة.
وحتى الإسلامويّة تصبح في هذا السّياق هي أحد أعراض تراجع الغرب، عندما ترى الثّقافة الغربيّة أنّ جميع قيمها تنطفئ واحدةً تلو الأخرى، وأنّها تدور داخليًّا نحو الأسوأ. بالنّسبة لنا موتنا انقراض، إبادة، إنّه ليس تبادلٌ رمزيٌّ، ونحن نتفرّد بقتل أنفسنا، فينتحر الآخر بالضربة نفسها التي ينتحر بها الغرب. (ص172_173)
في النّهاية بقيت استعارات بودريار داخل مشروعه النّقدي، الذي استهلك جهوده، فلا يُمكننا اعتبارها تعاطفًا مع الآخر إلّا بمقدار ما تخدم تهديم المصطنع والاصطناع.
10. سلافوي جيجك[17]
يمثّل سلافوي جيجك مشروع أوروبا اليساريّة، ولم يكن الإسلام في دائرة اهتمامه قبل أحداث 2001. كفلاسفة الماركسيّة التي تعيد إنتاج نفسها كلّ مرّة بنسخةٍ، وبتأثّرٍ شديدٍ بالفيلسوف الألماني هيغل، يرى جيجك السلوفيني أزمة الرأسماليّة ويقترح أن تقود أوروبا مستقبل العالم بديلًا عن أميركا المتداعية. أين مكان الإسلام في هذا المشروع، إنّه المكان نفسه الذي وضعته فيه السياسة الأميركية «مرحلة انتقاليّة باتّجاه شيءٍ آخر».
بدأ اهتمام الفيلسوف السلوفيني بالإسلام والعرب بعد أحداث 11/9 وغزو أفغانستان ثم العراق، قبل ذلك لم يكن الإسلام حاضرًا عنده حتى عندما اقتبس من كانط حذف الجملة المتعلّقة بالإسلام. يقول الكاتب إنّ هذا «التهميش» للإسلام هو من أثر هيغل في جيجك: «تبقى الحقيقة أنّ العالم الإسلامي قليل الأهميّة ضمن المخطّط الأكبر لفلسفة هيغل في الفن والتاريخ والدين. قيل لنا في محاضرات تاريخ الفلسفة إنّ الفلسفة العربيّة لا تشكّل سوى مستوًى أصليٍّ واحدٍ في تطوّر الفلسفة. في محاضراته المكوّنة من ثلاثة مجلّداتٍ حول فلسفة الدين، لا يحظى الإسلام سوى ببضع صفحاتٍ ضئيلةٍ. وفي الخطّة المتعلّقة بتطوير هيكل «تصميم الأديان» وكشفه، مثل البوذيّة واليهوديّة و»الديانة الصينيّة»، لم يتم ذكر «المحمّديّة» على الإطلاق، وفي فلسفة التاريخ عند هيغل كأنّ الإسلام يلحق بالانسحاب الأفريقي من تاريخ العالم». (ص 178_179)
الهيغليّة المتعصّبة التي اخترعت مفهوم الدّول، التي هي روح الأمّة، لا تخلو من كلّ أنواع المركزيات سواء الجرمانيّة الألمانيّة أو الأوروبيّة، وبالتالي لا يتوقّع من فيلسوفٍ هيغليٍّ إلّا أن يكون متمحورًا حول أوروبا التي يريد. ولمّا كان سلوفينيًا فإنّ حوافز المشاركة في صناعة أوروبا يساريّة تواجه مشكلة المركز والأطراف في الداخل الأوروبي، كما مرّ معنا في حالة جوليا كريستيفا. وكلاهما يتميّز بالغزارة في التأليف. ربّما يسمح لنا هذا الوضع باستخدام مقولة ديكارت في غير موضوعها، فكلّ فيلسوف غريبٍ عن دول أوروبا الغربيّة يحتاج إلى إثبات ذاته وأوروبيّته وكأنّه يقول: «أنا أفكر إذًا أنا موجود».
ولكن هذا الوضع لم يمنع جيجك من التّعامل مع العالم العربي كهامشٍ أوروبيٍّ، فما كتبه عن العراق «كتاب الغلاية المستعارة» تتم فيه الإشارة إلى ثلاثة أسبابٍ للغزو: الهيمنة الأميركيّة، والنفط، والديمقراطية، مع سخرية من سطحيّة التغطية الإعلاميّة على طريقة بودريار. ولكن اللافت هو تحوّل العراق إلى ممرٍّ للإشارة إلى أنّ الحرب موجّهةٌ أيضًا ضدّ أوروبا ووحدتها، ويصبح الموضوع هو العودة إلى مركزيّةٍ أوروبيّةٍ يساريّةٍ. (ص180_181)
جيجيك السلوفيني المهمّش في أوروبا، والمتّهم مع دول البلقان بالتّخلّف السّياسي نتيجة العجرفة الأوروبيّة، يتعامل أيضًا مع العراق بفوقيّةٍ، بل مع «العالم الثالث الذي لا يمكن أن يولّد قوّةً كافيةً لمقاومة أيديولوجيّة الحلم الأميركي .. أوروبا فقط يمكن أن تفعل ذلك». ثمّ يتساءل الكاتب عن هيغل وجيجك وسبب دفعهم للإسلام إلى خارج مركز نصوصهما، أو إلى موقع الهوامش الخلفيّة لعملهم؟ ولا يجد الإجابة إلّا في المثاليّة الألمانيّة ومدرسة التحليل النّفسي؛ حيث يتمّ تكوين الواقع من الموضوع، مما ينسجم مع المنهج الاستشراقي الأوروبي الذي يستخدم الشرق لمعرفة الذات. كما قال أحد النّقّاد عن كلّ من هيغل وفرويد: «جهازنا المفاهيمي ليس فقط هو انعكاسٌ للعالم، العالم هو أيضًا انعكاس لجهازنا». هذا «الانعكاس» ليس مباشرًا بل معكوسٌ. (ص182_183)
كيف يمكن لفيلسوفٍ أن يتعاطف مع أيّ شيءٍ إذا كان ذاتيًّا إلى هذا الحد؟ إنّه منشغلٌ دائمًا إما في بناء الذات أو معرفتها أو إثباتها، يقضي حياته في بناء نفقٍ بين هوامش أوروبا ومركزها، مع الالتفات إلى أنّ ما يهدم التجربة الأميركيّة أو ما يؤخذ عليها، موجود وبقوّةٍ مع تعديلاتٍ بسيطةٍ في دول أوروبا. ولذلك «يصبح المسلم مهمًّا عند جيجك بقدر أهميّة السياسة الغربيّة تجاهه، والغرب يعرف ذاته من خلال الأعذار التي يصنعها لغزو المسلمين تحت عنوان الدّفاع عن النّفس ضدّهم. مما يحوّل الإسلام إلى عارضٍ من أعراض أوروبا. هذا على الرغم من إدانة جيجك للعنف الأميركي تجاه العراقيين». (184_185).
ومن الطبيعي أن تصل هذه المقاربة إلى حد رفض مقولة صراع الحضارات لهنتغتون للقول بأنّه صراعٌ «داخل الحضارة» أو حرب الأيقونة مع الرّموز، وليس المسلم إلّا العنصر النّاشط الذي يستفزّ طمأنينة الغرب المترف، ومع ذلك فإنّ جيجك يقترح التفكيك بين الإسلام المتطرّف والإسلام نفسه. (ص186_188)
نلاحظ هنا زاوية الرؤية التي لا ترى المسلم إلّا من فوق، من شمال المتوسّط، استعلاء لا يمنع من أنّ في الكلام بعض الحقيقة، فلسنا في الواقع أمام صراعٍ بين حضارةٍ غربيّةٍ قائمةٍ وحضارةٍ إسلاميّةٍ قائمةٍ، بل بالفعل صراعنا هو بين مركز حضارة الغرب وأطرافه التي تحاول أن تتحرّر من هيمنته وفضائه؛ لتصنع نسخةً متجدّدةً من حضارتها، نعم هو صراعٌ داخل الحضارة المهيمنة القائمة أصلًا على فكرة ابتلاع المختلف لصالحها. ومن نتائج هذه الرؤية أنّ تخلّف العالم الإسلامي وانتشار المستبدين فيه هو حصّتنا من هذه الحضارة الغربيّة وحداثتها المتصالحة مع مدرسة الاستبداد التاريخيّة في الشّرق وبداوتها.
الإسلام كمشروعٍ غير مكتملٍ، يشكّل عند جيجك «فرصةً مفتوحةً» نحو مستقبل يمكن استكشاف الاشتراكيّة فيه بشكلٍ مثمرٍ. في (The Ticklish Subject)، يتذّكر جيجيك التغطية الإعلاميّة الأميركية لـمذبحة ميدان تيان انمن عام 1989 ويسخر من اختزال المشهد بعين الأميركيين باعتبار أميركا رمز العنف الوحشي بقوله: «إذا خدشت الجلد الأصفر من الصينيين، تجد «أميركيًّا». (ص 207). من الواضح أنّ ازدراء جيجيك للمعلقين الغربيين الذين يترجمون تلقائيًا أي رغبةٍ في الحريّة، في أيّ مكان في العالم، حسب الهوى الغربي ويوظفون أيّ اعتراض لصالح السوق الحرة والديمقراطية الليبرالية. مع ذلك هناك إشاراتٌ كافيةٌ في كلامه حول بادر ماينهوف والمسلمين تجمع السلافي اليساري مع المسلم ضدّ أميركا؛ بحيث لو خدشت المسلم عند جيجك ستجد اشتراكيًّا في الداخل. ولكن يبقى الإسلام في خطاب الفيلسوف بنبرةٍ غير مريحةٍ للقارئ المسلم حين يتحدّث عن الإسلام كقاصرٍ مفيدٍ في لعبةٍ جيو سياسيّةٍ أكبر، تكمن قيمته كمرحلةٍ وسيطةٍ نحو شيءٍ ما آخر. (ص190 _191)
ونحن بدورنا نقول: إذا «خدشت الجلد الأبيض للأميركي ستجد أوروبيًّا متعصّبًا»، وأيّ مشروع لإصلاح أوروبا من داخلها سيصطدم بتبعيّة أوروبا السياسيّة لأميركا، وتبعيّة أميركا الثّقافيّة لأوروبا.
أمّا الإسلام كمشروعٍ حضاريٍّ إلهيٍّ فأكبر من أن يكون مجرّد تابعٍ وأداةٍ جيو سياسيّةٍ، ومن الخطأ الجمع بين حال الأمّة الإسلاميّة وإمكانيات الإسلام، الذي لا يختلف بنسخته الأصليّة ولا يتخلّف، فكلّما أعادت الأمّة اكتشاف دينها رأيناها تفتتح المجال الحضاري المتحرّر من تناقضات الحضارة الحديثة.
خاتمة:
نختم مطالعتنا لهذا الكتاب بقراءةٍ للغايات، فقد بدأ الكتاب باقتباسٍ لشاعرٍ انكليزيٍّ يمتدح التّرك تعريضًا بالغرب، ووعدنا بفلاسفةٍ وكتّابٍ يستخدمون المنهج نفسه، ولكنّنا وجدنا الأمر ينطبق على نيتشه وفوكو بنسبةٍ معيّنةٍ، ثم يحضر من لا ناقة له ولا جمل حضورًا ثقيلًا، كرشدي، وباموق، وكريستيفا، وبورخيس، ودريدا. هكذا يتمّ إقحامهم من خارج الموضوع، فإذا المشترك بينهم أنّ رشدي وباموق ملحدان متغرّبان معاديان للشّرق والإسلام، وبورخيس مؤيّد لإسرائيل، ودريدا يهوديّ جزائريّ، وكريستيفا داعية نسويّة مؤيّدة للشّذوذ. يبقى أنّ بودريار وجيجك أصحاب مشروعٍ أوروبيٍّ حداثويٍّ ليس الإسلام في منظورهم إلّا أداة. أليس من حقّنا أن نتساءل لِمَ تمّ إقحام هذه الأسماء في كتاب لأستاذٍ بريطانيٍّ يُدرّس في فرع جامعة أميركيّة في دولةٍ إسلاميّةٍ….؟!
——————————
[1]– https://www1-georgetown.academia.edu/IanAlmond/CurriculumVitae
[2]– أكبر صلاح الدين أحمد، أكاديمي باكستاني أمريكي، ومؤلف وشاعر وكاتب مسرحي ومخرج أفلام ودبلوماسي سابق. يشغل حاليًا كرسي ابن خلدون للدراسات الإسلامية، وأستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأميركية بواشنطن. من أهم مؤلفاته: الإسلام وما بعد الحداثة 1992، رحلة في داخل الإسلام 2007، رحلة في داخل أميركا 2010… ( المحرر)
[3]– ضياء الدين سردار عالم بريطاني باكستاني وكاتب حائز على جوائز وناقد ثقافي ومفكر عام متخصص في الفكر الإسلامي ومستقبل الإسلام وعلم المستقبل والعلم والعلاقات الثقافية. من أهم مؤلفاته: لماذا يكره الناس أميركا 2002، الإسلام وما بعد الحداثة والمستقبلات الأخرى 2004، مكة المدينة المقدسة 2014، القراءة المعاصرة للقرآن الكريم 2011. (المحرر)
[4]– عزيز العظمة أكاديمي سوري وأستاذ في قسم التاريخ، جامعة أوروبا الوسطى، بودابست، المجر. من بين الكتب والأوراق الأخرى، نشر الإسلام والحداثة، وهو من الحداثويين. (المحرر).
[5]– هايدة مغيسي أستاذة علم الاجتماع ودراسات المرأة وزميلة بيير إليوت ترودو بجامعة يورك في تورنتو. كانت مؤسسة الاتحاد الوطني الإيراني للمرأة وعضوًا في أولى هيئاته التنفيذية والتحريرية، قبل أن تغادر إيران في عام 1984. كتابها النسوية والأصولية الإسلامية: حدود تحليل ما بعد الحداثة (Oxford University Press، 2000 and Zed Press، 1999)، الحائز على جائزة Choice Outstanding Academic Book Award، تمت ترجمته إلى لغات متعددة.(المحرر)
[6]– بوبي س. سيد محاضر في علم الاجتماع، جامعة سالفورد، مانشستر. سبق له التدريس في جامعات شرق لندن ومانشستر وسالفورد.
[7]– جان فرانسوا ليوتار: بالفرنسية (Jean-François Lyotard) (10 أغسطس 1924 إلى 21 أبريل 1998) فيلسوف وعالم اجتماع ومنظّر أدبي فرنسي. اشتهر بأنّه أوّل من أدخل مصطلح ما بعد الحداثة إلى الفلسفة والعلوم الاجتماعية وعبّر عنها في أواخر سبعينيات القرن العشرين، كما حلّل صدمة ما بعد الحداثة على الوضع الإنساني. وساهم مع كلّ من جاك دريدا وفرانسوا تشالي وجيل دولوز في تأسيس المعهد العالمي للفلسفة.
[8]– جان فرنسوا ليوتار: معنى ما بعد الحداثة، ص60.
[9]– فريدريش فيلهيلم نيتشه: بالألمانية ( Friedrich Nietzsche) (15 أكتوبر 1844 – 25 أغسطس 1900) فيلسوف ألماني، ناقد ثقافي، شاعر وملحن ولغوي وباحث في اللاتينية واليونانية. كان لعمله تأثير عميق على الفلسفة الغربية وتاريخ الفكر الحديث.
[10]– روي جاكسون: نيتشه والإسلام، ص160.
[11]– ميشال فوكو: بالفرنسية ( Michel Foucault) (1926 – 1984): فيلسوف فرنسي، يعتبر من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، تأثر بالبنيويين ودرس وحلل تاريخ الجنون في كتابه »تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي«، وعالج مواضيع مثل الإجرام والعقوبات والممارسات الاجتماعية في السجون. ابتكر مصطلح «أركيولوجية المعرفة». أرّخ للجنس أيضاً من «حب الغلمان عند اليونان» وصولاً إلى معالجاته الجدلية المعاصرة كما في »تاريخ الجنسانية».
[12]– جاك دريدا: بالفرنسية (Jacques Derrida) (1930 – 2004)، هو فيلسوف وناقد أدب فرنسي ولد في مدينة الأبيار بالجزائر يوم يوليو 1930 – وتوفي في باريس يوم 9 أكتوبر 2004، يعد دريدا أول من استخدم مفهوم التفكيك بمعناه الجديد في الفلسفة، وأول من وظفه فلسفياً بهذا الشكل وهو ما جعله من أهم الفلاسفة في القرن العشرين، ويتمثل هدف دريدا الأساس في نقد منهج الفلسفة الأوروبية التقليدية، من خلال آليات التفكيك الذي قام بتطبيقها إجرائيًا من أجل ذلك.
[13]– خورخي لويس بورخيس: بالإسبانية ( Jorge Luis Borges)، عاش بين 24 أغسطس1899_ 14 يونيو 1986 كاتب أرجنتيني يعتبر من أبرز كتاب القرن العشرين بالإضافة إلى الكتابة فقد كان بورخيس شاعرا وناقدا وله عدة رسائل ترجمت أعماله إلى عدة لغات.
[14]– جوليا كريستيفا: بالفرنسية Julia Kristeva)) (وُلدت في 24 يونيو من عام1941) هي فيلسوفة بلغارية فرنسية وناقدة أدبية ومحللة نفسية وناشطة نسوية ومؤخرًا روائية، تعيش في فرنسا منذ منتصف ستينيات القرن العشرين. وهي الآن أستاذة فخرية في جامعة باريس ديديرو. ألَّفت أكثر من 30 كتابًا، منها: قوى الرعب، وأساطير الحب، والشمس السوداء: الاكتئاب والسوداوية، وبروست والإحساس بالزمن، وثلاثية أنثى عبقرية. مُنحت وسام جوقة الشرف الوطني، ووسام الاستحقاق الوطني، وجائزة هولبرج الدولية التذكارية، وجائزة هانا أرندت، وجائزة مؤسسة فيجن 97، التي منحتها إياها مؤسسة هافل.
[15]– https://ar.wikipedia.org
[16]– جان بودريار: بالفرنسية (Jean Baudrillard) وُلد في 27 يوليو 1929 – توفي في 6 مارس 2007، هو فيلسوف فرنسي وعالم اجتماع وعالم اجتماع ثقافي. يُشتهر بتحليلاته المتعلقة بوسائط الاتصال والثقافة المعاصرة والاتصالات التكنولوجية، بالإضافة إلى استنباطه مبادئ مثل المحاكاة والواقع المفرط. كتب بودريار عن مواضيع متنوعة، كالنزعة الاستهلاكية والأدوار الجندرية والاقتصاد والتاريخ الاجتماعي والفن والسياسية الخارجية الغربية والثقافة الشعبية. من أكثر أعماله شهرة نجد الإغراء (1987) وأمريكا (1986) وحرب الخليج لم تحصل (1991) غالبًا ما تُربط أعماله بفلسفة ما بعد الحداثة وتحديدًا ما بعد البنيوية.
[17]– سلافوي جيجك: بالسلوفينية Slavoj ژiek)) 21 مارس 1949، هو فيلسوف وناقد ثقافي سلوفيني، قدم مساهمات في النظرية السياسية، ونظرية التحليل النفسي والسينما النظرية، وهو أحد كبار الباحثين في معهد علم الاجتماع بجامعة ليوبليانا، يلقي محاضرات عادةً في مدرسة Logos في سلوفينيا، وهو أستاذ في كلية الدراسات العليا الأوروبية، ويوصف بأنه «أخطر فيلسوف سياسي في الغرب«.عمل أستاذًا زائرًا في جامعات شيكاغو، كولومبيا، برينستون، نيويورك، مينيسوتا، كاليفورنيا، ميشيغان وغيرها من الجامعات، ويشغل حاليًا منصب المدير الدولي لمعهد بيركبك للعلوم الإنسانية في كلية بيركبيك – جامعة لندن، ورئيس لجمعية التحليل النفسي النظرية في ليوبليانا، وكتب حول العديد من المواضيع كالرأسمالية، الأيديولوجية، الأصولية، العنصرية، التسامح، التعددية الثقافية، حقوق الإنسان، البيئة، العولمة، حرب العراق، الثورة، الطوباوية، الشمولية، ما بعد الحداثة، ثقافة البوب والأوبرا والسينما، واللاهوت السياسي، والدين، ويتميز بغزارة الكتابة، إذ طبع حتى الآن أكثر من 70 كتاباً، بالإضافة إلى كتاباته شبه الدورية في صحف ومجلات متعددة كالغارديان ونيوستيتسمان ومجلة ذا بافلر.
رابط المصدر: