المسطحات الخضراء المفتوحة بالمدن: ضرورة التوسع ومجابهة التحديات

أسهمت التغيرات المناخية التي تعصف بالكوكب في رفع درجات الحرارة العالمية، وهو ما أثر في إنتاج المحاصيل، مما أدى بدوره إلى ارتفاع الأسعار، كما أدى ارتفاع درجات الحرارة إلى زيادة في معدل حرائق الغابات مما ينقص من الغطاء النباتي للكرة الأرضية.

هذا ما يدفع نحو التوسع في زراعة المساحات الخضراء والتي تمثل رئة للمدن والدول، كما أن للمسطحات الخضراء دورًا اجتماعيًا أيضًا في حياة السكان، فهي تعمل كمتنفس كبير للمواطنين يمكن الخروج إليه والاستمتاع بالمناظر الطبيعية وقضاء عطلة هادئة، مما يسهم في الترويح عن المواطنين ويرفع الكفاءة الإنتاجية للشعوب.

تعتبر المسطحات الخضراء داخل المدن أحد أهم الأسس التي يجب اعتبارها في أثناء التخطيط العمراني للأحياء، فوفقًا لبعض الدراسات يجب ألا يقل نصيب الفرد من مساحة المسطحات الخضراء بالمدينة ( وهي إجمالي مساحة المسطحات الخضراء مقسومة على عدد السكان بالمدينة) عن 9 أمتار مسطحة لكل فرد[1] ، وأن تكون تلك المساحات مفتوحة ومتوفرة لكل مواطن في نطاق نصف قطر 300 متر من مكان السكن وفقًا لتقرير منظمة الصحة العالمية [2].

تسهم المسطحات الخضراء داخل المدن في تحسين جودة الهواء وخفض التلوث الناتج عن المعدات الصناعية ووسائل الموصلات، فهي تعمل كمنق طبيعي. كما تؤدي إلى تقليل درجات الحرارة في الأماكن المفتوحة، حيث تعاني العديد من المدن التي تفتقر إلى مسطحات خضراء كافية من ظاهرة الجزر الحرارية الحضرية أو ما يطلق عليه Urban heat island، وهي عبارة عن ارتفاع درجات الحرارة داخل المجتمعات الحضرية بصورة كبيرة عن الأماكن الريفية، وذلك لزيادة الأنشطة البشرية التي تسهم في رفع درجات الحرارة، الأمر الذي يزيد من ظاهرة الاحتباس الحراري ويؤدي لزيادة استهلاك الطاقة.

 كما أن للمسطحات الخضراء دورًا كبيرًا في توفير متنفس طبيعي للسكان، الأمر الذي يقلل من التوتر والقلق العام ويرفع إنتاجية المواطن ويحسن من سلوكه، بالإضافة إلى خلق فرص أكبر لممارسة الأنشطة الرياضية والثقافية والتي تسهم في تقوية الوعي المجتمعي ضد الأفكار الهدامة وتسهم في تحسين الصحة العامة. وللمسطحات الخضراء قدرة كبيرة على مكافحة التلوث الصادر عن المعدات الصناعية ووسائل المواصلات وخلافه.

تعاني مدينة القاهرة من قلة المسطحات الخضراء المتوفرة للسكان، حيث يبلغ نصيب الفرد من مساحة المسطحات الخضراء حوالي 1.5 متر مسطح لكل فرد فقط[4]، أي أنه لا يمثل أكثر من 15% من المساحة الموصي بها عالميًا والمشار إليها بالتقارير المذكورة عاليه . كما أن تطوير شبكات الطرق وضرورة توسيعها مروريًا أدى إلى تقلص المساحات الخضراء داخل الأحياء، والتي كانت تسهم في خفض درجات الحرارة وتشكل متنفسًا مفتوحًا، حيث فقدت القاهرة مساحات خضراء ما بين عامي 2017 و2020 حوالي 910 ألف متر مسطح تقريبًا. [5]

 تمتلك محافظة القاهرة 54 حديقة عامة ولكنها غير موزعة بشكل متساوٍ يخدم كافة المناطق بالصورة المطلوبة (انظر خريطة رقم 1)[6]، حيث تحتوي جزيرة الزمالك على 7 حدائق عامة في حين أحياء مثل المطرية وطرة والمرج لا تحتوي على أي حدائق عامة. كما أن المسطحات الخضراء المفتوحة للعامة والتي لا تندرج تحت تصنيف “الحدائق العامة” قليلة للغاية وتكاد تكون معدومة في بعض المناطق.

لذلك، فإن مدينة القاهرة في حاجة ماسة إلى زيادة المسطحات الخضراء المفتوحة والحفاظ على ما تبقى من مساحات خضراء ولكن الأمر لا يخلو من بعض التحديات.

تواجه مصر تحديًا كبيرًا متمثلًا في عدم كفاية الموارد المائية حيث تبلغ الاحتياجات المائية لمصر حوالي 114 مليار متر مكعب سنويًا، في حين أن إجمالي الموارد المائية لمصر يبلغ 59 مليار متر مكعب متمثلًا في مياه النيل والمياه الجوفية والأمطار[7]. ولمجابهة ذلك، تلجأ الدولة للحلول التي تسد من خلالها الفجوة المائية مثل تحلية مياه البحر ومعالجة مياه الصرف الصحي. كما تلجأ الدولة أيضًا إلى استقطاب الفواقد المائية في التربة بحيث يتم إعادة استخدام مياه الزراعة من خلال شبكات الصرف الزراعي وهي عبارة عن مواسير مثقبة توضع في التربة أسفل مناطق الزراعات، تقوم بجمع المياه الزائدة عن حاجة النبات وإرسالها إلى محطات المعالجة وذلك لإعادة استخدامها مرة أخرى في أعمال الري.

كما يكمن التحدي الثاني في استدامة الحدائق والمناطق المفتوحة المزروعة من خلال أعمال التشغيل والصيانة، فأعمال الزراعات تحتاج إلى صيانة شبه يومية من أعمال تهذيب وتقليم وقص المزروعات مع استبدال التوالف وإزالة النباتات الغريبة، بالإضافة إلى خطط التسميد والتأكد من فاعلية شبكات الري وأن الري يتم في مواعيده بالكميات المطلوبة (نظرًا لجو مصر الحار وشح الأمطار الأمر الذي يحتاج إلى إنشاء شبكات ري مميكنة)، فضلًا عن وضع الخطط لمكافحة الآفات والقوارض، كما أنه يجب وجود بنود لصيانة أعمال الأرضيات والإضاءة الليلية. إن تلك الأعمال تحتاج إلى تمويل دائم والتعاقد مع شركة صيانة مما يزيد تكاليف تشغيل الحدائق العامة والمسطحات الخضراء العامة.

يجب على الدولة المصرية تبني استراتيجية خاصة لزيادة المسطحات الخضراء داخل المدن في إطار التحديات الراهنة. بداية من زراعة النباتات ذات المقنن المائي الضئيل حتى تتم زراعة أكبر مساحة بأقل كمية مياه ممكنة، إلى تعميم شبكات الصرف الزراعي على كافة المناطق الخضراء داخل مصر وإلزام المطورين العقاريين بتركيب تلك الشبكات في مشروعاتهم وذلك لتوفير الفاقد من المياه. بالإضافة إلى ضرورة التوصية بعدم زراعة النباتات المثمرة في المسطحات الخضراء المفتوحة للسكان؛ مثل الحدائق العامة والمتنزهات واقتصارها على النباتات غير المثمرة؛ وذلك لأن استخدام المياه المعالجة في الري للنباتات المثمرة له شروط خاصة من حيث درجة المعالجة والمحاصيل المحظورة وخلافه[8]، مما قد يتطلب توفير رقابة دائمة بصورة أكبر بشكل قد يزيد التكلفة التشغيلية لتلك الحدائق مما يهدد استدامتها. بالإضافة إلى أن النباتات المثمرة لها رعاية خاصة ومكلفة لضمان السلامة العامة لصحة السكان.

يجب على الدولة المصرية الحفاظ على المسطحات الخضراء والأشجار القائمة وإيجاد حلول لها في إطار خطة التطوير العمراني، فنمو الأشجار مرة أخرى إلى الحجم السابق يحتاج إلى سنين طويلة ورعاية وري مكلف، كما أن إزالة المناطق الخضراء تزيد من ظاهرة الاحتباس الحراري وترفع من درجات الحرارة، ويحتاج الأمر إلى سنوات لكي تنمو النباتات المزروعة حديثًا وتقوم بتقليل درجات الحرارة مرة أخرى. كما أن العديد من تلك الأشجار قد تكيفت مع البيئة المحيطة وأن جذورها تمتص المياه دون تدخل بشري، خاصة في المناطق القريبة من نهر النيل.

إن التحديات التي تواجه المساحات الخضراء في مصر ليست بالسهلة، من حيث نقص المياه والحاجة إلى التوسع العمراني في المناطق المكتظة بالسكان مع زيادة المسطحات الخضراء بها مع إيجاد سبل توفير الاحتياجات المائية وتمويل استدامتها دون أعباء على المواطن، وهو ما يتطلب حلولًا مرنة ومبتكرة؛ وذلك لإيجاد توازن فعال يخدم المجتمع ويحافظ على مكتسباته.

 

المصدر : https://ecss.com.eg/47851/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M